Skip to Content

الروح القدس - الأرشمندريت توما (بيطار)

 

 

الروح القدس

 

Click to view full size image

 

 

أيسر على الناس أن تكلّمهم عن الآب السماوي أو عن الربّ يسوع المسيح. وجه الروح القدس يكاد يكون محجوباً بين الناس. الروح كما بدا، قبل الربّ يسوع، كان أدنى إلى قوّة الله. هذا كان دائماً يفعل منذ البدء. به كان كل عمل الله، كل النبوءات، كل الشريعة.

لكنْ كشف يسوع، في شأن الروح القدس، ما هو جديد بالكلية، أن له كياناً خاصاً به، أنّه ليس مجرد قوّة الله بل هو شخص قائم بذاته. كلام يسوع عليه بيّن ميزته الشخصية بوضوح. في الرسالة الثانية إلى أهل كورنثوس، الآب هو "إله كل تعزية" (1: 3).

لذا أرسل ابنَ الله ليتجسّدَ من العذراء القدّيسة معزّياً. يسوع عزّانا بأعمال الآب التي جرت بيديه. من هنا قوله:

"الكلام الذي أكلّمكم به لست أتكلّم به من نفسي لكنّ الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال" (يو 14: 10).

 

الابن معزِّ أول من الآب. ولكن ثمّة معزٍّ ثان، هو المعزي الروح القدس (يو 14: 26).

يسوع يقول صراحة، عن الروح القدس، إنّه معز آخر (يو 14: 16). ما كان ابن الإنسان ليقول ذلك لو كان الروح القدس مجرّد قوّة الله. على هذه النغمة يسترسل السيّد الربّ في الكلام على الروح باعتباره المنبثق من الآب (يو 15: 26)،

المرسل من الآب باسم يسوع (يو 14: 26) وبناء لطلبه (يو 14: 16). ثم الروح القدس روحُ الحقّ (يو 14: 17) الآتي إثر مغادرة الربّ يسوع، إثر صعوده. من هنا قول يسوع لتلاميذه: "إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي. ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم" (يو 16: 7).

إذ كان يسوع مزمعاً أن يصعد إلى السماء قال لتلاميذه "أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني" (أع 1: 4). الموعد هو، بالضبط، موعد إرسال الروح القدس. "ستتعمّدون بالروح القدس" (أع 1: 5). إذ ذاك "ستنالون قوّة متى حلّ الروح القدس عليكم وتكونون لي شهوداً... إلى أقصى الأرض" (أع 1: 8).

الروح القدس يعطي القوّة. "ستنالون قوّة". ليس هو مجرّد قوّة. هو معطيها. لكنّه الفاعل والمنفعل في آن. هو من الآب ومع ذلك يأخذ مما ليسوع ويخبر التلاميذ (يو 16: 15).

"لا يتكلّم من نفسه" (يو 16: 13). على حدّ تعبير يسوع:

"يذكّركم بكل ما قلته لكم" (يو 14: 26).

بهذا المعنى الروح القدس منفعل. لكنّه فاعل في آن. "يخبركم بأمور آتية" (يو 16: 13). "يرشدكم إلى جميع الحقّ" (يو 16: 13). "يمكث معكم إلى الأبد" (يو 14: 16). "يكون فيكم" (يو 14: 17). هذا ما جعل الروح القدس يتكلّم ويشهد مع التلاميذ (يو 15: 26 ? 27).

 

       يسوع بلا الروح القدس كتاب مغلق. ولو قعد يسوع سنوات مع التلاميذ لم يعرفوه على حقيقته ولا فهموا مقاصد كلامه. هذا لأنّ روح الفهم هو، بالذات، الروح القدس. هو ينير الأذهان. معرفة يسوع مستحيلة من دون الروح القدس. كذلك معرفة الآب من دون يسوع. لذا قيل: "كل مَن ينكر الابن ليس له الآب أيضاً" (1 يو 2: 23)،

 و"لا أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي" (يو 14: 6). لذا بيسوع صار الكشف عن الثالوث القدّوس. به كانت معرفة الآب وباسمه نزل الروح القدس. ثمّ الروح القدس هو الذي جعل لا يسوع وحده بل الآب من خلاله معروفاً. فيه، في الروح القدس، انعرف الله آباً وابناً وروحاً قدساً. من هنا استعمال آبائنا صيغة "الآب يأتينا بالابن في الروح القدس".

ليس ممكناً أن يُعرَفَ اللهُ إلاّ بالابن في الروح القدس. تجدر الإشارة إلى أنّنا متى تكلّمنا على معرفة الله قصدنا، بالضبط، لا المعرفة بالعقل بل بالروح القدس. الله لا يُعرَف بالعقل. فقط متى حلّ الروح القدس، متى تفعّل فينا، متى انبثّ في كياننا، أمكننا أن نعرفه، أن نعرف الله. هذا لأنّ "أمور الله لا يعرفها أحد إلاّ روح الله" (1 كو 2: 11).

"ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله" (1 كو 2: 12). الحكمة التي صارت لنا بالروح "ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذي يُبطلون" (1 كو 2: 6). الله جهّل حكمة هذا العالم (1 :و 1: 20). هذا لأن الإنسان الطبيعي مستحيل عليه أن يعرف أمور الله. بالنسبة إليه أمور الله وروح الله جهالةٌ، ولا قدرة للإنسان الطبيعي على معرفة ما لله لأنّ هذه إنما يحكم فيها روحياً (1 كو 2: 14). أمور الله لا يُحكم فيها لا جسدياً ولا نفسياً ولا فكرياً.

 

       من هنا كلام آبائنا أن أساس معرفة الله هو اقتناء الروح القدس. "غاية الحياة المسيحية اقتناء الروح القدس" على حدّ تعبير القدّيس سيرافيم ساروفسكي. هذا يتضمّن تفعيل الروح القدس فينا بحيث يعترينا بالكامل، يصير فينا، تخضع مشيئتنا لمشيئته، يصير هو فينا روحَنا، إيّانا، مع حفظ التمايز بيننا وبينه. لذا من دون الروح القدس لا قيمة لوجودنا. إذا ما ارتحلنا من ههنا من دونه نكون قد عشنا ومتنا عبثاً. غاية الحياة البشرية برمّتها أن يكون لنا الروح القدس.

هذا وحده ما يعطينا الحياة الأبدية. لا نقصد بالحياة الأبدية الحياة في المدى وحسب. الحياة الأبدية نوعية أولاً. في تحديد يسوع لها هي "أن يعرفوك [الآب السماوي] أنتَ الإله الحقيقي وحدك وابنك يسوع المسيح الذي أرسلته" (يو 17: 3). المسألة مسألة معرفة في مستوى الكيان أي محبّة في الروح. هذا، بتعبير الأنجيل، معادل للقول:

"إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يو 14: 23). "ليكون الجميع واحداً كما أنّك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا" (يو 17: 21).

أن نسكن في الروح القدس، نحن في الآب والابن والآب والابن فينا، هو ما نتشوّف إليه، هو المعرفة الحقّ، المعرفة السرّية التي تتجاوز كل معرفة. وهو معرفة الله كمحبّة بالمحبّة التي يعطينا الروح إيّاها. الروح القدس روح المحبّة، روح الحقّ، روح الحياة، روح الإنسان الجديد. لذا يتطاير المرنّم، في خدمة سحر العنصرة، في السماويات إذ يحاول أن يلتقط مزايا الروح القدس. كلّما التقط صفة انفتحت على صفات بحيث تستحيل الأنشودة نكهةً سماوية في القلب تتخطى كل كلام إلى طفرةِ تسبيحٍ وسجودٍ تناطح الحُجُب. دونك، مثالاً على ذلك، ما ورد في قطعة الإينوس الثانية:

"إن الروح القدس كان دائماً وهو كائن ويكون لأنّه ليس له ابتداء ولا له بالكليّة انتهاء. لكنّه لم يزل منتظماً مع الآب والابن، ومعدوداً حياة ومحيياً. نوراً ومانحاً للضياء، صالحاً بالطبع وللصلاح ينبوعاً. الذي به يُعرَف الآب ويُمجَّد الابن. ويُفهَم من الكل أن قوّة واحدة ورتبة واحدة وسجدة واحدة للثالوث القدّوس".

 

       الروح القدس روحي وروحك في تراب وإلاّ التراب!



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +