Skip to Content

البئر العميقة/ اختبارات إيمانية - الأب منير سقال

 

البئر العميقة/ اختبارات إيمانية

جب الهلاك وطين الحمْأة

الأب منير سقال

 

 

Click to view full size image

 

"رجوت الرب رجاءً ، فحنا عليَّ وسمع صراخي؛ وأصعدني من جب الهلاك ومن طين الحمْأة" (مز 40/2-3 )

مقدمة

يقول كارل روجرز أحد أهم علماء النفس الأمريكيين في القرن العشرين، إننا نحن البشر العاديين أشبه بشخص سقط في بئر عميقة لا ماء فيها . وفي عمق البئر أخذ يعيش حالات من القلق العميق واليأس لشعوره بأنه لن يتمكن من النجاة... فراح يضرب بكفَّيه جدار البئر علّ أحداً في الخارج يسمع. بدا له أن كل محاولاته لابد فاشلة وأن أحداً سيكتشف يوماً أن إنساناً سقط في هذه البئر وقضى ولم يدرِ بوجوده أحد ! ولكنه عاد يطرق الجدران ويداه تدميان... إلى أن سمع في آخر المطاف صوتاً من خارج جدران البئر,فأحس وكأن فرحاً كبيراً قد تفجر في نفسه وخالجه شعور بالارتياح لأن أحداً أخذ علماً بوجوده حيث هو، ولسان حاله يقول : الشكر لله أن أحداً أحس بوجودي. (من كتاب " فن التواصل " للأب جان باول اليسوعي ولوريتا برادى ص 138 ).

يلاحظ روجرز أن كلاًّ منا غالباً ما يشبه في حياته ذاك الرجل الذي سقط في البئر وسُجن فيها، فنحس بالوحدة وتفاهة الحياة أحياناً . وفي وحدتنا نشعر بالقنوط وفقدان الأمل، وكأن البديل هو أن يموت كل منا وحيداً من دون أن يدري بوجوده أحد . ولكنه يأبى ذلك فيعود يخبط بكفّيه الداميتين جدران الناس، آنذاك لابد وأن أحداً سوف يصغي . آنذاك سيحس وكأن نسمة الحياة سرت من جديد في عروقه, وأن أحداً تعرّف إلى ما قاساه ووقف على حقيقة وجوده وعمق مشاعره و اختباره. وهكذا هي الحال في اختبار البئر العميقة , الاختبار الروحي مع الله .

انطلاقا من الكتاب المقدس, سنتعرف أولا إلى تلك الآبار المشهورة التي وردت فيه, وعلى معنى كلمة "بئر" ثم الأحداث التي تمت عليه و معانيها , لنصل بعدها إلى اختبارات إيمانية عاشها أشخاص قبل وبعد السيد المسيح.

الآبار المشهورة

من الآبار المشهورة التي وردت في الكتاب المقدس :

1- بئر بيت لحم: فتأوّه داود وقال :"من يسقيني ماء من البئر التي عند باب بيت لحم"(2صم 23/15)

2- بئرعِسِِقْ و سِطْنَه ورُحُوبُوت: وهي الآبار التي بين جرار وبئر سبع. وينسب سفر التكوين إلى الآباء , وهم رعاة ماشية , حفر آبار كثيرة و"بئر يعقوب "في شكيم (وذكره غير وارد في سفر التكوين ) هي البئر التي كشف المسيح بجانبها للسامرية ما هو الماء الحي الحقيقي (يو 4/1) : "وحفر خَدَمُ اسحق في الوادي فوجدوا هناك بئر مياه حية .فتخاصم رعاة جرار ورعاة اسحق قائلين : "هذا الماء لنا "فسمى اسحق البئر "عِسِقْ " لأنهم تنازعوا معه ثم حفروا بئرا أخرى فتخاصموا عليها أيضاً, فسمّاها "سِطْنَه"ثم انتقل من هناك وحفر بئراً أخرى ,فلم يتخاصموا عليها فسماها "رُحُبوت" وقال :"الآن قد رحَّبَ الرب لنا فننمو في الأرض" (تك 26/19-22).

3- بئر هاجَر: "وفتح الله عينيها (هاجر) فرأت بئر ماء ,فمضت وملأت القُرْبة ماء وسقت الصبي" (تك21/19).

4- بئر حاران:"وكان إذا جُمعت القطعان، يُدحرج الحجر على فم البئر, فتُسعى الغنم, ثم يرد الحجر على فم البئر إلى موضعه" (تك 29/3) وعند هذه البئر قابل يعقوب راحيل بنت لابان أخي أمه :"وقبَّلَ يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى. وأخبر يعقوبُ راحيلَ أنه ابن أختِ أبيها وابن "رِفْقة"(تك 29/11-12)

5- بئر يعقوب : فَوَصَل (يسوعُ) إلى مدينة في السامرة يُقال لها سيخارة , "بالقرب من الأرض التي أعطاها يعقوب لابنه يوسف، وفيها بئر يعقوب" (يو 3/5-6) والمقصود هنا عين ماء تنبع من قعر بئر عميق.

"وقال إسرائيل (يعقوب) ليوسف: "ها أنذا أموت وسيكون الله معكم ويردكم إلى أرض آبائكم. وأنا قد أعطيتك " شكيم " علاوة على إخوتك " (تك 48/21). وشكيم تدل على مدينة ومنطقة شكيم اللتين ستكونان حصة بني يوسف وحيث سيدفن يوسف نفسه ( يش 24/32) .

وشكيم هي قطعة الأرض التي اشتراها يعقوب من بني حمور أبي شكيم بمائة قَسيطة. ( تك 33/18-20)؛ على بعد ميل ونصف إلى الجنوب الشرقي من نابلس عند سفح جبل جرزيم بقرب الدرب الموصِل من أورشليم إلى الجليل.

البئر اسم مكان

"بئر" : اسم عبري وقد جاء:

1- اسم المحطة التي في مؤاب حيث أعطى الله الماء لبني إسرائيل من بئر حفرها رؤساء الشعب . ولا تُذكَر كاسمٍ جغرافي إلاّ هنا . ولا شك أنها مأخوذة من النشيد ( تك 21/17) لا غير: "ورحلوا من هناك إلى البئر، وهي البئر التي قال الرب فيها لموسى: "اجمع الشعب حتى أعطيهم ماءً. حينئذٍ أنشد إسرائيل هذا النشيد: "أصعدي ماءَك يا بئرُ ..."

2- مكان بين أورشلم وشكيم (قض9/21) هرب منها يوئام من وجه أخيه ابيمالك بعد أن ألقى أمثولته عن العَوْسج. وربما كان هذا المكان هو نفس بيئروت.

3- بئر ايليم: اسم عبري ومعناه "بئر البطم" وهو موضع في موآب. وربما كان مكانه اليوم هو "المدينة" في وادي ثَمَد: "فقد شمل الصراخ أرض موآب وبلغ إلى أجلائيم وبئر ايليم". (اش 15/8) .

4- بئر سبع: نذكر هنا اللقاء الذي تم بين إبراهيم وأبيملك ( تك21/22-33) وهذه الحادثة توفِّق بين تفسيرين لاسم بئر سبع (بئر شِبَع) : "بئر القسم "أو" بئر (الخراف) السبع". ووردت أيضاً في تك 26/25-33" ليكن الآن قَسَمٌ بيننا وبينك ... وبكروا في الصباح ، فحلف كل منهم لصاحبه ( اسحق وأبيملك) ... ولذلك اسم المدينة بئر سبع هذا اليوم".

5- بئر الحي الرائي: عبارة عبرية ومعناها "بئر الحي الذي يراني"، وهي عين ماء بين قادش وبارد (تك 16/14 و 24/62 و 25/11) في الطريق من آشور إلى مصر حيث اتجهت هاجر المصرية عند هربها من سيدتها. ويدك (تك 25/11) على أن هذه البئر لا تبعد كثيراً عن جيرار: "فأطلقت (هاجر) على الرب مخاطبها اسم "أنت الله الرائي" لأنها قالت: "أما رأيتُ ههنا قفا رائِيَّ ؟". لذلك سميت البئر بئر الحيّ الرائي" ( تك 16/13-14) .

6- آبار بني يعْقان: "ورحل بنو إسرائيل من آبار بني يعقان إلى موسير" (تث 10/6) " ورحلوا من موسيروت وخيَّموا في بني يعقان " ( عدد 33/31) وهي على حدود آدوم. وربما تكون هاتين "البيرين" نحو ستة أميال جنوب العوجة.

أحداث ودلائل

أحداث كثيرة شهدها "البئر" وكان لها معناها ومدلولاتها من عهد إلى علامة إلى ثقة وإلى رمز الانبعاث من الموت إلى الحياة. وفي العهد القديم كان الزواج يتم على "العين" هكذا كان عرس اسحق ورفقا. وفي العهد الجديد، اللقاء بين يسوع والسامرية تمَّ على بئر يعقوب؛ وهذا اللقاء دلالة على العرس – اللقاء بين الله (يسوع) والإنسانية الخاطئة (السامرية). عرس بين النور الكامل وانعكاسه على ماء بئر يعقوب، عرس بين النور والماء، بين الله والشعب الصَنَمي.

1- البئر شاهد على العهد: نقرأ في سفر التكوين (21/22-33) أن أبيملك وفيكول، قائد جيشه، كلَّمَا إبراهيمَ قائلَيْن: إن الله معك في جميع ما تعمله. والآن احلفْ لي بالله ههنا أنك لا تخدعني ولا تخدع ذُرّيتي. فقال إبراهيم: أحلُفُ. ثم عاتب إبراهيمُ أبيملكُ بسبب بئر الماء التي غَصَبها خَدَمُ أبيملك ... وأخذ إبراهيم غنماً وبقراً فأعطاها أبيملك وقطعا كلاهما عهداً ... وقطعا عهداً في بئرسبع".

وغرس إبراهيم طرفاءَةً في بئرسبع ودعا هناك باسم الرب الإله السرمدي. وشهادة على هذا العهد وضع إبراهيم سبعَ نِعاج من الغنم على حِده, وقال لأبيملك: "سبع نعاج تأخذ من يدي لتكون شهادة لي بأني حفرت هذه البئر". ولذلك سُمي ذلك المكان بئرُ سَبْع، لأنهما هناك حلفا كلاهما.

2- الاستقاء من البئر / علامة إرادة الله: في الفصل 24 من سفر التكوين نقرأ أن إبراهيم لما شاخ وطعن في السن, أرسل خادمه إلى عشيرته ليأخذ زوجةً لابنه اسحق؛ وقال له :إنّ الرب، إله السماء وإله الأرض هو يرسل ملاكه أمامك فتأخذ زوجة لابني من هناك. فقام الخادم ومعه عشرة جمال ومن خيرات سيده ومضى إلى أرام النهرين, حيث كانت حاران محل إقامة والدي إبراهيم (11/31)، إلى مدينة ناحور. فأناخ الجمال خارج المدينة, بالقرب من بئر الماء, عند المساء، وقت خروج المستقيات .وقال : "أيها الرب... اصنع رحمة... هاأنذا واقف بالقرب من عين الماء... فليكن أن الفتاة التي أقول لها :أميلي جرتك حتى أشرب، فتقول : اشرب , وأنا أسقي جمالك أيضا, تكون هي التي عنيتها لعبدك اسحق, وبذلك أعلم أنك صنعت رحمة إلى سيدي... (وهكذا تمّ)... بقي الرجل متأمِّلا إياها صامتاً، ليعلم هل أنجح الله طريقه أم لا... فقال: "بنت مَنْ أنتِ؟ أخبريني هل في بيت أبيك موضع نبيت فيه؟ فقالت له: "أنا ابنة بتوئيل ابن ملكة الذي ولدته لناحور" (أي رفقه بنت تبوئيل بن ناحور الذي ولدته له ملكة)؛ بعدها ركضت رفقة وأخبرت بيت أمها بهذه الأمور وكان لها أخ اسمه لابان, فركض إلى الرجل إلى العين خارجا ودعاه إلى البيت وحلَّ عن الجمال وطرح لها تِبناً وعلَفاً. وبعد أن أخبرهم الخادم ماذا جرى معه, وكيف أن الرب هداه طريقاً صالحاً ليأخذ ابنة أخ سيده لابنه, أجابه لابان وبتوئيل وقالا : "إن الأمر صادر من عند الرب، فليس لنا أن نكلمك فيه بشر أو خير. هذه رفقة أمامك, خذْها وامضِ فتكون امرأة لابن سيدك,كما قال الرب".

3- حفر البئر/ علاقة الثقة بالله: في الفصل 26 من سفر التكوين (تك 26/15-25) يخبرنا الكاتب أن جميع الآبار التي حفرها خدم إبراهيم في أيامه, كان الفلسطينيون قد ردموها وملأوها ترابا. فقال ابيملك لاسحق: انصرف من عندنا لأنك قد أصبحت أقوى منا جداً فانصرف اسحق من هناك وخيَّم في وادي جرار وأقام هناك.ثم عاد اسحق وحفر آبار الماء التي كان خَدَمُ أبيه إبراهيم قد حفروها ومن هناك صعد إلى بئر سبع. فتراءى له الرب في تلك الليلة وقال: "أنا إلهُ إبراهيم أبيك لا تخف فإني معك, أباركك وأُكثِّر نسلك من أجل عبدي إبراهيم" فبنى اسحق هناك مذبحاً ودعا باسم الرب، ونصب هناك خيمة وحفر بئراً ,علامة ثقة واتكال على الله, وكما مع إبراهيم, قطع ابيملك عهداً مع اسحق :ليكن الآن قَسَمٌ بيننا وبينك ونقطع معك عهدا ألا تصنع بنا سوءاً كما أننا لم نَمسَّكَ وكما أننا لم نصنع إليك إلاّ خيراً وصرفناك بسلام. أنت الآن مبارك الرب. وبكروا في الصباح فحلف كل منهم لصاحبه, وصرفهم اسحق. وكان في ذلك اليوم أنَّ خَدَمَ اسحق جاؤوا فأخبروه بأمر البئر التي حفروها وقالوا له :" قد وجدنا ماءً" فدعاها "شِبَعْ". فكان البئر لاسحق دلالة على أن الله معه وانه مبارك من الرب .

4- البئر /ملتقى فَعُرس : على البئر التقيا وكان العرس :

آ- لقاء اسحق ورفقة (تك 24/62-67) : وكان اسحق قد رجع من بئر الحي الرائي... وخرج اسحق إلى الحقل للتنزه عند المساء . فرفع عينيه ونظر، فإذا جمال مُقبِلة. و رفعت رفقة عينيها فرأت اسحق فقفزت عن الجمل... فأدخل اسحق رفقة إلى خيمة أمه ساره وأخذ رفقة, فصارت له زوجة وأحبها... وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك اسحق ابنه وأقام اسحق عند بئر الحي الرائي .

ب‌- لقاء يعقوب وراحيل: (تك 29/1-30 ): ثم قام يعقوب ومضى إلى أرض بني المشرق. ونظر فإذا بئر في الحقل, وإذا ثلاثة قطعان من الغنم رابضة عندها، لأنهم من تلك البئر كانوا يسقون القطعان... وبينما يعقوب يخاطب رعاة حاران أقبلت راحيل مع غنم ابيها لابان بن ناحور, لأنها كانت راعية. فلما رأى يعقوب راحيل, بنت لابان أخي أمه... قَبَّلَ يعقوب راحيل ورفع صوته وبكى, وأخبرها انه ابن أخت أبيها ابن رفقة؛ فأخبرت أباها... فأحبَّ يعقوبُ راحيلَ وقال: "أخدمك سبع سنوات براحيل ابنتك الصغرى"... (أعطاه أولاً ليئة ثم راحيل بعد سبع سنوات ثانية)... فصنع يعقوب كذلك فأعطاه راحيل ابنته امرأة له... فدخل يعقوب على راحيل أيضا وأحبها أكثر من حبه لليئة . وعاد فخدم لابان سبع سنوات أخرى.

ت‌- لقاء يسوع والسامرية: (يو 4/1-42)... فوصل يسوع إلى مدينة في السامرة يقال لها سيخارة . بالقرب من الأرض التي أعطاها يعقوب لابنه يوسف , وفيها بئر يعقوب . وكان يسوع قد تعب من المسير , فجلس بدون تكلف على حافة... البئر فجاءت امرأة من السامرة تستقي. فقال يسوع : اسقيني... وقالت له المرأة: يا رب، لا دلو عندك, والبئر عميقة, فمن أين لك الماء الحي ؟... الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا إياه فلن يعطش أبدا بل الماء الذي أعطيه إياه يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة أبدية... وعنى يسوع بذلك الحياة والحكمة والروح الذي يَهَبُ الحياة الأبدية. نجح يسوع في حواره مع السامرية , جذبها فجرت وراءه: "اجذبني وراءك فنجري , قد أدخلني الملك اخاديره" (نشيد 1/4) أغواها فانغوت لذلك ها أنذا أستغويها وآتي بها إلى البرية وأخاطب قلبها ومن هناك أرد لها كرومها... في ذلك اليوم، يقول الرب تدعينني "زوجي"... فإني أزيل أسماء البعليم من فمها... وأقطع لهم عهدا" في ذلك اليوم وأخطبك لي للأبد " ( هوشع 2/16-21 ) فتبعته المرأة السامرية وتجدّدت فتمّت المصالحةِ / العرس على البئر وذهبت تبشِّر وتُعلن للناس أنه هو المسيح فآمن به الشعب وآمن منهم عدد أكبر كثيراً عن كلامه . وقالوا للمرأة : " لا نؤمن الآن عن قولك , فقد سمعناه نحن وعلمنا انه مخلص العالم حقا".

اختبارات إيمانية

عبر كاتب المزمور 88 عن حال من حُسِب مع المنحدرين في الجب، وأنِسَ الظلام، قال : " حُسِبتُ مع المنحدرين في الجُبِّ، صرت كرجل لا قوة له ( 5 )، جعلتني في الجب الأسفل في الأعماق والظلمات ( 7 )، أبعدت عني المحبَّ والرفيق فليس لي سوى الظلام أنيس ( 19 ). "ولكنه صرخ إلى الله من أعماق الجب ورفع صلاته: "إليكَ يارب أصرخ يا صرختي لا تتصامم عني لئلا تصمت عني فأشبه الهابطين في الهاوية" (مز 28/1) ، و قال أيضا : "من الأعماق صرخت إليك يارب، يا سيد استمع صوتي، لتكن أُذناك مصغيتين إلى صوت تضرعي" ( مز 130 / 1 ). أدرك الإنسان غرقه في الوحل وبلغ قعر المياه، فرفع صلاته إلى الله ليستجيب له بكثرة مراحمه ويخلصه: " أنقذني من الوحل فلا أغرق... ولا تبتلعني الأعماق ولا تطبقِ البئرُ عليّ فمها." ( مز 69 / 15 – 16 )، فاستجاب الله لاستغاثته فعظَّمه الإنسان ومّجده وسبّحه : " أعظمك يارب لأنك انتشلتني ولم تُشِمت بي أعدائي... يارب، من بين الهابطين في الهاوية أحييتني... للرب اعزفوا يا أصفياءه واسمه القدوس احمدوا " ( مز 30 / 1 – 5) ويبقى على الإنسان أن يفهم هذا الاختبار الإيماني ويجيب على السؤال : " ما الفائدة من هبوطي في الهُوَّة ؟ في البئر العميقة ؟

من هذه الاختبارات الإيمانية : ثلاثة من العهد القديم ( يوسف وإرميا ودانيال ) وثلاثة كما في البئر العميقة (يونان والرب يسوع وبولس )، ومن تاريخ الكنيسة نذكر القديس كر يكور المنوِّر ( 239 – 326 ) والقديس يوحنا الصليب ( 1542 – 1591 )

1 - اختبارات من العهد القديم :

أ – يوسف وإخوته :

يتكلم القسم الأخير من سفر التكوين ( 37 – 50 ) باستثناء الفصلين 38 و49 على سيرة يوسف. وتجري هذه السيرة ظاهريا" من دون أن يتدخل الله ظاهريا" ومن دون وحي جديد ولكنها بكاملها تعليم يفيد -خفياً - بأن العناية الإلهية لا تأبه لخطط البشر وتعرف كيف تحّول نواياهم السيئة إلى الخير. فلا يقتصر الأمر على نجاة يوسف من الموت، من البئر العميقة ،بل تُصبح جريمة اخوته وسيلةً في يد الله. هناك نظرة خلاصية تتجاوز العهد القديم كله وتنفذ متوسِّعة إلى العهد الجديد. وفي هذه السيرة نقرأ الاختبار الذي عاشه يوسف عندما طرحه اخوته في البئر. كان إسرائيل (يعقوب) يحب يوسف على جميع بنيه لأنه ابن شيخوخته . و رأى إخوته أن أباه يحبه على جميع إخوته, فأبغضوه ولم يستطيعوا أن يكلِّموه بمودة . وازدادوا بُغضاً له بعدما رأى يوسف حُلماً و أخبرهم به ( 37/5-11) فحسدوه. وكان هذا حسداً أسودَ قاتلاً. وعندما أرسل إسرائيلُ يوسف إلى إخوته : " امضِ فافتقد سلامة إخوتك وسلامة الغنم وائتني بالخبر " ( 37 / 14 )؛ رأَوه عن بُعْدٍ قبل أن يقترب منهم فتآمروا ليُميتوه. إلا أن رأوبين قال لهم : " لا تسفكوا دماً، اطرحوه في هذه البئر التي في الحقل " (37/22) ومراده أن يخلصه . ولما وصل يوسف , نزعوا عنه القميص الموشّى الذي عليه .

"وأخذوه وطرحوه في البئر؛ وكانت البئر فارغة لا ماء فيها, ثم جلسوا يأكلون " (37/24-25) يأكلون وكأنهم ارتاحوا وتحقق مراد حسدهم منه . لكّن تجاراً من مِدْيَن مرّوا بذلك المكان، فاقترح عليهم يهوذا أن يبيعوه للإسماعيليين" ولا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا , فسمع له إخوته "( 37 / 26- 27 ) فأصعدوه من البئر وباعوه للإسماعيليين بعشرين من الفضة، فأتوا بيوسف إلى مصر . أما اخوته فأخذوا القميص الموشّى وغمسوه في دم تيْس ذبحوه وأوصلوه إلى أبيهم فقال : " هو قميص ابني. وحش ضار أكله.افترِس يوسف افتراساً " ( 37 /33 ) ولكن أنى لأبي يوسف أن يعرف أنّ ابنه قد افترس افتراسا: حسداً من إخوته؟ أنى له أن يعرف أن نزول يوسف البئر وصعوده منه وبيعه إلى مصر سيكون الخلاص لهم ؟

في هذا الوقت الذي قضاه يوسف في البئر، اختبر قسوة الحسد القاتل . اقترب فيه من ظلمات الموت . و هذا الاختبار نفسه عاشه في السجن في مصر و لأكثر من سنتين من الزمان . و كان الرب مع يوسف وأمال إليه رحمتَه، وبعد أن فسّر لفرعون أحلامه حَسُنَ الكلام في عيني فرعون وعيني حاشيته كلها .فقال فرعون لحاشيته :"هل نجد مثل هذا رجلا فيه روح الله؟" (41/37-38) وقال فرعون ليوسف :" أنا فرعون، بدونك لا يرفع أحدٌ يده ولا رجله في كل ارض مصر" وكان يوسف ابن ثلاثين سنة حين مَثُلَ أمام فرعون، ملك مصر (41/44-46). وبعدكل الأحداث التي جرت من مجاعة على الأرض كلها وشراء القمح من مصر عرّف يوسف نفسه إلى إخوته, وبكلامه إليهم ,ندرك عمق هذا الاختبار الذي عاشه :

"أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في هذه الأرض وليحييكم ,لنجاة عظيمة .فالآن لم ترسلوني أنتم إلى ههنا بل الله أرسلني " (45/7-8). فقام يعقوب أبوه من بئر سبع وقدم إلى مصر.

"احمدوا الرب… انشدوا له… وفي جميع عجائبه تأملوا …يتذكر للأبد عهده …ودعا بالجوع على الأرض ,وقطع سند الخبز كله . أرسل أمامهم رجلا" : يوسف الذي بيع للعبودية …إلى أن تتم نبوءته وتمحّصه كلمةُ الرب… أقامه سيدا" على بيته وسلطانا" على جميع أمواله (مز 105).

ب ـ إرميا النبي : عزلة رجل الكلمة ( إرميا 37 و38 )

"مًلك الملك صدقيا بن يوشيا مكان كنيا بن يوياقيم , ولم يسمع هو ولا رعاياه ولا شعب تلك الأرض لكلام الرب الذي تكلم به على لسان ارميا النبي. وكانت كلمة الرب إلى ارميا النبي قائلا" : هكذا قال الرب… إنه وإن قتلتم كل جيش الكلدانيين الذين يحاربونكم وبقي منهم رجال قد طعنوا، هؤلاء يقومون، كل واحد في خيمته. ويحرقون هذه المدينة بالنار.سخط الرؤساء على ارميا و ضربوه وحبسوه في بيت يوناتان الكاتب ،لأنهم جعلوا من ذلك البيت سجناً. فدخل ارميا إلى الجب المقبب وأقام هناك أياماً كثيرة .وسمع الرؤساء شفطيا وجدليا ويوكل وفشحور الكلام الذي كان ارميا يكلم به كل الشعب قائلاً: هكذا قال الرب: إن الذي يبقى في هذه المدينة يموت بالسيف والجوع والطاعون… فقالوا للملك: "ليقتل هذا الرجل …لأن هذا الرجل لا يطلب لهذا الشعب سلاماً ،بل بلوى … "فأخذوا ارميا وألقوه في جب ملكياً ابن الملك الذي في دار الحرس ، ودلّوا ارميا بحبال .ولم يكن في الجب ماء ،بل وحل ،فغاص ارميا في الوحل . يظهر ارميا بمظهر رجل يعيش في العزلة "جلست منفرداً"، لا يقدر حق قدره ويضطهد ولا يحبه هؤلاء الذين ينتظر منهم أن يحوطوه بعنايتهم ويشجعوه. سيلقى في السجن والجب ويعامل بشراسة ويذهب مكرها" إلى مصر وينهي حياته في أرض بعيدة، ولن يحفظ أحد ذكرى قبره .

تلك العزلة، فرضتها عليه قوة خارجية قاهرة ،تنقضّ عليه وتستولي على جوارحه وتؤلمه وتتطلب منه الامتثال التام لإرادتها، فهي تحتاج إلى عزلته حاجتها إلى طريقة عمل في داخل الشعب . تلك القوة التي لاترحم هي كلمة الله .ما من نبيّ وصف كلمة الله وطريقة عملها بمثل ما وصفها من دقّة تشعر بالألم :"كانت إليّ كلمة الرب" . ومع أنها كانت له سروراً وفرحاً فكثيراً ما كانت تكسر قلبه في داخله، وهي شاقة كالنار والمطرقة التي تحطم الصخر. يتقبّلها كبروق مضيئة في اختباراته. يضعها الله على شفتيه ويسهر عليها ويجعلها ناراً تلتهم الشعب المتمرد. ولكنها أحياناً تهجره وتفرض عليه أيام انتظار طويلة ،في قعر البئر العميقة قبل أن تعود إليه .

شكى النبي مرارة عزلته واغترابه وقلة جدوى حالته، ولكن الصوت يجيبه أنه لامناص من هذه الحالة وهي جزء من رسالته. اختبر أرميا أنه في الحوار / الخصام بين كلمة الإنسان وكلمة الله، كلمة هي التي تغلب دائماً. كلمة الله عنده، وعند معظم الأنبياء، هي من طبيعتها كلمة كاملة تشمل ما في الحياة البشرية من أبعاد شخصية وجماعية. "وكانت كلمة الله إلي قائلاً: اذهب واصرخ على مسامع أورشليم قائلاً: هكذا قال الرب: ... ساروا وراء ما لا فائدة فيه، فلذلك اتهمكم، يقول الرب ... فإن شعبي صنع شرّيْن: تركوني أنا ينبوع المياه الحية وحفروا لأنفسهم آباراً، آباراً مشققة لا تُمسك الماء." (أرميا 2/ 1، 9، 13)

ج- دانيال النبي: دانيال في جب الأسود (دا 6/ 2- 29).

"فأُخرج دانيال من الجب. فلم يوجد فيه أذى لأنه توكّل على إلهه" (دا 6/ 24 ب) رسالة دانيال النبي هي رسالة الرجاء. ينظر سفر دانيال إلى المسائل المطروحة في زمانه بوضوح.فتُجاه الحضارات الوثنية التي كثرت فيها الآلهة، كان إسرائيل يجاهر مجاهرة قوية باعتقاده بالإله الواحد. ولم يقتصر على الدفاع عن الدين، بل كان يشيد أيضاً وخاصة بعظمة إيمان يستحق أن يخاطر الإنسان بحياته في سبيله. وعلى كل إنسان أن يعترف بسيادة الله الأحد المطلقة كما تتغنى بمجده كل الخلائق. ويشير السِفر إلى أن الدينونة الإلهية لا تشكّل إلا ساعة حاسمة في انتشار التدبير الإلهي وانكشافه. ووراء هذه الدينونة تبقى آفاق الرجاء أموراً حاضرة أكثر منها في أي وقت كان.

عاش دانيال اختبار الثقة بالله والرجاء غير المتزعزع بالإله الأحد وهو في جب الأسود، نتيجة لحسد الوزراء والأقطاب فالتمسوا علّة على دانيال في أمر المملكة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يجدوا علة ولا جريمة، لأنه كان أميناً. "فقال هؤلاء الرجال: "إننا لا نجدُ علّة على دانيال هذا، إلاّ أن نجدها عليه في شريعة إلهه" (دا 6/ 6).
فطلبوا إلى الملك أن يصدر أمراً بأن كل من طلب طلباً إلى إله أو إنسان إلى ثلاثين يوماً إلا إليك، أيها الملك، يُلقى في جب الأسود" (دا 6/ 8 ب). إلا أن دانيال كان يجثو على ركبتيه ثلاث مرات في اليوم، ويصلي لله ويحمده، كما كان يفعل من قبل. فبادر أولئك الرجال وتكلموا في أمره للملك وسألوه أن يُلقى في جب الأسود. فأمر الملك وأُتيَ بدانيال، وأُلقي في جب الأسود. وقال الملك لدانيال: "إن إلهك الذي تواظب على عبادته هو ينقذك" (دا 6/ 17). وأُتيَ بحجر فوُضِع على فم الجب، وختمه الملك بخاتمه، ثم مضى الملك إلى قصره وبات صائماً، فقد اغتمّ جداً ونفر النوم عنه . وعند الفجر اقترب الملك من الجب ونادى دانيال بصوت حزين: "يا دانيال، عبد الله الحي، هل استطاع إلهك الذي تواظب على عبادته أن ينقذك من الأسود؟" فأجاب دانيال: "إن إلهي أرسل ملاكه فسدّ أفواه الأسود، فلم تؤذِني، لأني وُجدت بريئاً أمامه، وأمامك أيضاً، أيها الملك، لم أصنع سوءاً" (دا 6/ 21- 23). وأمر الملك فأُخرج دانيال من الجب ولم يوجد فيه أذى لأنه توكّل على إلهه. "هو الإله الحي القيّوم للأبد، وملكه لا ينقرض وسلطانه إلى المنتهى. المنقذ المنجّي والصانع الآيات والعجائب في السماوات والأرض وهو الذي أنقذ دانيال من أيدي الأسود" (دا 6/ 27 ب- 28).

2- البئر العميقة / الليل المظلم :

ومثل الليل المظلم كمثل البئر العميقة، وقد عاش هذا الاختبار كل من: يونان النبي والسيد المسيح وبولس الرسول.

أ- يونان النبي :

يرينا سفر يونان الاختبار الباطني الذي اختبره النبي. فنراه صموتاً منعزلاً. فهو على يقين، قبل كل شيء، من أن الله يريد أن يخلص البشر، ولكن عليه عادة أن يباشر خدمته بالكلمة، وهذا أمر يسيّره عكس تيار معاصريه فيُنزل به المحنة ويعزله عنهم. ولكن مهما يكن، وإن قبل أن يكون واعظاً تسليماً لأمر الواقع، ستكون كلمته فعّالة.

عاش يونان النبي هذا الاختبار وأدرك قوة كلمة الله والمعجزات التي ترافقها ، تلك الكلمة التي تدعو إلى التوبة والتغيير: "فأعد الرب حوتاً عظيماً لابتلاع يونان .فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال. فصلى يونان إلى الرب إلهه في جوف الحوت، وقال: "إلى الرب صرخت في ضيقي فأجابني، من جوف مثوى الأموات استغثت فسمعتَ صوتي ... قد طرحتني في العمق ... لكنك أصعدت حياتي من الهوة ... من الرب الخلاص." فأمر الرب الحوت، فقذق يونان إلى اليابسة" (يو 2/ 1- 11 ).

ب- الرب يسوع / السيد المسيح :

"فكما بقي يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، فكذلك يبقى ابن الإنسان في جوف الأرض ثلاثة أيام وثلاثة ليال" (متى 12/ 40). قابَلَ متى موتَ وقيامة يسوع بأيام يونان الثلاثة والليالي الثلاث. وفي إنباءات يسوع بآلامه وقيامته شدّد على أنه "كان يجب على المسيح أن يُعاني تلك الآلام فيدخل في مجده" (لو 24/ 26). وبهذا الاختبار وطئ المسيح الموت بموته وكسر شوكة ذاك الذي له القدرة على الموت، أي إبليس؛ وحرّر الذين ظلوا طوال حياتهم في العبودية مخافة الموت؛ فأعاد للإنسان حريته وأعطاه السلطان أن يصير ابن الله: "أما الذين قبلوه وهم الذين يؤمنون باسمه فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله" (يو 1/ 12). وهكذا بنعمة الله ذاق المسيح الموت من أجل كل إنسان.

ح- بولس الرسول :

"وبينما هو سائر (شاول)، وقد اقترب من دمشق، وإذا نور من السماء قد سطع حوله، فسقط إلى الأرض، وسمع صوتاً يقول له: "شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟"… فنهض شاول عن الأرض وهو لا يُبصِر شيئاً، مع أن عينيه كانت منفتحتين. فاقتادوه بيده ودخلوا به دمشق فلبث ثلاثة أيام مكفوف البصر لا يأكل ولا يشرب"(أع 9/1-9 ) ثم أرسل الله حنانيا ليضع يديه عليه فيُبصر ويمتلىء من الروح القدس : " فتساقط عندئذ من عينيه مثل القشور فأبصر وقام فاعتمد ، ثم تناول طعاماً فعادت إليه قواه " ( أع 9/18) . وفي خطبة بولس في أهل أورشليم (أع 22) ينقل إليهم رواية اهتدائه والاختبار الذي عاشه وما خلص إليه فقال على لسان حنانيا: "إن إله آبائنا قد أعدّك لنفسه لتعرف مشيئته وترى البار وتسمع صوته بنفسه. فإنك ستكون شاهداً له أمام جميع الناس بما رأيت وسمعت" (22/ 14 )وفي خطبته أمام أغريبا قال بولس الرسول في هذا الاختبار: "قال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. فانهض وقم على قدميك. فإنما ظهرت لك لأجعل منك خادماً وشاهداً لهذه الرؤيا التي رأيتني فيها… سأنقذك… أرسلك… لتفتح عيونهم فيرجعوا من الظلام إلى النور، ومن سلطان الشيطان إلى الله، وينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيبهم من الميراث" (أع 26/ 15- 18).

في هذه الظلمات اختبر بولس أن المسيح جاء إلى العالم ليخلص الخاطئين، فما نال الرحمة إلا ليُظهر يسوع المسيح طول أناته فيه أولاً ويجعل منه مثلاً للذين سيؤمنون به في سبيل الحياة الأبدية. فشكر الرب يسوع الذي منحه القوة أنه عدّه ثقة" فأقامه لخدمته هو الذي كان فيما مضى مُجدفاً مُضطهِداً عنيفاً. ففاضت عليه نعمة الرب مع الإيمان والمحبة في المسيح يسوع.

3 - اختبارات من تاريخ الكنيسة :

في تاريخ الكنيسة صفحات نيّرة مشرقة ، تنقل إلينا اختبارات من سبقنا في حقل الكرازة و البشارة و الشهادة والرسالة . و إن ننس فلا ننسى دم الشهداء الذي روى أرضنا الطيبة، الشهداء الدُرّة في جبين الكنيسة ، لا ننس أغناطيوس الأنطاكي الذي طحنته أنياب الأسود ، فصار حنطة خبز الله .

من العديد سنكتفي باختبارين :

أ -  القديس كريكور المنوّر ( 239 – 326 )

ب-  القديس يوحنا الصليب (1542 - 1591 )

أ‌- القديس كريكور المنوّر:

 سنة 287 م دخل الملك درطاد إلى أرمينيا بعد انتصاره على الفرس وقبل الوصول إلى أرمينيا خيّم على ضفاف نهر كايل قرب قرية أرنيرا و أصدر الأوامر بتنظيم الاحتفالات على شرف الإلهة أناهيد. ومن بين المحتفلين كان أمين سر البلاط كريكور . وكان الملك مخلصا للآلهة الوثنية ويعادي المسيحية بينما كان كريكور وفيا للإله الواحد الحقيقي ، إله السموات والأرض . ولمّا كانت المسيحية قد تأصّلت في قلب كريكور، رفض أن يطيع الأمر الملكي بتقديم أكاليل الزهور لمذبح الإلهة والمشاركة في الطقوس الوثنية فابتدأ درب الجلجلة .

خضع كريكور إلى أهوال شتّى أنواع التعذيب ( 12 نوعا من العذابات ):

قيود وسلاسل وحرق قمامة تحت أنفة ساعات وأيام ، ضغوط على عظام ساقية وقدميه، مخالب حديدية وخل وملح وحمض النتريك على رأسه ؛ نحت الجسد حتى سالت الدماء غزيرة منه ، أشواك وثقوب وضرب بالمطارق وصب رصاص حار على جسده …وعلى الرغم من أنواع التعذيب المرير لا يزال يتنفس …

غضب الملك وأمر بنقل كريكور في الحال إلى مدينة آرداشاد في إقليم آيزاراد. ورميه في (خور فيراب) الواقعة داخل القصر الملكي .

لقد كان يُرمى المذنبون في هذه الحفرة (البئر ) وكانت من العمق بحيث يستحيل الخروج منها . ومن كان يرمى فيها سيكون الموت من نصيبه حتما . ولم يفارق كريكور الحياة ،بل بقي فيها منسيا… ولم يكن أحد يهتم بهذا السجين المرمي في الهاوية السحيقة (البئر العميقة ) التي كانت تسمى خور فيراب.

كان يستمد قوة الحياة من صبره وجَلَدِه والقوة الروحية التي تنبعث من إيمانه. وكان في ظلام سجنه يخطط لمشاريع مستقبلية بناءة, وهو على يقين بأن الظلام الدامس سينجلي وسيليه انبثاق النور الذي سيتكلل بإشراقة النص. وبقي مدة ثلاث عشرة سنة في السجن المليء بالزواحف السامة والعقارب والثعابين, تملأ حياته قوة الصلاة والإيمان.

ومن هذه البئر العميقة انبثق نور الإيمان؛ فعلى أثر استشهاد القديسة هربسميه وصديقاتها , طغت على الملك كآبة شديدة وفي رحلة للصيد اصيب بما يسمى بمرض الذئبية ، وأصاب المرض عدداً كبيراً من رجال البلاط الأرمني باستثناء أخت الملك الأميرة خسروفيتوخت. وهذه رأت رؤيا ملهمة أن كريكور هو وحده يمكن أن ينقذ الملك المريض ورجاله . وفي القلعة أنزل الامير أودا آمادون حبلا إلى الحفرة وصرخ :

"كريكور … إن كنت لا تزال حياً فلتخرج من هناك. لقد أمرنا الرب الذي تعبده بإخراجك". فوقف كريكور مشدوها ثم أمسك الحبل وهزّه بشده. أمر الأمير بسحب الحبل إلى الأعلى …كان جسده قد اسودّ اسوداد الفحم.

وابتدأت مسيرة الهداية واستمرت ستين يوما . كان يلقي كريكور في أثنائها العظات ويبشّر بتعاليم الكتاب المقدس. كان رجاؤه الوحيد إضفاء النور الإلهي على أبناء شعبه. بعد تلك الأحداث منح يسوع المسيح بقدرته الإلهية الشفاء لجميع المرضى على يد كريكور , واقتبلوا النور الإلهي، وعلى ضفاف نهر الفرات وعند انتهاء مدة الصيام وفي عيد التجلي من سنة 303 م, أجرى كريكور المعمودية الجماعية القومية لكل الشعب والجيش برئاسة الملك والملكة والأميرة, باسم الآب والابن والروح القدس. فأصبح من عاش ثلاث عشرة سنة في ظلمة البئر العميقة، منوِّر الشعب الأرمني وهادي أرمينيا إلى المسيحية.

ب‌- يوحنا الصليب :

يتميز الاختبار الروحي الذي عاشه الأب يوحنا الصليب 1542-1591 بأنه كان من الرهبان القدامى الذين لم يَرُق لهم عمله فراحوا يعارضون عمل الإصلاح منذ سنة 1575. فاتُّهِم يوحنا وسائر الكرمليين المصلحين بالثورة على قانون الرهبانية, وفي ليل 2-3 كانون الأول 1577 دهم بيته الصغير، المتاخم لدير التجسد, رهبانٌ كرمليون غير مصلحين مع بعض الجنود , واختطفوه مع رفيق له إلى دير الكرمليين القدامى ثم إلى طليطلة؛هناك أُودِع من دون محاكمة، زنزانة ضيقة ومظلمة (مثلها مثل البئر العميقة ). وبقي في سجنه ثمانية أشهر، يذيقه إخوته الرهبان ألوان الإضطهاد والحرمان والضغوط النفسية والإهانات والجلد والجوع كي يتراجع وينكر ما قام به, لكن يوحنا لم يَلُنْ بل كان يكرر أمام الجميع بوداعة وصبر، أن كل ما عمله كان بإذن الرؤساء. وفي آخر حياته، في الاجتماع العام الذي عقد في 1 حزيران 1591 ، جُرّد الأب يوحنا من جميع مسؤلياته الرهبانية، واختار دير أوبِدَا الذي يرئسه أحد الرهبان الحاقدين عليه . فأذاقه هذا الأخير إذلالاً واحتقاراً. ولكن يوحنا كان يحتمل كل شيئ بسلام وصبر لا يخلو من مرارة . وفي ليل الثالث عشر من شهر كانون الأول1591، انطفأ عند منتصف الليل هاتفاً: "سأتلو صلاة الليل في السماء ".

في سجن طليطلة بدأ الأب يوحنا كتابة " القصائد " سنة 1578. ومن هذا الاختبار، اختبار البئر العميقة والليل والظلمة كتب أروع قصائده وأناشيده الروحية ومنها الليل المظلم (1585-1586) والنشيد الروحي (1584).
يروي لنا المؤرخون أن يوحنا لما سُجِن في طليطلة وعانى ما عاناه من عذاب وإذلال ومضايقات جسمية ونفسية مرعبة صبَّ معاناته شعراً يبث فيه شكواه:

أين احتجبتَ أيا حبيبي,

وتركتني رهنَ الأنين؟

هربـتَ مهرب أيّـلِ

بعـد أن جـرحتنـي

فنهضتُ بعدك أصرخ , لكنك كنت مضيت.

هذا الاختبار الروحي الذاتي هو الدافع إلى الكتابة , معاناة طليطلة قال عنها "بعض الورع في حب الله" (النشيد الروحي مقدمة ا)، هذه المعاناة كتبتُها " نفسٌ صوّرها الحبُّ وحرّكها فأتت كلماتها تحمل نوعاً ما وَفرة الحب وفيضه " (النشيد الروحي /ب/ مقدمة)

في ظلمة زنزانة طليطلة , ويوحنـا محروم من النور ومن معاشرة البشـر , ومن الاحتفال بالقداس وتناول " خبز الحياة " استطاع بسلسلة بسيطة من المثلثات أن يكشف قوة الإيمان في أحلك الظلمات وأقسى المحن:

" يا حُسن معرفتي النبعَ الذي يتفجّر ويسيل

ولو في ظلمة الليل

في تلك الليلة الظلماء من هذي الحياة

ياحسن معرفتي النبع البارد بالإيمان،

ولو في ظلمة الليل

ليس يغشى الظلامُ قط ضياءه

وبعلمي أي نور قابسٌ منه سناءه،

ولو في ظلمة الليل" (من قصيدة النبع )

خاتمة

واليوم …عندما تحس بالوحدة وتشعر أنك فاقد الأمل , منعزل , منفرد , وكأنك في قعر الهاوية والحمْأة ؛ عندما تعيش اختبار " البئر العميقة" أنظر إلى الأعلى ، إلى فُوَّهة البئر الضيقة، ارفع عينيك ستلاحظ بدون شك أن الله سيضيء عليك بنوره . فالنور آتٍ لا محالة، ستغمرك رحمة الله. حينئذ ستعرف الله معرفة اختبارية بدايتها قعر البئر ولكنها مفتوحة للحياة الأبدي." اللهم خلصني فإن المياه قد بلغت حلقي . غرقت في موحل عميق ولا مستقر , بلغت إلى قعر المياه والسيل غمرني… صرت لإخوتي غريباً ولبني أمي أجنبياً , لأن غَيْرة بيتك أكلتني وتعييرات مصيرك وقعت عليّ … أنقذني من الوحل فلا أغرق , نجني من مبغضي ومن قعر المياه , فلا يغمرني سيل المياه ولاتبتلعني الأعماق ولا تطبق البئر عليّ فمها … أما أنا فإليك صلاتي في أوان الرضى يــا رب . فاستجب لي بكثرة رحمتك وبحق خلاصك …

لتحيى قلوبكم أيها الساعون إلى الله لأن الرب للمساكين يستمع وأسراه لم يزْدرِ , لتسبحه الأرض والسموات "

 

مراجع البحث

 

  • الكتاب المقدس ، دار المشرق

  • قاموس الكتاب المقدس

  • معجم اللاهوت الكتابي

  • فن التواصل , أنت وأنا والذات الحقيقية / الأب جان باول اليسوعي

  • رحلة في فصول الحياة / الأب جان باول اليسوعي

  • الأعمال الصغرى يوحنا الصليب / تراث الكرمل

  • القديس كريكور المنور وهدابة أرمينيا إلى المسيحية /الأب باركيف كولوميان ترجمة المهندسة هوري عزازيان

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +