Skip to Content

12- المصباح الرهباني ? الباب الثاني عشر: في الصمت

 

 المصباح الرهباني

                             الباب الثاني عشر: في الصمت

 

اضغط لعرض الصورة بالحجم الكامل

- الصمت هو الكف عن محادثة الناس لأجل إستعمال الهذيذ الروحي، إذ كان، على رأي جميع الآباء، من الممتنع أن يهدأ عقلنا في الأمور الروحية وهو مرتبط بأحاديث وأفكار عالمية. وقد أبان ذلك القديس السلّمي بقوله: إن الصمت هو أمّ الصلاة. وعن مثل ذلك قال القديس إسحق: أنه لممتنع أنك تستولي على الأمور الجسيمة وأنت لم تقوَ على الأمور الحقيرة. فالأمور الحقيرة هي قطع محادثة الناس. والأمور الجسيمة هي التفكّر بالروحيات. فلا وصول لنا إلى الثانية إلاّ بعد عملنا الأولى. وهذا هو غرض القانون برسمه الصمت والسكوت وقطع مخاطبة كل إنسان، العمل الذي هو مبدأ العافية وباب أول لمدخل الكمال كما تعلمنا كتب العلماء بالسيرة الروحية.

-        وهذا المبدأ والباب الأول، لا نقدر، في السيرة المشتركة، على الدنو منه والحصول عليه، إلاّ بواسطة العمل بالفريضتين الآتي ذكرهما.

- الفريضة الأولى

- يجب على الراهب أن يلازم السكوت بإفراز.

- ملازمة السكوت بإفراز، هي أن لا تتكلم إلاّ وقت الحاجة للكلام. لأن الكلام في غير وقته لا يكون إلاّ بطالاً ومضراً بعض الإخوة.

- سأل واحد القديس باسيليوس: ما هي الكلمة البطالة التي نزمع أن نعطي الجواب عنها؟ فأجابه: هي التي لا تنفع ولا تضر. وقال أيضاً القديس المذكور: إن دعت الحاجة إلى الكلام فليكن مما فيه منفعة، وما سوى ذلك فمرذول وكلام بطال. ومن كلام هذا القديس تحققنا أنه لا يجوز لنا أن نتكلم إلاّ الكلام الذي تدعو الحاجة إلى فائدته، أعني ولا الكلام المفيد يجب إستعماله كل وقت، بل في الوقت المناسب فقط. وهذا المعنى قد أوضحه القديس إسحق أبين الإيضاح وقال: إذا كانت أقوال المنفعة على غير النظام، إخترعت الظلام. وقال أيضاً: إن البطالة هي مبدأ ظلمة النفس، وظلمة على ظلمة هي محادثة الأقوال. وقال القديس باسيليوس: ليكن الكلام النافع في الوقت المناسب لذلك ومن القوم القادرين على الكلام. وقال الأب أرسانيوس: قد ندمت مرات كثيرة على الكلام، أما على السكوت فلم أندم قط.

- ومن هذه الأقوال وما يشبهها الموجودة كثيراً في كتب الآباء، فهمنا أن الكلام، وإن كان مفيداً، يُحتاج إلى إستعماله مصباح إفراز. والإفراز هو أنك لا تسكت لما يسألك أخوك مسألة فتقلقه، كما قال القديس السلّمي: لا تكن صموتاً غير ناطق إذا سببت للآخرين قلقاً. وكذلك لما تدعو الضرورة إلى تعزية الأخ وقت غيظه وحزنه، أو عند وقوع الظن والتهمة عليه باطلاً، أو لما نراه يطلب شيئاً لا يعرف مكانه، أو لما نرى إثنين يترافعان بالكلام ونقدر على المسالمة بينهما. فهذه ومثلها لا يجب السكوت فيها لأجل عمل المحبة.

- ودون ذلك فالسكوت هو آمن طريق وأضمن حال. قال القديس السلّمي في فوائد الصمت: أنه أُمّ الصلاة، إسترجاع سبينا، صيانة لنار خشوعنا، رقيب على أفكارنا، ناطور بإزاء محاربينا، سجن لنوحنا، خليل لدموعنا، فاعل لذكر الموت، مصور العذاب، باحث عن القضاء العتيد، خادم للإكتئاب، قرين لهدوء الحواس، معاند لحب التعليم، زيادة في المعرفة، مبدع لصنوف النظر العقلي، إقبال يحتجز ظهوره، صعود مكتوم. وقال أيضاً: من قد قهر لسانه، أي قوّم فضيلة السكوت، فذاك قد حسم شروراً كثيرة.

- أرأيت أيها الأخ الحبيب كم هي فوائد السكوت وكم يلزم الكلام من الإفراز؟ وهذا هو غرض القانون أن نسكت دائماً، وعند الحاجة نتكلم ما لا بد منه فقط، كما جاء في البستان، عن أحد الآباء: أنه كان متى سمع أفكار تلميذه وقت كشفها له، كان عند فراغه منها يأمره بالخروج من عنده حالاً. ولما سئل عن السبب أجاب: لئلا بعلّة الكلام المفيد يدخل علينا الكلام البطال. فهذا هو ملازمة السكوت بإفراز.

- فإن قلت كيف أعمل حتى أتعلم هذا الإفراز لأني جاهل معرفته؟ أجبتك: إسمع ما قاله الكثير من الآباء والعلماء: لا تتكلم حتى تُسأل ولا تَسأل إلاّ لضرورة تحوجك إلى السؤال، وليكن السؤال والجواب بقدر ما يجب.

-فإن أنت صنعت هكذا، تكتسب فوائد السكوت وتفوتك مضرة الكلام، وإلاّ فتخطئ ضد القانون القائل: يجب على الراهب أن يلازم السكوت بإفراز.

- الفريضة الثانية

- وليبالغ في الصمت ثلاثة أوقات

- أعني من صلاة الستار إلى صلاة الثالثة، وفي البيعة، وعلى المائدة.

-  وإن دعت الضرورة إلى الكلام فليكن بصوت خفي.

-  هذه رسوم حميدة وطقوس كريمة قديمة قد سلك فيها آباؤنا أفاضل النساك والقديسين وأوصونا بإمتثالها.

-     فأولاً السكوت والسكون في الليل الذي هو محل السهر. وأوله عند فراغ صلاة الستار ومضي الرهبان إلى قلاليهم للإستعداد للرقاد. وآخره عند فراغ صلاة الساعة الثالثة قبل إبتداء خدمة القداس الإلهي. فهذه حدود زمن الصمت البليغ المأمور به من القانون. وقوله ليبالغ في الصمت، أي إن السكوت في الدير يجب أن يكون نهاراً وليلاً، لكن في الليل يكون بليغاً لموافقة السهر وللتمتع بحلاوته وللإستغناء بفوائده، إذ كان لا شيء يوافق الساهرين ويجعلهم أن يستفيدوا ويلتذوا بسهرهم مثل السكوت والهدوء، إمتثالاً لسيرة آبائنا القديسين وتعاليمهم المحققة لنا ذلك حسبما قال القديس نيلوس: إن السهر بالغرض الذي يرضي الله، إذا وجد وقتاً ملائماً، يحتضننا بمنزلة أُم خالصة الود في مكان خال من الوجبات مملوء هدوءاً وإفاقة وسكوناً وسلامة، ويستودعنا عند ذاته ويفتح لنا ذخائر حكمته وكنوز التنبيهات المكرمة الإشراقات الإلهية، ويملأ، بفعل مستور، حضون نفسنا. فإن حفظنا ما نعطاه منه بإفاقة نكون سعداء مغبوطين.

-  وقال أيضاً: كما يحتاج الإنسان إلى التنفّس هكذا يحتاج إلى ممارسة السهر كل حين ويتضع له. وأن يشابه بمزاميره وتسابيحه غريزة الهدهد الناغم بتلاحينه الساحرة. لأنه إذا كان جالساً على البيض يسخنه، ليس يكف طول ليله من ترنيمه. وأنت إذا عملت هذا العمل فلن يحتمل عدوك أن يثابتك مدة طويلة إذ يبصرك قد ضغطته وإزدريت به، وصار متجرحاً كل ليلة بنبال صلاة سهرك.

- وقال أيضاً القديس السلّمي: إن الراهب السهّار هو صياد الأفكار لأنه في سكوت الليل يقتدر بأيسر مرام أن يتأملها ويقتنصها. وقال أيضاً: عين ساهرة طهرت العقل، وكثرة النوم أعمت النفس. والراهب السهّار عدو الزناء، والراهب النوام قرين له. فهذه ومثلها هي فوائد السهر، وهذه هي جلالة عمله. ولأجل هذه الفوائد رسم القانون السكوت الليلي ليتسهل لنا إكتساب هذا النفع الفائق نفعه.

- وقد أخبرنا القديس السلّمي عن رئيس دير التوبة أنه أقام في ديره راهبين رقيبين لمنع وقطع الإجتماعات والأحاديث التي تحدث في الليل لكي يفيد الرهبان السكون والسكوت الموافق السهر. وكما ان الآلة الموسيقية تزيد الترتيل والترنيم لذة، هكذا السكوت والهدوء يزيدان السهر خشوعاً ورغبة. وهذا ممكن لكل أحد أن يتأمله ويتحققه من المشاهدة والعيان.

-   تأمّل، أيها الحبيب، كم هي بهجة وهيبة الدير الساكن الهادئ في الليل ورهبانه ساهرون في مخاطبة الله ربهم كالملائكة التي لا تنام. وقد جعلوا ليلهم كالنهار، لا بهمة لوازم البطن أو كسوة الجسم، بل بهمة تسبحة وتمجيد الله والهذيذ الروحي والبكاء والأسف على ما فات من الزمان بالباطل وطلب المعونة والشفاعة من والدة الله والملاك الحارس والقديسين.

- تأمّل أيها الحبيب، من يقدر أن يصف حسن منظر صف القلالي المستضيئة ظاهراً في ظلام الليل، بضوء سرجها، والمستنيرة في الباطن بأنوار صلوات وهذيذ رهبانها. فإنه، على ما يقول القديس السلّمي في وصف الساهرين، يوجد منهم من يمدون أيديهم في صلواتهم في المساء ويسهرون ما طال ليلهم، خالين من هيولى الصلاة، أي بالعقل فقط يصلون. وآخرون يقفون بصنوف هيولى الصلاة، أي صلوات لفظية يصلون. وغير هؤلاء يثابتون القراءة أكثر من الصلاة. وقوم يقاتلون النوم بعمل أيديهم من تلقاء ضعفهم، وغيرهم يتشاغلون بذكر الموت والهذيذ المخشع. وذلك جميعه بسكون بليغ وهدوء عميق. فما الذي يمكن أن يكون في الليل أعجب من هذا المنظر العجيب وأيّ مشهد أبهج وألذّ من هذا المشهد الغريب! وأيّ فرق ما بين السماء المستضيئة بنور نجومها والدير المشعشعة قلاليه وكنيسته بسرجها ومصابيحها يتواتر فيه قرع النواقيس وتلحين الصلوات القانونية وتراتيلها!

- حقاً إن الدير المحتوي على رهبان ساهرين لخدمة ربّهم، لأهيب وأرهج من السماء وأرهب وأخوف عند الشياطين من كافة الأرض وسكانها، لأنهم خزاهم الله، كما سبق القول من القديس نيلوس، يحتسبون صلوات الرهبان الساهرين أسهماً تجرحهم. وبولس وسيلا الرسولان أرعدا الحارس من قبل صلوات سهرهما، والرهبان يهزمون ما إجتمع عليهم في النهار من الشياطين بسهر ليلهم ويختزي شرّهم.

- وهذا نتحققه من أن الأشقياء يمانعون سهرنا أشدّ ممانعة ليعدمونا أعظم الفوائد. وقد ظهر لإثبات هذا روايات وإعلانات كثيرة، منها ما جاء في سيرة الأب القديس عبد الأحد وهو أنه رأى يوماً ما الشيطان يدور في الليل على قلالي رهبانه. فسأله القديس: ماذا تصنع ههنا أيها الخبيث؟ فأجابه اللعين: أطرح على الرهبان النعاس أو أجعلهم يسهرون بزيادة فلا يعودون يقوون على القيام لصلاة القانون. ومضمون كلامه أنه يعيقنا أما في عمل السهر أو الصلوات الليلية الفرضية. والناتج من جميع ما قلناه هو إن السهر بقدر القوة مفيد لازم والسكوت والصمت له موافق.

- ثم يوافق أيضاً السكوت والصمت لصلاة البيعة نهاراً وليلاً. وهذا قد نبّه عليه الكثيرون من الآباء، منهم القديس أفرام. قال: لا ينبغي أن نتحدث حديثاً غريباً لا سيّما وقت الصلاة الجامعة لئلا نسبّب لآخرين قطعاً عن التسبيح. وهذه أيضاً هي وصية أبينا أنطونيوس نفسه. والقديس السلّمي قال: إن الشياطين هم الذين يأمروننا بأن نتكلم في الكنيسة. وأخبرنا القديس المذكور عن رئيس دير التوبة إن البعض من قسوس ديره تكلموا في الكنيسة وقت الصلاة. فحكم عليهم أن يقفوا خارج الكنيسة مدى سبعة أيام وأن يجثوا ساجدين لكل الداخلين والخارجين. فهذا ومثله يدلّنا على أن عادة السكوت في وقت الصلاة هي قديمة عند الرهبان ولها إعتبار جسيم. ولذلك رسمها لنا القانون.

-        وعلى المائدة أيضاً. والدليل على أن عادة السكوت على المائدة قديمة فهو ما قد جاء في البستان من شكوى الرهبان للأب يوسف على قسوسهم بأنهم كانوا يتكلّمون على المائدة. وقد جاء أيضاً في قوانين الأب باخوميوس بحفظ السكوت على المائدة. ومثل ذلك أوصى الآباء كثيراً. وإن دعت الحاجة إلى الكلام، قال القانون، فليكن بصوت خفي. وإفراز الأدب يقتضي ذلك. والقديس باسيليوس لم يسمح لأحدنا أن يخاطب أخاه في النهار بصوت مرتفع أكثر من الحاجة. فكم بالحري أن لا نظهر صوتنا في حين السكوت البليغ أي في الليل وفي الكنيسة وعلى المائدة. ولا يليق بنا أن ننادي من نخاطبه من البعد، كما نصنع في النهار إذا دعت الضرورة، بل أن نراعي السكوت وندنو من الذي نريد خطابه ونكلمه، إن أمكن، بالإشارة والرمز. وإلاّ، فبالصوت الخفي جداً بقدر ما يمكن أن يسمع. هذا، إذا دعت الضرورة إلى الكلام. ومن غير الضرورة فالرمز أيضاً والإشارات مع الصوت الخفي لا يجوز ولا يعمل.



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +