Skip to Content

الفصل الرابع: اليك نصرخ نحن المنفيين أولاد حواء - كتاب امجاد مريم

Click to view full size image

الفصل الرابع

*فيما يلاحظ هذه الكلمات وهي: اليكِ نصرخ نحن المنفيين.أولاد حواء*

* وفيه جزءان*

الجزء الأول

* كم هي مستعدة مريم الطوباوية لأن تعين من يصرخ اليها*

فيا لشقاوتنا نحن الذين اذ كنا أولاداً لأمنا حواء التعيسة. ولأجل ذلك نحن مدنسون أمام الله بجريرة خطيتها نفسها، ومحكومٌ علينا بالعقاب عينه الذي حكم به عليها، فنسير تائهين في وادي الدموع هذا منفين من وطننا، باكين محزونين من قبل أوجاع كثيرة ملمة بأنفسنا وبأجسدنا. ولكن لمغبوطٌ هو ذاك الذي فيما بين هذه الشقاوات يلتجئ مراتٍ مترادفةً الى معزية العالم، ملجأ المساكين والدة الإله متعبداً لها يدعوها مستغيثاً بها كما قيل عنه: مغبوطٌ الإنسان الذي يستمعني والذي يسهر كل يومٍ عند أبوابي ويحفظ أوزان مداخلي: (أمثال ص8ع34) فتقول مريم مغبوط من يصغي الى مشورتي، ولا يهمل أن يواظب على الدوام الألتجاء الى أبواب رحمتي مستغيثاً بشفاعاتي وملتمساً معونتي. فمن ثم تعلمنا حسناً أمنا الكنيسة المقدسة كم يلزمنا أن نلتجئ برجاءٍ وأهتمامٍ الى هذه المحامية عنا المقتدرة المملؤة حباً نحونا، راسمةً علينا نحن أولادها بأن تكون عبادتنا خصوصيةً نحو هذه الكلية القداسة ومتميزةً جداً، وأمرتنا بأن نحتفل في مدار السنة بأعيادٍ كثيرة لتكريمها، وبأن يوماً واحداً من كل سبتٍ يكون مختصاً بها ومكرساً بنوعٍ خاص لأجلها، وبأن جميع الأكليروس العلماني والقانوني يتلون يومياً في الفرض الإلهي نيابةً عن الشعب المؤمن كافةً الكلمات المختصة بالأستغاثة بها وبأستدعائها لمعونتنا، وبأن ثلاث مراتٍ في كل يومٍ أي صباحاً وظهراً ومساءً عند قرع الناقوس يحييها المؤمنون بالسلام الملائكي. ثم لقد كان يكفي لكي يفهم ذلك واضحاً أن يصير التأمل في أن كل مرةٍ تحدث الشدائد العمومية. فدائماً تمارس الكنيسة الطلبات والسهرات والزيحات وزيارات المعابد والأيقونات المختصة بهذه السيدة الجليلة، التي أنما تريد هي منا هذه العبادات ليس كأنها محتاجةٌ اليها، ولا تكريماً لشخصها ترغب هكذا أن ندعوها بأتصالٍ ونستغيث بها، لأن هذه جميعها هي شيء جزءي حقير بالنسبة الى شرفها ومقامها الكلي العظمة، بل لكي ينمو فينا نحوها الرجاء وحسن الأتكال وحرارة العبادة والحب، وبذلك يمكنها هي أن تسعفنا بأبلغ نوع وتعزينا. كما يقول القديس بوناونتورا هكذا: انها هي تطلب أولئك الذين يقدمون اليها بحسن عبادةٍ وبأحترامٍ لأنها تحب هؤلاء وتعولهم وتقبلهم بصفة بنين لها:.*

ثم يقول القديس بوناونتورا عينه: أن الأمرأة راعوث التي يفسر أسمها ناظرةً ومسرعةً كانت رسماً لمريم البتول، على أن مريم هذه المجيدة اذ تنظر حال شقاوتنا وذلنا وأعوازنا فتسرع مهتمة في أن تسعفنا برحمتها: وكذلك نوفارينوس يضيف الى هذا قائلاً: أن مريم لأجل رغبتها وأشواقها الى عمل الخير معنا، لا تعرف أن تتأخر أصلاً عن ذلك، ومن حيث أنها لم تكن بخيلةً في حفظها أنهامها، فبحسب كونها أم الرحمة لا تقدر أن تمسك ذاتها عن أن تسكب بكل سرعةٍ ممكنةٍ على عبيدها خزائن سخائها.*

فيا لحسن أستعداد هذه الأم الصالحة لأسعاف من يستدعيها لمعونته، كما قيل عنها: ثدياكِ كخشفي ظبيةٍ توأمين: (نشيد ص4ع5) فريكاردوس الذي من سان لورانسوس اذ يفسر هذه الكلمات يقول: أن ثديي مريم هما مهيئان لأن يفيضا بسرعةٍ لبن الرحمة لكل من يلتمسها نظير أسراع خشف الظبية: ثم أن المعلم المذكور يؤكد لدينا أن رأفة مريم تباح منها نحو كل أحدٍ يستمدها. ولئن لم يكن يستعمل هو نحوها في التماسه الرحمة تضرعاتٍ أو أبتهالاتٍ آخر سوى السلام الملائكي، ولذلك يشهد نوفارينوس بأن مريم لا تسرع فقط بل تطير ايضاً لمساعدة من يستغيث بها، فهي عند أستعمالها الرحمة لا تعرف أن تبتعد عن أن تتشبه بإلهها، فكما أن الرب يسوع كأنه طائرٌ ليعين حالاً أولئك الذين يستمدون منه الأسعاف، لأنه كلي الأمانة في أتمام مواعيده التي وعدنا بها قائلاً: أسألوا تعطوا: فهكذا مريم حينما تستدعى فحالاً توجد حاضرةً لأن تعين من يستغيث بها متضرعاً: وبهذا يفهم من هي تلك الأمرأة التي قيل عنها في الأبوكاليبسي (ص12ع14) هكذا: فأُعطيت الأمرأة جناحي نسرٍ عظيم لتطير الى البرية. فالمعلم ريبايرا يفسر ذلك بأن هذين الجناحين هما الحب الذي به مريم البتول طارت الى الله: الا أن الطوباوي أماديوس يقول: أن هذين الجناحين اللذين هما جناحا النسر يفسران السرعة الكلية التي اذ تفوق بها مريم على خفة جولان السيرافيم أنفسهم فتسعف من ثم أولادها على الدوام بمعوناتها:*

فلأجل ذلك اذ يخبرنا القديس لوقا البشير في الأنجيل المقدس، عن سفر الطوباوية مريم لزيارة نسيبتها القديسة أليصابات، ولكي تملأ تلك العيلة كلها من النعم، لم تستعمل الأبطاء في مسيرها، بل كما يقول هذا الأنجيلي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا: (لوقا ص1ع39) الأمر الذي لا يذكر أنها فعلته عند رجوعها، ولذلك يقال عن مريم: ان يديها هما مخروطتان من ذهب: (نشيد ص5ع14) فيقول ريكاردوس: أنه كما أن الأعمال التي تمارس بواسطة صنعة الخراطة هي الأكثر سهولةً وسرعةً في أنجازها، فهكذا مريم هي الأكثر أستعداداً وسرعةً من جميع القديسين في إعانة المتعبدين لها وفي أسعافهم: فهي حاصلةٌ على أشواقٍ عظيمةٍ دائماً لتعزية الجميع، وحالما تسمع صوت من يستغيث بها، فعلى الفور تقتبل التضرع وتقضي الحاجة بكل أنعطافٍ (حسبما يقول بلوسيوس) فبالصواب اذاً يسميها القديس بوناونتورا: خلاص من يستغيث بها: مريداً أن يعني بأن من يشاء أن يفوز بالخلاص، فيكفيه أن يلتجئ الى هذه الأم الإلهية التي على قول ريكاردوس أنها تهيئ ذاتها دائماً لأسعاف من يدعوها. لأن برنردينوس البوسطي يورد: أن هذه السيدة العظيمة تشتهي أن تهبنا نعماً أشد أشتهاءً من رغبتنا نحن أن نقبل النعم لذواتنا.*

ثم أن كثرة خطايانا لا ينبغي أن تضعف رجانا في أن تستجيب مريم طلباتنا حينما نلتجئ لدى قدميها. فهي أم الرحمة، والحال أن الرحمة لا يعود لها مكانٌ عندما لا يوجد معوزون يفتقرون اليها. ومن ثم كما أن الأم الصالحة لا تأنف مستكرهةً من أن تضع دواءً شافياً لأبنها المبتلي بداء الجرب، ولئن كانت مداواته صعبةً محركةً الى الأستكراه والنفور، فهكذا أمنا هذه الحنونة لا تعرف أن تهملنا حينما نستغيث بها، ولئن كانت وافرةً هي نتانة خطايانا التي تشفينا هي منها. فهذا هو ما يورده ريكاردوس، وهذا ما قد قصدت أن تشير اليه هذه الأم الإلهية نفسها حينما أظهرت للقديسة جالتروده، كبف أنها كانت تبسط برفيرها لكي تقتبل تحت حمايتها كل من يأتي اليها، وحينئذٍ قد فهمت هي أي القديسة جالتروده أن الملائكة كافةً يهتمون في أن يحاموا عن المتعبدين لمريم ضد قوات الجحيم.*

فبهذا المقدار هي عظيمةٌ الرأفة الكائنة في قلب هذه الأم الصالحة نحونا، وهكذا هو شديدٌ الحب الذي تحبنا به، حتى انها لا تنتظر تضرعاتنا لتعيننا. فقيل في سفر الحكمة (ص6ع14): أنها هي تبادر الى من يشتهيها وتظهر لهم هي أولاً: فالقديس أنسلموس يخصص هذه الكلمات بمريم، ويقول أنها هي تسبق وتبادر لتعضد الذين يشتهون حمايتها، وبذلك يلزمنا أن نفهم أنها هي تستمد لنا من الله أنعاماً كثرةً قبل أن نطلبها نحن منها. ولهذا يقول ريكاردوس الذي من سان فيتورة: أن مريم تسمى قمراً، لأنها هي ليس فقط مثل القمر قريبةً منا وسريعة الإجابة لمن يستغيث بها، بل بأكثر من ذلك هي محبةٌ خيرنا بهذا المقدار حتى أنها في أحتياجاتنا تسبق هي تضرعاتنا، ورحمتها هي مستعدةٌ لأعانتنا أكثر من حركتنا نحن لأن نستمد منها الرحمة. وهذا أنما يصدر (يتبع قوله ريكاردوس عينه بقوله) من قبيل أن صدر مريم هو مملؤٌ من الرأفة والأشفاق. ولذلك حالما تشعر هي بأحتياجاتنا فلا يتأخر هذا الصدر السخي عن أن يفيض حالاً لبن الرحمة، لأن هذه الملكة الحنونة لا تقدر أن تعلم أفتقار نفس أحدٍ الى الأسعاف ووجودها في حال الضرر ولا تمد هي يدها لمعونتها وقضاء حاجتها.*

فهذه الأم الرأوفة من حينما كانت عائشةً على الأرض، قد أعطتنا هذا البرهان أيضاً، فيما بين البراهين الأخرى الدالة على أنها هي نفسها من شدة أشفاقها علينا تسبق، وتهتم في سد أعوازنا وأسعافنا في أحتياجاتنا قبل أن نتوسل اليها، والبرهان هو المورد عنها من القديس يوحنا الأنجيلي في الاصحاح الثاني من بشارته في خبرية عرس قانا الجليل، أي أن هذه الأم الشفوقة عندما شاهدت حينئذٍ الغم الحاصل للعروس ولعروسته، من قبل نقص الخمر من ذلك العرس اذ لم يعد لهما أستطاعة على أحضار خمرٍ آخر لأهل الوليمة بعد نهاية الخمر الأول، ومن ثم أستحوذ عليهما الخجل من المجتمعين الى العرس، فتحركت هي الى الشفقة عليهما من دون أن يلتمسا منها أعانةً ما، بل بمجرد نظرها إياهما في تلك الحال وأسرعت لأسعافهما، لأنها لا تقدر أن تشاهد أحداً معوزاً ولا تبادر لمساعدته، فلهذا توسلت الى ابنها يسوع بأن يعزيهما مخبرةً إياه بأحتياجهما وقائلةً: أن ليس عندهم خمرٌ: فبعد هذا لكي يعزي مخلصنا تلك الجمعية وبنوع خاص لكي يرضي قلب والدته المملؤ حنواً نحوهم قد صنع الأعجوبة المشهورة بأحالته الى خمرٍ الماء الموعب في الأجاجين. فهنا نوفارينوس يبرهن مستنتجاً بأنه: أن كانت مريم هي مستعدةً بهذا المقدار لأن تسعف المحتاجين الذين لم يلتمسوا منها الأعانة، كما تم في الحادث المذكور، فكم هي بأبلغ نوعٍ وبأعظم أشفاقٍ مستعدةٌ دائماً لأن تعزي من يستغيث بها. ويلتجئ اليها ملتمساً منها المعونة.*

ومن ثم البابا أينوشانسيوس الثالث يوبخ ذاك الإنسان الذي يدخله الريب في مساعدة هذه السيدة إياه مبرهناً بقوله: أترى ممكنٌ هو أن يوجد في الكون إنسانٌ ألتمس من هذه السيدة العذبة مريم المجيدة معونةً ولم تسعفه هي. وكما يقول الطوباوي أوتيكيانوس: ترى من هو ذاك الذي يلتجئ اليكِ أيتها البتول الطوباوية بأمانةٍ، ويرجع خازياً مهملاً من حمايتكِ وعنايتكِ التي تقدر أن تعين كل أحدٍ من الأشقياء البائسين. وتخلص الخطأة الميؤوسين والأكثر خطراً للهلاك. فهذا الحادث ما أتفق قط ولن يكون أبداً وهو أن ترفضي أحداً من المتكلين عليكِ. ويقول القديس برنردوس: أنني أرتضي كل الرضا بأن لا يعود يتكلم خيراً ولا يمدح رحمتكِ أيتها البتول القديسة. ذاك الذي يكون أستغاث بكِ في أحتياجاته ويفتكر بأنه لم ينل منكِ الأهتمام بقضاء حاجته، هذا أن أمكن أن يوجد إنسانٌ كذا.*

وبأشد بلاغةٍ يقول العابد بلوسيوس: أنه لأسهل هو أن تخرب السماوات والأرض، من أن مريم ترفض أن تعين من يتضرع اليها بنيةٍ صالحةٍ طالباً مساعدتها وواثقاً بها برجاءٍ ثابت: ثم أن القديس أنسلموس يضيف الى ذلك ما يزيد أتكالنا وأعتمادنا على هذه السيدة الرحومة بقوله: أننا عندما نلتجئ الى هذه الأم الإلهية يلزمنا ليس فقط أن نكون مطمأنين في مفاعيل حمايتها إيانا، بل أيضاً أننا بعض الأحيان نصدق أن طلبتنا تقبل ونفوز بالخلاص بأكثر سرعةٍ بالتجائنا الى مريم مستغيثين بأسمها المقدس، من أن نستغيث بأسم يسوع مخلصنا، والسبب في ذلك أي بمصادفتنا الخلاص بأوفر سرعةٍ بالتجائنا الى الأم مما بألتجائنا الى الابن هو، لا كأن مريم هي أكثر أقتداراً من أبنها الإلهي على خلاصنا، اذ أننا نعلم أن يسوع هو مخلصنا الوحيد، الذي بأستحقاقاته هو فقط قد أكتسب ويكتسب لنا الخلاص، بل من حيث أننا اذ نتقدم الى يسوع بأللتجاء، ونتأمل وقتئذٍ في كيف أنه هو دياننا أيضاً المختص به أن يعاقب الخائنين ناكرين الجميل. فيمكن أن ينقص فينا من ثم حسن الرجاء الضروري لنوال مطلوباتنا، الا أننا حينما نتقدم الى مريم التي لم تكن لها وظيفةٌ أخرى سوى أن تشفق علينا بحسب كونها أم الرحمة، وأن تحامي عنا بحسب كونها شفيعتنا، فيبان أن رجانا وثقتنا وأتكالنا يكون بأوفر طمأنينةٍ وبأعظم ثباتٍ: على أنه يتفق ليس نادراً أن أشياء كثيرةً تلتمس من الله فلا تعطى، وتلتمس من مريم فتعطى، فكيف يكون هذا، فيجيب نيكيفوروس: بأن هذا يحدث لا كأن مريم هي أعظم أستطاعةً وقدرةً من الله، بل لأن الله نفسه قد حكم ورسم بأن يكرم والدته على هذه الصورة.*

على أنها لذيذةٌ ومسرةٌ هي المواعيد التي وعد الرب عينه بأن يصنعها وهي أنه يقرأ في الرأس الثمانين من الكتاب الأول من الأوحية الصائرة للقديسة بريجيتا، أنه يوماً ما قد سمعت هذه القديسة يسوع المسيح مخاطباً والدته هكذا: أطلبي مني يا أمي كل ما تريدين لأني لا أنكر عليكِ أعطاء شيءٍ ما من جميع ما تسألينه، وأعلمي أن كل أولئك الذين يطلبون مني شيئاً من النعم حباً بكِ. حتى ولئن كانوا خطأة بحيث أن تكون فيهم أرادةٌ للرجوع عن الخطيئة، فأنا أعدهم بان أستجيب لهم: وهذا نفسه قد أوحى به الى القديسة جالترودة حينما سمعت مخلصنا عينه قائلاً لوالدته، بأنه بحسب قدرته الضابطة الكل قد منح أن يستعمل الرحمة مع أولئك الخطأة الذين يستغيثون بها، بأي نوعٍ وطريقةٍ تشاء هي أستعمال الرحمة معهم. فليقل اذاً كل أولئك الذين يستدعون مريم أم الرحمة لمعونتهم برجاءٍ عظيم، ما كان يقوله نحوها القديس أوغوسطينوس هكذا: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان التعيس الأول. أي بعد أن التجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ فارغاً:*

Click to view full size image

* نموذجٌ *

فالقديس فرنسيس سالس قد أختبر في ذاته حسناً مفاعيل الصلاة المقدم ذكرها، كما يورد في الرأس الرابع من الكتاب الأول من سيرة حياته. على أن هذا القديس قد كان في السنة السابعة عشرة من عمره تقريباً مقيماً في مدينة باريس مهتماً في درس العلوم. في الوقت عينه الذي فيه كان غرامه ولذته الأنعكاف على أفعال التعبد والحب المقدس لله، الأمر الذي وجد لديه نعيماً فردوسياً على الأرض. فالباري تعالى لكي يختبره بأفضل نوعٍ ويضمه بأشد تعلقٍ نحو حبه، قد سمح بأن الشيطان يصور له مجيِّداً في عقله أن جميع ما كان هو يمارسه من الخير لم يكن يفده بتةً، من حيث أنه هو بموجب سابق علم الله وحكمه أحصي في عدد المرذولين، فتبرقع العقل واليبس الروحي اللذان تركه فيهما الله بأرادةٍ مقصودةٍ في هذا الزمن عينه، حتى أنه كان يوجد حينئذٍ هو عديم الحس في جميع التصورات الأكثر عذوبةً، التي كانت تستحضر منه في شأن خيرية صلاح الله وجوده الغير المتناهي، قد أوقعاه بزيادة الحزن، وأعطيا التجربة قوةً أعظم لأن تفعم جوف هذا الشاب مرارةً علقميةً، بنوع أنه لخوفه وأرتيابه المومى اليهما قد عدم شاهية الأكل، وفقد راحة النوم، وتغيرت سحنة وجهه، وأبتعدت عنه أمارات التعزية والفرح متى أن كل من يراه في تلك الحال لم يكن يمكنه الا يتوجع له من أجلها*

ففي مدة دوام هذه الزوبعة المهيلة لم يكن يعلم هذا القديس أن يفتكر في شيءٍ آخر أو أن يفه بكلمات أخرى سوى فيما يزيده توجعاً وغماً وضعف رجاءٍ، ومن ثم كان يقول هكذا: فاذاً أنا سأكون معدوماً نعمة إلهي الذي فيما مضى قد أظهر لي ذاته بهذا المقدار موضوعاً شهياً للحب والعذوبة، فيا أيها الحب ويا أيها الجمال اللذان أنا كرست لكما عواطف قلبي كلها فهل لا أعود أتمتع بعد بتعزياتكما، يا والدة الإله العذراء أيتها الفائقة جمالاً على بنات أورشليم كلهن. أهل أنني لا أقدر اذاً أن أشاهدكِ في الفردوس السماوي، آواه أيتها السيدة أن كنت أنا لست بعتيدٍ أن أرى وجهكِ الكلي الجمال، فقلما يكون لا تسمحي بأني في جهنم ألعنكِ وأجدف عليكِ: فهذه الأقوال كانت حينئذٍ ثمرة أنفعالات قلبٍ نعم أنه مغرم في الحب لله وللبتول الطوباوية، الا أنه مفعمٌ من الحزن الشديد. فالتجربة المذكورة قد أستمرت مستحوذةً على هذا البار مدة شهرٍ كاملٍ، الا أن الرب قد تنازل أخيراً لأن يمنجيه منها بواسطة معزية العالم مريم الكلية القداسة. التي كان قبلاً هذا القديس كرس بتوليته تكريماً لها، وكان من عادته أن يقول أنه وضع فيها رجاه كله، فيوماً ما عند رجوعه مساءً نحو مكان سكناه قد دخل الى كنيسةٍ، وهناك شاهد لوحاً معلقاً على الحائط مكتوبةً فيه الصلاة السابق ذكرها المقالة من القديس أوغوسطينوس وهي: أذكري أيتها السيدة الرأوفة أنه لم يسمع قط منذ تأسيس العالم أن أحداً رذل منكِ مهملاً، ولهذا سامحيني أن كنت أقول لكِ أنني لا أريد أن أكون أنا هو هذا الإنسان الأول التعيس، أي بعد أن ألتجئ اليكِ أعود خائباً وأهمل منكِ مرذولاً: فتقدم القديس فرنسيس أمام هيكل والدة الإله في تلك الكنيسة وتلى هذه الصلاة بعواطف حبٍ مضطرم، وجدد هناك نذر حفظ البتولية لهذه الأم الإلهية موعداً بأن يتلو يومياً مسبحتها الوردية. ثم أضاف الى ذلك جميعه قائلاً: كوني محاميةً عني يا ملكتي لدى أبنكِ الذي أنا لا أجسر أن التجئ اليه، فأن كنت أنا التعيس يا أمي لا أستطيع في العالم الآتي أن أحب سيدي الذي أنا أعلم أنه بهذا المقدار هو مستحقٌ أن يحب، فقلما يكون أستمدي لي أنتِ هذه النعمة وهي أن أحبه تعالى في هذا العالم أعظم حباً أقدر عليه. فهذه الموهبة أطلبها منكِ وأرجو نوالها: قال هذا وأسلم ذاته بكليتها بين يدي الرحمة الإلهية خاضعاً كل الخضوع لمشيئة الله. ولكن عندما أنهى صلواته المقدم ذكرها قد خلصته حالاً أمه الإلهية الكلية العذوبة من تلك التجربة، وفاز بالسلام الباطن تماماً ومعاً شفي من مرضه الجسدي، ومن ثم داوم مستسيراً بحسن العبادة لمريم التي بعد ذلك لم يعد يكفف مدة حياته كلها، عن أن يذيع تسابيحها ومدائحها ومفاعيل رحمتها وينذر بها في مواعظه وتأليفاته الجليلة.*  

† صلاة †

يا والدة الإله ملكة الملائكة ورجاء البشر أنصتي الى من يدعوكِ وأصغي الى من يناجيكِ. فهوذا أني اليوم منطرحٌ على قدميكِ أنا الشقي المستأسر من الجحيم. مريداً أن أكرس ذاتي عبداً لكِ على الدوام موعداً بأن أخدمكِ وأكرمكِ في جميع أيام حياتي بكل أستطاعتي. فأنا ألاحظ جيداً أن عبودية أسيرٍ هكذا دنيءٍ عاصٍ مثلي لا تكرمكِ، اذ أني قد أهنت كثيراً أبنكِ ومخلصي يسوع، ولكن أنتِ اذا قبلتِ عبداً لكِ أسيراً عديم الأستحقاق، وبواسطة شفاعاتكِ غيرتِ حاله السيئة مصيرةً إياه أهلاً لخدمتكِ، فرحمتكِ هذه عينها المستعملة منكِ نحوه بهذا النوع تعطيكِ الكرامة التي أنا الحقير الذليل لا أقدر أن أكرمكِ بها. فأقبليني اذاً ولا ترفضيني يا أمي، فالكلمة الأزلي قد أنحدر من السما الى الأرض ليطلب هذه الأغنام الضالة، واذ أراد أن يخلصها قد صيركِ أمه بتجسده منكِ، أفهل أنكِ تحتقرين خروفاً من هذه الأغنام يلتجئ اليكِ لكي يجد بواسطتكِ يسوع. فالثمن قد دفع لأجل خلاصي من الأسر ولنوالي الحياة الأبدية. لأن مخلصي قد سفك دمه الذي هو كافٍ لأن يفدي عوالم غير متناهي عددها. ولم يعد باقياً سوى أن أستحقاقات هذا الدم تتخصص بي أنا أيضاً. ولكن كما يقول لي القديس برنردوس أنه متعلقٌ بكِ أيتها البتول المباركة. أن توزعي الأستحقاقات المذكورة على من تريدين. ومختصٌ بكِ كرأي القديس بوناونتورا أيضاً هو أن تخلصي من تشائين. فاذاً عينيني يا ملكتي وخلصيني يا سلطانتي، فأنا أسلمكِ نفسي الآن بجملتها. وأنتِ أفتكري في أمر خلاصها، فيا خلاص من يستغيث بكِ حسبما يقول القديس المذكور عينه أنتِ خلصيني.

   Click to view full size image

الجزء الثاني

* في كم هي مقتدرةٌ مريم البتول على أن تحامي عمن يستغيث *

*بها في حين التجارب المسببة له من الشيطان*

أن مريم الكلية القداسة هي سلطانةٌ ليس على السماوات والقديسين فقط، بل على الجحيم والشياطين أيضاً، لأجل أنها أنتصرت عليهم أنتصاراً مجيداً بقوة فضائلها. فالباري تعالى منذ بدء الخليقة سبق وأخبر الحية الجهنمية بالغلبة والسلطة اللتين كانت عتيدةً ملكتنا هذه أن تفوز بهما ضدها، بأيعاذه إليها عن الأمرأة المزمع أتيانها الى العالم للأنتصار عليها، عندما قال عز وجل لهذه الحية: ولأجعلن العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة وفيما بين نسلكِ وفيما بين نسلها وهي تسحقُ رأسكِ (تكوين ص3ع15) فمن هي هذه الأمرأة عدوة الحية الا مريم التي بواسطة تواضعها الجميل وحياتها المقدسة قد أنتصرت دائماً على الحية وأخمدت قوتها، فيشهد القديس كبريانوس بقوله أن الوعد من الله بتلك الأمرأة كان عن والدة سيدنا يسوع المسيح، مبرهناً بأن الله لم يقل للحية قد جعلت العداوة فيما بينكِ وبين الأمرأة ليفهم بها حواء بل قال لأجعلن العداوة قولاً يخص المستقبل، ليبين لها أن هذه العداوة لم تكن مع حوا التي كانت وقتئذٍ في الوجود، بل مع أمرأةٍ أخرى عتيدة أن تولد من نسل حواء وتجلب للأبوين الأولين خيراً أعظم من الذي خسراه بخطيتهما: كما يقول القديس فيخانسوس فراري، فمريم اذاً هي تلك الأمرأة العظيمة القوية الشجاعة التي غلبت الشيطان، وسحقت رأسه بأخماد كبرياه كقوله تعالى عنها: وهي تسحق رأسكِ: فبعض المفسرين يرتابون في أن كانت هذه الكلمات قيلت عن مريم أم عن يسوع المسيح، لأن السبعين مترجماً قد كتبوا: ونسلها يسحق رأسكِ: الا أنه يوجد عندنا في النسخة العامة (التي هي مثبتة من المجمع التريدنتيني) كما قلنا أعلاه أي: وهي تسحق رأسكِ: وهكذا فهم معناها القديسون أمبروسيوس وأيرونيموس وأوغوسطينوس ويوحنا فم الذهب وغيرهم كثيرون جداً. ولكن هب أن الأمر هو كما يريد البعض الآخرون أي: نسلها يسحق رأسكِ: فالمعنى هو واحدٌ لأنه سواء كان المسيح بواسطة هذه الأمرأة أمه سحق رأس الحية أو أن مريم بقوة أبنها المسيح سحقته، فمن دون ريبٍ أن لوسيفوروس المتعجرف بالتغطرس قد غلب مقهوراً وسحقت هامته مكسورةً من هذه البتول مريم المباركة، التي فازت عليه بالأنتصار التام حسبما يقول القديس برنردوس، ومن ثم نظير أسيرٍ مأخوذٍ في الحرب هو مضطرٌ جبراً عن مشيئته لأن يخضع لأوامر هذه الملكة، ثم يقول القديس برونونه: أن حواء بواسطة أنغلابها من الحية قد جلبت لنا الموت والظلمات. الا أن البتول الطوباوية بأنتصارها على الشيطان قد جلبت لنا الحياة والنور، وقد ربطت الشيطان بنوع أنه ما عاد يقدر أن يتحرك لفعل أدنى ضررٍ للمتعبدين لها.*

فحسناً يفسر ريكاردوس الذي من سان لورانسوس تلك الكلمات المدونة في سفر الأمثال (ص31ع11) عن الأمرأة الشجاعة وهي: أن قلب رجلها يثق بها ولا يحتاج الى غنائم، من هذه الحال حالها لن تعوزها ذخائر تملكها. فيقول: أن الله قد أستودع في يد مريم قلب يسوع لكي تهتم هي في أن تصير البشر أن يحبوه كما يفسر كورنيليوس، وبهذا النوع لن تعوزه ذخائر يملكها أي أكتساب الأنفس، لأنها هي تغنيه بكثرة الأنفس اللواتي كان الجحيم أغتنمهن لذاته بتخليصها إياهن بقوة مساعدتها المقتدرة.*

فأمرٌ معلومٌ هو أن أغصان النخل هي علامة الأنتصار، فلهذا قد وضعت ملكتنا في عرشٍ عالٍ لتشاهد من جميع السلطات نظير نخلةٍ، علامةً للغلبة الأكيدة التي يمكن لجميع الذين هم تحت حمايتها أن يعدوا بها ذواتهم، ولهذا قيل عنها في سفر حكمة ابن سيراخ (ص24ع18): كمثل النخلة أرتفعت في قادس: لكي أحامي حقاً عنكم: حسبما يضيف الى ذلك الطوباوي البرتوس الكبير (كأن مريم تقول نحونا): أنه حينما يثب عليكم الشيطان يا أولادي ليحاربكم فألتجئوا اليَّ وأنظروني وتشجعوا، لأنكم تشاهدون بي أنا المحامية عنكم حقيقة أنتصاركم: فمن ثم أن الألتجاء الى مريم هو واسطة كلية الأمن للفوز بالغلبة على قوات الجحيم كلها: من حيث أنها (كما يقول القديس برنردينوس السياني) هي ملكة الجحيم أيضاً وسيدة الشياطين، لأنها هي التي تحاربهم وتغلبهم، ولهذا قد سميت هذه الملكة: مخيفةً كالصفوف المرتبة (نشيد ص6ع3) فهي مخيفةٌ مرعبةٌ لسلطات الجحيم، وهي كالصفوف المرتبة لأنها تعلم أن ترتب حسناً سلطانها وأقتدارها ورحمتها وتضرعاتها، لخذل الأعداء وإبادتهم. ولأنتصار عبيدها ونجاحهم وأسعافهم، عندما يلتجئون إليها. خاصةً حينما تحاربهم التجارب مستغيثين بها وملتمسين عونها.*

ثم أن الروح القدس يجعل مريم متكلمةً هكذا: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحة طيبةً: (ابن سيراخ ص24ع23) فيقول القديس برنردوس في تفسيره هذا النص: أنه كما أن الحيات والأفاعي تهرب من الجفنة، فهكذا الشياطين يهربون من تلك النفس السعيدة التي هم يشعرون برائحة تعبدها لمريم، ولهذا تسمى أيضاً هذه الملكة أرزاً كما قيل عنها: كالأرز أرتفعتِ في لبنان. (ابن سيراخ ص24ع17) وذلك ليس فقط من حيث أن قلب شجر الأرز هو سالم من الفساد والسوس، كما وجدت مريم معصومةً من الخطيئة، بل أيضاً لأنه كما أن رائحة الأرز تجعل الحيات أن تهرب بعيداً، فهكذا مريم بواسطة قداستها تصير الشياطين أن يهربوا: حسبما يقول الكردينال أوغون في تفسيره الكلمات المذكورة.*

ففي بلاد اليهودية قد كانت تحصل الأنتصارات للشعب الاسرائيلي بواسطة تابوت العهد. ومن ثم كان موسى النبي ينتصر على الأعداء بقوله عندما كان يرفع هذا التابوت: قم يا رب ولتتبدد أعداؤك ويهرب مبغضوك من أمام وجهك: (سفر العدد ص10ع35) وعلى هذه الصورة قد فاز بنوا اسرائيل بالأنتصار على مدينة أريحا ثم على الشعوب الفلسطينيين فيما بعد: لأن هناك تابوت الله يومئذٍ كان معهم: (سفر الملوك الأول ص14ع18) فأمرٌ معلومٌ لدى الجميع هو أن تابوت العهد قد كان رسماً لمريم العذراء لأنه (يقول كورنيليوس الحجري) كما أن هذا التابوت كان يحوي ضمنه المن، ومثله ضمن مريم يوجد يسوع الذي نظير ذلك كان المن رسماً له، فبواسطة هذا التابوت (الذي هو مريم) يعطى الأنتصار على الأعداء الذين هم في الأرض والذين هم في الجحيم ولهذا يقول القديس برنردينوس السياني: أن مريم التي هي تابوت العهد الجديد حينما أرتفعت الى مقام ملكة السماء فوقتئذٍ ضعفت سلطة الجحيم على البشر وغُلبت.*

فكم من الخوف والهلع يعتري الشياطين، وكم ترتعد أرتجافاً من مريم المجيدة ومن ذكر أسمها العظيم قوات الجحيم. كما يقول القديس بوناونتورا. فهذا القديس يقابل هؤلاء الأعداء ممثلاً إياهم بأولئك الأعداء المذكورين من أيوب البار بقوله: أنهم في الظلام ينقبون البيوت كما تواعدوا بالنهار ولم يروا النور، وأن طلع الصبح سريعاً فيحسبونه ظلال الموت ويسلكون في الظلمة كأنها هي نور (أيوب ص24ع16وع17) أي أن السارقين يذهبون في ظلام الليل ليسرقوا البيوت، ولكن متى أشرق ضياء الصبح فيهربون كما لو تكون ظهرت لهم صورة الموت وظله: فهكذا أن الشياطين (يقول القديس بوناونتورا) يدخلون الى النفس في وقت الظلام أي حينما توجد النفس مظلمةً بالجهل، ولكن حالما تأتي الى تلك النفس نعمة مريم ورحمتها، فنجمة الصبح هذه الجليلة تزيح الظلمات وتصير الأعداء الجهنميين أن يهربوا مدبرين من النفس كمن ظلال الموت، فاذاً مغبوطٌ هو ذاك الذي في وقت معركته مع قوات الجحيم يستغيث بإسم مريم العظيم.*

ثم أنه مطابقةً لما تقدم ذكره قد أوحي الى القديسة بريجيتا بأن الله قد وهب مريم قوةً بهذا المقدار شديدةً على الشياطين، حتى أنه في كلٍ من الأوقات التي فيها هؤلاء يحاربون أحد عبيدها بالتجار، وهذا يستغيث بأسمها، فعلى أية إشارةٍ تعطيها هي ضدهم يهربون حالاً بعيداً مرتجفين هلعاً. ويرتضون بالأحرى بأن تتضاعف عليهم العذابات عاجلاً من أنهم يشاهدون ذواتهم مطرودين من مريم بقوةٍ هكذا عظيمة*

 أما كورنيليوس الحجري، ففي تفسيره الكلمات التي بها العروس الإلهي يمدح في سفر النشيد عروسته هذه المحبوبة قائلاً: كمثل السوسن بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات (ص2ع2) يتفلسف مبرهناً بقوله: كما أن زهرة السوسن هي دواءٌ قويٌ ضد الحيات والسموم. فهكذا أن أستدعاء أسم مريم هو دواءٌ فريد المنفعة للأنتصار على جميع التجارب، لا سيما المضادة العفة. حسبما يختبر ذلك بالعمل برأيٍ عامٍ كل أولئك الذين يستعملونه:* 

والقديس يوحنا الدمشقي (في تكلمه على البشارة بسر التجسد) يقول: أنني اذ كنت وطيد الرجاء فيكِ يا والدة الإله، فمن دوون ريبٍ أنا مخلصٌ ويمكنني أن أطرد أعدائي مهزماً لحصولي على عنايتكِ ومعونتكِ الكلية الأقتدار بمنزلة ترسٍ، فكذلك يستطيع أن يقول كل من يكون حاصلاً على السعادة بتعبده لهذه الملكة العظيمة: أنني اذا دعوتكِ مترجياً بكِ يا والدة الإله فمن المؤكد أنا لا أغلب من أعدائي، لأني اذ أكون معضداً بحمايتكِ. فأجري في أثر هؤلاء الأعداء طارداً، ولكوني أضع ضدهم مساعدتكِ إياي ومعونتكِ الكلية الإقتدار نظير الترس المنيع، فمن دون ريبٍ أنا أنتصر عليهم غالباً. وكما يقول أحد آباء الروم العلماء يعقوب الراهب (في عظته على ميلاد البتولة) مخاطباً للرب في شأن مريم هكذا: فأنتَ يا سيدي قد أعطيتنا هذه الأم سلاحاً كلي القدرة الذي بواسطته نحن ننتصر بتأكيدٍ على أعدائنا أجمعين.*

ثم أن العدد الحادي والعشرين من الاصحاح الثالث عشر من سفر الخروج يخبرنا بأن الله في أقتياده الشعب الاسرائيلي من مصر الى أرض الميعاد: كان يتقدمهم بعمود غمامٍ نهاراً ليظهر الطريق وبعمود نارٍ في الليل، وما فقد عامود الغمام نهاراً ولا عمود النار ليلاً قدام كافة الشعب: فيقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن في هذا العامود الكائن تارةً عمود غمامٍ وتارةً عمود نارٍ الذي في الحالتين كان رسماً لمريم، توجد الوظيفتان المستعملتان على الدوام من هذه الأسطوانة العظيمة مريم في خيرنا، فهي كعامود غمامٍ تحمينا من حرارة ونار غضب العدل الإلهي، وكعمود نارٍ تحامي عنا ضد وثبات الشياطين: ويضيف الى ذلك القديس بوناونتورا: أنها هي عمود نارٍ، لأنه كما أن الشمع يذوب من أمام وجه النار، فهكذا الشياطين يفقدون قوتهم ضد أنفس أولئك الذين مراتٍ مترادفةً يذكرون أسم مريم ويستغيثون به بعبادةٍ، وبنوع أفضل اذا أهتموا في أن يقتدوا بنموذجاتها:*

ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أن الأبالسة يرتعدون هلعاً ويرتجفون أرتعاشاً من مجرد سماعهم ذكر أسم مريم المجيدة: ويضيف الى هذا توما الكامبيسى قائلاً: أنه نظير ما يحدث للبشر أن يسقطوا مطروحين في الأرض اذا أنقضت صاعقةٌ من السماء غائصةً في الأرض بالقرب منهم، فعلى هذه الصورة تسقط الشياطين مغلوبين حالما يسمعون التلفظ بأسم مريم، فكم وكم حصل المتعبدون حسناً لهذه السيدة على أنتصاراتٍ غريبةٍ مجيدةٍ ضد هؤلاء الأعداء عند أستغاثتهم بأسمها الكلي القداسة، فبهذا الأسم قد غلب أعداه الجهنميين القديس أنطونيوس البدواني، ومثله الطوباوي أريكوس صوسونه مع آخرين كثيرين، من المغرمين بمحبة هذه السيدة. ثم لشهيرٌ هو في تاريخ الرسالة الى بلاد الجامبون: أنه مرةً قد ظهر لأحد المسيحيين هناك عددٌ عظيمٌ من الشياطين بصورة وحوشٍ ضارية مخيفة جداً متهددين اياه بالأفتراس، الا أن هذا المسيحي قد أجاب وقال لهم هكذا: أنه لا توجد معي أسلحةٌ ما التي أنتم تخافون منها مرتعدين، فأن كان الله قد سمح لكم بضرري فأفعلوا بي ما يحسن عندكم، غير أني أنما أستعمل بالمحاماة عن نفسي ضدكم الأسمين الكلية عذوبتهما. وهما أسما يسوع ومريم: فحالما هو تلفظ بهذين الأسمين المجيدين، واذا بالأرض قد أنفتحت وأبتلعت في قلبها تلك الأرواح المتعجرفة. والقديس أنسلموس يشهد بأنه بالأمتحان العملي قد شاهد كثيرين وسمع عن غيرهم، بأنهم عند أستغاثتهم بأسم مريم قد نجوا حالاً من الأخطار التي داهمتهم*

أما القديس بوناونتورا ففي مزموراته المختصة بالبتول الطوباوية يقول هكذا: أن أسمكِ العظيم يا مريم هو مجيدٌ في الغاية ومحبوبٌ جداً، فأولئك الذين يفكرون بأن يتلفظوا به في ساعة موتهم لا يخافون من الجحيم بجملته، لأن الشياطين عند سماعهم تسمية مريم يتركون حالاً تلك النفس، ويضيف الى ذلك بقوله: أنه لا يؤثر خوفاً في قلوب العساكر المحاربين على وجه الأرض خبر مجيء أعدائهم، بجيوشٍ عظيمة العدد والقوة والأسلحة ضدهم، بمقدار ما يؤثر من الخوف في قلوب قوات الجحيم ذكر أسم مريم وأقتدارها. ويقول القديس جرمانوس: أنكِ أيتها السيدة تجعلين عبيدكِ أمينين مطمأنين من غوائل وثبات العدو كلها، وذلك بمجرد أستدعائهم أسمكِ الكلي الأقتدار: فيا حبذا لو كان المسيحيون يستمرون منتبهين على أن يستغيثوا برجاءٍ وثقةٍ في حين هجوم التجارب ضدهم بأسم مريم، اذ أنهم بذلك ينجون حتماً وتأكيداً من السقوط بالخطيئة، لأن الطوباوي الأنوس يقول: أن الهتاف بهذا الأسم العظيم يرعب الشيطان مهزماً ويرتجف الجحيم مرعداً. بل أن والدة الإله نفسها قد أوحت الى القديسة بريجيتا، بأن العدو الجهنمي يغرب حالاً هارباً بعيداً عن أنفس أولئك الذين كانوا تحت حوزته، ولو مهما وجدوا من الخطأة الأشد تعاسةً، والأكثر بعداً عن الله، والأوفر دنواً من الهلاك، والأقوى أسراً لهذا العدو عينه، وذلك حالما يسمعهم يستغيثون بأسم مريم ذي الأقتدار طالبين معونتها بنيةٍ حقيقيةٍ على عدم الرجوع الى الخطيئة، غير أن تلك النفس (كقول والدة الإله عينها في الوحي المومى اليه) أن كانت لا تنفي ذاتها وتنزع عنها الخطيئة بواسطة الندامة والتوجع، فالشياطين من دون تأخيرٍ يرجعون اليها ويجددون أخذ التملك عليها كما كانوا قبلاً.*

 Click to view full size image

* نموذجٌ *

قد كان في مدينة راجيسبارجيوس أحد طغمة الأكليروس المدعوين: تابعي القانون: أسمه أرنولدوس جزيل التعبد لوالدة الإله الطوباوية، فهذا عندما دنا من ساعة الموت قد تناول الأسرار المقدسة، وتوسل الى ذوي جمعيته بالا يهملوه في ذاك الوقت الأخير، فعما أنهى كلماته معهم واذا به قد أستحال الى حالٍ أخرى بحضورهم، مملؤة من القلق والأضطراب والأرتعاش. مكدوداً بعرقٍ باردٍ، ثم بصوتٍ مرتجفٍ صرخ نحوهم قائلاً: أما تنظرون هؤلاء الشياطين المريدين أن يختطفوني الى جهنم. ثم بعد ذلك عج صارخاً بقوله: يا أخوتي أستغيثوا لأجلي بأسم مريم وأستمدوا لي منها المعونة، لأني أرجو منها أن تهبني الأنتصار والغلبة الكاملة فعند ذلك أبتدأ الحاضرون لديه بتلاوة طلبة العذراء المجيدة، وحين قولهم: يا قديسة مريم صلي لأجله: هتف المنازع نحوهم قائلاً: كرروا كرروا ذكر أسم مريم لأني الآن قد دنوت من المحكمة الإلهية، ثم بعد أم هجع قليلاً قال: أي نعم أنني فعلت ذلك. ولكن صنعت عنه توبةً: وفي غضون هذا القول التفت نحو البتول القديسة قائلاً: يا مريم أنا أخلص ناجياً أن كنت تعينيني، فبعد ذلك بزمنٍ ما قد وثبت عليه الشياطين من جديد محاربين إياه بالتجارب، الا أنه كان هو يحامي عن نفسه برسم الصليب المقدس، وبأستغاثته بمريم البتول، وعلى هذه الصورة أجتاز كل تلك الليلة، فلما أشرق ضياء الفجر فأرنولدوس أمتلأ تعزيةً وأبتهاجاً وصرخ قائلاً: أن مريم سيدتي وملجأي قد أستمدت لي الغفران والخلاص: وبعد هذا اذ كان متفرساً في الطوباوية الداعية إياه لأن يتبعها قال لها: أني آتي يا سيدتي آتي وراكِ، وكان يغتصب ذاته لينهض من على الفراش، ولكن اذ لم يمكنه أن يتبعها بالجسد، فحالاً رقد بهدوٍ وسلامٍ وهكذا أتبعها بالنفس الى الملك السماوي كما نؤمل*

† صلاة †

هوذا أنا الخاطئ المسكين طريحٌ على قدميكِ يا مريم رجائي. بعد أني مراتٍ كثيرةً حصلت بخطاياي أسيراً للشيطان والجحيم، فأنا أعلم جيداً أني أهملت ذاتي أن أُغلب من إبليس المحال لعدم ألتجائي اليكِ يا ملجأي، لأني لو كنت دائماً أهرب الى حمايتكِ، وأستغثت بأسمكِ لما كنت سقطت أصلاً، الا أنني أرجو يا سيدتي المحبوبة في الغاية أن أكون بواسطتكِ قد خرجت من حوزة الشيطان وملائكته وأن يكون الله جاد عليَّ بالغفران. ولكنني أرتعد خائفاً من أن أسقط جديداً في المستقبل ضمن قيود أعدائي الشياطين، لأني أعرف أنهم ما قطعوا أملهم من أن ينتصروا عليَّ ثانيةً. وهوذا هم يعدون لي تجارب وأمتحاناتٍ جديدةً ليثبوا عليَّ بها. فيا ملكتي وملجأي عينيني تحت ذيل برفيركِ، ولا تسمحي بأن تشاهديني مرةً أخرى ساقطاً في أسرهم، فأنا أعلم أنكِ تسعفيني وتهبيني الأنتصار عليهم طالما أنا أستغثت بكِ، ومن هذا القبيل أنا لا أخشى، ولكني أخاف من أن أنسى في حين هجوم التجارب عليَّ أن أستدعيكِ لمعونتي، فاذاً أنما الآن أتضرع اليكِ بأن تمنحيني هذه النعمة التي أريدها منكِ أيتها البتول الكلية القداسة، وهي أن أفتكر فيكِ دائماً لا سيما حينما أوجد في ميدان المعركة، فأجعليني أن لا أهمل حينئذٍ أن أدعوكِ مراتٍ مترادفةً قائلاً، يا مريم عينيني، ساعديني يا مريم. وأخيراً عندما يكون بلغ اليوم النهائي لنجاز حربي مع الجحيم أي ساعة موتي، فوقتئذٍ أسعفيني يا سيدتي بأبلغ نوع. وأنتِ نفسكِ ذكريني في أن أستغيث بكِ بأكثر أتصالٍ. أما بفمي وأما بقلبي، حتى اذا ما أسلمت روحي في حال وجود أسم أبنكِ يسوع الكلي القداسة وأسمكِ الكلي الحلاوة في فمي.

فأستطيع أن آتي أمام قدميكِ لأبارككِ

وأمدحكِ من دون أن أنفصل عنكِ

الى الأبد آمين.*



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +