Skip to Content

سر الكهنوت - الأب منير سقّال

سر الكهنوت

الأب منير سقّال

 

 


مقدمـة

" إن يسوع المسيح هو الكاهن الأوحد في العهد الجديد ، إذ قدّم حياته ذبيحة عن الجميع . واستنتاجاً يمكن وصف الكنيسة بأجمعها كجماعة كهنوتية . فجميع الأعضاء يدعون لتقديم كيانهم " ذبيحة حيّة " وللتشفع للكنيسة ولخلاص العالم . والخدّام المكّرسون يرتبطون ، كما يرتبط جميع المسيحيين بكهنوت المسيح وبكهنوت الكنيسة . لكن قد يُسمّون على نحو ملائم كهنة ، لأنهم يتمّون خدمة كهنوتية خاصة بتوطيد وبناء كهنوت المؤمنين الملوكي والنبوي عبر الكلمة والأسرار وعبر صلواتهم التشفعّية وعبر إرشادهم الرعوي للجماعة " .

من وثيقة مجلس الكنائس العالمي في الكهنوت ، ك2 1982  -

أرثوذكس ؛ كاثوليك ، بروتستانت ، أنجليكان

الكهنوت عرفته شعوب الأرض منذ نشأتها . وهو يجيء تلبية لغريزة الإنسان الدينية ، إذ هو كما حدّده الفلاسفة " رجل متديّن " . فالله هو علّة وجوده . وحضوره الإلهي يحس به في طيّات وجدانه " فيه حياتنا وحركاتنا ووجودنا " ( أع 17/28 ) . فالإنسان في حنين دائم إلى إلهه ، بحث عنه في ظلام الحياة ، لأنه ابن الله . فما دام في غربة عن الله فهو في شقاء ، قلق ، مضطرب البال . كما عبّر عن ذلك القديس اغوسطينوس بقوله : " لقد خلقتنا لك يا الله ، وقلبنا لا يزال مضطرباً وقلقاً إلى أن يأتي إليك ويستريح فيك " . فالاقتراب من الله بالعبادة والعمل بإرادته القدوسة واسترضاؤه في حال الخطأ يعيده إلى أصالته و إلى بعض سعادته بمشاركته حياة الله .

وبما أن عامة البشر هي منهمكة بأمور هذه الدنيا ، ويرعبها الدنّو من الألوهة لشعورها بعدم أهليتها ، فكان لزاماً على الشعب أن ينتدب عنه أشخاصاً يفرزهم لهذه الغاية ، ليكونوا وسطاءه عند الله . هؤلاء الأشخاص دعوا " كهنة " والكاهن كلمة عبرانية ارامية تعني "

الواقف " ، أرى الواقف أمام الله يصلي إليه حمداً وضراعة واستشفاعاً.

كهنوت العهد القديم

 

" وأما هذا الذي يبقى ( يسوع ) للأبد ، فله كهنوت لا يزول " ( عب 7/24 ) . هكذا إذ أرادت الرسالة إلى العبرانيين ، أن تصف وساطة المسيح ، قرّبتها من وظيفة كانت موجودة في العهد القديم ، أسوة بها في كل الديانات المجاورة ، وهي وظيفة الكهانة . فحتى نفهم كهنوت المسيح ، ينبغي أن نعرف مفهوم الكهنوت في العهد القديم ، الذي مهّد لكهنوت المسيح وكان رمزاً مسبقاً له .

أختار الله شعب إسرائيل أساساً لمهمة كهنوتية ، أي ليؤدي له العبادة الحقيقية التي مارسها أجداده إبراهيم واسحق ويعقوب . و كلّم موسى فرعون باسم الرب قائلاً : " أطلق شعبي ليعبدوني " ( خر 7/16 ) . وليعلن اسمه مبشراً به الأمم الغارقة في ظلام الوثنية : " لكي يعرّفوا بني البشر جبروته ومجد بهاء ملكوته " ( مز 144/12 ) . وقد أعلن الله لبني إسرائيل قائلاً : " وأنتم تكونون لي شعباً مقدساً ومملكة كهنة " ( خر 19/5 ) .

على أن شعور الشعب بخطاياه وخوفه من الدنّو إلى الله والمثول بين يديه على غير استحقاق ، دفعه لأن يبقى هو بعيداً ، وينتخب لهذه المهمة أشخاصاً ينتدبهم عنه ، ويقدّسون متكرسين لهذه الرسالة العظيمة السامية .

أيّام الأباء ، لم يكن لا هيكل ولا كهنة ، بل ممارسات كهنوتية يقوم بها كبار العشائر . كان الآباء ينصبون المذابح في بلاد كنعان ( تك 12/7 ) ، ويقدمون الذبائح ( 22/13 ) . وهكذا كان يفعل سائر الشعوب حولهم . الكهنة الوحيدون الذين يؤتى على ذكرهم هم أجانب : ملكيصادق الكاهن والملك ( 14/18 ) وكهنة فرعون (41/45 ) . في عهد موسى الذي كان من سبط لاوي ، كان هو نفسه يقدّم الذبائح ( خر 24/3 – 8 ) . لكنه أوكل فيما بعد ، من قبل الرب ، جميع الأمور الكهنوتية إلى أبناء سبط لاوي . وكان أخوه هرون أول عظيم الأحبار ( 29 ) . مع الأيام أصبح الكهنوت تراتبيّا ، في القمة عظيم الأحبار وهو خليفة هرون ، ثم الكهنة ، ثم اللاويون ومنهم المرتلون وحراس الأبواب . أما الوظائف الكهنوتية فكانت خدمة الطقوس ( حراسة العهد ، ترؤس الاحتفال تقدمة الذبائح ، تكريس وتطهير ) وخدمة الكلمة ( تلاوة الأسفار ، كتابتها ، تفسيرها ) .

لكنّ ذلك لم يكن سوى " فرائض جسدية موضوعة حتى زمن الإصلاح فقط " ( عب 9/10 ) . لأنه " لما كانت الشريعة لا تشتمل إلا على ظلّ الخيرات المستقبلة ، لا على جوهر الأمور ، فإنها عاجزة للأبد – على الرغم من تلك الذبائح التي تقدّم كل سنة إلى ما لا نهاية – أن تجعل كاملين أولئك الذين يشتركون فيها … ذلك أنه من المحال أنّ دم ثيران وتيوس يزيل الخطايا " ( 10/1 – 4 ) . فظلوا هكذا " يذكرون خطاياهم مرة كل سنة " ( 3 ) إلى أن تجّسد ابن الله قائلاً لأبيه : " ذبيحة وقرباناً لم تشأ ، غير أنك هيأت لي جسداً . لم ترتض محرقات ولا ذبائح خطيئة ، حينئذ قلت هاءنذا آتي لأعمل يا الله بمشيئتك … فهو ، إذاً ، يبطل النظام الأول ليقيم الثاني . وبقوّة هذه المشيئة قدّسنا نحن بتقدمة جسد يسوع مرّة واحدة لا غير " ( 10/5 – 10 ) .

ظل كهنوت العهد القديم في أغلبيته أميناً على رسالته . فبطقوسه وتعليمه وتدوينه الكتب المقدسة ، أبقى حياً في إسرائيل التراث المسلّم من موسى والأنبياء ، ووطد من جيل إلى جيل ، حياة شعب الله الدينية . ولكن كان لابد أخيراً من تجاوزه . فقيم العهد القديم لا تأخذ كل معناها إلا في يسوع الذي يتممها متسامياً عليها . ويحقق هذا المبدأ العام الوحي على الوجه الأكمل ، في حال الكهنوت .

 

يسوع المسيح : الكاهن الوحيد

الأحد هو ملك الأيام لأنه " يصنع الكنيسة " ، الجماعة ، في الافخارستيا ، والافخارستيا ملكة الأسرار لأنها ذبيحة ، ذبيحة العهد الفصحي ، المؤلّهة . والذبيحة تتطلب كاهناً . فما هو الكاهن ؟ الكاهن المسيحي . يجب أن ننطلق من يسوع المسيح ، هناك كاهن واحد : إنه هو . وكهنوت واحد : إنه كهنوته .

يسوع المخلص ، لا يكمّل الكهنوت الهاروني المنتقل بالوراثة في سلالة لاوي . إنما على العكس ، لن يكون كاهناً على مثال هارون ، بل ، تقول الرسالة إلى العبرانيين ، بعد المزمور 110 : " إنه كاهن إلى الأبد على شبه ملكيصادق " .

يسوع ابن داود ، من قبيلة يهوذا ، " ينتمي إلى قبيلة لم يخدم منها المذبح أحد " ( عب 7/13 – 15 ) . لم يأخذ يسوع إذاً لقب كاهن أبداً ، كما لم يقل عن نفسه مرة أنه " كاهن " ، لا ولم يتكلم على " الكهنوت " ولم يدع رسله " كهنة " . بدلاً من أن يظهر بمظهر شخص مكرّس ، مفصول ، طاهر ، هاهو يستقبل الخطأة ويأكل معهم من دون أن يهتم " بالدنس الشرعي " الذي يلصق به هكذا . كان يختلط بالجمهور ويعيش مثل جميع الناس ، فقيراً مع الفقراء ، مع رسله . ولم نجد سفراً واحداً يسمّيه بهذا الاسم ، ما عدا الرسالة إلى العبرانيين ، فلا أية إمكانية التباس بين كهنوت المسيح والكهنوت الذي كان المسيحيون الأول يرون اليهود أو الوثنيين يمارسونه . أما الطغمة الكهنوتية اليهودية ، فهي ليست فقط لم تعتبره كواحد منها ، بل راح رؤساؤها يطاردونه منذ بدء حياته العلنية ولم يهدأ لهم بال حتى حاكموه وقتلوه ، وهكذا أسهموا في تقدمة الذبيحة الوحيدة ، ذبيحة الكاهن الأوحد . لم يقم يسوع أبداً بوظيفة طقسية لكي " يقدّم " أو " يضحي " شيئاً ما . لا يتم كهنوته بالاحتفالات بل هو شخصه بالذات . فهو يدعو نفسه " ذاك الذي قدّسه الآب – كرّمهوأرسله إلى العالم " ( يو 10/36 ) . ويقول أيضاً : " أني أقدّس ذاتي لأجل تلاميذي ليكونوا هم أيضاً مقدّسين في الحق " ( يو 17/19 ) . هذا " التقديس والتكريس " هما ذبيحة حياته ذاتها وتقدمة موته بالذات . حياة وموت تمجّدا في القيامة لأجل تقديس وتأليه تلاميذه هذا الموت الذي يقاسيه ، إنه يقبله ويقدمه هو ذاته كما يقدم الكاهن ذبيحته . لذلك ننتظر منه أن يكفّر عن الخطايا ويؤسس العهد الجديد ويخلّص شعبه . وبالمختصر ، إنه " كاهن ذبيحته الخاصة " ( معجم اللاهوت الكتابي ) .

عندئذ لم يعد للكلمات " كاهن ، كهنوت ، ذبيحة " المعنى ذاته . فنحن ننتقل من الصور إلى الحقيقة . لم يعد ما يطلب منّا هو أن ندور حول المذبح بل أن نصبح أبناء الله . المطلوب لم يعد الطقوس بل الحب ، لم يعد تقدمة ضحايا وذبح حيوانات بل بذل الذات والتضحية بالذات : " … فكم بالأحرى دم المسيح الذي بالروح الأزلي قرّب نفسه لله بلا عيب يطهّر ضمائركم من الأعمال الميتة لتخدموا الله الحي . لذلك هو وسيط عهد جديد … " ( عب 9/11 – 15 ) . فلنذكر أن الخطيئة هي انفصال : الإنسان عن الله ، الرجل والمرأة ، الأخ وأخيه ، شعب وشعببينما هو الاتحاد : اتحاد بالينبوع الذي هو الله ، وهذه هي الحياة . اتحاد بالآخرين وهذا هو الحب . الحياة والحب الأبديان . وكهنوت المسيح ، الكهنوت الوحيد ، هو هذه الوساطة المثلثة :

- أرسله الله الآب إلى لقاء البشر ( وساطة " رسولية " )

- ليجمع جميع الناس في حظيرة ( وساطة " رعاية " )

- ليسير بهم في عبوره في فصحه نحو الآب ( وساطة " ذبيحة " )

هذا هو كهنوت المسيح ، لم يكن من كاهن قبله ، ولن يخلفه أحد ، هو الكاهن إلى الأبد . كهنوت المسيح هذا ، الوحيد الأوحد ، يشترك فيه كل من هم له بالمعمودية ، " من أراد أن يتبعني ، فليحمل صليبه ويتبعني … ويشرب الكأس التي أنا مزمع أن أشربها " ( متى 16/24 ، 20/22 ) ، و " ليمض ويبشر بملكوت الله " ( لو 9/60 ) ، وليكن مستعداً لتأدية الشهادة حتى الدم ( متى 10/16 – 28 ) .

كهنوت ملكي ، أمة مقدسة

" … فقدّموا أنفسكم لبناء بيت روحاني للكهنوت المقدس كيما تقربوا ذبائح روحية ، يقبلها الله إكراماً ليسوع المسيحفالكرامة لكم أيها المؤمنون … أما أنتم فإنكم ذرّيّة مختارة وكهنوت ملكي وأمة مقدسة وشعب اصطفاه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب . لم تكونوا شعباً من قبل ، وأما اليوم فإنكم شعب الله … " ( 1بط 1/4 – 10 ) .

العماد هو الذي يشدّنا هكذا إلى يسوع المسيح في بناء واحد ويجعل منّا جسداً واحداً معه في الكنيسة ويجعلنا أحياء بحياته وشركاء في كلّ ما هو له . فإن كان المسيح الكاهن هو حجر الأساس الذي عليه يقوم البيت كلّه – الكنيسة – وإن كان حجر الزاوية الذي به يتماسك البناء كلّه كقطعة



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +