Skip to Content

مقالة المسيح و الكهنوت و الكنيسة - المطران يوحنا جنبرت

 

 

 

 

المطران يوحنا جنبرت

المسيح والكهنوت والكنيسة

 
 
 

 المسيح والكنيسة واحد

 في مطلع " الدستور العقائدي في الكنيسة " يقول آباء المجمع الفاتيكاني الثاني : " المسيح نور الشعوب:

 لذلك يرغب المجمع المقدّس الملتئم في الروح القدس رغبة ملّحة في أن يستنير جميع الناس بنور المسيح المتألّق على وجه الكنيسة باعتلان الإنجيل للخليقة كلّها" فالإيمان بالكنيسة مرتبط ارتباطاً عضوياً وثيقاً بالإيمان بالمسيح. ونور الكنيسة هو نور المسيح، كالقمر بنوره الذي يعكس نور الشمس على حد تعبير الآباء القديسين.
والروح عينه الذي حقّق تجسّد الكلمة هو عينه الذي مَهَرَ الكنيسة بالقداسة، والكنيسة كما يقول الآباء هي المكان " الذي يزهر فيه الروح " ( هيبوليتوس، التقليد الرسولي 35 ).

وهذا هو العهد الجديد، عهد النعمة، وهو عهد شعب الله المختار، المولود لا من لحم ولا من دم ولا من مشيئة بشر وإنَّما من الروح القدس.

والمؤمنون الذين وُلدوا للحياة الجديدة بالماء والروح يحيون أيضاً بنعمة الروح التي ينعمون بها في رحاب الكنيسة المقدَّسة جسد المسيح السرّي الذي هم أعضاء له يستمدّون منه الحياة الإلهية كما تستمد الأغصان نسغها من جزع الكرمة. فكل شيءٍ قد أُعطي بالمسيح، وهو بالروح القدس يشفي الجنس البشري، " أنظر المعجزات " ويجدّده ( مغفرة الخطايا والبركة ). ومجيئه وبقاؤه على الأرض ما كان إلاّ ليؤسس الكنيسة سرّ استمراريته بين الناس ليبلغ بهم إلى القيامة والمجد المُعدّ لكل الذين يؤمنون به ويعتمدون بمعموديته. وهذه الكنيسة ليست حجارة أو رموز وشعائر ولا هي منظمة بشرية أو مؤسسة كسائر المؤسسات. وإنّما هي عنصر حياة، أشبه بالكرمة، وينبوع الماء الحي، والخبز الذي يشبع. وركيزتها هي وجوده السري فيها، هذا الوجود الذي ينفحها بالحياة مجدداً أعضاءها ومنمياً إياهم بالنعمة في شتى مراحل حياتهم البشرية على الأرض.

إنّ المسيح يحقّق تواجده المستمر هذا بالروح القدس عينه الذي أقامه من بين الأموات وهو مصدر كل معرفة وحياة. فحيث يكون الروح القدس يكون الحق والنعمة والحياة وفي هذا يكون الخلاص للناس وروح الحياة قد أعطاه للعالم من خلال الرسل القديسين إذ أنزله عليهم يوم العنصرة مؤسساً بذلك الكنيسة المقدّسة كما وعد جاعلاً منها سراً، " علامة وفعل "، أعني سرَّ عمله الخلاصي الدائم والمستمر حتى استكمال الملكوت.

وإنَّ " الكنيسة " تعني في تعابيرنا المسيحية، المجموعة " المصليّة " الليتورجية، ( 1 كو 11 : 18 / 14 : 19، 28 ) أي " جماعة المؤمنين " محلية كانت أم جامعة. وهذه المعاني الثلاث تصلح، إذ إنَّ " الكنيسة " هي الشعب الذي يجمعه الله في العالم أو في مكان معين محدود، وهي تتحقّق كمجموعة مصلية ليتورجية وخصوصاً " افخارستية "، وتَحيا هذه الجماعة بكلمة المسيح وجسده كما أنَّها في الوقت عينه تنمو لتصير بدورها جسد المسيح.

 العنصرة: ولادة الكنيسة

" لمّا أُنجزَ العمل الذي كلَّف الآب ابنه تحقيقه على الأرض، أرسل الروح القدس، في يوم العنصرة، لكي يقدِّس الكنيسة باستمرار" ( الفاتيكاني الثاني دستور عقائدي عن الكنيسة فصل 4 ) لأنَّ الروح هو مقدِّس كل شيء وهو كان في بدء الفداء يوم البشارة وهو رافق المسيح في عمله الخلاصي على الأرض وهو وزَّع الألسن النارية على الرسل ومسحهم لكي يتابعوا عمل المسيح الخلاصي في العالم من خلال الكنيسة، متَّحدين بالقائم من بين الأموات حتى النهاية.

فنرى يوم العنصرة، موقع الرسل الأساسي بوضوح في القصد الإلهي بعد أن كانت تتردَّد تنويهات إلى دور يلعبونه في نقل البشرى أو شفاء المرضى وإخراج الشياطين والدعوة إلى التوبة. وكأنَّ العنصرة هي بداية عهد جديد بين الله وشعبه وهو غير العهد القديم الذي كان قد قطعه الله للشعب اليهودي في جبل سيناء. الذي يحتفل به اليهود في اليوم عينه ويسمّونه عيد الخمسين، لأنَّه يأتي بعد الفصح بخمسين يوماً.

وفي يوم العنصرة بالذات ظهر سرّ الكهنوت المقدَّس وقد لفح فيه الروح القدس هؤلاء الذين اختارهم الرب رسلاً له في العالم وأعطاهم قوة الروح ( باراكليت ) لكي يجمعوا العالم ويقدّسوه. وهكذا نقرأ في أعمال الرسل:

" ولمّا حلَّ يومُ الخمسينَ كانوا كلُّهم معاً في مكانْ واحدٍ. فحدثَ بغتةً صوتٌ مِنَ السماءِ كصوتِ ريحٍ شديدةٍ تَعصِفُ، وملأَ كُلَّ البيتِ الذي كانوا جالسينَ فيهِ؛ وظَهرتْ لهم ألسِنَةٌ مُنقَسِمَةٌ، كأنَّها مِنْ نارٍ، واستقرَّتْ على كُلِّ واحدٍ منهم. فامتَلأُوا كلُّهم مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ، وطَفِقوا يتكَلَّمونَ بِلُغاتٍ أُخرى، كما آتاهُمُ الرُّوحُ أنْ يَنطِقوا. وكانَ نازِلاً أُورَشليمَ يهودٌ، رجالٌ أتقِياءُ مِنْ كلِّ أمَّةٍ تحتَ السماءِ…… فوَقَفَ بُطرسُ معَ الأحَدَ عَشَرَ، ورفَعَ صوتَهُ وخاطَبَهُم قائلاً:" أَيُّها الرجالُ اليهودُ، والمقيمونَ في أُورَشليمَ جميعاً، ليكُنْ هذا معلوماً عندَكُم، أَصغُوا لأَقوالي…… أيُّها الرِّجالُ الإسرائيليّونَ، اسمَعوا هذِه الأقوال. إنَّ يسوعَ الناصريَّ، الإنسانَ الذي أيَّدَهُ اللهُ لَديكُم بالعجائِبِ والمُعجزاتِ والآياتِ، التي أجراها على يَديهِ فيما بينَكُم، - كما أنتم تعلَمونَ – ذاكَ الذي أُسْلِمَ بحسَبِ مشيئَةِ اللهِ المحدودَةِ وعِلْمِهِ السابِقِ، فَقَتَلْتُموهُ صَلْباً بأيدي الأَثَمَةِ، قد أقامَهُ اللهُ، ساحِقاً قُيودَ المَوْتِ، إذْ لم يَكُنْ في وِسْعِ المَوْتِ أَنْ يَضْبُطَهُ…… فلمَّا سَمِعوا ذلكَ انصَدَعَتْ قُلوبُهم، وقالوا لِبُطرسَ ولِسائِرِ الرُسُلِ: " ماذا عَليْنا أنْ نَصْنَعَ، أيُّها الرجالُ الإخوَة ؟ " فقالَ لَهُم بُطرس:" تُوبوا، وَلْيَعتَمِدْ كلُّ واحدٍ منكُم باسمِ يسوعَ المسيح لِمغفِرَةِ خطاياكُم، فَتَنالوا موهِبَةَ الروحِ القدُسِ." …… فاعتَمَدَ الذينَ قَبِلوا كلامَهُ: وانضَمَّ إلى الكنيسةِ، في ذلكَ اليومِ، نحوَ ثلاثةِ آلافِ نَفْس." ( أعمال الرسل 2 : 22-26 /37)

ومنذ ذلك اليوم تمحور الحضور المسيحي وتجمهرت الجماعة الكنسية حول الرسل الإثني عشر حيث كانوا يبشّرون الناس ويجمعون المؤمنين مقدّمين لهم أنوار الكلمة وكنوز الملكوت.

ومنذئذٍ ما عاد بالإمكان تصوُّر الكنيسة بدون الرسل. فالكنيسة ولدت من جنب المسيح المصلوب، وانطلقت في الحياة يوم العنصرة بقدرة الروح القدس وبواسطة الرسل ركيزتها وصوتها في مسيرتها على الأرض ورمز حضورها بين البشر.

 التمييز بين كنيسة البشر وكنيسة الحجر

 ولربما يحسن بنا أن نقول كلمة في هذا المكان عن كنيسة البشر وكنيسة الحجر، حيث إنَّ العنصرة وجماعة الرسل والمؤمنين الأولى الملتفة لا بل المنشأة والمكوّنة حولهم تبين بوضوح الصورة الحقيقية للكنيسة: " كنيسة البشر" التي تقوم على الرسل وقوة الروح العاملة فيهم، وكأنّه بدونهم لا كنيسة تستمر ولا خلاص يبلغ الشعوب. فبطرس والأحد عشر هم أساس الجماعة المسيحية الحقّة التي تحيا بالمسيح وتنمو بنعمه المعطاة لها بواسطتهم. فالدعوة تصدر عنهم ومعرفتها للحقيقة تأتي من كرازتهم وان روح المسيح وتقديسه لها يمر بالكهنوت الخلاصي المتجذّر فيهم من جرّاء حلول الروح القدس. والرسل هم الذين يرعون ويسوسون شعب الله كما نقرأ في أعمال المجمع الفاتيكاني:" إنَّ المسيح الرب قد أنشأ في كنيسته، لكي يرعى شعب الله وينميه في غير انقطاع، خدماً متنوعة تهدف إلى خير الجسم كله. فالرعاة، وقد قلّدوا سلطاناً مقدساً، هم في خدمة إخوتهم لكي يتمكن جميع المنتمين إلى شعب الله أن ينالوا الخلاص". ( الدستور العقائدي للكنيسة 18)

فالكنيسة في الأساس كما نستنتج مما سبق هي كنيسة البشر وكنيسة المعرفة والتقديس والالتقاء في رحاب رعية " شعب الله "، المنطلقين نحو الخلاص. وإذا أردنا أن نقول كلمة عن كنيسة الحجر، فمن الواضح أنّه لم يكن لها وجود في البداية، وهي إن وجدت لاحقاً فبسبب الطابع الجماعي لمسيرة المؤمنين نحو أرض الميعاد، أورشليم الجديدة. فالكنائس بنيت فيما بعد كي تؤمّن المكان الذي يلتقي فيه المؤمنون والمكان الذي يحتفل فيه الرسل ومن حولهم بالأسرار المقدسة وعلى رأسها الأفخارستيا، إذ إنَّ الخِدَم الكنسيَّة ترتبط ارتباطاً جوهرياً بالطبيعة الأسرارية، كما أنّ الخدمة الكنسية الأسرارية هي جماعية أصلاً وتقتضي بطبيعة الحال مقرّاً تُنظَّم فيه لقاءاتها الاحتفالية.

فالرسل الذين أرسلهم الرب ليعلّموا ويعمّدوا كل إنسان يقبل إليهم، هم أركان الكنيسة عليهم تقوم وتتكون وبواستطهم تنمو كما أنّ كل عضو من أعضائها يتقدس بنعم الروح القدس: عنصر تكريسهم ومصدر سلطانهم الشافي للأمراض ومعالج الضعف البشري.

لا حاجة بنا أن نفصل في هذا الموضع كل المواقف التي تفيدنا عن التوكيل الرسمي الذي أعطاه المخلص لرسله، فالإنجيل المقدس مليء بالعناصر المؤيدة لهذه الحقيقة. يكفينا من أقوال المسيح لرسله بهذا الخصوص بعض هذه النصوص وعلى سبيل المثال:" خذوا الروح القدس " " كما أرسلني الآب كذلك أنا أرسلكم "( يو20: 21 ) " من غفرتم خطاياهم تغفر لهم وأمسكتم خطاياهم أمسكت "( يو10: 23 ) وفي العشاء السريّ:" اصنعوا هذا لذكري حتى مجيئي "( لو22: 19 ) وقبل صعوده:" كل سلطان قد دفع إلي في السماء وعلى الأرض " و" اذهبوا وتلمذوا كل الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس "( متى28: 18/19 ). هذه النصوص وغيرها لا تترك مجالاً للشك أو التردد بشأن السلطان الوساطي الكهنوتي الذي أراده المسيح لرسله، وقد حققه فعلاً عندما أنزل عليهم الروح القدس للانطلاق والعمل يوم العنصرة. حيث فرح به بطرس كما يقول لنا الكتاب، وكلّم الجماهير عن الرب يسوع وبقدرة الروح فهموا وبنعمته اعتمدوا وأصبحوا واحداً مع المسيح.( أعمال الرسل2: 37-41 ).

هذه المواقف وغيرها أوضحت للرسل ولخلفائهم أعني الأساقفة في الكنيسة أهمية مهمتهم، وهي مهمّة كهنوتية خلاصيّة لعهد جديد خلاصي يحي حياة الله بالروح القدس الذي يعمل في الكنيسة، كهنوت حقيقي لا رمزي وساطته ليست بشرية وإنما مسيحانيّة، لا عجول تذبح وإنما الحمل الإلهي يرفع ذبيحة مرضية، الخبز خبز الحياة لا كالمن النازل في الصحراء، والتوبة تحظى بمغفرة الخطايا من الله بسلطان المسيح الذي يحضر ويعمل من خلال الكنيسة، جماعة الرسل، والتي يضمن حضورها واستمراريتها وصف الأساقفة وكل الذين نالوا الروح بوضع الأيدي لهذه الخدمة التقديسيّة الخلاصيّة الرهيبة.

يقول اللاهوتي لويس بوييه بهذا الصدد:" هو المسيح التاريخي الذي يعمل من خلال الخِدم التي أعطى هو بالذات للكنيسة بدأً بالمهمّة الكهنوتية التي أعطى للرسل… فبفعل الرابط الحيّ الذي يوحدهم به، يتأكد عمله بتدخله المباشر معهم بواسطة روحه القدوس ودوره في تغذية الكنيسة جسده السري وفي المحافظة عليها وتنميتها في كل الأزمان "(كنيسة الله ص 381 ) وكأنّه يردد بتعبير آخر قول المعلّم" أنا معكم كل الأيام وإلى منتهى الدهر ". وقد عبّر المسيح عن ذلك بمواضع عدّة ولا سيّما في صلاته من أجل الرسل الذين أعطاهم الله له، وقد أودعهم هو كل ما أخذه من الآب، كما طلب من الآب أن يحفظهم كي يقوموا بالمهمّة، مهمة تقديس العالم وتوحيده.( يو17: 22…. )
كل هذا يلفت انتباهنا إلى أمرٍ بالغ الأهميّة في مفهومنا للدين المسيحي، ولسر الكنيسة وأهميته ودورها الكهنوتي الذي هو امتداد لعمل الفداء.

فعمل المسيح الأرضي يبدأ بالدعوة إلى التوبة إلاّ أنّه لا يتحقق إلاّ بالنعمة وحلول الروح القدس. وقد لا ينفع الكلام والوعظ ما لم يكن مرفقاً بالقدرة الإلهية التي تمكن المقبلين إلى المسيح من ممارسة الحياة الإلهية في القداسة. فالمسيح لم يأتي ليُحَمِّل الناس أعباء إضافية لا يستطيعون احتمالها وإنما ليمنحهم القدرة على عمل الخير وتبديل قلوبهم من الداخل محوّلاً إياها من حجر إلى لحم كما نقرأ في حزقيال النبي.( 36: 16: 26/ و37 )
وهو أثناء حياته اجترع المعجزات ليبيّن لنا سلطان ابن البشر على الطبيعة الإنسانيّة، فكان غالباً ما يربط الشفاء الجسدي بالشفاء الروحي الذي يريد أن يحقق في حياة الإنسان أولاً وآخراً: تذكر شفاء المخلع وشفاء الأعمى والمرأة النازفة الخ….

ويحلو لي أن أتساءل في هذا الموضع عن معنى مجيء المسيح فيما لو كانت مهمته قد اقتصرت على إعطائنا الإنجيل المقدس ؟ أو أن تكون قد انتهت مع صعوده ؟ هل كان يقتضي الأمر في تلك الحالة أن يتجسد الكلمة ويرفع على الصليب، لا سيما وأنّه هو نفسه قال أن تعاليمه هي تعاليم الأنبياء مُكَمَلة بوصية المحبّة" قاعدة الوصايا " التي يركز عليها في إنجيله. أو لم يكن من الأسهل والأنسب في تلك الحالة أن يرسل الله أحد أنبيائه لإتمام المهمّة ؟. وهل أن المزيد من التعاليم من شأنها أن تبدل الكثير في حياة البشر التعيسة المنغمسة في الضعف والإحباط ؟
في الحقيقة يبدو لنا واضحاً أنّ الكلمة إذ تجسّد، وفدانا على الصليب فلكي يعطينا بتجسده عنصر الحياة الإلهية التي وعد بها. وهذا في الواقع يتماشى مع نمط عمل المسيح الخلاصي أثناء حياته على الأرض، حيث علّم وخصوصاً شفى أمراض البشر وأعاد البصر إليهم وأقام موتاهم، وأشبع الجائعين منهم وكأنّه بذلك يريد أن يرمز إلى النعم التي كان مزمعاً أن يعطيها للناس من خلال علامات حسيّة ووسيط يعمل باسم الله وفي خدمته: هو يسوع الناصري أثناء حياته على الأرض قبل القيامة وهو يسوع المسيح ابن الله القائم من بين الأموات والموجود بين الناس بكنيسته بعد ارتفاعه والفاعل في حياتهم بواسطة رسله المختارين. والكهنوت المسيحي يبدو هنا بكل وضوح مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً باستمرارية عمل المسيح الخلاصي الفاعل بنعمة الروح القدس المعطاة للعالم بأسره في الأسرار المقدسة التي يقوم الكهنة بخدمتها في الكنيسة. فعمل المسيح الخلاصي مستمر، وهو في البداية فتح منابع النعمة ثم أطلق الروح في كنيسته يوم العنصرة فأعطى كل رسول أن يخدم سر حضوره بين الناس ويقوم بالأعمال الخلاصية عينها التي أتى من أجلها، محققاً هكذا الرسالة في كل زمان ومكان.

وهذه الأعمال الخلاصيّة التي تبدأ بعد التبشير بالمعمودية، ومنح الروح القدس للمعمدين، وجسد ودم الرب غذاءً وقوتاً، ومغفرة الخطايا للمصابين بالزلات، وبركة الزواج ومسحة المرضى، أعطى الكنيسة أن تمنحها للمؤمنين به. والكنيسة تقوم بهذه المهمّة بواسطة الكهنوت الذي يمارسه فيها خلفاء الرسل كهنة العهد الجديد.
ومن هنا أهمية الكاهن في شعب الله الجديد، فهو الوكيل الأمين الذي اختاره السيد ليعطي عبيده القوت في أوانه: فطوبى له إذا أتى سيده ورآه يصنع ذلك…

فهو الذي يعلّم ويعمّد ويعطي الإنسان فرصة الاتحاد بالمسيح ولبس حلّة الملكوت البيضاء الناصعة.

وهو الذي بمنحه حضور الروح القدس في حياته بالتثبيت.

وهو الذي يغفر الخطايا ويعالج الضعف البشري.

وهو الذي يقدم له جسد ودم الرب مأكلاً ومشرباً، غذاءً روحياً وعنصر اتحاد متزايد بالمخلص واتحاد بسائر المؤمنين المتحدين بالمسيح.

وهو الذي يبارك زواجه وبيته، وينزل عليه النعم الموافقة لبناء أسرة مسيحيّة، لا بقدرة بشر ولا بكلام الناس وإنما بحضور المسيح.

وهو الذي يصلّي ويمسح المرضى بالزيت المقدس، للشفاء أو للحياة الخالدة.

إنّ من يعي أهمية السلطان الذي يتمتع به الكاهن، لا بدّ له وأن يجزع ويندهش من أن سلطاناً لهذا قد أعطى البشر(متى9: 8 ).

ويحلو علينا في هذا المكان أن نقرأ عليكم ما كتبه المفكر اللبناني الكبير الدكتور فؤاد كمال الحاج عن الكاهن، رغم جرأة تعبيره، التي إن دلت فتدل على إيمان الكاتب العميق في قدسية الكهنوت وأهميته:

 الكاهن: من هو ؟

 هذا هو الكاهن: وسيط بالذبيحة بين الله والإنسان، نائب المسيح. قائم مقام المسيح ذو سلطة على إنزاله، وذبحه بين يديه، كي يعطيه الحياة للآخرين، في كل مرة يجري الذبيحة. هو ذابح دون أن يكون مذبوحاً. هو مالك دون أن يكون مملوكاً. هو كاهن دون أن يكون مكهوناً.

هذا هو الكاهن: إنه علة فاعلة لوجود المسيح حقاً في القربان المقدس. قال الله: كوني فكانت. هكذا كان الكاهن. يكفي أن يقول على الخبز:

"هذا هو جسدي" ليصير الخبز جسد المسيح. يا لها من أديٍ مقدسة. إن الذي خلق الكاهن فكان الكاهن بواسطته عاد فوهب الكاهن أن يخلقه فيكون بواسطة الكاهن.

هذا هو الكاهن: أعجوبة مذهلة لا يعلوه إلا الله. إذ لا خلاص إلا به، لأنه لا خلاص إلا بالذبيحة. فكما أن الكون كله يقيم الذبيحة، صباح مساء، هكذا الكاهن، إنه الكون كله مصغراً ساعة يقف داخل الكنيسة ليقيم الذبيحة.

هذا هو الكاهن: حامل أسرار. موزّع أفراح. مضيء أنوار. معطي خلاص. واهب نِعَم يسمو على السادات الزمنيين. ويفوق المراتب النعيمية، لأنه بدون الذبيحة التي يقدّمها في الكنيسة لا قيمة ولا ثمن لجميع البشر. كلنا عدم بدون الذبيحة.

هذا هو الكاهن: بوابة المدينة الدهرية التي هي السماء. ومفتاح تلك البوابة. قهرمان البيت الملكي. إذاً الملائكة ذاتها توقر الكاهن. ولا عجب، فإن الملائكة بأجمعها لا تستطيع أن تحلّ خطيئة واحدة. لذا قيل: إذا رأيت ملاكاً من السماء وكاهناً من الأرض، فأركع أمام الكاهن أولاً. من سمِع م الكاهن فقد سمع من المسيح، ومن احتقر الكاهن فقد احتقر المسيح، ومن تأمل شرف الكاهن قبَّل الأرض التي تطأه رجلاه.

هذا هو الكهنوت: كأس من بلور مملوء ماء صافية للغاية. عمود من نار هو. يقظة السماء في غيبوبة الأرض. قلت: مسيح آخر بيننا. هكذا يترتب على نفس الكاهن أن تكون: نقية كذلك الماء البلوري، طاهرة كذلك العمود الناري، يقظة كما السماء يقظة."

كل هذه الأعمال الخطيرة لا يستطيع في الواقع تحقيقها إلاّ الكاهن، خليفة الرسل، خادم أسرار الكنيسة. وبدون هذه الخدمة، قد تفقد الكنيسة معنى وجودها، وتنتقص هويتها إلى العنصر الأساسي الذي يميزها.
لا شك في أن الرب يسوع أوكل إلى الرسل مسؤولية نشر الكلمة وتعليم الأمم حقائق الخلاص:"من سمع منكم فقد سمع مني، ومن احتقركم فقد احتقرني" ( لوقا10: 16 ) " ومن قبلكم فقد قبلني "( متى10: 40 ). وهذا يعني أن النبوة والكرازة إلى جانب الرعاية هي من صلب كهنوت الرسل في العهد الجديد. إلاّ أنّ هذه الحقيقة لا يمكن أن تحجب عن الأذهان خدمة الأسرار والتقديس التي فيها الاتحاد بالله والخلاص الذي منحه الرب لأحبائه المؤمنين. والذي يُذهل كل مراقب واعٍ كما جاء في إنجيل متى أثر شفاء المخلع " ولدى هذا المنظر، استولى على الجموع خوفٌ، ومجدوا الله الذي آتى الناس سلطاناً كهذا "( 9: 8 ).

ولربما العصر الحاضر الذي يعتمد على الكلام والخطابة (حركة الإصلاح البروتستانية ) والدعاية والأعلام، قد حوّل انتباه العديدين من الكهنة والمؤمنين دافعاً إياهم صوب إعطاء الأهميّة كل الأهميّة إلى الكلمة والتبشير. غير أن هذا حدَّ إلى مدى بعيد وجه رسالة الكنيسة الذي يتألق خصوصاً في خدمتها الكهنوتية وهي أهم ما ترك لها المسيح! وكأن الخلاص من البشر لا من الله ومن الحجة والإقناع والجهود الشخصية دون النعمة التي فيها عمل الله الفاعل في القلوب والأذهان. فخدمة الكلمة التي يرعاها الله بعنايته ويوضح مضامينها للمؤمنين بأنواره السماوية ما هي سوى المدخل إلى هيكل الرب القدوس. وإنّ الخلاص هو نعمة من الله، وهو اتحاد بالمسيح، لا يحققه إلاّ الروح الذي يحي المسيح ويحي الكنيسة ويحي أبناء الكنيسة، فهي" أم تنجب وتغذي وتحمي وترعى وتعالج وتشفي بقدر ما هي معلمة توضح لنا معاني هذه الأسرار المقدسة وترشد المؤمنين إلى سبيل الملكوت والمجد.

والكنيسة كالأم تحتفل سنوياً بأعياد متعددة، يشع بمناسبتها الفرح في قلوب أبنائها المؤمنين. فمن عيد الميلاد إلى عيد الغطاس والبشارة، ومن عيد القيامة إلى عيد الصعود والعنصرة: كلها أيام نيرة تضيء الحياة المسيحيّة ببهجتها وتبعث دفء الربيع في أيام الرعيّة فتلطف مناخها معيدة فرحة الخلاص إليها.

ولكن عيد الأعياد ويوم الفرحة الكبرى في حياة الكنيسة، يأتي في كل عنصرة تعود ويختار الرب فيها رسولاً جديداً ويجعله خادماً لها وراعياً لشعبها بالرسامة المقدسة، ففي هذا اليوم المبارك، يوم دخول رجل جديد في صفوف الرسل تفرح السموات والأرض وتقرع أجراس الخلاص لأنّ الرب صنع فداءً لشعبه ومنحه نعمةً عظيمةً.

تفرح السموات لأنها تعلم ان الكاهن عامل أمين في حقل الرب، سيشيد باسمه في الجماعات فيمجده هو ومن حوله من الناس. ويفرح المسيح لأنّه وجد وكيلاً أميناً يحمل رسالته إلى المزيد من الناس فيقدم لهم غذاء الحياة الإلهية في حينه، فيزداد عدد المستفيدين من عمله الخلاصي، وتنمو الأسرة المسيحيّة وتزدهر.

وتفرح الأرض لأنها نالت حظوةً لدى الرب، فأرسل إليها عاملاً من لدنه، يحمل إليها النعم السماوية، ويوجه بنيها نحو مزيد من الكرامة والعزة الإنسانية. فالكاهن وسيط بين الناس والله. يرفع إلى الله تضرع الشعب ويستمطر على الناس البركات السماوية. يذيع على الأرض بشرى المسيح، يوجه المؤمنين نحو ينبوع الحياة. يربي ويبارك، يؤنب ويعطف، يقود ويخدم، يطالب بالحق ويضحي في سبيل الحقيقة، يعزي قلوب الحزانى ويبعث الرجاء في المتألمين. الكاهن سند أكيد للمؤمنين على دروب الحياة الوعرة، يرافقهم على الطريق ويدفع عنهم الأخطار، ليوصلهم سالمين إلى بيت أبيهم المجيد

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +