Skip to Content

الزُهد - الأب بسّام آشجي




الزُهد

Click to view full size image 

الأب بسّام آشجي

الزُهْدُ هو وجهٌ لعيش الفقر الروحي الإنجيلي. هو عدم الرغبة في التملّك من أجل الله. هو أن نقول لله: كل شيءٍ لا قيمة له أمام حضورك، لأنك أنت الثمين، أنت الكنز، من أجلك نتخلّى عن كل شيء.. ليس لأنّ الأشياء سيئة بحدّ ذاتها، ولا لأن التملّك شرّ، ولكنَّ الزاهد هو من أراد أن يقول: "الله وحده يكفي".

الزهد هو التحرّر من كل ما يُعيق النموّ في الحياة بالله، شيئاً كان أم شخصاً أم الذات نفسها. وهو تالياً، لا يخصُّ النساك والمتصوفين وحسب، وإن كانوا هم السبّاقين في السعي إليه، بل إنه موقف داخلي إنجيلي يدعو كلّ مسيحي التحلي به متشبّهاً بالله نفسه.

زُهْد الله في خلق الإنسان!..

الله فقيرٌ.. زاهِدٌ.. غريبٌ عن التملّك.. "ليس لله أيّ شيء، لأنه كل شيء، فالذي هو كلّ شيء لا شيء له"..

إن الله منذ أن خلق الإنسان زَهِدَ بجميع ما خلق لصالح الإنسان، افتقر من أجل من ميّزه عن الخليقة بإبداعه له على صورته ومثاله. الله لا شيء له، لأن كيفية وجوده هي في العطاء الكامل، في فرح "إخلاء الذات".

الله بخلقه الإنسان يفتقر بوجهين: الأول في فعل خلق الإنسان بحدّ ذاته، عندما يخلقه حرّاً على صورته ومثاله، أي يهبه كيانه. والثاني، عندما يُقدّم له الخليقةَ بأسرها هدّية مجانيّة: "تسلّط على سمك البحر وطير السماء.. انموا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها"..

يميّز الآباء القديسون في هذه القراءة بين "الصورة" و"المثال"، فيقول باسيليوس الكبير (القرن الرابع): "نحن قد نلنا الصورة بالخلق، ولكننا نحصل على المثال بالإرادة.. بإرادتنا نتشبّه بالله، نصبح مثاله"..

هل يعني أننا مدعوون إلى التشبّه بالله في زهده؟!.. كيف يمكن للإنسان أن يختبر الزهد تشبّهاً بالله؟!.. كيف يمكن أن يكون لا شيء له، لأنه كل شيء؟.. أن يكون "فقيراً وهو يغني كثيرين" (2كور6/10)؟!..

يقول أوريجانس المغبوط (القرن الثالث): "لقد اقتبل الإنسان في خلقه الأول كرامة الصورة، لكنَّ كمال المثال محفوظ للنهاية. أي أنه ينبغي على الإنسان أن يكتسبه بنفسه، بجهوده الخاصة التي يبذلها كي يتمثّل بالله".

ويقول إكلمنضس الإسكندري (القرن الثالث): "الإنسان يصير صورة الله.. الإنسان يؤازر الله في صيرورة الإنسان"..

أما إيرناوس أسقف ليون (القرن الثاني) فيقول: "إن تجلي مجد الله هو الإنسان الممتلئ بالحياة"، و"الامتلاء" من الحياة لا يتحقّق إلا بالتشبّه بالله في "إخلاء الذات" والنموّ في هذا التشبّه، وهذا النمو يستغرق حياة الإنسان كلّها إلى أن يستقرّ نهائياً في الله. الله لا يغتني إلا بالإنسان.. والإنسان أيضاً، لا يغتني إلا بالله. من هنا ضرورة تلازم الزُهدَين وإلا صار خلق الإنسان كارثة، وزهد الإنسان مرضاً.

زُهْد الله في شخص يسوع..

لقد كشف الله عن زهده، بشكل كامل ونموذجي، في شخص يسوع المسيح، آدم الجديد. يقول حبيب بن خدمة أبو رائطة التكريتي (825م)، وهو لاهوتي عربي: "إن قالوا: وما الذي دعا الله (سبحانه) إلى أن يتجسّد ويصير إنساناً؟.. يقال لهم: إن الذي دعاه (سبحانه) في البدء إلى أن يخلق آدم وذريته من التراب، بعد أن لم يكن شيئاً، فنفخ فيه من روحه ، ومن مَلَكَة تصرف فعاله، وجلب إليه جميع حالاته، وخوّله ما في البحر والبر والهواء، وأمره بمنافعه ونهاه وحذّره مضارّه، وأسكنه جنّته، وأوعده ملكوته، هو الذي دعاه إلى التجسد والتأنس، التماساً بذلك إنقاذه وذرّيته، وتخليصهم من ضلالة تسلّطت عليهم بتضعُّفهم أنفسهم بطول أُلفَتهم بها، وإنهاضهم من صرعتهم، وردهم إلى مرتبتهم الأولى. فإن قالوا: وما الذي دعاه إلى أن يخلق آدم وذريته؟

يقال لهم: الذي دعاه إلى ذلك صلاحه وتفضله!.. فالذي دعاه إلى أن يتطأطأ إلى ما ليس بموجود، لا عبثاً ولا غرضاً، فيصيّره شيئاً ذا قدر وخطر، هو دعاه إلى أن يجدّد خلْقَتَهُ لما أخْلَقَتْهُ الخطيئة، وأعاد بريّته إلى حالها الأولى، كسابق علمه (له الحمد لم يزَل!) "

 إن التجّسد، كما في خلق الإنسان، يكشف زهد الله. لم يولد يسوع كما يولد الملوك، ولم تكن حياته في الناصرة كحياة العظماء، ولم يكن لديه، في حياته العلنية، "موضع يسند إليه رأسه" (مت 8/20).. يبلغ إلى الصليب، وكنزه الوحيد هو ذاته، وذاته ليست سوى انتماؤه إلى الله أبيه.. وعندما قام من بين الأموات لم يظهر لعظماءٍ يعوّضون له ما تخلّى عنه، بل كعادته يخلي ذاته لكي يتلقاها مجدّداً من الله أبيه.

لذلك نجد بولس الرسول يجد في فعل "زهد يسوع" برنامجاً للتشبّه به: "ليكن فيكم ما هو في المسيح يسوع، فمع أنه في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمةً. بل أخلى ذاته آخذا صورة عبد وصار على مثال البشر. وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب. لذلك رفعه الله إلى العُلى، ووهب له الاسم الذي يفوق جميع الأسماء، كيما تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة في السموات وفي الأرض وتحت الأرض، ويشهد كلّ لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب" (فيل 2/5-11)..

فقراء الروح زهّاد من أجل الله:

من هم فقراء الروح.. الزهّاد من أجل الله؟

عمّن أتكلّم؟.. عن القديسين أم عن المتصوفين؟.. عن مريم أم عن يوحنا المعمدان؟ عن يوحنا الذهبي الفم أم عن أفرام السرياني أم عن سمعان العمودي؟ عن فرنسيس الأسيزي أم عن تيريزيا الطفل يسوع أم عن جرجي بيطار أم عن الأم تيريزا ؟

أيُّ زهد عاشته مريم في بشارة الملاك لها عندما قالت: "ها أنا أمة للرب، فليكن لي كقولك" (لو 1/37)؟.. الزهد هنا هو قفزة في المجهول، ضمانته الوحيدة هي شخص الله الذي يرافق ويرعى، وبرنامجه الأكيد هو كلمة الله: "ليكن لي كقولك". أي زهد صمتت مريم عنده في حياة يسوع في الناصرة؟.. أليس هو ابن الله، لماذا لم يفعل شيئاً طيلة ثلاثين سنة، سوى انه، وفي مراهقته، احتج على أبويه لما افتقداه في الهيكل. أي زهد عاشته مريم من تعاليم يسوع خصوصاً لما كان ينتقد كبار عصره (لو6/24)..

وأمام معجزاته (لو4/22).. وأمام تصرفاته ومواقفه (لو8/19-21)، وهي التي ولدته وربّته وعرفته عن قرب. أي زهد عصر قلبها حين اخترقه سيفٌ قويٌ لما ارتفع ابنها على الصليب بعد أيام من دخوله المدينة المقدسة دخول الفاتحين..

الصمت زهد!.. تسليم الذات زهد!.. الصليب زهد!.. والشجاعة أيضاً زهد!.. لقد كان يوحنا المعمدان قويّاً لأنه كان زاهداً، كذلك كان إيليا والأنبياء.. لا يمكن للقويّ أن يكون قوياً بالحق، إلا إذا كان زاهداً!.. لأن الزاهد لا شيء عنده يخاف عليه سوى الحق. سئل أحد الزهاد: ماذا تريد من زهدك؟ أجاب: لا أريد إلا الله!.. هكذا كان كبار القديسين..

كان بولس يعيش في الضيق كما في البحبوحة (فيل 4/12). ويخسر كل شيءٍ ليربح المسيح (فيل 3/8) ولا شيء يفصله عن محبة المسيح (رو 8/35)..

الطفولة الروحية أيضاً وجه من وجوه الزهد، تقول تيريزيا الطفل يسوع: "لستُ في حاجةٍ لأن أكبر، بل بالعكس، لابدَّ لي من أن أظلّ صغيرة، وصغيرة جداً، وأن أصغر أكثر فأكثر.. سوف أبقى أبداً طفلةً، ابنة سنتين أمامه تعالى كي يضاعف اهتمامه بي.. فالطفل يرتضي بصغره وضعفه، ويقبل أن يكون بحاجة إلى المعونة.. سأتوكَّل على الله أبي في كلِّ شيء، وأطلب إليه كلَّ شيء، وأرجو منه كلَّ شيء. سأترك له الماضي مع ما فيه من المتاعب والمآثم ليغفرها.. وسأقبل الحاضر والمستقبل منه مسبقاً كما تشاء يده الحنون أن تنسجها لي.. سوف أبقى أبداً طفلةً أمامه، وأحاول دوماً أن أرتفع إليه بالرغم من ضعفي ووهَني.. الطفل الصغير يستطيع المرور بكلِّ مكان لصغره.. إن أصغر لحظة حب خالص، لأكثر فائدة لها ، من جميع ما عداها من نشاطات مجتمعة.."

 الزواج زهدٌ عندما يكون عبوراً مستمّراً من الأنانيّة إلى الآخرية، وكذلك يكون الحب!.. يقول فاريون: "إن فقر الروح هو في صميم المحبة. (والمحبة هي مختصر وملء تعليم يسوع)، فالمحبة بدون الفقر ليست بشيء (وهذا غير مفهوم إن لم تختبروه).. وبالتالي ترك الحرية للآخر فينا، وبذات الوقت هو حاجتنا للآخر. وبتعبير بسيط هو أن نقول للآخر: "إني أثق بك"، وهذا هو معنى الإيمان. ونقول له أيضاً: "إني أعهد إليك بسعادتي"، وهذا هو معنى الرجاء. فإن استند الفقير إلى الإيمان والرجاء، عاش في المحبة.. وأصبح محرّراً من العقبات. إن تطويبة الفقر تسود الإنجيل كلّه. فلو لم يكن الله نفسه فقيراً، أي غريباً عن التملّك على الإطلاق، لكانت تطويبة الفقر غير معقولة.

 مشاركة الآخرين وجهٌ من وجوه الزهد.. يقول هرماس (القرن الثاني): "لا تتناول في يوم صيامك، سوى خبز وماء. ثم احسب مبلغ ما كنت أنفقته في ذلك اليوم على قوتك، وأعطه أرملةً أو يتيماً أو معوزاً. هكذا تحرم نفسك كي يستفيد آخر من حرمانك ليشبع ويسأل الرب من أجلك"..

الزهد مشاركة، وإبداعٌ من أجل الآخر.. ولد جرجي بيطار في دمشق سنة 1840، وذاع صيته في العشرين من عمره. فقد ابتكر المهنة الدمشقية المعروفة، وهي تطعيم الخشب بالفسيفساء. لم يكن هدفه من ذلك الشهرة، أو الفن، بل تجميع الفقراء والعاطلين عن العمل حول مهنة شريفة سبقه إليها يسوع النجار. أحب الفقراء بجدية وهمّة.

لبّى جرجي دعوة الحياة المشتركة، فتزوّج، وأسّس "كنيسة بيتية"، حسب تعبير يوحنا الذهبي الفم في الزواج، وها هي شهادة أحد أبناءه عن هذه الكنيسة البيتية: ".. أما أحاديثه معنا، فكان أهم مواضيعها الفقراء، ومحبة الفقراء، حتى أصبحت تراثاً انتقل إلينا وإلى أولادنا..".

أصبح بيته مضافة للغرباء، ومأوى للمحرومين ومشفى للمرضى. يعمل بيده في تعليم المهنة والتطبيب والرعاية. وكان كل يوم يدعو من في البيت إلى صلوات الصباح والمساء البيتية، دون أن يبخل على نفسه وعلى ذويه في المشاركة اليومية بالافخارستيا. يسميه أهل قريتي معرّة ومعرونة الدمشقيتين بـ"الإشبين" لأنّ البطريرك لمّا عيّنه وكيلاً للأوقاف فيهما، حمل معظم أطفال هاتين القريتين في رتبة العماد، لكي يتكفل أبوّتهم الروحية في تنشئتهم وذويهم روحياً ومعنوياً ومادياً.

 لم تكن زوجته أقل زهدٍ منه. فلم يكفِها الاهتمام بضيوف زوجها، وقد أصبحوا أهل البيت، بل دأبت هي الأخرى على الاهتمام بالفتيات والنساء، خصوصاً مَنْ مرضن، أو شردن، أو ابتلين بوهن الجسد أو الروح. ولقد شهد هذا البيت الكنيسة خلاص الكثيرات، فأصبحن أيضاً من أهل البيت.

لكلٍّ طريقته في الزهد، أما الزهد من أجل الفقراء فهو دعوة للكل!..

"نحن الذين يحيط بهم هذا الجمّ الغفير من الشهود، فلنلقِ عنا كل عبءٍ وما يساورنا من خطيئة، ولنخُض بثباتٍ ذلك الصراع المعروض علينا، محدقين إلى مبدئ إيماننا ومتمّمه، يسوع الذي، في سبيل الفرح المعروض عليه، تحمّل الصليب مستخفاً بالعار، ثم جلس عن يمين عرش الله" (عب12/1-2)






عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +