Skip to Content

محبّة القريب ونقاوة القلب - الأرشمندريت توما بيطار

 

 محبّة القريب ونقاوة القلب

  Click to view full size image

ركنا الحياة المسيحيّة: محبّة القريب ونقاوة القلب. لذا قيل: "الديانة الطاهرة النقيّة عند الله الآب هي هذه افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 1: 27).

 محبّة القريب كالنفس تكون أو لا تكون. الحاجز بينك وبين أخيك يجب أن يزول. أحبّ قريبَك كنفسك. كل تحفّظ لديك حيال أخيك من أنانيتك. وحيث الأنانية لا يمكن أن تكون محبّة. لا يمكنها أن تثبت. المحبّة كاملة أو لا تكون. موقف كامل بلا شائبة. المحبّة أن تتحرّر، تماماً، من تمسّكك بما لك. برأيك، بموقفك، بقنيتك.

لذلك قريبك مرآة وتحدٍّ. لا يبدأ قريباً لك. تبدأ قريباً لذاتك. ينتهي كذلك إذا رغبتَ وسعيتَ. أنت تدنو من قريبك بمقدار ما تنأى عن أهوائك. أهواؤك هي أناك الذي أنت بحاجة لأن تنبذه، لأن تكفر به. إن فيك أناً وأناً. فيك القويم وفيك المعوجّ. أناك الذي هو في خروجك من نفسك باتّجاه قريبك هذا سليم معافى.      

هذا لا يأتيك عفواً. تصنعه أنت بقوّة إرادتك وعون الله. أما أناك الذي يجعل نفسك تراكم أهواء ذاتية تتمسّك بها وتسلك فيها سلوك العبودية والعبادة فمعيوب ومعطوب. هذا عليك أن تضعه، أن تخلعه عنك من الداخل. تُهلكه عن إرادة منك وإلاّ تَكَرّس الخلل فيك.

هذا الخلل، بالضبط، هو الخطيئة. الخطيئة خطأ في الكيان. مَن يصنع الخطيئة يكون عبداً للخطيئة.       

قريبك وَجَع طالما أنت قابع في نفسك. كلُّه، والحال هذه، إزعاج لأنّه يَحدّ من تمدّد ذاتيتك، إلاّ في ما يوافق مزاجك. القريب يُمسي قضية مزاج.

ولكنْ، ما إن تخرج من نفسك إليه حتى تلقاه، على غير ما توقّعته، جميلاً، وأقول ولا أجمل. هذا، في الحقيقة، لأنّ الجمال ليس في أخيك، في ذاته، في اللحم والدم، في حسن المظهر، في المبنى. هذا عرضة للفساد أبداً.

لذا لا يمكنه أن يكون جميلاً. الجمال تستشفّه، بالأحرى، من موقف منك حياله. لا يأتيك الجمال من رؤية العين بل، بالأولى، من معاينة القلب. الجمال من نقاوة القلب. في نقاوة القلب جمال ولا أبهى. أنقياء القلوب يعاينون الله. لِنَقيِّ القلب كلُّ خَلْقِ الله جميل لأنّه "اللابس النور كالثوب". الربّ قد ملك والجمال لبس.      

البشاعة وجه الخطيئة. الموضوع ليس ما تنظر بل كيف تنظر، إلامَ تنظر. ليس الحُسن في المنظر هو المسألة. الحُسن عابر، انسجام بلاستيكي. بعد حين يبهت ويذبل وييبس. الجمال أن تعاين زرع الله في خلق الله، نورَ الله، من الداخل، أن تعاين الله.

الله خَلَقَ كل شيء حسناً. لذلك قريبك تكتشفه اكتشافاً. تكتشف نور الله فيه. تعاينه إيقونة لله. قريبك سرّ. القرابة سرّ تشترك فيه بمقدار ما تتنقّى طويّتك.      

الحبّ يأتي من نقاوة، من عفّة، ولا يأتي من تأجّج شهوة. الشهوة في الحبّ تعدٍّ على الحبّ، تشويهٌ، مِسْخٌ، تمظهر بالحبّ. أن تساوي ما بين المحبّة وأهواء نفسك هو القول بأن جذر الخطيئة فيك، أي الهوى، هو من الله. إنْ تفعلْ ذلك تؤلِّه هواك وتحسب الله خادماً للخطيئة فلا يعود فيك مكان للحقّ. إذ ذاك تسكن في الباطل.

هذا هو الجحيم، الظلمة البرّانية. فيه لا ترتوي. تبقى عَطِشاً إلى الأبد. تقيم في الموت، في العذاب، لأنّك مفطور، أصلاً، على الحياة، وما تأتيه لا يضخّ فيك حياة.      

والحقّ أنّ المحبّة لا تأتي الإنسان إلاّ من فوق. ما هو تحت، هنا والآن، بات تلفيقاً. لذا قيل "المحبّة هي من الله" (1 يو 4: 7). وينبغي لنا أن يحبّ بعضنا بعضاً كما أحبّنا (1 يو 4: 11). وكيف أحبّنا؟

بوضع نفسه لأجلنا. إذاً بوضع أنفسنا لأجل الإخوة نكون قد أحببنا محبّة حقّانية، على غرار محبّة الله لنا. من هنا القول: "بهذا قد عرفنا المحبّة أنّ ذلك وضع نفسه لأجلنا فنحن ينبغي لنا أن نضع نفوسنا لأجل الإخوة" (1 يو 3: 16).

أن نضع أنفسنا لأجل الإخوة معناه أن نسلك، إرادياً، بإزائهم، وكأنّنا خدّام لهم. ابن الإنسان ما جاء ليُخدَم بل ليَخدُم. لذا مَن يحبّ يستخدم نفسه لأجل الإخوة. الكبير، عند الله، هو مَن يتصاغر.      

الخدمة، بيننا، هي مجال المحبّة بامتياز. وذروة الخدمة أن تبذل نفسك لأجل الإخوة. "ليس حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّته". هذا كلّه لا يتحقّق إلاّ إذا أحببنا الله أولاً وحصراً. لا شريك لله في محبّتك له. لذا تُفرغ نفسك من نفسك ليتسنّى لك أن تتعاطى الله على هذا النحو. في ذلك التماس إرادي للعدم.

تفعل ذلك حين تموت عن أناك، عن خطيئتك، عن هواك. خطيئتك، منذ البدء، كانت وجوداً كاذباً، زائفاً، عملاً من أعمال الإرادة الشَرود. لذا مِنْ عَمَلِ الإرادة، أيضاً، والحال هذه، أن تسلك، من جهة الخطيئة، وكأنّها العدم، وجود عدمي، وجود تَذُوق فيه، دائماً، طعم العدم. تَذُوقه ولا أَمَرّ، حيث البكاء وصريف الأسنان، حيث الدود لا يموت.

في ذلك، في التماس العدم إرادياً، موتٌ عن الخطيئة ولكنْ حياةٌ لله، عدمٌ من جهة الخطيئة ولكنْ وجودٌ من جهة البرّ. هذا ما يجعل الموت الإرادي ضرورة.      

يسوع تسمّر، إرادياً، على الصليب، لا لأنّه كان مستأهلاً لأن يموت، بل لأنّه لاق بمَن أحبّنا أن يقدِّم نفسه لنا صورة عما هو لائق بنا أن نكون إيّاه. البار يعلّم الخطأة البرّ حتى إذا ما ارتضَوا، عن إرادة، أن يموتوا، من جهة خطاياهم، جارَوه في مسير البرّ فتبرّروا بالموت إلى حياة أبديّة. المسيح كلمةُ الحقِّ وقد أبان لنا في نفسه الطريق، والطريق يفضي إلى حياة جديدة. "أنا هو الطريق والحقّ والحياة". كلُّ الحياة مسيحٌ حتى يكون كلٌّ، على غرار المسيح، مسيحاً يحدّث عن المسيح.      

لذا بغير المسيح ما كان ليكون لنا خلاص. لقد أبان الله، قديماً، لموسى نموذج الخيمة وقال له أن يقيم ما هو على مثالها، والمسيح بات الإنسان الجديد، الخيمة الجديدة، آدم الجديد، الذي يقيمُ الروحُ، من صِلبه، إنسانية جديدة، على مثاله.

وإذا ما كان قد قيل قديماً إنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، فالأحرى أن من خُلِق الإنسان على صورته ومثاله هو مسيح الربّ. به كنّا في الأصل، بكلمة الله أُبْدِعنا، ثم سقطنا.

ولكنْ عاد الله فأقام خيمتنا الساقطة، من جديد، بيسوع المسيح، ليبدعنا، بالروح، على مثاله، من جديد. هكذا كان كلمة الله، ابنُ الله المتجسّد، وارثاً لكل شيء. ألِفُ الناس وياؤهم. "به كان كلُّ شيء وبغيره لم يكن شيء مما كوِّن. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس" (يو 1).      

زبدة القول أنّ يسوع هو القريب وأصل كل قرابة، ولا قرابة إلاّ بنقاوةٍ تجعل يسوع حاضراً فيك أبداً في الروح

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +