Skip to Content

الحب دعوة ورسالة- الأستاذ موريس آكوب

 

الحب دعوة ورسالة 

الأستاذ موريس آكوب

 

                     Click to view full size image                     

  الحـب الحقيقـي

 

في حياتنا هناك ما هو حقيقي ، وما هو مزيّف ، هناك حرية حقيقة وأخرى مزيفة ، وكذلك حب حقيقي وآخر مزيف 

لا شك أنكم جئتم هنا لتسمعونا نكلمكم عن الحب الحقيقي . حتى نميّز الحب الحقيقي علينا منذ البداية أن ننتبه إلى أربعة أمـــور  

 1-الحب الحقيقي لا يكون إلاّ بين أشخاص ، فأنا أحب الله ، أحب زوجي ، أحب أولادي ، أصدقائي ، القريب إن موضوع حبي هو شخص ، فإن قلت إني أحب الموسيقى أو المطالعة فلا أعني ما أعنيه عندما أقول أحبّ زوجي . في اللغة الإنكليزية نميّز بوضوح هذه المسألة إذ نستخدم فعلين للحب مختلفين : Y like للأشياء ، و Y love للأشخاص . عندما نحب الأشخاص كما نحب الأشياء يصبح حبنا لهم مزيفاً ، يصبح حباً استهلاكياً ، فيه أغيّب الآخر 

كما أغيّب التفاحة عندما أقضمها
 

2-في الحب الحقيقي مركز الحب هو الآخر لا الأنا ؛ إنه حب يستهدف الآخر ، حب من أجل الآخر ، الآخر فيه هو الغاية لا الأنا . أنا أحتجب ليظهر الآخر ، أنا أَصغُر ، للوهلة الأولى ، ليكبر الآخر ، مثاله محبة يوحنا المعمدان للمسيح ، »  له أن ينمو ولي أن أصغُر  

 3-الحب الحقيقي عطاء وقبول . الحب يُعطي ، منطقه منطق العطاء لا الأخذ ، في كل مرة يعطي يزداد ، يكبر يثرى، مَثَله مَثَل الحفرة التي كلما أعطت منها كبُرت ، والحب قبول ، إذا ما أُعطي يقبل أن يأخذ ، لأنه يشعر بافتقاره لا بامتلائه ، بهذا المعنى يفترض الحب التواضع ، عندما أقبل أن آخذ ، فهذا يعني أنني مفتقر إلى الآخر الذي يكمّلني ، فالآخر لا يلغيني عندما يعطيني إنما يكملني ، يغنيني
 

4-الحب الحقيقي ارتباط ، حب يبدأ ليستمر ، من ميزاته الديمومة ، علاقة تتوثق عراها يوماً بعد يوم تجعل المصير واحداً وفي كل الأحوال
 

لنتوسّع الآن في هذه الأمور الأربعة
 

أولاً - الشخص هو موضوع الحب الحقيقي 

كيلا نتحرك في عالم المجردات علينا أن ننطلق من اختباراتنا . في كثير من الأحيان إن لم يكن في أغلبها ، نحب الله كما يحب الطفل الرضيع أمه ، إنها بالنسبة إليه ، مجرد ثدي يرضعه ويروي له غرائزه . وأحياناً نحب الله كما نحب مصرفاً لنا فيه رصيد ، نلجأ إليه ساعة نريد لسدّ حاجاتنا المختلفة . نحن هنا في الحقيقة ، لا نحب الله في ذاته ولذاته ، إنما نحب ما يقدمه لنا مما نرغب ونحتاج ، فالعلاقة والحال هذه ، ليست بيني وبين شخص الله إنما بيني وبين أشياء يقدمها لي الله ، فإذا ما عاد هذا الله ، كما يبدو لي ، يقدّم ما أطلبه منه ، بَطُل حبي له ، وزعلت منه ، قاطعته ، شطّبت عليه ، والعودة إلى اختباراتنا يثبت ذلك 

 

لنستعِر مثالاً آخر : الحب بين زوجين ، كثيراً ما يتعرض هذا الحب لتجربة » حب الشيء « . كثيراً ما يحب الرجل لا زوجته بالذات ، لا شخصها ، إنما جسدها بما فيه من خصائص جمالية ، فتغدو العلاقة بينها وبينه علاقة شخص بجسد ، بل ربما علاقة جسد بجسد  يصبح الفعل الزوجي لقاء جسدين ليس إلاّ ، فيغيب عندها الحب الحقيقي ليظهر مكانه حب الإستهلاك

 

ثانياً - الآخر هو المركز في الحب الحقيقي

 

مركزية الأنا هي تجربة الحب الكبرى ، أحياناً ، إن لم يكن في معظم الأحيان ، نحب أنفسنا ، ذواتنا دون وعي منا، لنضرب بعض الأمثلة من واقع الحياة : محبة الوالدين لأولادهم . كثيراً ما نربي أولادنا لا من أجلهم هم إنما من أجلنا نحن ، نريد لهم أن يفكروا مثلنا ، يتبنّوا مواقفنا ، يتسيّسوا بسياستنا ، يدرسوا ويتخصصوا ما كنا نحن نحلم بدراسته والتخصص به . هكذا نحوّلهم إلى مجرد وسائل ، أدوات ، أشياء لتحقيق رغباتنا وتطلعاتنا ، إننا نحب فيهم ذواتنا،حب نرجسي ، عشق للذات ، حيث تصبح الذات هي مركز هذا الحب . هذا ما يحدث أيضاً في الحب الزوجي . كثيراً ما يكون الحب هنا نوعا من عشق الذات ، حيث يصبح الآخر مجرد مرآة أرى فيها صورة ذاتي ، في ظنيّ أنني أحبه ، ولكن في واقع الحال أحب ذاتي فيه ، أحقق صورتي فيه ، ففي كل مرة يريد فيها الرجل زوجته لا من أجلها أيضاً بل من أجله هو فقط لا من أجل إسعادها إنما من أجل رغبته هو فقط يقع حبه في مركزية الأنا فيبقى سجين ذاته ويغيب الحب الحقيقي

 

الحب افتقار للآخر ، في اختبارنا الإنساني ، نرى أن الحب لا يكون من دون " فَقْر " . حين ينظر رجل إلى امرأة بنظرة حب ليس فيها إلاّ حب ، ماذا يمكنه أن يقول لها ؟ ما هي الجملة التي يمكن أن يلفظها للتعبير عن نظرة الحب هذه ؟ لا نرى إلاّ جملة واحدة : » أنتِ لي كل شيء ، أنتِ فرحي كله « . إنها قول " فقر  إن كنتِ أنتِ كل شيء ، فلست أنا بشيء ، خارجاً عنكِ أنا فقير ، ليست ثروتي فيّ بل فيكِ ، ثروتي هي أنتِ ، وأمّا أنا فإني فقير ، بكلمة واحدة أنتِ " مركزي " تُـرى ألا نقـول الشيء ذاتـه عندمــا نحـب الله ، عندمـا نناجيـه ونعبـّر لـه عن حبنا؟

 

  ثالثاً - الحب الحقيقي عطـاء وقبـول

 

من يحب يُعطي ، يقدم ، يبذل ، ومن يحب يأخذ ، يتلقى ، يستقبل . قلّبوا الأشياء كما تريدون ، فالحب عطاء وقبول . لننطلق من " القبلة " ، القبلة رمز جميل جداً إلى الحب ، إنها تدل على العطاء والقبول في آن واحد ، لا تُعطى القبلة حقاً إن لم تُقبَل إلاّ إذا كانت مزيّفة . شفاه الرخام والتمثال لا تقبل القبلة . إذ لا بد من شفاه حيّة. إن الشفاه الحيّة هي شفاه تقبل وتعطي في آن واحد ، القبلة حركة رائعة ولذلك لا يجوز الحط من قدْرها واللعب بها. بل يجب الاحتفاظ بها علامة لشيء عميق جداً

 

الحب هو الحياة في سبيل الآخر ( العطاء ) والحياة بالآخر

( القبول ) . الحب هو الكف عن الحياة في النفس وبالنفس وفي سبيل النفس . لقد قيل في الحب الشيء الكثير ، ولكن ما لا يقبل الجدل هو أن الحب نكران للذات ، الكثير من الناس يستعملون هذه الكلمة ، ويدّعون اعتناق حقيقتها ، ولكن المقياس يكمن دائماً في الإجابة عن هذا السؤال : هل يمكننا في الحقيقة أن ننسى ذواتنا ؟ أمور عديدة تطلق عليها لفظة " حب " ولكن غالباً ما يكون في الكلام زور . الميزان الذي لا يخطئ في قياس الحب هو نسيان ( نكران ) الذات في سبيل الآخر . إن الشاب الذي يدّعي حب فتاة ، قد يوهم نفسه بأن الاستجابة لنزواته الخاصة هي التي تكوّن جوهر ذلك الحب ، والفتاة التي تملأ فراغ وحدتها برفقة شاب واهتمامه ، قد تظن أن هذا الشعور المريح هو الحب . وكذلك الأب والأم اللذان يدفعان بأولادهما إلى ما هو ، في ظنهما ، طريق النجاح قد يحسبان ذلك حبّاً

 

السؤال الأساسي يبقى دائماً يدور حول نسيان الذات ، أتُرى ذاك الشاب أو تلك الفتاة أو كل من الوالدين بدوره ينسى ما ينفعه هو كي يبحث فقط عن سعادة المحبوب ونموه الشخصي ؟ تلك ليست أسئلة نظرية . فواقع الحال إننا في غالبيتنا ، نجد من الصعب جداً ، ونحن نغرق في حاجياتنا الخاصة ، أن ندع حبة الحنطة تقع في الأرض وتموت ، قبل أن تستحق الحياة والحب

 

  رابعاً - الحـب ارتبـاط بالآخــر

 


 لنحاول أيضاً أن نتصور نظرة حب امرأة إلى زوجها لا يكون فيها إلاّ حب . هل تستطيع هذه المرأة أن تقول لزوجها : أحبك ولكن إن دعاك وضعك إلى بلد بعيد ، سأبقى أنا هنا ؟ وبعبارة أخرى ، في الوقت الذي أعبّر فيه عن حبي ، أؤكد لك استقلالي عنك ! من الواضح أن مثل هذا الموقف مستحيل بل وغير مقول . فمَن أحب أراد الارتباط . أحبك فأتبعك إلى أقصى العالم ، أريد أن أكون مرتبطة بك . من هنا نفهم ضرورة الزواج للمحبين ، الزواج كسرّ يحقق هذا الارتباط ويحافظ عليه ويجعله مستمراً إلى الأبد ، إنه ارتباط في المحبة

 

  في كل جماعة بشرية ، نجد هذه الجملة الضمنية » أريد أن أرتبط بك « . لنتساءل : لماذا كثُر في الوقت الحاضر عدد الجماعات التي تولد ولا تلبث أن تموت ؟ ( زواجات تنتهي بطلاقات ) . لأنها تخلو من ذلك التأكيد على الارتباط المتبادل  هذا ينطبق على الإنسان عندما يحب الله ، فالذي يحب الله يرتبط به ويعمق ارتباطه به ، هذا هو معنى التديّن ، إن لفظة ديانة Religion مشتقة من الكلمة اللاتينية Religare ومعناها ارتبطَ ثانية . إذا ما تديّن الإنسان ربط ذاته بالله هذا الرباط هو الحب عينه ، فالحب هو أساس الرباط بين الله والإنسان ، وما يسمى باللاّهوت الأدبي ، بالخطيئة الأصلية ما هي إلاّ قطع هذا الرباط أي رفض هذا الحب . في الخطيئة يرفض الإنسان أن يرتبط بالله أصل وجوده ، يرفض أن يعترف بالله كمصدر وغاية لهذا الوجود

 

  لنعد إلى الحب . قد يختلف الحب في موضوعه : الزوج ، الأولاد ، الأب ، الأم ، القريب ، الله لكنه واحد في ماهيته : إنه نكران للذات في سبيل الآخر ، وهو واحد في موضوعه : الإنسان  الشخص ، وإن اختلفت هوية هذا الشخص ، وهو واحد في هدفه  إسعاد الآخر واكتماله

 

  الحب دعوة الإنسان ورسالته

 

  في البدء كان الحب ، الله فعل حب ، ليس عند الله محبة ، بل الله هو محبة . إذا كان العطاء ومشاركة الآخر هما في صميم كيان الله ، فالله إذاً محبة مَن لا يحب لم يعرف الله لأن الله محبة س ( 1 يو 4/8 ) . الله الحب هو الذي خلقنا ، لأنه حب خلقنا ، الحب خلاّق ، خلقنا على صورته ومثاله ، منحنا القدرة على الحب ، وكذلك القدرة على الخلق ، لأن المحبة هي بطبيعتها خلاّقة فدعوتنا إذاً في هذه الحياة هي دعوة حب ، إلى الحب نحن مدعوون . عندما سأل أحد الفريسيين يسوع : ما هي الوصية الكبرى في الشريعة ؟ س أجاب قائلاً : أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك ، تلك هي الوصية الكبرى والأولى . والثانية مثلها : أحبب قريبك حبك لنفسك ، بهاتين الوصيتين ترتبط الشريعة كلها والأنبياء س

 

دعوتنا واضحة وضوح الشمس الساطعة ، الله يدعونا إلى أن نحب . إليكم ما يقوله يوحنا الحبيب : أيها الأحباء فليحب بعضنا بعضاً إذا كان الله قد أحبنا هذا الحب ، فعلينا نحن أن نحب بعضنا بعضاً س1 يو4/7+11 
إذا كان الحب دعوتنا ، فهو إذاً رسالتنا في هذه الحياة ، الحب المسيحي هو استجابة لحب الله الذي لا يعرف الحدود ، استجابة تنبع عن وعي عميق لكون الله قد أحبنا أولاً . وحتى أنه أرسل ابنه الوحيد ليكون لنا به الخلاص 
سؤال في غاية الأهمية على كل منا أن يطرحه على نفسه كل يوم  لماذا خلقت أنا ، ولأجل أي غاية أعيش؟ لا يمكن أن يكون لحياتي معنى ما لم أكتشف هذه الحقيقة : } الحب خلقني ، إلى الحب أنا مدعو ، من أجل الحب أنا أعيش ، بالحب وحده أخلص { . ميزة الإنسان المسيحي أن يحب ، إذا أحب بعضكم بعضاً عرف الناس جميعاً أنكم تلاميذي  ( يو 13/35 )   وصيتي هي : أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم (يو15/12

 

الموقف الوحيد الذي يليق بالإنسان هو موقف المسيح ، المسيح يفكر دوماً بالآخرين وقد بذل في سبيلهم حتى آخر قطرة من دمائه . ألم يقل هو ما من حب أعظم من حب مَن يبذل نفسه في سبيل أحبائه ؟ س . هذا ما يفرضه الحب علينا ، أن نبذل حياتنا في سبيل الآخرين . ولن نحقق ذواتنا ونعيش سعادتنا الحقة إلاّ في مثل هذا الحب. إذا فشلنا في تحقيق رسالة الحب هذه كان من حق نيتشه أن يتساءل : إذا كان المسيحيون يريدوننا أن نؤمن بمخلصهم ، فَلِمَ لا تظهر علامات الخلاص في حياتهم بشكل أوضح 

 

نختم حديثنا بقصة تُروى عن القديس يوحنا الإنجيلي ، تقول : إنه في آخر حياته الطويلة كان يمضي ساعات عديدة مع الشبان من تلاميذه . وذات يوما قال أحد تلاميذه متذمراً : " يا يوحنا ، أنت دائماً تتكلم عن الحب ، عن حب الله لنا ، وعن حب بعضنا لبعض ، لماذا لا تكلمنا عن شيء آخر غير الحب ؟ " فأجاب ذلك التلميذ الذي انحنى يوماً ، وهو شاب ، على صدر الإله المتجسد  لأنه لا وجود لشيء آخر سوى الحب الحب الحب

 

الحب هو السبيل الوحيد إلى ذواتنا ، إنه الطريق الوحيد إلى حضن الله الذي دعي اسمه " الحب

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +