Skip to Content

المناولات المتواترة ما لها وما عليها - الأرشمندريت توما بيطار

 

 المناولات المتواترة ما لها وما عليها

 

 Click to view full size image

      درجت خلال السنوات الثلاثين الفائتة عندنا المناولات بتواتر. قبل ذلك كانت المناولات عزيزة. الناس يتناولون في المناسبات الكبرى، مرّة إلى أربع مرّات في السنة.

وبين الأتقياء لا مناولة إلاّ بعد اعتراف وصوم كامل حتى إلى ثلاثة أيام. الكأس المقدّسة كانت بعيدة عن المؤمنين والمؤمنون بعيدون عن الكأس المقدّسة.      

غربة الكأس عن الناس جعلتها في نظر المغالين أقدس من أن يَقرُبها العاديون، لأنّهم خطأة (!) ولدى البعض الآخر غير ضرورية، مجرّد بند زائد يُستغنى عنه من بنود القدّاس الإلهي وعملياً ساقط.      

بركة "البروتي"، أي ما يفضل من القرابين المستعملة لإعداد الذبيحة كانت، في نظر هؤلاء، كافية. فلا عجب إذا ما سرت العادة أن يُوزَّع "البروتي" في كنائس الرعايا قبل عرض الكأس:

"بخوف الله وإيمان ومحبّة تقدّموا".

الإنحطاط في تعاطي الكأس المقدّسة في وجدان قوم بلغ حدّاً كان بعض الكهنة معه لا يجد لزوماً أن يعدّ الذبيحة على الإطلاق. مرّة خرج كاهن بالكأس فتقدّم أحدهم يودّ مساهمة القدسات فقلب الكاهن الكأس ليقول له أن ليس فيه شيء. طبعاً كان هذا منتهى الجهل والإنحطاط في إطار الواقع الكنسي المعيش يومذاك.

ثمّ إثر أخذ المعرفة التراثية في الشيوع أخذ العارفون الجدد يضغطون، هنا وثمّة، ويطالبون. ردّدوا قولة القدّيس باسيليوس الكبير وسواه أنّه كان يساهم القدسات أربع مرّات في الأسبوع.      

بعض هؤلاء العارفين ما لبث أن شقّ طريقه إلى الكهنوت فأخذت الأمور تتغيّر. والتغيير زاد إثر بلوغ منفتحين يعلَمون سدّةَ الأسقفية. على هذا أخذ الحال يتغيّر حتى بتنا نشهد إقبالاً على القدسات عارماً. بعض المؤمنين أنصفهم التدبير الجديد ولا شكّ لأنّهم كانوا أتقياء مستنيرين.      

ولكن، أكان ما جرى، على الصعيد الجماهيري، دليل عافية؟ دليل نهضة؟ هذا ما يظنّه العديدون. لكن استباحة القدسات ولو بدت علاجاً لممارسة شذّت، وطويلاً، إلاّ أنّها كانت مجتزأة وتالياً مشوِّهة. القدسات لا تُتعاطى في ذاتها بل في ارتباطها بحالة إيمانية محدّدة:      

العلاقة بالله والإخوة. أولاً الكأس الواحدة علامة اشتراك المؤمنين في الإيمان الواحد المسلَّم مرّة للقدّيسين.      

ثانياً الكأس الواحدة دخول في سرّ الله ميسّر لمن يتعاطون حفظ الوصيّة من صوم وصلاة وتوبة واعتراف وسلوك في الفضيلة.      

وثالثاً الكأس الواحدة صَهرٌ، في حياة الله، لمن يدخلون في سرّ الإخوة، أي في سرّ المحبّة إذ يكون كل شيء بينهم مشتركاً.    

ما أحدثته الممارسة الراهنة أنّها قصَرت الهمّ بالأكثر على الشكل الخارجي لسرّ الله والإخوة فدهرنته، أي جعلته من بنات هذا الدهر. ماذا يعني ذلك؟ لقد بتنا نتعاطى القدسات كمعطى وثني أي كمعطى أهوائي، نُسقط عليها المعاني التي توحي لنا بها أهواؤنا. هذا فسح في المجال واسعاً للمناولات النفسانية والاجتماعية التي لا محتوى روحياً أصيلاً لها. كيف نعرف أنّه لا محتوى روحياً لها؟

من ثمار أصحابها! السيرة الروحية النقيّة تكون نقيّة في مستوى القصد العميق، رغم مرور أصحابها بحالات الضعف، لكنّها لا تقبل الخلطة حيث لا شركة في الإرادة لديها بين النور والظلمة، بين الله وبليعال.      

فحين لا ترى تمسّكاً بالإيمان القويم ولا غيرة على سيرة القداسة ولا وحدة قلب ويد بين المؤمنين ولا غيرة على خلاص مَن هم في الخارج، فمعنى ذلك أنّك لست على أرض كنيسة المسيح. وهذا، بعامة حاصل. كل هذا يأتي بنا إلى حالة من الفراغ الروحي، من الغربة الروحية، من تعاطي الإلهيات بروح العالم، من الوثنية الجديدة.

إذا كنا قد خرجنا من الممارسة الإنحطاطية التي غرّبت المؤمنين عن الكأس المشتركة طويلاً فقد دخلنا اليوم، بكل أسف، في ممارسة أشد انحطاطاً تُغرِّبنا عن روحية الكأس المشتركة رغم تعاطينا هذه الكأس. وفي ذلك كذب وتمظهر إبليسي. لا شكّ أننا بتنا في مأزق لاهوتي قانوني رعائي.

لا يمكننا العودة إلى الوراء ووضعنا الراهن أقسى من أن نحيط به، وأصعب من أن يكون في طاقتنا تقويمه إلاّ لماماً، هنا وثمّة، لا سيما والإحساس باستقامة المسرى آخذ في التضاؤل رغم مظاهر العمران والنشاط الإجتماعي في بعض الرعايا وازدياد حجم التأليف والترجمة والنشر. الوجدان الأرثوذكسي، بعامة، في أزمة تآكل.

لقد باتت كيفية تعاطينا الكأس المقدّسة مؤشّراً على جمّ من الأمراض الكنسية التي أصابت وتُصيب جسم المؤمنين اليوم. ما العمل؟ كيف نستعيد سلامة المسير؟ هذا لا يُرتجَل ولا يُختزل.      

المسألة، في كل حال، مسألة توبة على غرار توبة نينوى. أول الغيث أن نعود إلى ذواتنا في خط القول المزموري: "طالت غربتي على نفسي. سالمت مبغضي السلام. ولمّا كلّمتهم به ناهضوني بلا سبب"! المهم ألاّ يفضي التغاضي عن التماس الحقّ الإنجيلي إلى عنادٍ في الشطط، إذاً لمات الحسّ وانتفت التوبة. الانفتاح على الحقّ، تحسّس الحقّ شرط. إذ ذاك يقولون: "تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم"!

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +