Skip to Content

روحانيّة الحب الزوجيّ - الجزء الثاني

 روحانيّة الحب الزوجيّ

 

الحبُّ طريقُ الخلاصِ  

        في هذه المسيرةِ، يُعرض الحبُّ الزَّوجيّ على الإنسانِ كطريقٍ للخلاصِ الذّي صنعه اللهُ مِن أجلِ كلِّ البشريّةِ بواسطةِ ذبيحةِ ابنه. فيتجه هذا الحبُّ نحو إعادةِ اعترافِ الواحدِ بالآخر، اعترافهما بأنفسهما، اعترافهما بأنَّهما حقاً محبوبان. إنَّها مسيرةٌ مُتبادلةٌ بين المحبوبين، تتجسّد فيها الخاصيّةُ المُميِّزةُ للحبِّ الزَّوجيّ، وهي: اعترافهما بأنَّهما محبوبان. وهنا تجد نعمةُ الحبِّ الزَّوجيّ مكانها في الديناميكيّةِ اللاهوتيّةِ، بالعبورِ مِن صورةِ الله إلى مثاله[26]. فيضرم الحبُّ الزَّوجيّ صورةَ الله في الشَّخصِ، حتى تتمكَّنَ هذه الصُّورةُ مِن أنْ تخترقَ وتنفذَ بداخلِ الوجودِ الإنسانيّ كاملةً؛ فيصبح هذا الوجودُ بدوره باستمرارٍ أكثرَ تشبهاً بالله في تعبيراته، تفكيره، شعوره وتصرّفه.

يُعتبرُ الحبُّ مسيرةً يجد الشَّخصُ فيها نفسه مدفوعاً للخروجِ مِن قوقعة الأنانيّةِ، بحيث يُصبح قادراً على أنْ يعيش ويُظهرَ تعبيراً حقيقيّاً للحبِّ. حيث يبدأ الجسدَ الحسيّ، الذّي أصبح بعد الخطيئةِ مغلوباً مِن الأهواء والبُعدِ الكونيّ الحيوانيّ للعالمِ، في استقبال مبدأٌ فعَّالٌ حيّ حيويّ، أي المبدأُ الرُّوحيّ.

ومِن هنا تبدأ عمليةُ النضوجِ والانتقالِ مِن حبٍّ جسديّ حسيّ إلى حبٍّ روحيّ؛ أي إلى حبٍّ يُذكِّرنا باستمرارٍ, من خلال تعبيره وتضحيته، بعالمٍ مُتحوِّلٍ ومُتجدِّدٍ. ولذلك فالطَّريقُ نحو الزواجِ هو أيضاً طريقٌ نحو الجسدِ الرُّوحيّ الرُّوحانيّ؛ إذ يبدأ الشَّخصُ، مِن خلالِ الحبِّ الزَّوجيّ، في الانتقالَ مِن إدراك الذاتِ بطريقةٍ جسديّةٍ حسيّةٍ إلى إدراك هذا الجسدَ الرّوحانيّ؛ وبالتَّالي يتم العبورُ مِن العزلةِ إلى الاتحادِ، ومِن الجسديّ الشَّهوانيّ إلى الرَّوحاني، ومِن الخطيئةِ الأصليّةِ إلى الفداءِ. وفي عمليةِ النضوجِ هذه يستطيع الجنسُ، عند حدٍّ معينٍ، أنْ يُنجزَ مهمته مِن خلالِ الطَّريقةِ التّي يُعاش بها في الحياةِ؛ فيُعرض الجنسُ على الإنسانِ السَّاقطِ المُحبطِ، مِن خلالِ العملِ الخلاصيّ للمسيح، كطريقٍ للخلاصِ. ففي الحقيقةِ، عندما يتمُّ تحطيمُ الوِحدةِ وتأسيسُ عَلاقةَ حبٍّ حقيقةٍ بدلاً منها، لن يُعاش الجنسُ بَعدُ بطريقةٍ عالميّةٍ شهوانيّةٍ، إنَّما يُصبح على العكسِ علامةً ورمزاً للعالمِ الآتي.

الحبُّ وَحدْةٌ مُحققةٌ

يُوحي لنا الفصحُ بالمعنى الرُّوحيّ للجنسِ. وقد رأينا أنَّه يمكن للجنسَ أنْ يُصبحَ حافزاً أو دافعاً بالنسبةِ للإنسانِ يُخرجه مِن قوقعته ويتجِّه به بقوةٍ نحو الآخر، بحيث يبدأ الإنسانُ في هجرِ أحكامِ الأهواءِ والجسدِ، حتى يُكمِّل هذا البُعدَ الجنسَي في رؤيةٍ روحيّةٍ إلهيّةٍ.

تأتي بالتّالي لحظةُ اختيارِ شريكِ الحياةِ بالنسبةِ للشخصين، مِن خلالِ مسيرةِ انجذابهما الواحدِ للآخر، ومِن خلالِ  اكتشافهما الواحدِ للآخر. وفي هذه اللحظةِ بالذَّاتِ، يكون الحبُّ، قبل كلِّ شيءٍ، "عملاً عقلياً"؛ لأنَّه إمَّا أنْ تنتهي عَلاقةُ الحبِّ هذه، وإمَّا أنْ تستوجبَ بالعكسِ قراراً جذريّاً في التَّنازلِ عن الإرادةِ الشّخصيّةِ؛ فليس ثَمَّة وسيلةٌ أخرى. فللوصولِ إلى الاتحادِ الكاملِ الحاسمِ، لا مفرٌ مِن التَّضحيّةِ بالأنانيّةِ التّي تقود إلى الفرديّةِ وتأكيدِ الذَّاتِ الأنانيّ. ولكن الواقعِ يقول أن كل ما بداخل الإنسانِ يثور ضد التَّضحيّةَ؛ وحتى السَّيدَ المسيح عندما اقتربٍ من لحظة التَّضحيّةِ تحوَّل عرقه إلى دمٍ، وطلب مِن الآبِ أنْ يعبرَ عنه هذه الكأسَ؛ وذلك لأنَّ التَّضحيّةَ أمرٌ مُخيفٌ مُفزعٌ والإنسانُ لا يملك معها أيَّ يقينٍ في استعادة ما ضحى به، ولكنَّ الحبَّ يضمن مُسبقاً أنْ تعويضَ التَّضحيّةِ سوف يكون عظيماً؛ فضمانَ الحبِّ يعني أنه: عندما يُضحِّى الشَّخصَ بنفسه، فإن الحبُّ يقنعه باطنياً بأنَّه بَعد الموتِ هناك القيامةُ.

يصل الحبَّ الجسديّ إلى ذروته في الفعلِ الجنسيّ، حيث يجد لذته وتنعّمه بشكلٍ حسيّ؛ إنَّها أقصى قدرةٍ للجسدِ البشريّ على الحسَ والتذوّقَ، ومِن المسلّم به أنَّه ليس هناك أيُّ إحساسٍ مفهومٌ أكثرَ مِن هذا. وحيث إنَّ البُعدَ الذّي يثور ضد الحبِّ أكثرَ مِن غيره هو الإرادةُ الخاصةُ التّي تمُارس عملها في الجسدِ، فهي المنطقة التّي تتنكَّر للحبِّ أكثرَ مِن أي منطقةٍ أخرى في الإنسانِ، لذلك وبواسطةِ الجسدِ بالتَّحديدِ يعمل الحبُّ الزَّوجيّ ليقنعَ الإرادة بالقيامةِ التي تنبع عن تضحيةِ. وإنْ لم يكنْ هناك الفعلُ الجنسيّ الذّي يعمل على إظهارِ القيامةِ مِن خلالِ التَّضحيّةِ بالشَّهواتِ والأهواءِ الخاصةِ، وبالإرادةِ الخاصةِ، وبالمزاعمِ الخاصةِ، فلن يتمكَّن الإنسانُ مِن الدِّخولِ في الفصحِ، بل يظل دائماً مُنغلقاً على أنانيته؛ وسوف يتوقَّف هذا الإنسانُ عند عتبةِ الجمعةِ العظيمةِ، لأنَّه لا يمتلك أيَّ يقينٍ بأنَّه بَعد ذلك توجد القيامةُ. يكشف لنا الحبِّ الزَّوجيّ، وهذه اللذةِ -المقدسةِ الطَّاهرةِ- التّي تكلم عنها آباءُ الكنيسةِ، عن لاهوتٍ حقيقيّ لسرّ الزواج؛ وهو بُعد لاهوتي مُتمركزٍ حول تضحيّةِ المسيحِ وموته وقيامته.

ومِن وجهةِ نظرٍ أخرى، وهي مشوقةٌ أيضاً، نجد أنَّ تحليلاتَ المُحللين النفسيين في ما يتعلَّق بالفعلِ الجنسيّ تُظهر أنَّ الفعلَ الجنسيّ في حدِّ ذاته لا يقول شيئاً، ولا يملك أيَّ محتوى أو مضمونٍ خاصٍ؛ فالتَّفكيرُ بأنَّ الفعلَ الجنسيّ قد يملك في حدِّ ذاته وبشكلٍ آلي مضمونَ الاتحادٍ، وأنَّه يحمل بالتَّالي بشكلٍ آليّ إلى الاتحادِ بين الشَّخصين، وأنَّه يُنتج اتحاداً، هو ببساطة خداعٌ ووهمٌ؛ بل بالأحرى قد يكون الفعلُ الجنسيّ هو الخدعةُ أو الكذبةُ العُظمى، أي أنْ يكونَ مجردَ شكلٍ خارجيّ لمضمونٍ ليس له وجودٌ في الواقعِ: فيقول الشَّخصان أحدهما للآخر بأنَّه يحبه، ولا يكون ذلك صحيحاً بالمرةِ.

وبحسبِ بعضِ المحللين النفسيين الأكفاءِ، يمكن أنْ يكونَ الفعلُ الجنسيّ أمراً ذاتيّاً وشخصيّاً تماماً، بدون حتى أدنى مُشاركةٍ لأيِّ مضمونٍ أو محتوى للعَلاقة، وبالتَّالي لا حقيقةٌ له، أي أنَّه مجردُ شكلٍ خارجيّ لا يُعلن عن أيِّ بُعدٍ للعلاقة حقيقيّ. ويحدث أنَّه يمكن ممارسةُ الفعلِ الجنسيّ على مستوى الإشباعِ واللذةِ فقط وبدون أيِّ مضمونٍ للحبِّ، أي بدون أيِّ مضمونٍ للشخصِ. إنَّما الفعلَ الجنسيّ، على العكسِ مِن ذلك، هو فعلٌ أصيلٌ، يُعبِّر عن حقيقته عندما يكون رمزاً، أي عندما يصبح تلك الحقيقةَ الكونيّةَ الملموسةَ ذات الصلةٌ المُوضوعيّةٌ والسرمديّةٌ الغيرُ قابلةٍ للانحلال بالمضمون الذّي تحجبه وتخفيه.

خلافاً لهذا التّصورِ، يصبح الفعلُ الجنسيّ مجردَ "علامةٍ"، أي مجردَ شيء يمكن أنْ نعطيه المعنى الذّي نريده؛ فالعلامةُ في الحقيقةِ، كما هو مُتعارفٌ عليه، مثلُ لافتةِ الطَّريقِ، لأنَّ معناها هو ثمرةٌ لاتفاق ما، ولذلك يمكننا تغييره. إنَّما الرَّمزُ، بالعكسِ، فهو يملك في حدِّ ذاته محتوىً موضوعيّاً لا يمكن تغييره على حسب الاختياراتِ. ويمكننا أنْ نُشبِّه الجنسَ بجبل الجليد، الذّي يمثل فيه الجزءَ المُنغمسَ المخفيّ القسم الأكبرَ بمراحلٍ مِن ذاك الجزءِ الذّي يُرى؛ كذلك أيضاً الفعلِ الجنسيّ: ينبغي أنْ يُظهرَ كلَّ حقيقةِ الواقعِ المُعاشِ كحياةٍ مُتشبِّعةٍ بالحبِّ، يتداخل فيها الكلُّ ويتوحَّد في الحبِّ، وفي الموتِ عن الذات مِن أجلِ الآخر.

ذات مرةٍ، قال لي أحدُ الأزواجِ، وهو متزوج مُنذ 17 عاماً، شيئاً في غايةِ الجمالِ: إنَّه لو كان طُلب منه تحديدُ ماذا يعنى بالنسبة له، كرجلٍ متزوجٍ، لذةُ الاتحادِ الجنسيّ مع زوجته؟ لا يمكنه أنْ يُجيبَ بقوله أنَّ المعنى هو الحياةُ المُمتدةُ على مدارِ 24 ساعة يوميّاً، فهو التَّعبيرُ عن الحبِّ على مدار اليوم كلِّه. وقد حكى لي أنَّه لم يحدثْ أبداً أنَّه اتحد مع زوجته ذات مرةٍ بدون أنَّ يكونا كلاهما مُدركاً تماماً أنَّ حياتهما معاً في هذه الفترةِ تُعبِّر عن موتِ كلٍّ منهما مِن أجلِ الآخر. ويبدو هذا التَّحديدَ تعبيراً فريداً ورائعاً؛ لقد اخترق الحبُّ ونفذ إلى حياةِ الزَّوجين كلها، فهناك الكثيرُ مِن التَّضحيّةِ الواحدٍ مِن أجلِ الآخر، لكنهما عندما يتحدان معاً جنسياً يشعران بلذةٍ وبتحقيقٍ لجسديهمِا، ويُصبح كلُّ هذا حقيقةً مُؤسسةً ومُشخَّصةً في الحبِّ؛ لأنَّ لحظاتَ الموتِ مِن أجل الآخر قد تمَّ تذوّقها في التَّضحيّةِ، فالرجل يُضحِّي مِن أجل المرأة وهي بالمثلِ تُضحِّي مِن أجله. فالاتحادُ إذن هو اتحادٌ مُشبعٌ ومُرضيّ، لأنَّه اتحادٌ في الحقيقةِ، فهو رمزٌ واقعيٌ يُعلن محتوىً حقيقيّاً، محتوى قد تجسَّد في الواقعِ المُعاشِ؛ وأي اتحاد حبي أو جسدي خلافٌ ذلك هو خداعٌ.

في الواقعِ، عندما نعود إلى اللاهوتِ الأدبي[27]، نجد أنَّ الخطيئةَ في المجال الجنسيّ تتمثَّل في ممارسةِ الجنسِ خارج حقيقته الإنسانيّةِ، أي أنَّها تتمثَّل في السَّعي إلى قطف ثِّمارِ القيامة بدون العبورِ بالجمعةِ العظيمِة. وهذا ينطبق أيضاً على الموقف الذّي يبدو ظاهريّاً وكأنَّه خالٍ مِن الضَّررِ مِن الناحيّةِ الجنسيّةِ، أي الاستمناء أو العادة السرية[28]. فيدور الحديثُ هنا عن البحثِ عن إشباعٍ ولذةٍ بدون التَّضحيّةِ بالذَّاتِ مِن أجلِ أحدٍ، ويتمُّ الوصولُ إليهما بطرقٍ كثيرةٍ غيرِ أصيلةٍ. ومِن المُسلَّم به أنَّ اللذةَ الحقيقيّةَ والإشباع الحقيقيّ يأتيان فقط مِن خلالِ العَلاقةِ؛ فاللذَّةُ غيرِ الأصيلةِ هي حقاً إفسادٌ للحبِّ. وتتمثَّل الخطيئةُ المُتعلِّقةُ بالوصيّةِ السَّادسةِ[29] في تقديرِ الجنسِ خارج حقيقته الإنسانيّةِ، وبالتَّالي أيضاً خارج حقيقةِ الجنسِ نفسه؛ أي هي البحثُ عن ثمرِ الجنسِ، الذّي هدفه هو الاتحادُ، بدون العبورِ بواسطةِ طريقِ التَّضحيّةِ. إنَّ الموتَ والقيامةَ هما المسيرةُ التّي تحتجب وراء الحبِّ الزَّوجيّ، حيث يتمركز المعنى الأكثرُ جمالاً وسحراً للجنسِ. فإنْ لم يوجدْ هذا الجبلُ الجليديّ، أي هذا العمقُ الحياتيّ، حيث يلتقي الشَّخصان معاً في الواقعِ المُعاشِ، فعلاقتها هي إذن مجردُ كذبةٍ خادعةٍ للشخصين، بدلاً مِن أنْ تكونَ سراً مُقدَّساً. يحتاج الحبُّ الجنسيّ إلى تجديدٍ لما هو يوميّ أو مألوفٌ، وهذا يقوم بدوره بإنشاءِ هذا التَّحويلِ، لأنَّه يُقنع الشَّخصَ بالمصيرِ الإيجابيّ للتخليّ. 

دورُ الجنسِ يبلغُ قمتَه في العذريّةِ     

ربما تُثيرَ فينا هذه العبارةَ الحيرةَ والقلقَ؛ ولكنَّها صحيحةٌ تماماً. فإنْ اخترق الحبُّ ونفذ خطوةً خطوةً إلى كلِّ لحظاتِ حياةِ الشَّريكين، عندئذٍ سيبدأ كلٌّ منهما في إدراكَ نفسَ الحقيقةِ المُعبَّرِ عنها بالفعلِ الجنسيّ في مواقف أخرى كثيرةٍ في الحياةِ. إنهَّا مسيرةٌ ، "كلاسيكيّةٌ" لحبِّ حقيقيّ. فإنْ كان معنى الفعلِ الجنسيّ يتمثَّل في اتحادِ الشخصين معاً، عندما يوثِّقان ويدعِّمان واقعيّاً حياتهما المُعاشة، فإنَّ الجنسَ، يبدأ في إنجازِ دوره. ولذلك يقول السيدُ المسيح أنَّه في الحياةِ الأخرى لن يُعاش الجنسُ بالشكلِ الذّي يُعاش به في هذا العالمِ؛ لأنَّه عندما يصل الشَّخصان إلى تحقيقِ وحدتهما، لن يُجدي الجنسُ نفعاً بعد: «فعندما يقوم الناسُ مِن بين الأمواتِ، فلا الرِّجالُ يتزوَّجون ولا النساءُ يُزوَّجن، بل يكونون مثلَ الملائكةِ في السَّمواتِ» (مر12/25)

بهذا المعنى، يتكلَّم آباءُ الكنيسةِ عن عذريّةِ الزَّوجيّن، ولكنهم لا يقصدون المعنى المألوفَ والمعتاد أي عدمَ مُمارسةِ الجنسِ؛ إنَّما العذريّةِ تعني بالنسبةِ لهم نقطةَ الوصولِ، أي عندما يصبح الشَّخصان فعلاً مُتحدان تماماً؛ إنَّ المسيرةَ هي إذن العبورُ مِن الحبِّ الحسيّ "الإيروس" إلى الحبِّ المُضحِّيّ "الأغابي".

إنَّ الرُّؤيةَ الإنسانيّةَ الرُّوحانيّةَ المسيحيّةَ ترى الإنسانَ في بُعده العذريّ؛ بحيث تبلغ مسيرةِ العهدِ القديمِ وصولاً إلى العهدِ الجديدِ قمتها في عذرية والدة الإله مريم[30]. ولذلك فإنَّ العذريّةَ تعني أنَّ الإنسانَ يجد كماله في الحبِّ الإلهيّ، هذا الحبِّ الذّي لا يجعله يشعر بالحاجةِ بَعدُ إلى أيِّ رمزٍ حسيّ إيروس مِن أجلِ اختبارِ الحبِّ والإيمانِ به. فالإنسانُ العذريّ يَعبر مِن الحاجةِ إلى أنْ يكون محبوباً إلى اليقينِ بأنَّه محبوبٌ فعلاً ؛ وبالتَّالي يحيا كمالَ هويته الخاصةَ كشخصٍ يُحب. وتتحقَّق العذريّةُ في ذلك الإنسانِ الذّي يغمس انفتاحه الأساسيّ وقدرته العلائقيّةِ الأساسيّةِ في خبرةِ حبِّ الله ذاته. لذلك فإنَّ العذريّةَ هي حالةٌ تتحقَّق واقعياً وبشكلٍ ملموسٍ إمّا بواسطةِ الحبِّ الزَّوجيّ، وإمَّا بواسطةِ الدعوةِ إلى التَّبتلِ. 

الحبُّ الزَّوجيّ يَظهرُ في خصوبةِ العائلةِ

تبلغ مسيرةِ الانتقالِ مِن الحبِّ الإيروس إلى الحبِّ الأغابي قمتها في العائلة.. فماذا يعني هذا؟ إنه ما لم يكن لدى الشخصٌ اليقينٌ بأنَّه محبوبٌ، فهو وبلا شكٌ شخصٌ لا يمكن الاعتمادُ عليه، لأنَّه لا يزال في بحثٍ عمَن يمكنه هو الاستنادُ عليه، فهو في حاجةٍ إلى سندٍ. وعندما يُعاش الحبُّ الجنسيّ في حقيقته، فثمرته الأولى هي يقينُ الشَّريكين- المؤسسُ على منطقِ العَلاقة والثَّقةِ بالآخر- في أنَّ كلَّ منهما بالفعلِ محبوبٌ؛ وبالتَّالي يُصبح الشَّخصُ المحبوبُ قادراً على أنْ يُحبَّ؛ فإنْ لم يشعر الشخَّصُ بأنَّه محبوبٌ، سوف يذهب بعيداً باحثاً عن الحبِّ. أمَّا عندما يبلغ الشخصان إلى اليقينِ بأنَّهما محبوبان، فإنهما سيصبحان بفضلِ هذا اليقينِ قادرين على أنْ يُحبا؛ ويمكنهما عندئذٍ أنْ يُنجبا الأولادَ، الذّين هم ثمارٌ لحبِّهما. وخلافاً لذلك، يصبح هذان الشَّخصان بسهولةٍ موضوعاً للامتلاك، ومجردَ وسائلٍ لإشباعِ الاحتياجِ الخاصِ إلى الحنانِ.

في المجالِ الرَّعويّ العائلي، لا يجدي نفعاً كثرة التَّأكيدُ على الحاجةِ إلى إنجاب أطفالِ؛ إنَّما يلزم أولاً وقبل كلِّ شيءٍ، مساعدةُ الشَّريكين على العودةِ إلى حقيقةِ سرِّ الزواج.

الأساس إذن هو اليقين الثابت بأن كلاهما محبوب لنا وإنَّ إنجابَ الأولادِ ما هو إلا نتيجةٌ لهذا اليقينِ المُتواصلِ، وكذلك الأمر في تأسيسُ عائلةٍ مُنفتحةٍ وإقامةُ شركةٍ في الحبِّ تُصبح قادرةً على استقبال الأصدقاءِ والأقاربِ وحتى الغريبِ الذّي يمرِّ بها، كلُّ هذا نتيجةٌ لليقينِ المُتواصلِ بالحبِّ.  فمِن الضَّروريّ إذن توجيهُ الشَّريكين، نحو طريقِ نزعِ جذورِ الأنانيّةِ؛ لأنَّ إنجابَ الأولادِ لن يكون نتيجةَ أو ثَّمرةَ شريكين لا زالا يحييان على مستوى الأنانيّةِ، والحديثُ هنا لا يختلف كثيراً عن وصيةِ الله لهما بأنْ يُخصبا ويُثمرا. فكلَّما عاش الزَّوجان الحبَّ الإيروس كحقيقةٍ يتحوَّلَ هذا الحبٍّ إلى أغابي، ويتضح استعدادُهما الكاملُ للانفتاحِ على الحياةِ ورفضِ الحساباتِ، وبذلك يقبلون أولادهم- إنْ أعطاهما الله إياهم- في إطار قصةٍ مُتجذِّرةٍ في الحبِّ الحقيقيّ. وعلى ضوءِ هذا الحديثِ، يتضح أنَّ خصوبةَ الشَّريكين لن تُحبطها استحالةٌ محتملةٌ في إنجابِ الأولاد؛ فمثلِ هذه المشكلةِ، حتى وإنْ كانت مؤلمةً جداً، ستُقرأ وتُفسَّر في إطارِ النضوجِ النابعِ مِن الحبِّ الأغابي الذّي ينمو فيه الشَّريكان، وينفتحان أكثر فأكثر على الآخرين ويعتنيان بهم.

الجنسُ رمزٌ للموتِ مِن أجلِ الآخرَ          

فَقَدَ الإنسانُ بعد الخطيئةِ الأصليّةِ، القدرةَ على الاتصالِ والعَلاقة بالله وبالآخرين وبنفسه وبالكلِّ؛ ومِن ثَمَّ أصبح وحيداً ومُنغلقاً على ذاته. ويمكننا الآن أنْ نضعَ في عبارةٍ واحدةٍ تعريفاً، لا وبل تحديداً كلِّيّاً للإنسانِ، "إنَّه الوجودُ الذّي يبحث عن عَلاقةٍ"، أي الذّي يبحث عن أنْ يكونَ مِن جديدٍ محبوباً، يبحث عمَّا فقده. فما هو يا تُرى البرهانُ الذّي يقنعه بأنَّه محبوب؟ إنَّ البرهانَ يكمن في شخص يُظهر له أنَّه اختاره هو بدلاً مِن ذاته نفسها، وبدلاً مِن الأشخاصِ الآخرين الذّين كان بإمكانه أنْ يختارهم. فبرهانُ العَلاقةِ المُستعادةِ هو اليقينُ بالعَلاقة الذّي يُماثل ويوازي اليقينَ بوجودِ الإنسان ذاته. فيمكن للشخصِ أنْ يتأكَّدَ مِن أنَّه فعلاً في عَلاقةٍ، عندما يصل مِن خلالِ هذه العَلاقةِ إلى خبرةٍ راسخةٍ ومتواصلةٍ أي عندما يحصل على ثقةٍ أكيدةٍ تُعادل اليقينَ بوجودِ الفعلِ نفسه.

يصل الشَّخصُ إذن إلى اليقينِ بوجوده ذاته، عبر الثقة الكاملة بأنَّ هناك آخرُ قد اختاره هو، وبأنَّ هذا الآخر متحدٌ به؛ فبالتَّالي هو واثقٌ مِن وجوده، وواثقٌ بأنَّه لن يهلك ولن يضيع في اللامعنى. إنَّ البرهانَ "الأنثروبولوجي"، يعني أنَّ يتمسَّك الشَّخصَ بالآخر أكثر مِن تمسّكه بنفسه، وأنَّه ينشغل بالآخر أكثر مِن انشغاله بنفسه، وأنَّه يختار الآخرَ بدلاً مِن نفسه؛ وأنه يبقى ثابتاً في هذا الاختيارِ في كلِّ ظروفِ الحياةِ المُحتملةِ، حتى أمام الموتِ؛ فإنَّ البرهانَ الأخيرَ الحاسمَ والقاطعَ هو الموتُ مِن أجلِ الآخر، بُعدُ التَّضحيّةِ مِن أجلِ الآخر، الذي نجده في قلبِ كلِّ الأديانِ، وهو موجودٌ بالأخصّ في المسيحيّةِ.

إنَّ البرهانَ الوحيدَ الذّي يُقنع شَّخصَ بأنَّه حقاً في عَلاقةٍ، هو إدراكه بأنَّه عوضاً عن انشغاله بذاته، ينشغل بآخرُ. فالعَلاقة تتحقَّق بفضلِ الثِّقةِ والولاء؛ فمثلاً إذا ائتمن أحدهما الآخر على بعضِ الأمورِ الشَّخصيّةِ، فما الضمانُ بأنَّ تلك الأمورَ ستظل سراً بينهما؟ فإنْ لم تكن الثِّقةُ المُتبادلةُ هي الضمانَ، فما هو الضمانُ يا تُرى؟! وبقدرِ ما يكون الحبُّ كبيراً، بقدرِ ما يَعظم اليقينُ بالثِّقةِ المُتبادلةِ بينهما. لذلك حتى الله نفسه، يتصرَّف بحسبِ منطقِ العَلاقةِ، فلا يُجبرنا أنْ نحبه وأنْ نُسلِّمَ له أنفسنا؛ ولكنَّه مِن خلالِ ذبيحةِ ابنه يُوحي لنا بحقيقةَ عَلاقته ومصداقيّةَ إخلاصه وعلينا الاختيار؛ ولذلك فالرجاءُ بالله ليس أبداً خداعاً وتضليلاً، فالرجاءُ به لا يخيب أبداً. وتُعتبر المسيرةُ التي يتطلَّبها الحبُّ الزَّوجيّ مسيرةً أصيلةً، ولأجلِ ذلك يمكنها أنْ تُصبح سراً.

وقد يعترض البعضُ: ولكن إذا مات الرَّجلُ ليُبيِّن للمرأةِ أنَّه يحبها ويختارها هي، فسوف ينتهي كلُّ شيءٍ! وللردِ على مثلِ هذا الكلامِ، نقرأ (تك 3/ 7)، حيث يدور الحديثُ عن ورقةِ التِّينِ، فنجد أنَّ الإنسان يكتشف أنَّ أعضاءه الجنسيّةَ خُلقتْ مِن أجل الاتحادِ، فيقوم بتخبئتها؛ وعندما يقوم بهذا الفعلِ، فهو يُقدِّم صورةً رمزيّةً للموتِ مِن أجلِ الآخر. فهو يعترف بأنَّ أعضاءه الجنسيّةَ هي منطقةٌ للمودة والألفة، وينبغي أنْ تُكشفَ فقط أمام هذا المخلوق الوحيد الضروريّ مِن أجلِ بلوغ اليقينِ بالعَلاقةِ. ويعني هذا كلُّه أنَّ الإنسانَ قد اكتشف في الجنسِ تلك الحقيقةَ الرَّمزيّةَ للبرهانِ الأعظمِ للعَلاقةِ المُستعادةِ، مِن حيث إنَّه يكشف لشخصٍ واحدٍ فقط حياته الجنسيَّةَ الخاصةَ؛ وبهذا يُصبح الجنسُ التَّعبيرَ عن الإخلاصِ والثِّقةِ الكاملةِ بالآخر. إنَّ البرهانَ الوحيدَ للعَلاقةِ الرَّاسخةِ هو الثَّقةِ التّي تُخلق مِن خلالِ هذه المودةِ والآلفةِ؛ فإنْ نقصت هذا الثِّقةُ، ستبدأ الغيرةُ وعدمُ الإحساس بالأمانِ في القضاء على كلّ شيءٍ. وإنْ لم يملك شخصٌ ما اليقينَ بأنَّه محبوبٌ، فلن يقدر على أنْ يُحبَّ أحداً؛ وبالطبع لا يجب فهمُ هذه العبارةِ الأخيرةِ بشكلٍ مُطلقٍ وحسابيّ.

يتحدث كثيرون اليومَ عن أزمةِ القيمِ، وعن الانعزاليّةِ والرُّوحِ الفرديّةِ، وعن نقصِ التَّضامنِ؛ ولدينا غالباً نوعٌ مِن التَّخوفِ في أنْ نقولَ أنَّ هذا يرجع، على الأرجحِ، إلى انتهاكِ حقيقةٍ الحبِّ الزَّوجيّ. ويحضرني هنا اجتماعٌ لأولياءِ الأمورِ، كان عددُ الحاضرين فيه يزيد على مائتيّ شخص، وقد طرحتُ عليهم السُّؤالَ التَّالي: مَن منكم واثقٌ ومتيقن بأنَّه فعلاً محبوبٌ؟ فأجابني بنعم شخصان أو ثلاثةٌ فقط مِن كلِّ الحاضرين! وهذا يعني ببساطةٍ، أنَّ المجتمعَ الذّي نعيش فيه يبعث على الفرديّةِ والبحثِ عن ضماناتٍ وعن الاستقلالِ الذَّاتيّ ، لأنَّه يفتقد هذا اليقينُ الجوهريّ، يقينُ بالعَلاقة. وفي هذا السِّياقِ يمكننا أنْ نفهمَ إصرارَ البابا يوحنا بولس الثاني في أحاديثه - وله كلُّ الحقِّ في ذلك- على موضوعِ التَّضامنِ الاجتماعيّ. فإنَّ يقينَ الإنسانِ المُتواصلِ بأنَّه محبوبٌ ومُختارٌ هو قاعدة وأساسٌ للتَّعايشِ الإنسانيّ؛ وانطلاقاً مِن هذا، يُصبح الإنسانُ ذاته قادراً على أنْ يُحبَّ. 

المسيحُ ذاتُه رفعَ  الحبَّ الزَّوجيّ إلى مرتبةِ السِّرِّ

        لقد رفع المسيحُ هذا الحبَّ الزَّوجيّ ليكونَ سراً. والسِّرُّ كما نعرفه هو علامةٌ حسيّة أسّسها السيد المسيح تشير إلى النعمةِ وتمنحها. يدور الحديثُ في هذا المجال عن مُشاركةٍ شخصيّةِ للزوجين في المسيح، وهو سرُّ أساسيّ وأوليّ يعني التَّواصلُ الفعَّالُ لنعمةِ الله. فإنْ كان سرُّ الزواج يتمُّ ويتحقَّق في الفعلِ الزَّوجيّ، فهذا يعني أنَّه سرُّ، وأن مادته السِّريّةِ توجد هناك حيث يوجد الزَّوجان. إنَّ سرَّ الزواجِ هو السرُّ الوحيدُ الذّي لا تُصاحبه مادةٌ، فلا يلتصق به ماءٌ ولا خبزٌ ولا خمرٌ ولا زيتٌ، كما يحدث في الأسرارِ الأخرى؛ فمادة هذا السِّرِّ هي فقط الحبُّ بين الشَّخصين؛ فالزوجان والكنيسةِ المُمثّلةِ في الكاهنِ والشُّهودِ أي جماعة المؤمنين، يؤكّدون "أنَّ الحبَّ بين الشريكين هو حبٌّ مُعترفٌ به مِن قِبْل الله وعلى مثاله، هو مادةُ السِّرِّ". فلا وجود لهذا السرُّ إنْ غاب الحب؛ فما يوجد هذا الحبَّ المُتبادلَ لدى كلا الشّخصين، أو خدع أحدهما الآخر، فإنَّ هذا الزواجَ يصير باطلاً. ولذلك تُصبح الشَّهادةُ لهذا الحبِّ قَبل الزواج أمرٌ هامٌ للغايةِ؛ فالناسُ يجب أنْ تُلاحظَ أنَّ هذين الشَّخصين هما في مرحلةِ انتقالٍ وتغييرٍ، وأنَّهما أصبحا وسيصبحان باستمرارٍ قادرين على الحبِّ، لأنَّ الحبَّ قد زار قلبهما، كما يقول إفدوكيموف[31]؛ فإنْ لم تكن الأمورُ تسير هكذا، فهي إذن مجردُ مراسيمٍ خارجيّةٍ وكاميراتِ تصويرٍ.

إنَّ الاحتفالَ بسرِّ الزواج، هو بالأحرى، لحظةٌ في غايةِ الأهميّةِ بالنسبةِ لكلِّ الجماعةِ الكنسيّةِ، لأنَّ الاستبصارٌ والوعي بالحبِّ مُؤسسٌ فقط على الثِّقةِ في العَلاقةِ، ويمكن التَّحقَّقُ منه وإثباتُ صحته فقط مِن خلالِ العَلاقاتِ، وبالتَّالي مِن خلالِ الجماعةِ. فينبغي أنْ يُعترفَ بهذا الحبِّ كحبٍّ له نفسُ خصائصِ حبِّ الله، فهو حبٍّ أكثرُ مِن الحبِّ الإيروس، بمعنى أنَّه ليس مُوجَّه فقط إلى شخصٍ واحد، الشَّخصِ المحبوبِ، إنَّما يجب أنْ يتحوَّل باستمرارٍ إلى حبِّ أغابي مع الآخرين أيضاً؛ وبالتَّالي فهو حبٍّ يدخل في عَلاقاتِ مع الآخرين ومع العالمِ، وهو بمثابةِ حريةٍ منـزه عن المصلحةِ الشَّخصيّةِ، في سخاءٍ وإخلاصٍ، ورسوخٍ. وإنْ كان حبُّ الله هو حبٌّ مُطلقٌ، بمعنى أنَّه عطاءٌ كاملٌ لذاته، فلذلك ينبغي على الزَّوجين وعلى الكنيسةِ أيضاً أي جماعةِ المؤمنينِ التحقُّقَ، قبل الزواج، ومِن خلالِ العَلاقاتِ، مِن مدى كون حبُّهما له نفسُ خصائصِ الحبّ الإلهي؟ ففي فترةِ الخطوبةِ، عندما كان كلاهما يرى الآخر في شموله، يختبر الشَّريكان أنَّ الحبَّ كان يقنعهما بمعنى التَّضحيّةِ بأنفسهما؛ فقوةُ الحبِّ تُعرف حقاً، مِن خلالِ الاختبار الحياتي الذي يؤدي بالشخص إلى التخلّي عن مبدأِ إثباتِ الذَّات الأنانيِّ في سبيل إسعاد الآخر.

وبهذا المعني، تقدّر الكنيسةُ مُنذ نشأتها الدَّورَ الكبيرَ الذي يحتله الجنسُ، بحيث يستطيع الشَّخصَ أنَّ يتركَ الانجراف وراءِ الإشباعِ الجنسيّ، مِن أجل ثقته الكاملةِ في العَلاقةِ. فإنْ كان هناك حبٌّ بين شخصين، ولم يبلغ هذا الحبُّ إلى قدرته في تقديرِ الآخر والذَّاتِ معاً بشكل شامل، وكذلك تقديرهما أيضاً في كلِّ العَلاقاتِ الأخرى، فالفعلُ الجنسيّ هنا لم ينضج بَعدُ. عندئذٍ يتلاشى المضمونُ الشَّاملُ للعَلاقةِ والذي يُعاش في الثِّقةُ واليقينُ في العَلاقة، كما لو أخذنا كتلةً مِن جبل الثَّلجِ الذّي تحتها دون النظر إلى الجبلَ الذي يحملها.

وعندما يمتنع الشَّريكان عن إتمامِ الفعلِ الجنسيّ خارج الزواج ويؤجلاه إلى لحظةِ الاعترافِ به من كلِّ الجماعةِ، فهذا يعني أنَّ حبهما هو من حبَّ الله، ذاك الحبَّ الذي يُعطي الكمالَ للجنسِ. وبذلك يقبل الجنسُ مبدأَ الحبِّ الفعَّالِ، فيتمَّ الانتقالُ بفضلِ ذلك مِن جنسٍ قائمٍ على الهوى ومقتصر على الجسدِ، إلى جنسٍ بين جسدين يُعبِّران، مِن خلالِ انتظارهما للاتحاد معاً، عن القيمةِ الفريدةِ التي يراها الواحدُ في الآخر. والكنيسةُ في ذلك كلِّه تعمل على المحافظةِ على معنى الفعلِ الجنسيّ عندما تصون الحبِّ. فعندما يتمُّ اختبارُ الحبِّ في أوضاعِ كثيرةٍ في الحياةِ اليوميّةِ، والتَّحقَّقُ منه أيضاً مِن خلالِ الآخرين وبواسطةِ العَلاقة في الجماعة، وعندما يُعترف بقيمةِ التَّضحيّةِ في سبيلِ الحبِّ تفضيلِ الآخر عِن الذَّاتِ -على الأقلِ بدرجةٍ مُعيّنةٍ- فسيتحد الشَّخصان معاً جنسيّاً ويتذوقان ثمرةَ ذلك الحبِّ القادرِ على الاتحاد. بعد ذلك مهما يحدث، فإنَّ الشَّخصين يكونا قد توحدا معاً حقاً ويمكنهما الآن إتمامَ الفعلِ الزَّوجيّ على ضوء القيامةِ كيقينٍ بالثِّقةِ المُستعادةِ من خلال العَلاقةِ.

إنَّ الفعلَ الزَّوجيّ نفسه سينقل الزوجين إلى اختبارِ حبَّ الله، الذي في شخصهما يحبُّ الإنسانيّةَ كلها. لقد جعلتْ الخطيئةُ الأصليّةُ من الجنسَ وسيلةٍ مطبوعةٍ بالأنانيّةِ، ولذلك فإنَّ القدرةَ على التخلّي عن الانجراف وراءِ الأهواءِ هو أحدٌ البراهينِ الأكثرِ قوةٍ للشخصِ المحبوبِ، الذي يدرك بدوره أنَّ الآخرَ يحبه بشكلٍ كاملٍ وأنَّه مُستعدٌ مِن أجله للتَّخلّي عن أي شيء؛ إنَّ هذا البرهانَ هو برهانُ الأمانةِ أو الإخلاصِ، التي هي الخاصيّةُ الأساسيّةُ المُميزة لحبِّ الله.

ينبغي أنْ تكون الأمانةُ الزَّوجيّةُ حقيقةً فريدةً وثمينةً بوفاءِ الشَّريكين لبعضهما؛ إذ يربط القديسُ بولس بين أمانةِ الزَّوجين نحو بعضهما وأمانةُ المسيحِ نحو كنيسته، فيقول إنَّه "سرٌّ عظيمٌ"؛ فالحديثُ هنا يدور حول سرٌّ حقيقيّ: حيث يتشابه حبُّ الرَّجلِ والمرأةِ مع حبِّ المسيحِ لكنيسته[32]. فكما وُلدتْ حواء مِن ضلعِ آدم، هكذا وُلدتْ الكنيسةِ مِن جنبِ المسيحِ المفتوحِ.

المعنى الرَّوحيّ يتحاشى المثاليّةَ في الجنسِ

        رأينا أنَّ المعنى الرَّوحيّ يصل إلى الكشفَ عن الحقيقةِ النهائيّةِ للجنسِ، التي هي الحقيقةِ الأسراريّةِ. ومِن المؤكدِ الآن أنَّه بدون الفهمِ الرَّوحيّ لهذه الحقيقةِ، فإن التَّفكيرُ التأملي حول الموضوعِ يمكن أنْ يخدعنا ويضللنا، وقد يقودنا إلى مثاليّةِ مغلوطةِ تقودنا بدورها إلى نوعٍ مِن عبادةِ الأصنامِ، تأليهٍ للجنسِ؛ وبالتَّالي يمكنها أمام عدمِ التَّوافقِ المُستمرِ مع الواقعِ المعاشِ أنْ تنتهي بنا، إلى خيبةِ أملٍ مريرةٍ.

فالمثاليّةٌ، عندما تصطدم مع الحياةِ، تُنشئ ردةَ فعلٍ عكسيّة؛ فبدلاً مِن المثاليّةِ المزعومةِ، تَنشأ رؤيّةٌ طبيعيّةٍ أي رؤيةٌ ماديّةٌ للجنسِ، ومِن ثَمَّ يحمل عدمُ التوافق بين الواقعِ الفعليّ المُعاشِ الناتج من المثاليّةِ، إلى اتهام الأشخاصِ والشَّكوى منهم؛ فيبدأ الشَّريكان في إلقاءِ اللوم على الظروفِ والأحوالِ، أو يعتقدَ أحدهما تحت الإحساس بالذَّنبِ، بعدمِ قدرته على أنْ يحيا الجنسَ بشكلٍ سليمٍ.

عندما ننظر إلى المراحلِ التَّاريخيّةِ المُختلفةِ والثَّقافاتِ المُتنَّوعةِ، يتضح لنا وكأنَّ بعضَ الثَّقافاتِ، كانتْ تُؤلّه الجنسَ، واضعةً إياه في صبغاتٍ تصوفيّةٍ؛ في حين أنَّ  المجتمعَ وقتها لم يكن قادراً بَعدُ على أنْ يحيا هذه الصبغاتِ التَّصوفيّةِ بشكلٍ مُتزنٍ. حدث نفسُ الأمرِ أيضاً في البيئاتِ الثَّقافيّةِ التي تمَّ فيها تأسيسُ "مثاليّةٍ أخلاقيّةٍ/ فلسفيّةٍ" كبيرةٍ مُتعلِّقةٍ بالجنسِ، فبالمثلِ لم تكن الناسُ حينئذٍ قادرة أنْ تحيا مثلَ هذه المثاليّاتِ؛ فكانوا مِن ثَمَّ يصطدمون بالواقعِ المُعاشِ المُختلفِ تماماً عن المثاليّةِ؛ وقد انتهى بهم الحالُ لأنْ يبتكروا لأنفسهم مجالات أخرى للهروبِ والتَّنفيسِ.

وعلى عكس ذلك، نجد أنَّ الثَّقافةَ العبرانيّةَ، قد اعتبرتْ دائماً الجنسَ جزءً طبيعيّاً مألوفاً مِن الحياة؛ فكلُّ ما هو إنسانيّ أصيلٌ يتداخل ويرتبط بانسجام مع الواقعِ اليوميّ المُعاشِ. ولقد كشف المسيحُ عن المعنى الحقيقيّ الرُّوحيّ والخلاصيّ للجنس، رافعاً إياه إلى المستوى الأسراريّ. فليس "السرّ" نوع مِن عبادةِ الأصنامِ، "أي تأليهٍ لأمرٍ ما"، ولا هو أيضاً نوعٌ مِن "المثاليّةِ"، إنَّما هو "تحويلٌ وتجديدٌ"؛ بل وأكثر مِن هذا، فالجنس هو تحوُّلٌ للخليقةِ في المسيحِ بواسطةِ طاقاتِ الرُّوحِ القدسِ كتحوُّلِ الخبزِ والخمرِ؛ إنَّه وصولٌ نعمةِ الله إلى الإنسانِ بشكلٍ مُدركٍ وملموسٍ، ولكنَّه ليس نوعاً مِن السَّحر ولا يتعارض مع عمليةِ الخلقِ، بل بالأحرى هو كمالها المُتناغمُ. وعندما نقول "كمالها المُتناغمُ" لا يعني ذلك "رومانسيّةً" مغلوطةً؛ ولكنه يفترض مُسبقاً مسيرةَ الفصحِ، أي مسيرةَ الحبِّ الذي يخلص بفضلِ التَّضحيّةِ بالذِّاتِ.

إنَّ الحبَّ الزَّوجيّ هو مسيرةٌ تمرُّ بكثير من الصُّعوباتِ والاضطراباتِ، تمر بفترات من عدمِ التَّفاهمِ والصَّمتِ بل قد تصل إلى الإهاناتِ؛ ولكنَّ الحبَّ، يُقنع الشَّخصَ بأنَّه عندما يموت بسبب الإصرار على استمرار الشَّركةِ فلن ينتهي في الظِّلامِ وإنَّما يعبر دائماً إلى النورِ. وعندما يحيا الزَّوجان هذه الشَّركةِ الشَّخصيّةِ في حياتهما اليوميّةِ، صداقةٌ روحيّةٌ، يجعل البُعدَ الجنسيّ بمعناه الضِّيقِ يحتل مكانةً دائماً أقلَ في العَلاقةِ بين الزَّوجين.

خطواتُ نضوجِ الحبِّ نحو الرُّؤيةِ الأسراريّةِ

للانتقالِ مِن الحبِّ العاطفيّ العشقِ إلى الحبِّ الزَّوجيّ، هناك بعضُ المراحل الخاصّةِ بمثلِ هذه المسيرةِ، تحتاج إلى التَّقديرِ والأخذِ بعينِ الاعتبار. ومع ذلك، ينبغي أنْ يستدعي انتباهنا أيضاً ما يجب فعله، وما يلزم وضعه في الاعتبارِ دون أن نتجاهل ما لا يجب فعله.

·        المُحاورُ الرُّوحيّ "المُرشدُ الرُّوحيّ"

تعاني العائلةُ اليومَ من صعوباتٍ مَلحوظةٍ؛ فالشبابُ المُقبلون على الزواج غالباً ما لا يجدون في عائلاتهم صداقةً روحيّةً توجههم وتقودهم لمواجهة متطلبات الحياة الجديدة، فمن ثَمَّ يبحثون لهم عن مُحاورٍ روحيّ في مكانٍ آخر. وغالباً ما يكون هذا المُحاورُ الرُّوحيّ إمَّا زوجين قد تزوجا مُنذ بضع سنواتٍ، وإمَّا كاهناً أو مُكرَّساً ناضجاً روحيّاً. ويعتبر مِن الحكمةِ أنْ يختارَ الشَّريكان في مرحلةِ العشقِ، فترةِ ما قبل الزواج، محاوراً من النوعيّةِ الجيدة، لأنَّنا نعيش اليومَ في عالمٍ متعارض في ثقافتهٍ مع الكثير من قيمِ الحبِّ الذي يجب أن يقوم بين الرَّجلِ والمرأةِ؛ بل لا نبالغ إذ نقول أن الثقافة المُعاصرة تمثل كثير من العقباتٍ والصعوباتٍ للحبُّ الزَّوجيّ والعائلةُ. ولذلك فقَبل اختيارِ المُحاورِ الرُّوحيّ، ينبغي التَّحقُّقُ أولاً مِن أنَّه ناضجٌ حقاً عاطفياً، ولديه صفاتُ وملامحُ الأُبوةِ/ الأُمومةِ الرُّوحيّةِ، وله قلبٌ صاف خالٍ مِن أيِّ مصالحٍ شخصيّةٍ مُتعلِّقةٍ بأحدِ الشريكين، وهدفه الأوحد أن يساعد الشخصين في تحقيقِ إرادةِ الله في حياتهما، كي يصلا إلى الحبِّ والحريّةِ.

وطالما أنَّ الخطيبين لم يتزوجا بَعدُ، فمِن المهمِ أنْ يفهما ويُقدِّرا أنَّ الأبَ الرُّوحيّ يبغي خيرهما هما الاثنين؛ ومِن المهمِ أيضاً، وعلى قدرِ المُستطاعِ، ألا يُشعرهما الأبُ الرُّوحيّ ذاته بأنَّه راضٍ عن زواجهما، أو أنَّه على العكس رافضٌ له. فغالباً ما تنشأ عواقبِ وخيمةِ عندما يتدخَّل الأبُ الرُّوحيّ في شئونِ الشَّريكين ويوجههما بدلاً مِن أن يرافقهما في مسيرةِ اكتشاف. وينبغي أنْ يكونَ هذا الشَّخصُ ذو خبرةٍ كافيّةٍ، ولديه معرفةٌ جيدةٌ بالعالمِ والواقعِ، ويعرف أيضاً ثقافةَ الشَّبابِ، وعلي وعي جيد بمراحلِ النموِ الرُّوحيّ؛ ومِن الضروري أيضاً ألا يكونَ فضوليّاً أو مُتَطفلاً أو محباً للتَّحريّ والتَّنقيبِ، وألا يتدخِّل بالذَّات في المجالِ الأخلاقيّ المُتعلِّقِ بالألفةِ والمودةِ الجسديّةِ بين الشريكين. ومِن الأفضلِ أنْ يجدَ الشَّريكان شخصاً يمكنهما أنْ يُخبراه بكلِّ شيءٍ بشفافيّةٍ كاملةٍ، حتى الصُّعوباتِ والشُّكوكِ المُرتبطةِ بالمستوى العاطفيّ؛ ولكن مِن الناحيّةِ الأخرى، مِن المهمِ أنْ يُجيدَ هذا الأبُ الرُّوحيّ استقبالَ كلِّ هذه الأمور وتقديمها لله كصلاةٍ، وأنْ يُحاولَ إيضاحَ وإنارةَ الأمور برؤيةٍ لاهوتيّةٍ وروحيّةٍ، دون أنْ يُقحمَ نفسه فيها.

مِن المهمِ أيضاً إيجادُ الوقت المُلائم لإقامِة حوار رُّوحيّ بين الثَّلاثةِ، الشَّريكين والأبُ الرُّوحيّ، ومِن المهمِ تدريبُ الشَّريكين على خصوصية السرِّ المصونِ للضميرِ الشَّخصيّ. ومِن المفيدِ أيضاً ألا يطلب أيٌّ مِن الخطيبين مِن الآخر أنْ يروي كلَّ شيءٍ أمام الأبِ الرُّوحيّ، وإنَّما عليهما التَّحدُّثَ بشكلٍ شخصيّ معه. وينبغي على الأبِ الرُّوحيّ بدوره، أنْ يكونَ مُنتبهاً لكلِّ ما يسمعه مِن كلٍّ منهما، وأنْ يتوخى الحذرَ في استعمالِ ما يسمعه، فأحياناً يجب عليه أنْ يلتزمَ الصَّمتَ تماماً؛ فواجبه الأساسيّ هو أنْ يُقود الشَّخصين باستمرارٍ نحو رؤيةٍ شاملةٍ، وعَلاقة منطقِية واستبصارِ واستنارةِ فصحيّةِ؛ فهو يقوم بشكلٍ مُتواصلٍ بمساعدةِ الشَّريكين على الانفتاحِ نحو الاستبصارِ الحقيقيّ مِن خلالِ فكره الرُّوحي، حتى يتجنبوا البطولاتَ الزائفة والتَّضحيّاتِ الوهمية والأحلامَ الرومانسيّةَ ويتفادوا الانهيارات العصبيّةَ...إلخ

وعليه أنْ يُذكِّرهما أحياناً بأنْ يأخذا أحد الأبعاد بعينِ الاعتبارِ في وقتٍ مُعيَّنٍ، وفي وقتٍ آخرَ يقدّم لهما بُعداً آخرَ، ثُمَّ يعود لربطه مِن جديدٍ بالبُعدِ الأولِ، حتى تكونَ هناك استمراريّةٌ. ولا يجب أنْ تُفهمَ هذه وكأنَّها مراحلٌ زمنيّةٌ إنَّما كأبعادٍ للحبِّ؛ حيث ينتبه الشَّريكان لبُعدٍ معين في فترةٍ محددة، ثُمَّ مِن خلالِ الصِّلةِ الباطنيّةِ، يكتشفان بُعداً آخرَ...



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +