Skip to Content

الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة - المطران بطرس مراياتي

 

المطران بطرس مراياتي

Click to view full size image

الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة


لمنـاسبة مرور 40 سنة على صدور الدستور العقائديّ في الوحي الإلهـيّ "DEI VERBUM" في 18/11/1965، وهو من أهمّ وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثاني، عُقد مؤتمر عالَميّ حول موضوع "الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة"، وذلك في مدينة روما في الفترة 14-18 أيلول 2005، بحضور أكثر من 200 مشارِك من مختلف بلدان العالَم.

كان وراء تنظيم هذا المؤتمر "الرابطة البيبليَّة الكاثوليكيَّة العالَميَّة" بمؤازرة "المجلس البابويّ لتعزيز وحدة المسيحيّين". وقد شارَك فيه ممثّلو الكنائس الكاثوليكيَّة ومندوبون عن سائر الكنائس الأرثوذكسيَّة والإنجيليَّة ومسؤولون عن مختلف الجمعيّات الكتابيَّة في العالَم، ما أعطى اللقاء بُعداً مسكونيّاً مميّزاً. فالكتاب المقدَّس يشكّل أرضيَّة مشترَكة للحِوار بين المسيحيّين مهما تنوّعت انتماءاتهم.

أعرض لكم في هذا الحديث المحاور الرئيسة التي جاءت في الفصل السادس من الوثيقة المجمعيَّة، وما أكّدته أعمال المؤتمر بما يخصّ كلمة الله في حياة الكنيسة، وقد وضعتُها في خمسة أقسام.

1- قدسيَّة كلمة الله في الكنيسة

"إنّ الكنيسة قد أحاطت دوماً الكُتُب الإلهيَّة بالإجلال" (في الوحي الإلهيّ، 21). هذا ما يؤكّده المجمع الفاتيكانيّ الثاني وهذا هو الواقع في كنائسنا الشرقيَّة. فالكتاب المقدَّس يوضع على المذبح الرئيسيّ في غلاف أنيق من الفضّة، ويُحمَل في تَطواف داخل الكنيسة، ويُكرَّم بالبخور والتراتيل...
وتضيف الوثيقة المجمعيَّة أنّ الكنيسة تحيط الكُتُب المقدَّسة بالإجلال الذي تحيط به جسد المسيح. "وهي تتناول دوماً خبز الحياة على المائدة نَفْسها التي حملتْ، معاً، جسد الربّ وكلمة الله. إنّها تتناوله وتوزّعه على المؤمنين، لا سيّما عندما تقوم بخدمة الليتُرجيّا الإلهيَّة" (الرقم 21).

فإذا ما تأمّلنا في تكوين القدّاس نجد فيه قسمين: ليتُرجيّا الكلمة، وليتُرجيّا الإفخارستيّا. وكلاهما مترابطان متكاملان، فالمسيح حاضر بكلامه وبجسده كما كان حاضراً بين تلميذَي عمّاوس اللذين عرفاه عند كسر الخبز بعد أن رافقهما في الطريق وشرح لهما الكُتُب (راجع لوقا 24/13- 35).

ولم تكتفِ الكنيسة بتكريم الكُتُب المقدَّسة وإدراجها في صلواتها وطقوسها الليتُرجيَّة، بل جعلتها موضوع كرازتها. "وما فتئت يوماً تعتبر الأسفار المقدَّسة، ومعها التقليد المقدَّس، دستوراً أساسيّاً لإيمانها، لأنّ الكُتُب المقدَّسة هي من وحي الله، وهي مثبّتة تثبيتاً نهائيّاً. ولذلك، فهي توصل كلمة الله كما هي، من غير تحريف، وتُمكّن الأنبياء والرُسُل أن يُسمعوا صوت الروح القُدُس بأقوالهم" (الرقم 21).

ومنذ القرون الأُولى للمسيحيَّة جاءت عظات آباء الكنيسة وكتاباتهم مشبَعةً بالنصوص الكتابيَّة، ملتزمةً بهديها، حتّى قيل: "لو فُقدت الأناجيل لوجدنا نصوصها في كتابات آباء الكنيسة".

ويشتمل الأدب الآبائيّ على شروح وتفسيرات، جزئيَّة أو كاملة، للأسفار المقدَّسة. فقد كانوا يحفظون عن ظهر قلب الآيات الكتابيَّة ويستشهدون بها في زمن لم تكن وسائل الطباعة والنشر معروفة.

وأذكر على سبيل المثال أنّ القدِّيس كريكور ناريكاتسي (غريغوريوس الناريكيّ، 1003) استشهد في كتاب صلواته "المراثي" بألفين ومائة وتسعين آية كتابيَّة. وكان أوّل مؤلَّفاته "شرح نشيد الأناشيد".

فأين نحن من إجلالنا للكتاب المقدَّس بعد أن أصبح في متناول الجميع؟! لقد فقدنا قدسيَّة الكتاب الملهَم، وتلاشى الاحترام تجاه الكلمة الموحى بها المدوّنة في كتاب قدسيّ، وأصبح شأنه شأن سائر الكُتُب العاديَّة.

أسوأ ما رأيت لمّا كنت أعلّم في المدرسة، أنّ أحد الطُلاّب جاء بكتاب مقدَّس لم يجد كتاباً أضخم منه ليجعله مسنداً يرفع عليه آلة عرض الشرائح الضوئيَّة..!

وماذا لو حدّثتكم عن مصير الإنجيل في المخيّمات.. فهذا يضعه تحت رأسه ليجعل منه وسادة، وذاك يلقيه بين ثيابه القذرة، وآخَر يأخذه إلى المطبخ حيث السمن والزيوت.. وأشنع من ذلك كلّه أنّ أحدهم جاء بنسخة من الإنجيل ليؤجّج بها النار!!

أمّا عن كيفيَّة قراءة الرسائل وتشكيل الحركات النحويَّة فحدّثْ ولا حرج...

كيف نطلب من الآخَرين أن يحترموا كتابنا إذا كنّا نحن لا نعطيه حقّه من الاحترام والإكرام (راجع كتاب: "هل أنت معي؟"، الصفحة 9-14).

ومن جهة أُخرى، أين نحن من العظات المشبَعة بالنصوص الكتابيَّة؟
حدّثنا رئيس المؤتمر المذكور عن أسقف جمع عظاته في كتاب. وقبل أن يرسله إلى الطبع نادى أمين سرّه وقال له: "خُذْ هذا النصّ وضعْ في كلّ صفحة آية مناسبة من الكتاب المقدَّس"! وكأنّ كلمة الله جُعلت للترصيع والتزيين وحسب.
على العظة، أيّاً كان نوعها، أن تكون نابعة من التأمّل في النصّ الكتابيّ لا أن تأتي الآية لتُقحَم في ما نريد أن نقوله نحن.

في مكتبتي مجلّدان فيهما مجموعة عظات وخطابات لأحد الكهنة طوال سنوات رعايته. وعبثاً حاولت أن أجد فيهما آية واحدة من الكتاب المقدَّس، فلم أُفلح!

جميل أن نتكلّم ونكتب بمنطق وعِلم وبلاغة، ولكنّ الأجمل أن نتكلّم بفم الله، وأن نغرف في كتاباتنا من مَعين كتاب الله.

2- أهمّيَّة مطالعة الكتاب المقدَّس

"يحرّض المجمع المقدَّس تحريضاً ملحاحاً جميع المسيحيّين، ولا سيّما مَن كان منهم عضواً في الجمعيّات الرهبانيَّة، أن يدركوا "معرفة المسيح السامية" (فيلبّي 3/8)، بالمواظبة على قراءة الكُتُب الإلهيَّة، "لأنّ مَن جهل الكُتُب المقدَّسة، جهل المسيح" (الرقم 25)، كما يقول القدِّيس إيرونيمُس.

بالرغم من انتشار ملايين النسخ المطبوعة من الكتاب المقدَّس بمختلف اللغات والأحجام فإنّ عدد الذين يقرؤونه قليل جدّاً. بحسب إحصاء أجرته الرابطة البيبليَّة في ثلاثة بلدان أورُبّـيَّة تُعتبر كاثوليكيَّة وهي إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، تبيّن أنّ 3٪ من المؤمنين الملتزمين الكاثوليك يقرؤون الإنجيل يوميّاً، والباقي يكتفي بالاستماع إلى مقاطع منه في الكنيسة. و40٪ منهم يعتقد أنّ بولس هو من بين كتبة الأناجيل و 26٪ يعتقد أنّ بطرس هو أيضاً من بين كتبة الأناجيل! سُئل أحدهم: "عدّدْ أسماء الإنجيليّين الأربعة". فكان الجواب: "هم اثنان: بطرس وبولس".

والغريب في الأمر أنّ الكنيسة التي تطالب اليوم مؤمنيها بقراءة الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد كانت، في ما مضى، تمنعهم من ذلك!

كان العهد القديم ممنوعاً لعامّة الشعب. وحتّى العهد الجديد لم يكن في متناول الجميع. كان يكفيهم ما يُتلى عليهم في الكنيسة.

وكذلك كانت حال الأديار. فلم يكن الكتاب المقدَّس في متناول أيدي الرهبان والراهبات. كانت ثمّة عمليَّة انتقاء لبعض النصوص تساعدهم على التأمّل والصلاة.

والحقّ يُقال إنّ أحد أسباب نشوء الحركة الإصلاحيَّة والتيّار البروتستانتيّ هو تأكيد أهمّيَّة الكتاب المقدَّس ومرجعيّته المطلَقة SOLA SCRIPTURA ، وضرورة مطالعته المتواترة.

وهكذا كانت بداية الكنيسة البروتستانتيَّة الإنجيليَّة بين الأرمن العامَ 1850 في إستنبول. والسبب يعود إلى ممانعة السُلطة الكنسيَّة الأرمنيَّة الأرثوذكسيَّة آنذاك بعض شبّانها المثقّفين من مطالعة الكتاب المقدَّس وطبعه ونشره بلغة الشعب وتوزيعه على البيوت والأفراد. حينئذٍ قرّروا ترك حضن الكنيسة الأرثوذكسيَّة وإنشاء جماعة كنسيَّة بروتستانتيَّة أرمنيَّة مستقلّة.

في القرن الماضي، وحتّى اليوم، عُرف البروتستانت في بلادنا بتعلّقهم بالكتاب المقدَّس وحفظـه والتبشير به. ويُعرف المؤمن البروتستانتيّ ممّا يحمل معه: الكتاب المقدَّس وكتاب التراتيل.

أمّا بالنسبة إلينا، نحن الكاثوليك، فقد أهملنا الكتاب المقدَّس ولجأنا إلى الرتب التقويَّة كدرب الصليب، وتلاوة السُبحة، وإكرام القدِّيسين، والزيّاحات، وساعات السجود، والأخويّات التعبّديَّة...

وكذلك شأن الأرثوذكس في إكرام الإيقونات وإقامة القداديس الاحتفاليَّة وصلوات الفرض مع استعمال البخور والشموع والحفاظ على الصوم...

كان علينا أن ننتظر منتصف القرن العشرين وقرارات المجمع الفاتيكانيّ الثاني لتبدأ نهضة جديدة بين الكاثوليك، وبين الأرثوذكس أيضاً، للعودة إلى الجذور الإيمانيَّة البيبليَّة ونشر الكتاب المقدَّس والانكباب على دراسته.

لا يزال الكتاب المقدَّس حتّى يومنا هذا أكثر الكُتُب الموزّعة في العالَم. وقد أخبرني أحد المسؤولين في "جمعيَّة الكتاب المقدَّس" أنّ الكتاب المقدَّس هو أكثر الكُتُب المرغوبة في معارض الكُتُب العامّة. كما أنّه دخل عالَم الاتّصالات الحديثة فنجده في أقراص ليزريَّة وفي مواقع إلكترونيَّة وفي مختلف برامج الاتّصال الدوليَّة.

ولكن هل يكفي أن يكون في بيتنا كتاب مقدَّس؟ علينا أن نقرأه كلّ يوم، في الصباح أو قبل النوم.. ونجعل منه كتاب الكُتُب. وإنّه لِمَن التحدّي أن يلتزم كلّ مسيحيّ بأن يقرأ الكتاب المقدَّس من أوّله إلى آخِره ولو مرّة في العمر. فهل في إمكاننا التغلّب على هذا التحدّي؟

3- اللاهوت الكتابيّ في حياة الكنيسة

إليكم ما يقوله المجمع الفاتيكانيّ الثاني في هذا الموضوع:

"إنّ عِلم اللاهوت يرتكز على كلام الله المدوّن، ومعه على التقليد المقدَّس، كأنّما على أساسٍ ثابت. بكلام الله يتعزّز عِلم اللاهوت تعزيزاً متيناً، وبه يتجدّد تجدّداً دائماً، إذ إنّه لا يفتأ يستقصي، في ضوء الإيمان. الحقائق الكاملة المخفيَّة في سرّ المسيح. إنّ الأسفار المقدَّسة تحتوي على كلام الله. ولكونها ملهمةً، تُصبح هي كلام الله في الحقيقة. فمن المفروض إذن أن تصبح دراسة الكُتُب المقدَّسة بمثابة روح عِلم اللاهوت. ومن المفروض أيضاً أن تعتمد رسالةُ الكرازة على كلام الأسفار، لتغذيتها السليمة، وإنعاشها الروحيّ المقدَّس، في كلّ مظاهرها: أكانت موعظةً رعويَّة، أم تعليماً دِينيّاً منتظماً، أم وجهاً من أوجه التثقيف المسيحيّ". (في الوحي الإلهيّ، الرقم 24).

كان عِلم اللاهوت في ما مضى يرتكز على عِلم الفلسفة والمنطق، وأسلوب المجادلة والمرافعة والدفاع. وما كان على الكنيسة بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني إلاّ أن تعود إلى سابق عهدها في أيّام الآباء القدِّيسين فتبني لاهوتها على المعطيات الكتابيَّة مع ما يرافقها من تقليد كنسيّ.

وهكذا فتحت الأبواب لدراسة الكُتُب المقدَّسة دراسةً نقديَّةً من جميع جوانبها: الأدبيَّة والتاريخيَّة والاجتماعيَّة والنفسانيَّة والعِلميَّة...

وليس هناك كتاب وُضع على مشرحة النقد العِلميّ مثل الكتاب المقدَّس! فالكنيسة لا تخشى الحقيقة لأنّ الله هو الحقّ.

ومن خلال هذه القراءة العِلميَّة النقديَّة، وما رافقها من تفاسير وشروح، ظهرت تيّارات عديدة تراوح بين التيّار المتحرّر الذي ينفي القدسيَّة والبُعد الإلهيّ عن أقسام عديدة من الكتاب المقدَّس ويردّها إلى عالَم الميتولوجيا والأساطير، والتيّار المتشدّد الذي يقول بحرفيَّة الكلمة (كما أُنزلت)، ما أدّى إلى نشوء بدع وشيع، اليوم كما في الماضي (راجع ما قيل عن "النيقولاويّين" في سفر الرؤيا 2/6 و15)، وإلى ظهور حركات متطرّفة منحرفة.

ومن هنا المسؤوليَّة الكُبرى المُلقاة على عاتق مَن يفسّر الكتاب المقدَّس ويشرحه. وإذا كان "الروح يهبّ حيث يشاء" (يوحنّا 3/8)، فلا يعني ذلك أنّ كلّ مؤمن يستطيع أن يفسّر كلام الله على هواه. إنّ تفسير كلمة الله له مرجعيَّة: الكتاب نَفْسه، والتقليد، والسُلطة الكنسيَّة. وكلّها تتمّ بإرشاد الروح القُدُس الذي هو ضمان الحقيقة إلى منتهى الدهر (يوحنّا 14/26).

وإذا كانت الكنيسة الكاثوليكيَّة انفتحت أكثر ممّا مضى على اللاهوت البيبليّ فإنّ بعض الكنائس البروتستانتيَّة المُصلحة راحت، بدَورها، تقبل بمرجعيَّة السُلطة الكنسيَّة في شرح الكتاب المقدَّس وتفسيره بحسب تقاليد آباء الكنيسة الأوّلين الذين كانوا الأقرب إلى عصر المسيح وبدايات البشارة الإنجيليَّة.

وبناءً على ذلك كان سعي الكنائس الإنجيليَّة المستمرّ في تمييز ذاتها عن سائر البدع والشيع التي نشأت منها بسبب عدم وجود مرجعيَّة ضابطة.

4- الكتاب المقدَّس محور الحركة المسكونيَّة

بعد أن كان الكتاب المقدَّس نقطة خلاف بين الكاثوليك وسائر المسيحيّين، وخاصّة الإنجيليّين، من حيث عدد الأسفار والترجمات والتفاسير والشروح، أصبحت البيبليا بعد المجمع الفاتيكانيّ الثاني محطّة لقاء بين جميع الكنائس.
ومن ثمار المجمع أيضاً أنّ المجلس البابويّ لتعزيز وحدة المسيحيّين أنشأ العامَ 1969 "الرابطة البيبليَّة الكاثوليكيَّة العالَميَّة" لتطبيق قرارات المجمع المتعلّقة بالتعاون مع سائر الكنائس والجماعات الكنسيَّة لوضع ترجمة موحّدة ودراسة الأسفار الكتابيَّة معاً.

وهذا ما تحقّق في السنوات الأربعين الأخيرة. فكانت الترجمات المشترَكة في مختلف اللغات وكانت الدراسات والمنشورات والأبحاث التي اكتشفت الكنائس من خلالها أنّ كلمة الله جُعلت لتوحّدنا لا لتفرّقنا.

إليكم ما جاء في وثيقة "دليل لتطبيق مبادئ الحركة المسكونيَّة وقواعدها" الصادرة العامَ 1993 عن حاضرة الفاتيكان:

"كلام الله المدوَّن في الكُتُب المقدَّسة يغذّي حياة الكنيسة بطرق مختلفة، وهو "أداة ممتازة بيد الله القدير للحصول على هذه الوحدة التي يدعو المخلّص جميع الناس إليها". إجلال الكُتُب المقدَّسة هو رباط أساسيّ للوحدة بين المسيحيّين، وهذا الرباط يظلّ قائماً حتّى وإن لم تكن الكنائس والجماعات الكنسيَّة التي ينتمون إليها على ملء الوحدة بعضها مع بعض. كلّ ما من شأنه أن يشجّع أعضاء الكنائس والجماعات الكنسيَّة على أن يقرؤوا كلام الله، ويقرؤوه معاً، إذا أمكن، كلّ هذا يقوّي رباط الوحدة التي تجمعهم ويفتح قلبهم لنعمة الله الموحّدة، ويعزّز ما يؤدّونه للعالَم من شهادة مشترَكة لكلمة الله المخلّصة. إنّ ما يقوم به المسيحيّون من نشر الكتاب المقدَّس وتعميمه في طبعات ملائمة، هو شرط لا بدّ منه لسماع كلام الله. إنّ الكنيسة الكاثوليكيَّة، مع استمرارها في نشر الكتاب المقدَّس في طبعات تراعي قوانينها ومقتضياتها، تساهم أيضاً، وبطيبة خاطر، مع كنائس وجماعات كنسيَّة أُخرى، في وضع ترجمات ونشر طبعات مشترَكة، وفقاً لما لحظه المجمع الفاتيكانيّ الثاني وما ورد في الشرع الكنسيّ، وتعتبر التعاون المسكونيّ، في هذا المضمار، شكلاً هامّاً من أشكال الخدمة والشهادة المشترَكتَين في الكنيسة ولأجل العالَم" (الرقم 183).

"هذه العلاقات وهذا التعاون مع مؤسَّسات متفرّغة لنشر الكتاب وتعميم استعماله، تلقى تشجيعاً على كلّ مستويات حياة الكنيسة، وبإمكانها أن تسهّل التعاون بين الكنائس والجماعات الكنسيَّة، للعمل الرساليّ والتعليم المسيحيّ والتفقيه الدِينيّ والصلاة والبحث المشترَك. وقد تُفضي غالباً إلى المشارَكة في إصدار طبعة من الكتاب المقدَّس يمكن الاستعانة بها في كثير من الكنائس والجماعات الكنسيَّة، القائمة في منطقة ثقافيَّة ما، أو استعمالها في أغراض محدّدة كالدراسة والحياة الليتُرجيَّة. مثل هذا التعاون يمكن أن يكون ترياقاً يتصدّى لاستعمال الكتاب المقدَّس في اتّجاه أصوليّ أو لأهداف منحازة" (الرقم 185).

إذا كان هذا التعاون المسكونيّ فتح آفاقاً جديدة لإبراز دَور الكتاب المقدَّس وأهمّيّته في حياة المؤمنين فإنّه طرح، في المقابل، مشكلةً أُخرى ألا وهي مشكلة تعدّد الترجمات باللغة العربيَّة والتنوّع في الطبعات ودُور النشر. فثمّة ترجمات مسكونيَّة وكاثوليكيَّة وبروتستانتيَّة ورعويَّة ويسوعيَّة وبولسيَّة ومارونيَّة ولاتينيَّة وغيرها كثير... حتّى ليحار المؤمن قارئ العربيَّة أيّ ترجمة يعتمد!

أضفْ إلى ذلك الارتباك الذي يحصل عندما نطلب من المؤمنين أن يجلبوا معهم كتابهم المقدَّس أو إنجيلهم للتأمّل والدراسة. فإذا بنصوص متباينة من حيث الترجمة لا تساعد على التركيز ووضوح الرؤية وفهم كلمة الله كما يجب.
فلا عجبَ إذا عمدت بعض الأخويّات إلى تبنّي طبعة معيّنة وتوزيعها على أعضائها لتوحيد النصوص في ما بينهم.
وفي هذا الصدد أيضاً يأخذ علينا بعضهم أنّ ثمّة اختلافاً بين ترجمة عربيَّة وأُخرى وبين تعبير وتعبير في كتابنا المقدَّس.

نقول: إنّ المسيحيَّة قبل أن تكون دِين كتاب هي دِين شخص هو يسوع المسيح ابن الله. وما الكتاب الذي بين أيدينا سوى شهادة لهذا الشخص. هو الكلمة الحيَّة التي نزلت من السماء. وهذه الكلمة لا تقيّدها لغات البَشَر مهما تنوّعت، بل تزيدها ألقاً وانتشاراً ليتغذّى بها جميع الناس.

5- الكتاب المقدَّس: كلمة وصلاة وحياة

كلّ ما تحدّثنا عنه مهمّ: قدسيَّة كلمة الله، وضرورة مطالعة الكتاب المقدَّس، وأولويَّة اللاهوت الكتابيّ والبُعد المسكونيّ، ولكنّ الأهمّ أن تتحوّل هذه الكلمة إلى "روح وحياة" (يوحنّا 6/63)، وأن يصبح الكتاب المقدَّس، وعلى الأخصّ الإنجيل، مناجاةً روحيَّة وهدياً لدرب كلّ مؤمن في واقعه اليوميّ.

يقول القدِّيس أمبروسيوس: "إنّنا نتحدّث إلى الله عندما نصلّي، ولكنّنا نستمع إليه عندما نقرأ آيات الوحي الإلهيّ". ويقول يسوع: "ليس مَن يقول لي "يا ربّ، يا ربّ" يدخل ملكوت السموات، بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات... فمَثَل مَن يسمع كلامي هذا ويعمل به كمَثَل رجل عاقل بنى بيته على الصخر..." (متّى 7/21-27).

فالكنيسة التي اؤتمنت على كلام الربّ لم تضعه في متحف ولم تودعه الخزائن، بل جعلته على منارة، كما يقول صاحب المزامير "كلمتك مصباح لخطاي ونُور لسبيلي" (119/105). وجاء يسوع ليؤكّد: "أنا نُور العالَم مَن يتبعني لا يمشِ في الظلام بل يكون له نُور الحياة" (يوحنّا 8/12).

وهذا ما دعا إليه المجمع الفاتيكانيّ الثاني لكي لا يكتفي المسيحيّ بالقراءة، بل يعيش بحسب المبادئ الإنجيليَّة ويطبّق عمليّاً ما يقول له الروح.

"فبواسطة الكُتُب المقدَّسة يبادر الآب الذي في السموات، بحنوّ عظيم، إلى لقاء أبنائه والتحادث معهم. إنّ كلام الله هذا يحمل قوّة وعزماً عظيمَين حتّى إنّه يصبح ركناً للكنيسة وعزّة، ولأبناء الكنيسة منعة إيمان، ولنفوس المؤمنين غذاء، ولحياتهم الروحيَّة مَعيناً دائم الجريان. وهكذا صحّ ما قيل في الكُتُب المقدَّسة من "أنّ كلمة الله حيَّة فعّالـة" (إلى العبرانيّين 4/12)، "لأنّها قادرة أن تبني وتُؤتي الميراث مع جميع المقدَّسين" (رسل 20/32، 1تسالونيقي 2/13). (في الوحي الإلهيّ، الرقم 21).

"للكتاب المقدَّس علاقة عميقة مع العناصر الثلاثة الأساسيَّة في حياة الإنسان: الكلمة والصلاة والحياة. وهي عناصر متشابكة. فالصلاة ليست عملاً خارجيّاً عند الإنسان، لأنّها تنبع من داخله، تحييه وتجعله واعياً لعلاقته الجوهريَّة بالله. الصلاة لقاء واتّصال وحِوار يأخذ فيه لقاء الله شكل كلمة تنير الحياة. لهذا يجب أن تتغذّى الصلاة بكلمة الإيمان، كما يجب أن تنطلق من قراءة نصّ من الكتاب المقدَّس الذي يحتاج دوماً إلى أن يتجسّد في الحياة. يجب أن تدخل كلمة الله إلى عمق حياة الإنسان وتتفاعل معه بحيث تكوّن حركة مستمرّة بين كلمة الله وحياة الإنسان. وهذا يفترض بالضرورة استعداداً داخليّاً عند الشخص الذي يتعامل مع كلمة الله حتّى يدع الكلمة تعمل فيه وتكشف له معناها الحقيقيّ" (راجع كتاب: الصلاة الربّانيَّة، المكتبة البولسيَّة، جونية - لبنان 2005).

إنّ هذا النوع من الصلاة الكتابيَّة الروحيَّة يُسمّى، بحسب التقليد الرهبانيّ، "الصلاة الربّانيَّـة" LECTIO DIVINA. وتعود الكنيسة إلى اكتشافها مجدَّداً وحثّ الرهبان والمؤمنين الملتزمين، أفراداً وجماعات، على المواظبة عليها.

يختصر الكَردينال مارتيني MARTINI هذا النوع من الصلاة الكتابيَّة في ثلاث مراحل تقابلها ثلاث كلمات باللاتينيَّة:

1- القراءة LECTIO: ماذا يقول النصّ أو ماذا تقول كلمة الله في حدّ ذاتها.

2- التأمّل (التفكير) MEDITATIO: ماذا يقول لي النصّ أو ماذا تقول لي كلمة الله.

3- الصلاة ORATIO: ماذا أقول أنا للربّ بواسطة كلمته.

ويكون ثمر هذه الصلاة توجيه الحياة بحسب مشيئة الله. فنميّز الأمور بإرشاد الروح، ونتّخذ القرار، ونعمل بحسب الكلمة متشبّهين بالمسيح في المحبّة لتصبح حياتنا كلّها شهادة وبشرى.

الخاتمة

نختم حديثنا من حيث بدأتْ الوثيقة المجمعيَّة "كلمة الله DEI VERBUM" بالقول إنّ الكنيسة "تُصغي إلى كلمة الله بورع وتعلنها إعلاناً ثابتـاً" (الرقم 1).

وهذا شأن كلّ مسيحيّ ملتزم: أن يُصغي إلى كلمة الله بالقراءة والصلاة، وأن يكون بشيراً لها بشهادة الحياة قولاً وفعلاً.

يقول القدِّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في عظته في الكتاب المقدَّس:

"فَلْنطالع الكتابة المقدَّسة جيّداً في أثناء الصلاة. ليس عند وجودنا في الكنيسة وحسب، بل عند الرجوع إلى البيت... فإنّ الشجرة المغروسة على مجاري المياه لا تتّصل بالماء ساعتين أو ثلاثاً في النهار، بل اتّصالها دائم ليلاً ونهاراً، ولذلك تزدان بالأوراق وتعطي الثمار الجيّدة في حينها...

الكُتُب المقدَّسة تعطينا المنفعة العظيمة، لا بكثرة كلامها، بل بالقوّة الكائنة فيها. إنّ الطيب فوّاح ذكيّ بطبيعته، لكن وبطرحه في النار تزداد رائحته ذكاء. هكذا الكتابة الإلهيَّة فإنّها جميلة جدّاً بنَفْسها ولكنّها إذا دخلت أعماق النَفْس تصبح كالبخور المطروح في المبخرة، يملأ البيت شذاه الذكيّ". (راجع كتاب: "خطيب الكنيسة الأعظم" في سلسلة "الفكر المسيحيّ في الأمس واليوم"، الرقم 11، المكتبة البولسيَّة، جونية - لبنان 1988).



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +