Skip to Content

رسالة الصوم 2012 - البطريرك بشارة الراعي

إلى إخواننا السادة المطارنة وأبناء وبنات كنيستنا المارونية،

 

الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات،

 

وسائر المؤمنين والمؤمنات

 

السلام والبركة الرسولية

 

1. زمن الصوم الكبير، الذي يبدأ يوم الأحد 19 شباط 2012، المعروف بمدخل الصوم، وتُحيي فيه الكنيسة آية تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل، هو زمن التغيير على صورة هذه الآية، استعداداً لقيامة القلوب بالسرّ الفصحي، سرّ موت المسيح تكفيراً عن خطايانا، وقيامته من أجل تقديسنا[1].

فيطيب لي أن أوجّه إليكم رسالتي الراعوية الأولى هذه في مناسبة الصوم الكبير لسنة 2012. وهذا ما سأحافظ عليه في كل سنة بإذن الله، فضلاً عن الرسالة الراعوية التي سأوجّهها إليكم سنة بعد سنة في الخامس والعشرين من آذار/ مارس، في ذكرى بداية خدمتي البطريركية.

 

1. الصوم الكبير زمن التغيير

2. تأنّس ابن الله، يسوع المسيح، "ليجعل كلّ شيء جديداً"[2]، فيرمِّم صورة الله في الإنسان التي شوَّهها بخطيئته وشرِّه، ويعطيه القوّة، بكلمته ونعمته، لينتصر على التجارب والغرائز والأميال المنحرفة. وصام قبلنا في البرِّية أربعين يوماً، قضاها في التقشف والصلاة وعلَّمنا الإنتصار على تجارب الشرير بالعودة الدائمة إلى كلام الله والعيش بسلام داخلي عميق[3]. وهكذا استعدّ لبدء رسالة خلاص العالم وفدائه وأعلن: "روح الرب عليَّ مسحني وأرسلني"[4].

الصوم الكبير هو زمن التغيير في اتجاهات ثلاثة: التغيير في العلاقة مع الله بالصلاة والتوبة من أجل استعادة بهاء البنوّة الإلهية؛ والتغيير في العلاقة مع الذات بالصوم والإماتة بهدف التحرُّر من كلِّ ما يعيب هذه البنوّة وصورة الله فينا، ومن أجل تدريب الإرادة على كبح الأميال والغرائز المنحرفة، والسيطرة على الذات؛ والتغيير في العلاقة مع كلِّ إنسان، ولاسيّما مع ذوي الحاجة، بأعمال المحبة والرحمة والتصدُّق، بُغية ترميم الأخوّة الشاملة. من شأن هذا التغيير المثلّث أن يُدخلنا في عمق سرّ الشركة والمحبة. يتزامن الصوم الكبير في قسم منه مع ربيع الطبيعة التي تتغيّر بلباس ثوب جديد استعداداً لموسم العطاء. فكم يجدر بالإنسان أن يكون شبيهاً بالطبيعة. فلا بدّ من أن ننزع منا أنماط الحياة العتيقة بالتقشف والتوبة، كما فعلت الطبيعة في فصل الشتاء، وأن نلبس ثوب الحياة الجديدة على مستوى التفكير والرؤية، والأفعال والمسلك.

فها يوحنا المعمدان ينادي: "توبوا وآمنوا بالإنجيل"[5]، وبولس الرسول: "لا تتشبّهوا بهذا العالم، بل تغيّروا بتجديد أفكاركم، مميِّزين أين هي مشيئة الله الصالحة والمقبولة والكاملة"[6].

 

2. صلاة وصوم وصدقة

3 . وسائل هذا التغيير ثلاثة: الصلاة والصوم والصدقة. هذه الثلاثة متكاملة وغير منفصلة وتشكّل شريعة الصوم الكبير. نقول "شريعة" لأنّها واجب على الجميع، وشريعة إنجيليّة دعا إليها المسيح الربّ[7].

4. الصلاة ضرورة حياتيّة. فالروح القدس الذي يملأ كيان المصلِّي والمصلِّية يحرِّره، كما يقول بولس الرسول، من أعمال الجسد المنحرفة، ويثمر فيه ثمار الروح كالمحبة والفرح والسلام واللطف والطهر والتواضع والصلاة والصبر[8]. الصلاة تقرِّب القلب من الروح القدس الذي يقود حياتنا ويحرِّرنا من عبودية الخطيئة. يؤكِّد القديس يوحنا فم الذهب أنّه "من غير الممكن أنّ الإنسان الذي يصلِّي، يُستعبد للخطيئة. فالصلاة تجعل غير الممكن ممكناً، والصعب سهلاً". ويجزم القديس ألفونس دي ليغوري: "منْ يصلِّي يَخلُص حتماً. والذي لا يصلِّي يهلك بالتأكيد". لكنّ الصلاة تنبع من الإيمان بالله ومحبته. فالذي لا يؤمن ولا يحب، لا يستطيع أن يصلِّي، وبالتالي أن يَخلُص[9].

5. والصوم حاجة لأنّ به، وبما فيه من حرمان للذات من الطعام والشراب، يُكَفِّر كلُّ إنسان عن خطاياه والشرور التي ارتكبها، بالتعويض عنها. فالمسيح، ابن الله، كفّر عن خطايا جميع الناس وشرورهم بآلامه وموته، وهو بريءٌ من كلّ خطيئة شخصيّة[10]، بل ما صنع إلّا الخير لجميع الناس[11].

لكنّ الصوم يشمل أيضاً حرمان الذات ممّا يسمّيها بولس الرسول "أعمال الجسد" وهي: "الزنى والنجاسة والدعارة وعبادة الأوثان والسِّحر والعداوة والخصومة والحسد والغضب والعصيان والإنقسام والبدع والقتل والسِّكر وكلّ ما يشبه ذلك"[12]. والله يؤكّد بلسان أشعيا النبي: "أليسَ الصوم الذي فضَّلتُه هو هذا: حلُّ قيود الشرّ، وفكُّ ربط الظلم، وإطلاقُ المُستَضعفين أحراراً، وتحطيمُ كلِّ استعباد؟"[13].

والصوم، إلى جانب كونه شريعة إنجيليّة، هو أيضاً وصيّة كنسيّة من وصاياها السبع: "صُم الصوم الكبير وسائر الأصوام المفروضة، وانقطعْ عن الزفر يوم الجمعة"[14]. ويأمر القانون 882 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة أن "يتقيّد المؤمنون المسيحيون بواجب حفظ الصوم والقطاعة، بالطريقة التي يرسمها الشرع الخاص بكلِّ كنيسة". تحدِّد كنيستنا المارونية في المجمع اللبناني أنّ "الصوم الكبير، المعروف بالأربعين، يبدأ يوم الإثنين التالي أحد مدخل الصوم، وهو "اثنين الرماد"، ثمَّ يتواصل في اسبوع الآلام للمشاركة في آلام الفداء، وينتهي يوم السبت السابق أحد القيامة. ولا يُصام في أيّام الآحاد والسبوت إلّا السبت المقدّس، المعروف "بسبت النور"، وفي الأعياد الواقعة أثناء الصوم الكبير وهي: دخول المسيح إلى الهيكل، والقديس مارون، والقديس يوحنا مارون، والأربعين شهيداً، والقديس يوسف، وبشارة مريم العذراء. والصوم هو الإنقطاع عن الطعام والشراب من نصف الليل إلى نصف النهار. كما يجب القطاعة عن أكل اللحم كلَّ يوم جمعة على مدار السنة، ما عدا ما كان منها موافقاً للأعياد المأمورة، وفي الأسبوع السابق لبدء الصوم الكبير، وفي المدّة الواقعة بين عيدَي الميلاد والغطاس، وبين أحد القيامة واحد العنصرة"[15].

6. والصدقة تجاه الفقراء، وهي تعبير عن واجب العدالة ووصيّة المحبة الأخويّة: "أحبّ قريبك حبَّك لنفسك"[16]. أوصى بها الربّ يسوع: "تصدّقوا بما هو لديكم"[17]؛ ويوحنا المعمدان: " منْ له قميصان، فليعطِ من ليس له"[18]؛ ويعقوب الرسول: "إن كان أخٌ أو أخت عريانين، وليس لهما قوت يوم، وقال لهما أحدكم: إذهبا بسلام واستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما حاجة الجسد، فماذا انتفعا؟ كذلك الإيمان وحده، بدون أعمال ميت"[19]؛ ويوحنا الحبيب: "من كان له مقتنى الدنيا، ويرى أخاه في فاقة، ويُمسك عنه مراحمه، فكيف تكون محبة الله فيه؟". فلا يكنْ حبُّ بعضنا بعضاً بالكلام واللسان، بل بالأعمال والحقّ"[20].

الصدقة هي مجمل أعمال الرحمة بأفعال محبة نساعد بها إخوتنا وأخواتنا سواء في حاجاتهم الجسدية بإطعام الجائع، وإيواء الشريد والغريب، وكساء العريان، وزيارة المريض والسجين[21]، أم في حاجاتهم الروحية بالتعليم والتربية والتعزية والمشورة والتشجيع[22].

ويعود السيدُ الربّ لينبّه بلسان أشعيا النبي: "أليسَ الصوم الذي فضّلتُه هو أن تكسر للجائع خبزك، وأن تُدخِل البائسين المطرودين بيتَك؟ وإذا رأيتَ العريان تكسوه... حينئذٍ يبزغ كالفجر نورك، ويسير برّك أمامك، ومجد الربّ يجمع شملك. وحينئذٍ تدعو، فيستجيب الربّ"[23].

3. المسيح الفادي يُجري التغيير

7. بقولنا إنّ الصوم الكبير هو زمن التغيير، نعني أنّه زمن التوبة الداخليّة والإرتداد إلى الله وإلى الذات وإلى الآخرين. الصلاة والصوم والصدقة هي الأشكال التعبيريّة لهذه التوبة الداخليّة، وهي في الوقت عينه الوسائل لقبول غفران الخطايا. لكلّ هذه الغايات تُقام في الرعايا والأديار والمدارس الرياضات الروحية، وليتورجيات التوبة، واللقاءات الإنجيليّة والزيارات التقويّة التي ينبغي على المؤمنين والمؤمنات المشاركة فيها وعيشها زمناً مرضيّاً لله[24].

هذه كلُّها وسائل للتغيير، للتوبة التي تعني بلفظتها اليونانية "meta-noia" ثورة على النفس من أجل إصلاحها وإصلاح علاقاتها مع الله والذات والناس. لكنّ المسيح يسوع هو الذي يُجري التغيير بكلمته ونعمته وقدرة روحه القدوس، ويبلغ بالتوبة إلى أهدافها وثمارها.

8. كلّ أناجيل آحاد الصوم تقدّم لنا نماذج التغيير الذي حقَّقه المسيح، بفيضٍ من حبِّه ورحمته للإنسان، وكطبيبٍ للأرواح والأجساد.

إنجيل مدخل الصوم يذكر آية تحويل الماء إلى خمرة فائقة الجودة في عرس قانا الجليل[25]؛ للدلالة أنّه قادر على تحويل باطن الإنسان العتيق إلى إنسان جديد. وبهذا التحويل يزرع الفرح والسعادة في القلب، كما في جمهور عرس قانا والعروسين، ما يعني أنّ المسيح هو شخصياً فرح الإنسان الدائم والثابت.

إنجيل شفاء الأبرص[26]، يعطي التغيير شكل التطهير لجسد الأبرص من كلّ قروحه، بكلمة استجاب بها يسوع طلبه: "لقد شئتُ فكُنْ طاهراً. فزال برصه للحال". هكذا يجري التغيير في نفس التائب ويُزيل كلّ تشويهات الخطيئة.

إنجيل شفاء المرأة النازفة[27] يكشف وجهاً آخر من التغيير، هو إيقاف نزيف الدم بعد أن باءت بالفشل كلّ محاولات الأطبّاء على مدى اثنتي عشرة سنة. ويرمز إلى إيقاف نزيف القيم الروحيّة والإنسانيّة والأخلاقيّة عند الإنسان من جرّاء الخطيئة.

إنجيل الإبن الشاطر[28]، في منتصف زمن الصوم، يتناول بالمثل التغيير السلبي الذي أجرته خطيئة الإبن الأصغر، إذ نقلته من حالة البنوّة والبحبوحة والكرامة إلى حالة الغربة والفقر والإنحطاط الإجتماعي؛ والتغيير الايجابي الذي أجرته توبته، إذ حرّرته من عبودية خطيئته ومن أسبابها والتسليم لها، ونقلته إلى حالة الإصلاح الجذري، الذي أجرته مصالحة الأب له إذ أحيته من موت، وصوّبته بعد ضياع، وزرعت السعادة في البيت بعد الحزن والتعاسة بسبب الغياب.

إنجيل شفاء المخلَّع[29] يعطي التغيير وجهتين: إعادة الحياة لجسد مشلول قام يمشي، وإعادة الحياة لعقل وإرادة وقلب وضمير شلّته الخطيئة، فسلك المخلّع الذي شفي في طريق الحقيقة والخير والحب ونداءات الله.

إنجيل شفاء الاعمى[30] يصف التغيير بإعطاء البصر لعينَي الأعمى المنطفئة، والبصيرة لنفس الإنسان التي أعمتها الخطيئة، فزاغت عن نور المسيح بشخصه وتعليمه وآياته وافعاله، وعاشت في ظلمة الشرِّ القاتمة.

إنجيل الشعانين[31] وهو الأحد الأخير من زمن الصوم، يجعل التغيير وصولاً، عبر بحر من الأمواج ورحلة في شراع الكنيسة دامت ستة أسابيع، إلى "ميناء الأمان والنجاة"، إلى المسيح الذي يدخل القلوب والمجتمع البشري ومدينة الأرض بسلامه وأمانه والإستقرار. ومع المسيح نمشي في الأسبوع المقدّس، ونشاركه في آلام الفداء والخلاص بلوغاً إلى فجر القيامة، حيث التغيير عبور من حالة الخطيئة إلى حالة النعمة والحياة الجديدة، وهكذا يكون التغيير قيامة القلوب.

4. نداء: الصوم الكبير موسم المحبة الإجتماعية

9. إننا نحيّي ونشجّع كلّ المبادرات التعبيرية عن المحبة الإجتماعية التي يقوم بها طلّاب المدارس والجامعات وإداراتها لدى المياتم ودور المسنين ومراكز الإعاقة والحالات الصعبة، عملاً بروح "الصدقة الإنجيلية" والرحمة النابعة من قلب الله "الغني بالمراحم"[32]. كما نعرب عن شكرنا للمؤسسات التجارية والصناعية وللأشخاص ذوي الإرادة الصالحة الذين يسخون في مناسبة الصوم الكبير وسواها على العائلات الفقيرة والمحتاجة سواء بالوسائل المباشرة، أم بواسطة المؤسسات الخيرية والاجتماعية، الكنسية والمدنية. ونقدّر بالمناسبة المساعدات المالية التي تقدمها الأبرشيات والرهبانيات ولاسيما في المدارس والجامعات الكاثوليكية والمستشفيات، تخفيفاً عن كاهل الأهل والطلّاب. ونثني على كلّ الخيّرين الذين يقومون بمشاريع إنمائية في المناطق على المستوى الصناعي والزراعي والإستثماري، وموفّرين فرص عمل وحركة إقتصادية مشجّعة.

نظراً للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية المتردّية ولحالة الفقر الآخذة بالإتساع، فإنّا نوجّه النداء إلى الجميع في الكنيسة والمجتمع والدولة، للإلتزام بالمحبة الإجتماعية حسب تعليم الكنيسة الإجتماعي القائم على مبدأَين: الأول: "خيرات الدنيا مرتّبة من الله لجميع الناس"[33]؛ والثاني: "على الملكية الخاصّة يقع رهن إجتماعي"[34]. نُدرك من هذا التعليم، المُضاف إليه مبدأ التضامن والترابط بين البشر، واجب المحبة الاجتماعية القائمة على تقاسم خيرات الأرض المادّية والثقافية والانمائية والاخلاقية.

الكنيسة من جهتها مدعوّة لتستعمل ممتلكاتها، الحاملة صفة الوقف، أي أنها موقوفة لخدمة الرسالة ومساعدة الفقراء، لهتَين الغايتَين المتوازيتَين. الفقراء والمحتاجون هم في الأساس من حصّة الكنيسة، بل كنوزها، لأنَّ فيهم يتماهى وجه المسيح[35].

والسلطة السياسية مدعوّة لتستثمر طاقات الدولة وأملاكها ومالها العام ومرافقها ومرافئها والضرائب والرسوم والاقتصاد الوطني في خدمة الخير العام، لكي يعيش المواطنون في بحبوحة وحياة كريمة. ومن أولى واجبات السلطة السياسية الاعتناء بالمواطنين الفقراء والمحتاجين، فيشعرون بقيمة انتمائهم إلى وطنهم، ويعتزّون.

علَّم المكرَّم البابا بيوس الثاني عشر أن "مَن يملك خيرات، إنّما يمتلكها لأجل الجميع. وهذه حقيقة مسيحية مُلزِمة"[36]. وعلَّم الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني من بعده أنَّ "نكران هذه الحقيقة وعدم الالتزام بمساعدة الفقراء إنّما هما تشبّه بالغني المُترف الذي تجاهل لعازر المسكين المنطرح عند باب بيته[37]. ونبّه القديس يوحنا فم الذهب جازماً إلى انَّ "الامتناع عن إشراك الفقراء في الخيرات العامّة وفي خيراتنا الخاصّة هو سرقة لحقوقهم، واستلاب لحياتهم. فالخيرات التي نحوزها ليست لنا، بل هي لهم". ولهذا، كلنا مدعوون للمساهمة المالية والعينية، على قدر كل واحد منا، لمساعدة إخوتنا وأخواتنا الفقراء الفقراء والمحتاجين، بحكم وصية الكنيسة: "أوفِ البركة أي العشِر. وهي مساعدة بدافع من المحبة ومن باب العدالة، لأننا نُعيد لهم ما هو في الاساس من حقّهم. هذه هي ثقافتنا الانجيلية وتعليم كنيستنا[38].

5. سنة الكتاب المقدس

11. أعلنت الكنيسة في لبنان سنة 2012 سنة الكتاب المقدس، عملاً بتوصية من جمعية سينودس الأساقفة الخاصة بالشرق الأوسط، التي انعقدت في روما، في شهر تشرين الأوّل 2010، ونحن ننتظر صدور الإرشاد الرسولي في أعقابها.

نرغب مع السادة المطارنة والرؤساء العامين والرئيسات العامات تفعيل سنة الكتاب المقدّس هذه وبخاصة في رياضات الصوم التي تُقام سواء في الرعايا أم في الأديار أم في المدارس، وندعو المؤمنين والمؤمنات للمشاركة فيها. فإنّ "كلمة الله مصباح لخطانا ونور لسبيلنا"[39]. حاجة نفوسنا إليها مثل حاجتنا للخبز، عملاً بقول الربّ يسوع: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله"[40]. ما اجمل أن نجعل زمن الصوم عن الطعام، زمن جلوس إلى مائدة كلام الرب لتغذية النفس، عقلاً وقلباً، وتجسيدها في الاعمال والمبادرات والمواقف! كم نتمنّى أن يقرأ كل مؤمن ومؤمنة نصّاً يومياً من الانجيل وكتب العهد الجديد!

يجدر بالوعّاظ والمرشدين أن يستقوا مواضيع العظات والتأملات والأحاديث من الإرشاد الرسولي: "كلمة الربّ – Verbum Domini، الذي أصدره قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في 30 ايلول 2010، في أعقاب الجمعية العامة لسينودس الأساقفة، التي انعقدت في روما من 5 إلى 26 تشرين الأوّل 2008، بموضوع: "كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها". يقول قداسته أنّ من واجب الشعب المسيحي أن يعرف كلمة الله وتأثيرها في الحياة والرسالة، لكي يتمكّن من مواجهة التحديات الجديدة التي يطلقها زمننا الحاضر بوجه الذين يؤمنون بالمسيح، ويعيش تجدداً روحياً يتفجّر من التعمّق في كلمة الله التي تثبت إلى الأبد"[41].

12. فليعمل كلّ خدّام الكلمة من أجل بلوغ الأهداف التي يرسمها هذا الإرشاد الرسولي وهي:

1. إكتشاف كلمة الله كينبوع للتجدد الدائم في حياة المؤمنين والكنيسة، وبالتالي إقامة علاقة شخصية مع الكتب المقدسة في اليتورجيا والتعليم المسيحي والبحث العلمي، بحيث لا يكون الكتاب المقدس كلمة من الماضي، بل كلمة حيّة وفاعلة. هذا الإكتشاف والتجدد يفترضان الإصغاء والتأمل وارتداد القلب من أجل حفظ كلمة الله، والإنفتاح على العنصرة الدائمة، على أساس المحبة الكبيرة للكتاب المقدس[42].

2. العمل على أن تصبح كلمة الله أكثر فأكثر قلب كلّ نشاط كنسي، من خلال تثقيف بيبلي ملائم لكلّ المستويات، وإنعاش العمل الراعوي بالروح البيبلية[43].

3. مساعدة المؤمنين على إحياء لقاء شخصي وجماعي مع المسيح، كلمة الحياة، الذي أصبح منظوراً، وعلى أن يصبحوا شهوداً للكلمة وينقلوها، فيبنوا الشركة ويجعلوها في اتّساع دائم. إنّ إعلان الكلمة يولّد الشركة، ويحمل الفرح ويُدخل الآخرين في علاقة مع الله الذي ينقل إلينا حبّه، لكي ننال الحياة بوفرة[44].

4. القيام بكرازة جديدة للإنجيل قائمة على اليقين بفاعلية الكلمة الإلهية، في البلدان التي أصبح الإنجيل فيها منسياً أو مُهمَلاً بسبب العلمنة المتنامية[45].

5. تعزيز الحوار المسكوني بالتركيز على الدراسات البيبلية، وجعلها باتجاه الوحدة الكاملة بين المسيحيين، مع الإقتناع بأن سماع الكتب المقدسة معاً والتأمل فيها يجعلاننا نعيش في شركة حقيقية، ولو لم تكن بعد كاملة[46].

6. الخاتمة: صدى لدعوة قداسة البابا

13. في الخاتمة ندعو إلى ما دعا إليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في الرسالة التي وجّهها إلى الكنيسة جمعاء بمناسبة الصوم الكبير 2012، وتحمل تاريخ 3 تشرين الثاني 2011.

فانطلاقاً من كلمة الرسالة إلى العبرانيين: "لينتبه بعضنا إلى بعض، لكي نحضّ بعضنا بعضاً على المحبة والأعمال الصالحة"[47]، يدعو قداسته إلى ثلاثة:

أ. الإنتباه إلى الآخر والاعتناء به بروح الأخوّة والتضامن والعدالة، كما وبالرحمة والحنان، النابعة كلّها طبيعياً من القلب. هذا الإعتناء بالآخر يقتضي منا المساهمة في خيره المادي والروحي والمعنوي، على مثال السامري الصالح[48].

ب. التبادل فيما بيننا بروح الشركة والمحبة، إذ نعمل بوصية بولس الرسول: "أنا لا أطلب ما هو منفعة لي، بل ما هو منفعة للكثيرين، لكي يحيوا بسلام"[49]؛ "وليسعَ كلّ واحد منا إلى ما يطيب للقريب في سبيل الخير من أجل البنيان"[50]؛ "وأن نسعى جميعنا في طلب السلام، وفي طلب بنيان بعضنا بعضاً"[51].

ج. السير إلى القداسة في عيش المحبة وإتمام الأعمال الصالحة، وهذه دعوة مسيحية شاملة إلى القداسة. فالإهتمام بالآخر والتبادل في عمل الخير إنما يهدفان إلى أن نشجّع بعضنا بعضاً على محبة فاعلة ومتنامية مثل "نور الفجر الذي يزداد سطوعاً إلى رائعة النهار"[52].

نرفع صلاتنا إلى الله في زمن الصوم، الذي هو الزمن المقبول، بشفاعة أمّنا مريم العذراء وأبينا القديس مارون، مُلتمسين النعمة لنجعل منه ومن تغيير داخلي، نطوي معه صفحة صفراء من حياتنا، ونبدأ مسيرة تجدُّد شامل في علاقاتنا الشخصية مع الله والذات وكلّ إنسان. فلترفعنا صلاة كلّ يوم النابعة من الكتاب المقدس إلى عالم الله لنستمدّ منه قيم الروح، وليحرّرنا الصيام من قيود الجسد، ولتفتح الصدقة قلوبنا إلى محبة تكبر مثل نور الفجر إلى وضح النهار. وليرتفع من كلّ فم وقلب نشيد المجد والتسبيح للآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.

 

عن كرسينا في بكركي، 9 شباط 2012، عيد أبينا القديس مارون

 

 

+ بشاره بطرس الراعي

 

 

بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق



 

 



 

 



 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +