Skip to Content

ما هو الإيمان - للأب ليف جيلليه




 

 

ما هو الإيمان

 

Click to view full size image

 

للأب ليف جيلليه[1]

 

سوف أتحدث معكم عن الإيمان. أنه موضوع من الصعب معالجته، أقصد من أية زاوية سوف نتحدث عنه إذ أنه من الممكن اعتبار المسائل الإيمانية مجرد مسائل عقائدية، أو سيكولوجية أو اجتماعية أو حتى قانونية.

 

إذن هناك طرق لمناقشة موضوع مثل هذا. أنا أفضل الحديث عن الإيمان الذي يخبرنا الرب عنه في الكتاب المقدس. أفضل دائمًا كما تعودت، أن استمع إلى صوت الرب عن الاستماع إلى أي صوت بشري.

إذن سوف أتوجه إلى كلمة الله لترشدنا عن طبيعة الإيمان. فكلمة الرب محيط كبير، لجة متسعة. يا ترى في أي جزء من الكتاب المقدس سنجد ما نبحث عنه؟

ففي العهد القديم نجد كلامًا رائعًا عن إيمان إبراهيم أب الآباء.

 

لعلنا نستطيع أن نقول، إنه من وجهة النظر المسيحية، أن كل إيمان حي يجب أن يتمثل بالإيمان البسيط الذي كان لإبراهيم. فقد ترك كل شيء بناء على دعوة سماوية، بأمر إلهي متنازلاً عن كل شيء فخرج وهو لا يعرف إلى أين يمضي.

 

 

لكنني أفضل البحث عن الإيمان بين صفحات العهد الجديد، فهناك رسائل بولس الرسول وبالأخص رسالته إلى أهل رومية موضوعها الرئيسي "الإيمان وسلام الإيمان".

 

 

وان كنت لا زلت أفضل أن استقي كلمات الإيمان من فم الرب يسوع نفسه فإليه أتوجه بالسؤال "ما هو الإيمان؟" توجد في الإنجيل فقرة توضح لنا فكر الرب يسوع. "الحق أقول لكم، لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا".

 

 

نحن إذن أمام شهادة من فم السيد نفسه. هنا قمة الإيمان، إيمان يشهد له يسوع نفسه "لم أجد إيمانًا بمقدار هذا" وحول هذه الفقرة من الإنجيل سوف يدور حديثي معكم يا أحبائي.

 

 

سوف أقرأ معكم أولاً نص القديس متى البشير فصل 8 أعداد 5ـ13.

 

 

{ولما دخل يسوع كفر ناحوم جاء إليه قائد مئة يطلب إليه ويقول يا سيد غلامي مطروح في البيت مفلوجًا متعذبًا جدًا.

فقال له يسوع أنا آتي وأشفيه. فأجاب قائد المئة وقال يا سيد لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي، لكن قل كلمة فقط فيبرًا غلامي، لأني أنا أيضًا إنسان تحت سلطان لي جند تحت يدي أقول لهذا أذهب فيذهب ولآخر إئتِ فيأتي ولعبدي إفعل هذا فيفعل. فلما سمع يسوع تعجب. وقال للذين يتبعون.

الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا. وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات.

وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية. هناك يكون البكاء وصرير الأسنان.

ثم قال يسوع لقائد المئة أذهب وكما آمنت ليكن لك. فبرأ غلامه في تلك الساعة}.

 

 

 

هذا النص يجب أن يوضع في مقابلة نص آخر لكي نتبين حقيقة ما يقصده الرب يسوع بالإيمان وعدم الإيمان. وهذا النص الآخر من إنجيل مرقس ص1:6ـ6.

 

 

{وخرج من هناك وجاء إلى وطنه وتبعه تلاميذه. ولما كان السبت أبتدأ يعلم في المجمع.

وكثيرون إذ سمعوا بهتوا قائلين من أين لهذا هذه. وما هذه الحكمة التي أعطيت له حتى تجري على يديه قوات مثل هذه.

أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخوته يعقوب ويوسف ويهوذا وسمعان أو ليست أخواته ههنا عندنا. فكانوا يعثرون به. فقال لهم يسوع ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وبين أقربائه وفي بيته.

ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة غير أنه وضع يديه على مرضى قليلين فشفاهم. وتعجب من عدم إيمانهم وصار يطوف القرى المحيطة يعلّم}.

 

 

في هذين النصين يخبرنا الإنجيل أن الرب يسوع تعجب من أمر ما:

 

 

فمن ناحية تعجب يسوع من قائد المئة الروماني "فلما سمع يسوع تعجب ... الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا".

 

 

ومن ناحية أخرى تعجب أمام جحود أهل الناصرة "ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة... وتعجب من عدم إيمانهم".

 

يخيل إلينا أننا أمام معضلة، فمن ناحية ها هو ضابط روماني غير يهودي (هو أممي أي وثني) أي أنه لم يكن من شعب الله المختار. ومن ناحية أخرى نجد أهل الناصرة الذين يمكن أن نسميهم متديني عصرهم، فقد كان لديهم الشريعة ـ الأنبياء ـ الطقوس ـ الهيكل ـ التراث ـ التعليم، أي كل السبل التي كان يمكن أن تكفل لهم وجود سلام بينهم وبين الله. ورغم ذلك فقد تعجب يسوع من عدم إيمانهم. وله الحق في ذلك:

 

لنتأمل الحالتين:

 

أولاً ـ أهل الناصرة: ما الذي كان ينقصهم؟. فإذا اكتشفنا ما كان ينقصهم أمكننا على الفور أن نتبين أسباب قلة الإيمان. فمثال أهل الناصرة يكشف لنا أن الإيمان ليس هو مجرد ممارسات ولا هو اقتناع عقلي محض، ولا أنماط فكرية معينة، ولا هو إتمام فرائض بعينها.

 

فهؤلاء القوم كانوا متدينين، لقد حضروا إلى المجمع لأنه كان يوم سبت. أي أنهم شاركوا في الطقوس وحصلوا على التعليم الأسبوعي. وفي ذلك السبت قُرئت الشريعة وبعض نصوص الأنبياء. كان لديهم عقيدة صحيحة بحسب اليهودية ولكن لم يكن لديهم الإيمان.

 

الإيمان لا يعني الإيمان العقلي فأهل الناصرة كانوا ينتمون إلى المجمع وإلى الهيكل كما ننتمي نحن إلى الكنيسة الأرثوذكسية، ومع ذلك فقد يحدث أن الكثيرين منا نحن أيضًا لا يكون لدينا إيمان!

 

ثانيًا ـ إذن ما هو الإيمان؟ لنرجع إلى قائد المئة فقد كان هناك ما كان ينقص أهل الناصرة الذين كان لديهم كل شيء ما عدا الأساس، ما عدا ما يعطي الإيمان معناه الحقيقي. وطبعًا لن يكون باستطاعتنا مطالبة أهل الناصرة أن يؤمنوا بأسلوب الإيمان في عصرنا: أسلوب المؤتمرات والندوات التي تبحث طبيعة الله المتجسد ونقتلها بحثًا ودراسة!

 

فأهل الناصرة لم يؤمنوا أي لم يفتحوا قلوبهم. وبالطبع فإن قائد المئة كان يعجز عن التحدث عن الفداء وعن الله المتجسد، وربما كان قد سمع عن المسيح اليهودي رغم أن يسوع لم يكن قد اُستعلن كمسيا.

 

إذن يا أحبائي سوف أعرّف الإيمان بهذا المفهوم الذي شرحته: انفتاح القلب. كيف ينفتح القلب على شخص لا نراه بالعين المجردة، ولكن إذا مثلنا بين يديه، وإذا ركعنا عند أقدامه نشعر بعظمة مطلقة تجعلنا نتأكد فعلاً أنه يستحق أن يسود على حياتنا حتى يصبح مالكًا لها، فنستسلم بهدوء وإطمئنان بين يديه. هذا هو الإيمان.

 

هذا الإيمان ليس بممارسة دينية، بل هو ثقة، هو دفعة قلب.

 

 

 

أعمدة الإيمان:

 

فلنقترب من هذا الإيمان ونتفحصه عن قرب، فهو بناء قائم على عدة أعمدة. فلنتأمل قليلاً في تلك الأعمدة:

 

نرجع إلى المثال الذي اخترناه وهو قائد المئة، نجد أن انفتاح القلب مؤسس أولاً على عمود هام ألا وهو:

 

 

 

المسكنة والاتضاع:

 

"يا سيد لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي".

هذا إعلان بعدم الاستحقاق. إذن لا يوجد إيمان صحيح بدون اتضاع ومسكنة. فالذي يؤمن بيسوع لا يشترط أن يكون مدركًا لكل أبعاد حب يسوع الواسعة، ولكنه يحس بالفعل أن الذي يؤمن به هو بطريقة ما أعظم منه كثيرًا جدًا.

وعنده ما ينقصه هو فلا يسعه إلا أن ينحني ويجثو ويشعر أنه مسكين وصغير.

 

إذن فكل إيمان ليست له جذور المسكنة والاتضاع والتصاغر عند قبولنا للرب (يا سيد لست أهلاً)، فلن يكون سوى إدّعاء. هذا هو حجر الزاوية في كل إيمان حقيقي.

 

العمود الثاني الذي يستند عليه الإيمان: هو الذي يجعل الإيمان ممارسة حقه، يجعله قوة دافعة، ويكون العقل له دخل جزئي فيها، أقول العقل وليس النظريات.

 

الإيمان ليس هو صرخة في الظلام، ليس صرخة لا ندري إلى من نوجهها. إيمان قائد المئة ربما يكون غير واضح حسب الظاهر، لأن معرفته بيسوع تكاد تكون سطحية.

ولكن إيمانه في جوهره سليم ودقيق لأنه اشتمل على ممارسة واضحة وعملية: إيمان بأن يسوع لديه إمكانية شفاء غلامه. فالإيمان بالرب لا يعني فقط انفتاح القلب، بل ممارسة لها ثمارها في حياتنا وأعمالنا وفي قراراتنا. فأن أؤمن بيسوع فهذا أمر عظيم، ولكن لابد أن استثمر هذا الإيمان فأطبقه في مواقف واضحة وملموسة لأجل بنائي الروحي، هنا فقط يتحول الإيمان إلى حدث إيجابي وإلا أصبح إيمانًا مبهمًا.

 

الإيمان ليس حدث عاطفي قد يشمل الأحاسيس، بل قوة دافعة تُدخِل الإرادة تحت طاعة يسوع لأنه ليس هناك أعظم من دخول يسوع في حياتنا وأعمالنا اليومية. ومن ناحية أخرى هناك اعتراف بقدرة الشخص الذي نؤمن به، فقاد المئة ينتظر من يسوع ما هو فوق طبيعة البشر، إذ ليس في قدرة البشر أن يشفوا إنسانًا بكلمة.

يسوع شخص رائع حقًا، فريد في عظمته، تكفي كلمة واحدة من فمه الطاهر أن تتمم الشفاء.

 

الآن نصل للعمود الثالث الذي يرتكز عليه الإيمان وهو الطاعة:

 

لنراجع قصة قائد المئة مرة أخرى ونحدد فكر قائد المئة في عمله اليومي: إنه ضابط، يأمر من هو تحت يده، وهو أيضًا ينفذ ما يصدر إليه من أوامر. لأجل ذلك فهو لا يرى ضرورة لمجيء الرب يسوع إلى بيته "لست مستحقًا أن تدخل تحت سقفي". "ولكن كلمة واحدة منك تكفي ، ولأن الأمر صادر منك أنت، فسوف يتم كل شيء. لا داعي أن تأتي بنفسك ـ قل كلمتك وكفى".

 

هنا  نجد أنفسنا أمام المعنى العبري لكلمة "إيمان". وهي كلمة مشتقة من نفس أصل كلمة "آمين".

ما الذي تعنيه كلمة آمين؟ للأسف فان هذه الكلمة فقدت معناها وحيويتها. صارت كليشيه معناه "ليكن هذا"، صارت كلمة مجردة لا معنى لها ولا تدخلنا إلى الأعماق وليست صلبة ثابتة كالصخرة، بعكس المعنى العبراني الذي يعني: هذا متفق عليه وثابت وليس محل نقاش. كلمة آمين = نعم، أو هو كذلك بالفعل ولا يمكن أن يكون أي شيء آخر. إذن كلمة "إيمان" تعني طاعة لما هو غير قابل للنقاش، تنازل إرادي لما هو ثابت ومتفق عليه، لما هو غير قابل للتغيّر.

 

لنتأمل عن قرب ما الذي يعنيه إيمان الطاعة. سبق أن أشرت أن الإيمان ليس صرخة في الظلام لسنا ندري إلى من نوجهها. إنه قوة دافعة نحو شخص لن نعرفه المعرفة الكاملة ونحن على الأرض ورغم ذلك نثق فيه، شخص يتعدانا ويفوقنا كما يتعدى اللانهائي النهاية نفسها ويفوقها.

 

والآن نصل إلى العمود الرابع للإيمان وهو: حضور الله:

 

ففي الإيمان يوجد حضور وعدم حضور: بمعنى أنه عندما يكون هناك إيمان فهذا معناه أن هناك شيء ما ناقص من ناحية المعرفة. وعلى كل فإن كل فعل إيمان يلقينا في البحر الواسع، ولكن بثقة تامة من ناحيتنا، نثق أننا لن نغرق بل سوف نصل إلى الهدف والملجأ، السلام في المخلص.

 

بين صفحات الإنجيل، نجد صيغ مختلفة حينما تكون هناك مواقف إيمان. فمثلاً عندما أقول: "أؤمن بالله" ـ فهذا معناه أن الله لا يخطئ وبالتالي فهو لن يخدعني، وعندما يتكلم أثق في كلامه حتى لو تكلم عن الأمور التي لا أستطيع أن أتحقق منها.

عبارة "أؤمن بالله" تعني توجيه أشمل وأعم: هو ارتباط كياننا ـ وإرادتنا ـ وفكرنا بالكلمة الأزلي، والإعلان الإلهي، ولا يوجد إيمان خارج ذلك الارتباط.

 

وباختصار فإن ما نتعلمه من قصة قائد المئة هو: "فقط قل كلمة" فقائد المئة يعلق حياته كلها على كلمة من كلمات يسوع (قل فقط كلمة ـ لا أطالبك بالمجيئ إلى بيتي ـ عندي ثقة تامة وكاملة بك.

أثق ان كلمتك سوف تشفي غلامي ... فقط قل كلمتك هذه).

 

هذا هو الإيمان الصحيح. إذًا استطعنا أن نجعل حياتنا متوقفة على كلمات المخلص، فإننا سوف نحيا الإيمان الأعمق.

لو كانت لنا الثقة خلال حياة الإيمان الطويلة، بأن الحل إنما يأتي من هذه الكلمة البسيطة، لأصبح لدينا ذخيرة إيمانية كالتي يصفها يسوع: "بأنه لم يجد مثلها".

يسوع الذي تعجب من عدم إيمان أهل الناصرة يمر وسطنا اليوم وينظر إلى كل واحد منا بنظرة تغوص إلى أعماق كياننا. ما الذي يراه فينا. هل يرى إيمان مماثل لإيمان قائد المئة أم عدم إيمان مشابهًا لأهل الناصرة. ما الذي يا ترى يمكن يتعجب منه: من إيماننا أو من عدم إيماننا؟!

 

X X X

 

 

 

[1]  حديث نشرته مجلة Contacts وعربه عن الفرنسية د. شريف صادق.

 






عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +