Skip to Content

مقالة "سرّ القربان: البعد الروحي و مقوماته " - الجزء الثاني- الأب مارون مبارك

كنيسة مار شربل أدونيس – عيلة مار شربل

مع الأب مارون مبارك

  المرسل اللبناني

 

الموضوع: "سرّ القربان: البعد الروحي ومقوماته"   (الجزء الثاني)

 

      لقد تحدّثنا في لقائنا الأخير عن "القربان"، بحسب معطيات الكتاب المقدّس، وتوقفنا عند بعض العبارات والإعتبارات المفيدة حتى نؤسس مفهومنا للقربان على ضوء الكتاب المقدّس.

        نعود اليوم لنكمل سلسلة تأملاتنا حول "سرّ القربان"، لنغوص أكثر فأكثر في اقترابنا من "الشركة الثالوثيّة" عن طريق الاشتراك الفعلي في تناول جسد الربّ ودمه عربون حياتنا الأبديّة. فحياة الأبد، هي أن نعرف أن الربّ الإله، الآب، هو الذي أرسل يسوع لخلاصنا وفدائنا. وفي نوعيّة عيشنا مع يسوع، مرسَل الآب الخلاصي، ومحقق عمليّة فدائنا، ومترئّس رحلتنا إلى الملكوت، نستطيع أن نعدّ دخولنا في الحياة الأبديّة. لذلك عندما نقول "روحانية القربان" فهذا يعني أن نعيش علاقتنا بهذا السرّ الذي من خلاله نصل إلى تحقيق علاقة سليمة وفعالة مع الربّ يسوع نفسه. وانطلاقاً من هذه العلاقة نصل إلى عيش هذه الروحانية وتحقيقها بروحٍ نعيشه، بروحٍ يدفعنا إلى مسيرة حياتنا الجديدة.

عندما نقول مسيرة هذا يعني أننا نعيش فسحتين: فسحة بُعد عن حياتنا القديمة الزائلة، ابتعاد، توارٍ، تقدّم يجعلنا نتركها ونتخلّى عنها. وفسحة ثانية هي المسافة التي تفصلنا عن هدفنا الذي نرمي إليه. بمعنى أننا لم نحقق بعد وصولنا إلى الهدف. وهذا يقتضي منّا سعياً أكبر ومثابرة أطول. هذا هو مفهومنا لروحانية القربان. أي أننا عشنا تقدّماً ولا يزال عندنا ما نعمله ليزيد تقدّمنا في وحدتنا مع الربّ.

 

لهذا سوف نتوقف عند النقاط التالية:

 

                1-     الروحانيّة القربانيّة:

        منذ عشرين قرناً والمسيحيون، من كلّ صوب ومدى، يحتفلون، على تنوّع طقوسهم وعاداتهم، بما ائتمن يسوع رسله عليه في عشائه الأخير معهم، ألا وهوَ الأمر الذي أصدره أن "اصنعوا هذا لذكري". فباحتفالهم بهذا العمل الطقسي، يعتقد المسيحيون، وبكل قواهم، أنّهم يلتزمون بملء إيمانهم. منذ عشرين قرناً والمسيحيون يحتفلون ولا يزالون، بالإفخارستيا، ويفتشون على فهم معناها بدون أن يصلوا إلى القمّة بعد. فعطيّة يسوع لها غناها الذي  يصل إلى درجة عدم التمكّن من احتوائه كلّه وتحصيل محتواه وتفريغه. وليس هناك حتى تسمية واحدة قادرة أن تستوعب كل المعنى. فالإفخارستيا بمضمونها هي اكثر من وليمة، أو تذكار، أو ذبيحة أو قدّاس. يسوع نفسه لم يُعطِ هذا العمل اسماً. لا بل عبَّر عنه بمجموعة حركات أتبعها بكلمات. وكانت حركاته بسيطة جدّاً لدرجة أن تلميذي عماوس عرفاه عندها أي "عند كسر الخبز". ويسوع نفسه أيضاً، تبنّى هذه العلامة، فجعل منها رمزاً لحضوره وتضحيته حيث قال: "أنا الخبز النازل من السماء، مَن يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد" (يوحنا 6/ 5).

        لقد أعلن قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن رغبة قويّة في أن تكون السنة اليوبيليّة، سنة2000، سنة "إفخارستيا مكثفة"، ولقد عقد مؤتمراً قربانياً عالمياً في قلب هذه السنة، أي تماماً في وسطها ما بين 18 و 25 حزيران تحت عنوان "يسوع المسيح مخلّص العالم الوحيد، خبز الحياة الجديدة". أراد قداسته أن يُظهر للملأ قدسيّة "السرّ الإفخارستي" وفعاليته في تقديس النفوس المؤمنة. فالعالم في عصرنا اليوم، يحتاج اكثر من أي وقت مضى، أن يعرف أنّ يسوع هو مخلّصه الوحيد. العالم الجائع اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى أن يعرف أن الخبز الوحيد القادر على سدّ جوعه وإشباعه، هو الخبز النازل من السماء والذي يعطي حياة جديدة. كل احتفال بالإفخارستيا يوحي إلى فجر قيامة جديدة، ويعلن عن القبر المفتوح والفارغ الذي صار مهد الإنسانيّة الجديدة. الإفخارستيا هي خبز يؤدي إلى جوع، بمعنى آخر إنّه خبز يشبع وبالوقت نفسه يخلق جوعاً إلى الله، فهو يُعطي طعمة حياة جديدة وهي حياة الله فينا، أي "حياة روحيّة"، كلّما شبعنا منها، عدنا إلى الجوع لها لأنّها لذيذة ومحيية.

        كتبَ الفيلسوف الفرنسي غبريال مارسيل: "أن تحبّ أحداً، هذا يعني أن تقول له : "أنتَ لن تموتَ أبداً". وعندما أسس يسوع لنا سرّ القربان كان يقول لكل واحد منّا : "كن فرحاً، اسعد قي قلب الإفخارستيا، فأنتَ لن تموتَ أبداً، لا بل أكثر من هذا كلّه، سينفتح أمامك عالم جديد، إنّه ملكوت السماوات، وهو قريب، إنّه هنا.

 

                2-     الإفخارستيا وسرّ التجسّد:

        للتواصل بين سرّ الإفخارستيا وسرّ التجسّد وللتسلسل بينهما معنى كبير. إنّهما العلاقة الفعّالة لحضور المسيح الحيّ والفاعل في قلب كنيسته ووسطها. فالقربان يتابع التجسّد، يكمله أي يتواصل معه. في رسالته "سرّ التجسد"، التي بها أطلق سنة اليوبيل الكبير، يقول قداسة البابا يوحنا بولس الثاني: "منذ ألفَي سنة والكنيسة هي المهد والمذود حيث وضعت مريم يسوع وقدّمته للعبادة والتأمل لكل الشعوب. من تواضع العروس يسطع أكثر فأكثر مجد القربان وقوته، به تحتفل الكنيسة وتحفظه في قلبها. ففي علامتي الخبز والخمر المكرّستين، يسوع المسيح القائم من الموت والممجّد، نور العالم (لوقا 2/ 32) يوحي بتسلسل تجسّده ومتابعته. يبقى حيّاً وحقيقةً بيننا، في وسطنا لكي يُطعِم المؤمنين بواسطة جسده ودمه" (عدد 11).

 

                3-     الطابع القرباني لعيشنا:

        إذا دخلنا في ذهنية "الروحانية القربانيّة" أي دخول القربان بمعانيه ومفاعيله الحيويّة في حياتنا الروحيّة الشخصيّة، فإننا نجده مرتبطاً بالفضائل الإلهية الثلاث أي الإيمان والرجاء والمحبّة، ارتباطاً يدفعنا إلى العيش.

 

        أ-      ارتباطه بالإيمان:

        الإيمان بالإفخارستيا ليس إيماناً عابراً من الدرجة الثانية، بل هو من الدرجة الأولى وهو أساسي بالنسبة إلى الوحي المسيحي لأنّه يفترض الإيمان بالتجسّد الخلاصي والإيمان بالكنيسة. ويسوع بنفسه وضع نقطة الأهميّة على هذا الموضوع عندما أعلن للمرّة الأولى عن الإفخارستيا وذلك في حادثة تكثير الأرغفة الخمس والسمكتين. ومن بعدها أعلن أنّه لم يأت إلى العالم ليملأه بالخبز الماديّ، إنّما جاء بحق بين الناس مثل "الخبز النازل من السماء" (يوحنا 6/ 43-53) وهو يحمل هذا الخبز للناس. وأثناء حديثه الطويل مع اليهود في مجلس كفرناحوم شدّد على نيّته في أن يُعطي جسده مأكلاً ودمه مشرباً لكنّه اصطدم برفض الناس الذين سمعوه وقالوا "من يطيق سماع هذا الكلام". ويسوع نظر عند ذلك إلى تلاميذه وسألهم إذا ما كانوا هم أيضاً يرفضون هذا الكلام وكأنّه يطلب منهم القبول بالإيمان عرضه هذا، وكان مستعدّاً أن يرسلهم بعيداً عنه إذا ما هم أيضاً لم يؤمنوا بالإفخارستيا التي أعلنها مباشرة. من هنا نفهم أنه من المستحيل اتباع يسوع بدون الإيمان بالقربان. وهذا ما جاء وأكّده في جوابه بطرس "إلى مَن نذهب وعندكَ كلام الحياة الأبديّة، نحن آمنّا وعرفنا". إذاً الإيمان المسيحي هو إيمان قرباني. وهكذا الرسل حصلوا في العشاء السرّي على هذا الخبز وهذا الدم جسداً ودماً جديدين. وفي كل قداس، عندما يرفع الكاهن الخبز والخمر، يوجه لنا يسوع الدعوة نفسها أي أن نؤمن به، بوجوده في هذا الخبز والخمرة التي تحوّلت إلى جسده ودمه الخلاصيين. فالإيمان هنا ينفصل عن الوقائع الملموسة حتى يتعلّق الإنسان مباشرة وبشكل مترفّع بشخص يسوع. وهذا ما قاله يسوع جواباً على شكّ توما بعد القيامة: "طوبى للذين آمنوا ولم يروا" (يوحنا 20). وهذا الإيمان يؤدّي إلى الفرح، فرح الوصول إلى الحقّ بدون لمس الوقائع. هذا هو سرّ الإيمان.

 

        ب)     ارتباطه بالمحبّة:

        كما أنّ القربان مرتبط بالإيمان كذلك نعيشه بالمحبّة. ونحن نعلم أنّ المحبّة هي التي تحرّك الإيمان وتدفعه. ونعلم أيضاً أن يسوع حين تكلّم مع الناس في حياته العلنيّة عن الإيمان حدّثهم أيضاً عن أولى الوصايا ومختصر الشريعة كلّها وهي المحبّة "أحبب الربّ إلهك بكل قلبك ونفسك وأحبب القريب مثل نفسك". (تثنية 6/ 5 و مرقس12/ 30). وبالقربان نجد هذه المحبّة متجسّدة. إذ يقدّم يسوع نفسه في هذا الخبز وهو يطلب أن نقبله بكل حبّ، ليس فقط طعاماً جسديّاً بل هو غذاء روحيّ نتقبّله بكل حبّ، نحبّه بكل قلبنا ونفسنا وروحنا وبكلّ قوتنا. فيسوع يحبّنا ويأتي إلينا ونحن نحبّه ونقبله عندنا وفينا. ويسوع عندما علّم عن مختصر الشريعة ربط حبّ الله بحبّ القريب وأعطانا مثل السامريّ الصالح ليقول لنا أننا مدعوون أن نكون أقرباء من الكل.

        أمّا في العشاء السرّي فلقد أعطى وصيّة المحبّة أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم، وكذلك ربط هذه المحبّة بالتواضع والخدمة حين غسل أرجلهم. فالقربان إذاً "يعطي للإنسان قوّة يسوع، ليس فقط لكي يتخطّى الصعوبات ويتلافى آفات الكبرياء والأنانية التي تؤكّد الخصومات والانشقاقات بين الناس، إنّما القربان يدفع بحبّ الإنسان الذي اكتسبه من يسوع إلى العطاء الكامل حتى تقدمة الذات ذبيحة مثل يسوع الذي قدّم ذاته، إنّها الدرجة العليا من الحبّ. فالقربان يزرع فينا يسوع بكل حبّه ويجعلنا قادرين على المواجهة والجهاد للحفاظ على مسيرتنا البنويّة لله وتخطّي كلّ الصعوبات التي تعترض مسيرتنا هذه. تقول القديسة تريزا الطفل يسوع لتعبّر في أشعارها عن قدرة المحبّة التي تظهر في الإفخارستيا وهي فيها:

        يا يسوع، يا كرمتي المقدّسة. أنتَ تعلم جيداً، يا ملكي الإلهي، أنني عنقود ذهبي ويحب أن أختفي لأجلكَ.                 في قلب الألم سوف أجدكَ يا حبّي الأبدي. لا أريد شيئاً هنا إلاّ أن أُذبحَ كلّ يوم".

 

        ح-     ارتباطه بالرجاء:

        بالقربان نجد أيضاً بُعد الرجاء إن للحياة المسيحيّة وإن في حياة الأفراد بشكل خاص. وأكبر تعبير عن الرجاء يعني الشوق والتوق إلى السعادة السماويّة نسمعه من يسوع نفسه حين قال "من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبديّة وأنا أقيمه في اليوم الأخير" (يوحنا 6/ 54). إذاً من يأكل القربان تدخل فيه حياة يسوع الأبديّة وهذا هو ضمانة القيامة في الحياة الثانية. وأكثر من ذلك، القربان يعلن مستقبل البشريّة جمعاء وقدرها كلّه وهذا ما يؤكّده مار بولس في 1 كورنتس 11/ 26 "كلّما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تعلنون موت الرب إلى أن يرجع". فالقربان يساعدنا للثبات حتى المجيء الثاني للربّ. هذا هو معنى الإفخارستيا المتعلّق بالحياة الثانية وهي تدعمنا في حياتنا هنا على الأرض لتضمن لنا الحياة الباقية بعد هذه الفانية ويقول القديس إغناطيوس أسقف إنطاكية عندما كتب لأجل أفسس إن الإفخارستيا أو القربان "هو دواء عدم الموت، عربون كي لا نموت إنما أن نحيا في يسوع المسيح إلى الأبد". فالقربان يعلن لنا مميزات الحياة الأبديّة ويؤكّدها لنا؛ يدفع المؤمنين إلى الرجاء ويحقق هذا الرجاء؛ وهو يجعل يسوع حاضراً بشكل ملموس داخل الكنيسة في مسيرتها نحو الملكوت؛ يعضد كل من يحمل بشارة الكلمة؛ يوجه كل مستقبل الكنيسة نحو هدفه وقمّته أي نحو مجيء يسوع بالمجد وعندما يقوم الموتى كلّهم ويتم الحساب الأخير؛ هذا ما نسمّيه أن القربان يقودنا جميعاً نحو الرجاء الذي لا يخيب (روما 5/5)، لأن هذا الرجاء مرتبط بحبّ يسوع وبقدرته اللذين يزرعهما فينا بروحه القدوس.

 

        الختام:

        فكلمة إفخارستيا هي من أصل يوناني وتعني "الشكر" "عرفان الجميل". بها رفع يسوع الشكر للآب على كلّ عطاياه وبها نحن أيضاً نرفع الشكر مع يسوع للآب ونرفع الشكر للربّ يسوع على كل النعم التي ملأ بها حياتنا لنفعّلها في سبيل قداستنا وخير الناس من حولنا.

 

        السؤال:                "القربان هو غذاؤنا الروحيّ"، اشرح هذا القول انطلاقاً من عيشك اليوميّ؟

                        "القربان هو نبع الوحدة والشراكة"، كيف نحققها في حياتنا اليوميّة، في الكنيسة والمجتمع؟

 

                                                                                        آمين



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +