Skip to Content

18- المصباح الرهباني ? الباب الثامن عشر: في المرضى

 

 المصباح الرهباني

 الباب الثامن عشر: في المرضى

 

-  مرض الجسم هو إنحراف مزاجه عن الإعتدال الطبيعي حين يحصل من قلبه العجز عن تكميل الفرائض القانونية وعوائد العبادة الصالحة. وهذا على رأي جمهور الآباء، يرد من قبل الله تعالى إلينا، على ثلاثة أنواع: تنوير وتطهير وتدمير. فالتنوير إزدياد الخير. والتطهير للإرتجاع عن الشر. والتدمير لزيادة الشر. والمثل في ذلك: طوبيا وشاول وقايين. فطوبيا عَمِيَ ليزداد برّه. وشاول عمي ليرتدّ عن شره. وقايين حصل مرتعشاً لقهره وضره.

- فعن المعنى الأول قال ملاك الرب لطوبيا المذكور: لأنك صدّيق فلذلك وجب أن تُمتَحن. وعن المعنى الثاني قال أبونا أنطونيوس: إن الله يجلب على القلوب القاسية مصاعب وشدائد لتتنبّه سريرتهم فيندمون ويرجعون إلى التوبة. وعن المعنى الثالث قال الرسول: إن الله يأتي بالغضب على آنية الغضب المستحقّين الهلاك.

- فينتج مما قلناه أن الأمراض قد تكون أحياناً للنعمة وأحياناً للنقمة. فلذلك نبّه القانون على الإستعداد لها لئلا يفوتنا خيرها ويدركنا شرّها. وهذا الإستعداد هو العمل بموجب الفرائض الآتي ذكرها وهي بالعدد أربع:

- الفريضة الأولى

- يجب على الراهب أن يشكر الله في حال المرض  أكثر

- من الصحة موقناً أنه إفتقاد الرب لنفعه.

- الشكر على المرض دليل على شجاعة النفس وصحة التمييز. والدليل على ذلك، لأن المرض- كما سبق القول- لا يخلو غداً أن يكون رحمة أم نقمة. فإن أنت إعتدّيته نقمة من قبل ثقل جرائمك، فلا يجب أن تصحب معه اليأس وتقطع الرجاء من رحمة الله، كالزائغ تمييزه. لأنك إن فعلت ذلك تكون قد إحتقرت رحمة الله وجلبت على ذاتك ثبات النقمة نظير قايين ويهوذا الدافع وغيرهم. بل يجب حينئذ أن تستعمل الشجاعة والإفراز. فتأمّل ما جرى بأهل نينوى وآحاب الملك وغيرهم، الذين حلّ بهم الحكم الإلهي حتماً بالهلاك. ثم إنتقض ذلك الحكم عند عملهم التوبة.

- وعن هذا المعنى قال القديس أفرام: أيها الحبيب، إن أنت سقطت في مرض فاذكر القائل: يا ولدي، لا تسأم من تأديب الرب ولا تنحلّ إذا وُبختَ منه، فالمسجون في السجن، ماذا ينفعه إن حاجَج الملك؟ ومن يسجد ويتضرّع، هذا يترأف عليه أكثر. إنتهى كلام القديس- وكأنه يقول: سلمنا أن مرضك مقاصصة عن خطاياك. فالتذمر وعدم الشكر ماذا يفيد؟ إنما هو عدم إفراز. وإنما الصواب في أن تتوب وتشكر من نبّهك للتوبة- كما يقول سائر القديسين والآباء- منهم قول الأب أشعيا. قال: إن أنت مرضت فلا تصغر نفسك بل أشكر الله على ذلك. واعلم أنه إفتقاد منه وشفقة. وهذا هو قول القانون وتمام غرضه.

-  فإن قلت: أني تبت واعترفت وعزمت العزم الصالح ولم يفارقني المرض، أجبتك: أنك لا تعرف ذاتك كما يعرفك الله تعالى. فلو لم يعلم الله تعالى أنّ وقت عافيتك لم يبلغ بعد، لما كان أبقى عليك المرض. لأنه تعالى قال: أنا الذي أُميت وأحيي، وأضرب وأشفي. إذاً مرضك هو من الله. وقد أبقاه عليك لمنفعتك، لينظف منك أوجاعاً روحانية هو وحده يعلمها كقول إبن سيراخ: إن المرض الشديد يجعل النفس عفيفة. وقال النبي المرتل: أللهم إملأ وجوههم هواناً فيطلبوا إسمك. وكم من الآلاف والربوات الذين أقبلوا إلى التوبة من قبل الأمراض والضيقات! وهذا معروف عند الكل. إذاً، الإيقان بأن المرض يفيدنا لازم، والشكر عليه ضروري واجب. هذا إذا كانت فطنتنا ثقيلة، وضميرنا مسجساً بكثرة النقائص.

-  لكن إذا كان ضميرنا نقياً، غير متعوب من قبل العيوب، فحينئذ الصبر والشكر يلمعان فينا، وقت مرضنا، لمعاناً متميزاً عن صبر وشكر المثقلين بالجرائم. وذلك لأن النقية بصيرتهم، الكثيرة شجاعتهم حين يبقون ويعرفون أنهم بالأوجاع يصيرون شركاء المسيح، كقول الرسول: إن كنا قد ألمنا معه فسنتمجّد معه، يستقبلون كل مرض وشدّة كالشيء الجليل والمقام الخطير ويشكرون الله شكر المفتخر، المتباهي بما أعطيه.

- ويحقق لنا ذلك بولس الرسول. لأنه، بعد أن عدّ الأشياء التي يمكنه أن يفتخر بها، وهي كونه رسولاً وأنه من نسل إسرائيل، وقد عاين ربه وغير ذلك، لم يشأ أن يفتخر بواحدة منها. بل قال: إن كان الإفتخار ينبغي ويليق، فأنا أفتخر بأوجاعي. معلّماً لنا بهذا أنّ الفخر المتكون من مصابرة الأوجاع يتقدم كل فخر. وكأنه يقول: يا من ترغب أن تمتلك فخراً، عليك بالصبر والشكر على البلوى. وعلى مثل هذا المعنى، ذهب الأب يوسف- كما هو مسطر في البستان- قال: ثلاثة أشياء عظيمة عند الله:

-  راهب يطيع رئيسه طاعة كاملة، وراهب يعمل أعماله كلها لله، لا لغرض إنساني، وراهب مريض يكثر التعب ويشكر الله. ثم قال الأب المذكور: إن المطيع له إكليل فائق، فاضل. لكن أنا اخترت المرض. ومعنى كلامه: إن المريض الصابر، الشاكر، في أيّ رتبة كان، فذاك يتقدم على أقرانه ذوي الصحة، بالفضل والفخر. وهذا المعنى يشابه قول النبي القائل: ككثرة أحزانك في قلبي، تعزياتك فرّحت نفسي. أي إنّ الحزن الذي يلحق الأبرار من قِبَلِ أوجاعهم، له تعزية خاصة به تعادله حتى يرى الحزن كأنه ليس بحزن، ويبقى لهم الفخر ربحاً فاضلاً.

- ولذة هذا الفخر لذيذة جداً، حتى أنها تصيّر المريض أن يرى العافية بالنسبة إليها مرضاً، والمرض عافية. ويحقق لنا ذلك الرسول القائل: متى كنت ضعيفاً، فحينئذ أكون قوياً. وهذه اللذة، لما اختبرها ذاك الشيخ الكبير، المريض، لم يشأ أن يذوق الطعام الذي أتاه به الراهب، بل قال له: مرادي أن يتركني الله في هذا المرض ثلاثين سنة. وقد جاء أيضاً في البستان عن شيخ آخر، لما عبر الزمان المعتاد أن يمرض فيه ولم يمرض، صار يقول للرب باكياً: تركتني يا رب ولم تتعاهد فيّ. وكثير من القديسين، بعد أن شفوا من أمراضهم، رجعوا يبتهلون إلى الله أن يردها إليهم. وما ذلك إلاّ لأنهم إختبروا لذة نعمة المرض وفضلوها على الصحة والعافية.

- والنتيجة من كل قول سابق ولاحق، هي التصديق بقول من قال إن المرض والبلوى ينفعان. فمن كان حديداً يزيلان صدأه، ومن كان ذهباً يزيدان نقاءه. فالشكر إذاً عليه واجب وقبوله بتمام الصبر والرضاء ضروري لازم. وإلاّ فينقلب عوض التنوير والتطهير تدميراً، أي مرضاً قتالاً يميت الجسد والروح معاً. خلصنا الله من قلّة الصبر وعدم الشكر.

  آمين

- الفريضة الثانية

ولا يبالغ في قمع الجسم وقهره دون إذن الرئيس.

- لما كان المرض وضعف الجسم مفيداً- كما سبق القول- ومن عادة أصحاب الهمم النشيطة أن ترغب ما كان مفيداً وتقصده قصداً عنيفاً- يحصل من قبل ذلك الخطر والخطأ من وجهين:

- الأول يلحق الذين يتهورون بقهرهم أجسادهم خلاف مشيئة الرئيس. وهذا مضر، غير نافع- كما يقول القديس باسيليوس: إن الناسك- وإن كان نافعاً- إلاّ أنه إذا عمله الراهب بإرادته وحده ولا يطيع مقدّمه بالذي يعمله، فإن خطيئته تكون عظيمة. لأن الذي يقاوم الرئيس يقاوم حدود الله، وأجر الطاعة أعظم من إقامة النسك.

- والثاني لأن كثيرين يتورطون فيما يفوق قوتهم، وينهزمون للصبر من قبل ضعف فضيلتهم، فيسقطون في الضجر وما يتولد منه من الكسل وعمى العقل الكثيرة أنواعه، وينقلبون إنقلاباً يرثى له. فلكيما يتلافى القانون هذا العطب الواجب تلافيه، قال: لا يبالغ الراهب في قمع الجسم وقهره دون إذن الرئيس. فتقييده ذلك بالإذن من الرئيس يدلنا على أن النسك فضيلة وإنما يحتاج إلى الإفراز. والإفراز يقتضي أن يتدبّر الراهب برأي رئيسه. فإن وثق الرأي بحسن عزمك، وسمح لك بقهر جسمك، كان ذلك مفيداً لك. وإلاّ فلا.

-  قد جاء في البستان عن أحد الإخوة أنه لما حضر قدام الأب أرني وطلب منه أن يدبّره بما يوافقه في سعيه قال له الشيخ: إذهب وصم هذه السنة كلها من المساء إلى المساء، ولا تأكل غير خبز وملح. فقبل الراهب مشورته ومضى. ولما أكمل السنة، رجع إلى الشيخ وطلب أيضاً أن يدبّره بما يجب أن يعمل. فقال له الشيخ: إذهب وصم هذه السنة يومين يومين، فقبل الراهب كلامه وانصرف. وكان حينئذ حاضراً، عند الشيخ، الأب أبرام. فسأله قائلاً: لماذا تحمّل الإخوة أحمالاً خفيفة، ولهذا الأخ حملاً هكذا ثقيلاً. فأجابه الأب أرني وقال: هذا الأخ مجاهد، وله قوة أن يفعل ما يقال له بأمانة ومحبة حارة، فلذلك أضع عليه نيراً ثقيلاً لينجح به. أما باقي الإخوة فكما يطلبون يأخذون.

- ومن مضمون هذا الخبر يتضح لنا أن قهر الجسم فضيلة كبرى لا تليق إلاّ بقليل ولمن قد اختبرهم رئيسهم. وها هو قول الرسول: إن الطعام للرجل الكامل، أما الطفل فله رضاع الحليب. وكما أن الطفل يضره أكل الطعام هكذا الطفل بالعزم يضره النسك الثقيل. قال القديس باسيليوس: ينبغي للراهب من النسك المقدار الذي يحتمله جسده، بحيث لا ينقص عن قوته فيميل إلى الراحة واللذة. فالراحة واللذة نفهمهما ههنا الوسعة في القانون. أي يجب أن نتنسك ونقهر أجسادنا المقدار الذي نبقى ماسكين فيه عمل القانون، ولا ننقص منه شيئاً بسبب ضعف الجسم الحادث من قبل النسك. وأبونا أنطونيوس قد نبّه على ذلك بقوله: يجب أن نضعف أجسادنا بحكم وتدبير. أي بمقدار ما لا يبطل القانون ومقدار ما لا يسجس أفكارك، لأنك متى ما تنسكت أكثر من الواجب، مرضت وصرت تستعمل الوسعة في تدبيرك، فقد وقعت في سجس ضميرك لا محالة.

- وقد يوجد في النسك الزائد سجس أفكار خلاف الذي ذكرناه. وهو أن الجسد متى ما حمّلته أكثر من قوته، فقد أتعبته تعباً غير لذيذ وألحقت بالأفكار حزناً. وهذا المعنى قد أورده القديس إسحق. وقال: إن الجسد الضعيف إذا ما أكرهته على فعل ما يزيد قوته، وضعت في النفس ظلاماً على ظلام، وأوردت إليها إختلاطاً. والقديس نيلوس يقول: إن الإفراط في النسك لا بدّ أن يضرنا بإحدى الجهتين: أما أن يطرحنا في الصلف والتوهم بأننا شيء، أما بتلف عافية جسمنا، وتفوتنا منفعة ذاتنا وغيرنا معاً. وقال القديس باسيليوس: إن النسك ليس هو الإبتعاد من المطاعم فقط، هذا الذي يكون فيه قلّة شفقة- وهذه قد شكاها الرسول- لكن النسك هو أن يبتعد الراهب من أهواء قلبه. وخطر هو أن يسقط من وصية الرب من أجل أهواء قلبه. أي خطر هو أن تتنسك برأي نفسك وحدك، فتمرض وتترك عمل القانون والفروض اللازمة الضرورية.

-  ومضمون أقوال الآباء جميعاً: هو أن النسك وقهر الجسم فضيلة لازمة. ولأن فيها خطر المرض للجسد والروح، يلزمها المشورة. وهذا بالتمام يريده القانون. فإذا مرضت أنت من قبل قهرك جسمك، والتزمت بتبطيل أشياء من القانون لمانع المرض، وكان قهرك جسمك بشور رئيسك، فيبقى ضميرك حينئذ غير خائف من ثلم القانون، كون السبب صار بالمشورة، بخلاف ما إذا كان السبب من قبل رأيك وحدك.

-   ثم ينبغي أن تعلم أن جميع ما قلناه إنما يفهم على المبالغة في النسك، لا النسك المعتدل. لأن النسك المعتدل لازم للكل من غير المشورة الخصوصية، كما هو واضح في أقوال الآباء جميعاً. والرسول عدّ النسك من أثمار الروح، وكأنه يقول: إن من لا نسك له هو فقير بالروح، كشجرة بلا ثمرة، ولأجل هذا قيد القانون هذه الفريضة بلفظ: لا يبالغ. وما قال: لا ينسك. أي يجب أن ننسك دائماً. وإن نحن آثرنا أن نبالغ بقهر جسمنا، فلنشاور معلمنا ومدبرنا، وكما يرسم لنا، نفعل. وإن مرضنا فيحسب مرضنا عملاً ونسكاً. بل أفضل من العمل والنسك، لأنه منتسب للطاعة وقطع المشيئة، كما كان الرسول يمرض من قبل الشقاء ومبالغة التعب في عمل التبشير ويعتدّ مرضه فخراً وربحاً عظيماً، لأنه عن إذن الله تعالى، مرسله ومرشده.

- الفريضة الثالثة

- ومتى شعر بمرض فليعلم الرئيس.

- لما كانت المبالغة بقهر الجسم لا يجوز فعلها إلاّ برأي الرئيس- كما مرّ الشرح في الفريضة السابقة- وذلك حذراً من وقوع المرض وتلف العافية وإبطال القانون، فكذلك أيضاً إخفاء المرض عن الرئيس لا يجوز فعله. لكيلا بتطاوله يتغلب على العافية فيتلفها، ويبطل القانون. فإن أنت أعلمت الرئيس ولم ينفعك بشيء ومرضت مرضاً أبطلك عن عمل القانون، فحينئذ لا تكون مُداناً على تبطيله، لأن ذلك بغير هواك. أما إن كنت أخفيت المرض، وفي مدة إخفائه تعاظم ومنعك عن عمل القانون، فدينونة قطع العمل عليك قد حسبت، مثل مَن لم يكمّل قانونه بإرادته.

-  وهذا عند الآباء مذموم جداً. قال القديس باسيليوس: إن من يجلب على ذاته التجارب بإرادته فتلك شقاوة هي.

- إذاً، سبيلنا أن نحتفظ بما أمرنا القانون. أي متى شعر الراهب بمرض فليعلم الرئيس. وليكن إعلامك له بخوف الله. أي لا تعلم رئيسك بمرضك بمنزلة من لك عليه الحقوق في أنه يصغي إليك ويبادر لمسألتك حسب هواك. بل إعلمه بمنزلة المخبر خبراً، وأنت مسلّم ذاتك للطاعة وللمشيئة الإلهية. والمشيئة الإلهية تحرك قلب رئيسك إلى العمل الواجب. فالرسل، لما كانوا يطلبون من السيّد شفاء أحد، لم يكونوا يلجّون عليه في السؤال. إنما كانوا يسألونه مرة أو يعلمونه إعلاماً فقط. وهكذا يجب أن نفعل لما نُعلم الرئيس بأمراضنا.

- الفريضة الرابعة

- ولا يستعمل علاجاً أو دواء إلاّ عن إذن الرئيس.

-  إستعمال الدواء والطب مسموح به عند الآباء. لكن الإتكال عليه منهي عنه، كقول القديس باسيليوس: إذا ما إستعملنا من الطب ما يدعو الحاجة إليه، فلا نكن متكلين عليه أو معتقدين أنه هو الذي يشفينا، أو أنّ العقاقير هي سبب الشفاء. لكن ينبغي أن نعتقد أن الله تعالى هو الشافي كيف يشاء- إنتهى كلام القديس.

-ومنه يفهم المريض كيف يجب عليه أن ينتظر الشفاء، أولاً من الله، وبعده من الطب الذي وضعه الله. ولا يعكس القضية ويقدّم الصناعة على صانعها، لئلا يسقط في حفرات عميقة ويعطي لإبليس سبباً وسهولة لخنقه. لأن من يجعل إتكاله على الطب، فمن عادته، إمّا أن يستعمل علاجاً أو دواء من غير إذن الرئيس ويخطئ بذلك ضدّ القانون، أما، إذا لم يتسهل له الطب، يغتاظ على رئيسه وإخوته ويغيظ بذلك ربه. فلا تفعل هذا أيها المريض لئلا تخرج عن حدود الصبر الضروري لسيرة العبادة وتظهر على ذاتك أنك لست بمتكل على الله تعالى، كواجب الإتكال المختص بالرهبان، وأن اتكالك، على الأغلب، هو على الطب.

- ثم يظهر أيضاً من عدم صبرك في المرض أنك غير معتقد أن بعض الأمراض هي ضربة من الله تعالى لأجل الخطيئة، وتأديب لأن من يعتقد بأنها تأديب من الله، فذلك لا يلتفت إلى دواء وعلاج طبيب إلاّ قليلاً، وإنما يوجه عزمه وهمته كلها نحو الله تعالى وحده، لإيقانه أنه هو الذي يضرب ويشفي، ويكسر ويجبر. وهذا المعنى قد نبّه عليه القديس باسيليوس، بقوله: خطر هو أن نظن بأنّ كل الأمراض تحتاج إلى صناعة الطب. فإنّ الأمراض جميعها ليست طبيعية ولا تجتمع من فضلات الأطعمة أو من ردائتها أو من سوء تدبير أو من سبب جسماني قد يفيد فيه صناعة الطب، بل قد يكون لنا المرض ضربة بسبب خطيئة كي نتوب عنها. لأن الرسول قال: من أجل هذا، كثيرون منكم يمرضون. فمثل هذا المرض ينبغي أن نصبر فيه ونتوقع الشفاء بأن نقوّم سيرتنا، ونعمل ثماراً تليق بالتوبة ذاكرين قول الرب: قد شفيت فلا تعد تخطئ لئلا يحلّ بك الشرّ من الأول. إنتهى كلام القديس.

-   ومن التأمل بمضمونه يسهل عليك أيها المريض حفظ القانون على ما في هذه الفريضة، بأن لا تستعمل دواء أو علاجاً دون إذن الرئيس. ثم أيضاً يهون عليك الصبر عند عوزك الطبيب، والطب والمآكل الموافقة للشفاء. ثم تقتبل بالرضاء مشورة رئيسك وتعزية إخوتك ثم تؤمن بتمام الرجاء أنك بعمل الطاعة والإحتمال والشكر، تنال الشفاء من الله نظير نعمان الشامي المستشفي من أليشع النبي باستماعه وطاعته له فقط، لا من الطب. أما إن كنت غائباً من هذا اليقين، فلا محالة أنك لا تقوى على الصبر والشكر الواجب عليك فعلهما. ولا تقدر أيضاً أن تقنع بتدبير أحد إلاّ بالذي تراه. ثم تتجاوز أيضاً القانون وتستعمل أدوية وعلاجات غصباً عن رئيسك وإخوتك.

- أذكر أيها المريض ذاك الكثيرة أمراضه، أعني به تيموتاوس تلميذ بولس الرسول، وافطن بأنه كان عارفاً بأن الخمر يوافق إعتدال مزاجه ومع ذلك لم يشربه إلاّ برأي معلمه. فكم بالحري يجب عليك، أنت القليل المعرفة بالنسبة إلى تيموتاوس، أن لا تأخذ دواء ولا تطرح دواء إلاّ حسب رأي رئيسك أم رأي من يوكّله الرئيس فيك، أو أن يسمح لك الرئيس بعمل ما تراه يناسبك. فإن كنت لا تسعى بحسب هذه الرسوم فاعلم أنك قد فقدت فائدة عظيمة؛ لأن الصبر القليل في حال المرض هو أعظم من التعب الكثير في حال الصحة.

- ومثلما تقول بأن الرئيس والقهارمة ملزمون أن يهتموا بما يناسب عافيتك، وأن لا يتكاسلوا في خدمتك، هكذا أنت أيضاً ملزوم بأن ترضخ لمشورتهم، ولا تستعمل شيئاً من العلاجات إلا بعد الإذن منهم.

- وإن أنت أتممت ذلك وتعسر عليك الشفاء، وأخذ فكرك يقول لك إن تباطؤ شفائك هو من نقص الإهتمام بك أو من عدم وجود الأشياء عندك، فحينئذ، بما أنك راهب ميت عن الدنيا، لا يليق بك أن تتمرمر وتظهر على نفسك أنك مثل من هو راغب هذه الحياة ومحب هذا العالم. بل اصبر واشكر. وكما قال القديس باسيليوس: سلم أحكام الطبيعة لرب الطبيعة، وﭐصغِ إلى ما يقول القديس أفرام، قال: صالح هو الأدب إن شكَرَ المؤدب.

- وإن أنت تأملت، تجد أنه الأوفق لك أن يبقى جسمك مريضاً وحده، ولو كان ذلك من قبل عدم الإهتمام بك، من أن تهتم أنت بذاتك وتستعمل علاجاً بغير شور رئيسك، وتمرض جسماً وروحاً معاً.

- الراهب الضجور المتواني، متى ما مرض جسمه فكأنه وجد باباً يخرجه من صعوبة عمل القانون. فيسرع بهمة ليستريح من قيود النسك. فإذا ما أفرط وفرط في تدبيره ذاته، غير مستمع لرئيسه وإخوته، سقط تحت دينونة القانون، ودينونة ضميره. وهذا على الأغلب سقطته تكون الزناء. فلذلك نبّه عليه القديس السلّمي وقال: إذا مرض جسمنا، ليست حاجتنا إلى الإفاقة يسيرة. وذلك أن الشياطين- خزاهم الله- إذا أبصرونا طريحين، لا يمكننا أن نستعمل النسك عليهم من تلقاء ضعف قوتنا، يعتمدون حينئذ حربنا بأشدّ الرحب وأصعبها. فالمُمكّنون من حوائجهم يبرز إليهم روح الحنجرة، وبعده روح الزناء. أما المرضى الخائبون من تعزية جسمانية فيبرز إليهم روح الضجر وعدم الشكر. إنتهى كلام القديس.

- ومنه يفهم المريض كم يجب عليه التيقظ، وأن لا يغفل عما رسمه له القانون. أي لا يستعمل شيئاً في مرضه، إلاّ كما يأذن له الرئيس، أو الموكّل من قبل الرئيس. ثم بهذا العمل، يفلت أيضاً من خطر الغلط بالتدبير، لأنّ المدبّر ذاته بذاته إذا ما غلط بالتدبير، أضرّ جسده وروحه معاً، وإستولى عليه الحزن العظيم، والقلق الجسيم. لكن إذا كان تدبيره من قبل غيره، ووقع الغلط فيه، فيكون هو بمعزل عن الحزن والقلق.

- وهذا يطابق شريعة الطاعة بالتمام. لأن من كان لا يحل له أن يخطو خطوة إلاّ كمرسوم رئيسه، فهو بالأكثر لا يسوغ له أن يستعمل دواء أو علاجاً إلاّ كمرسوم رئيسه. والمجد لله دائماً.

******

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +