Skip to Content

المقالة الأولى: أعياد مريم البتول - كتاب امجاد مريم

 

Click to view full size image

المـقـالـة الأولى 

أعياد العذراء السبعة السنوية  

الفصل الأول

*فيما يلاحظ عيد الحبل بوالدة الإله مريم البريء من دنس الخطيئة *

* الأصلية وكيف أنه لائقٌ جداً بالثلاثة الأقانيم الإلهية أن *

* يسبقوا ويحفظوا مريم البتول ناجيةً من دنس خطيئة *

* آدم وحواء: وفيه ثلاثة أجزاء *

الجزء الأول

* في كم هو لائقٌ هذا الحفظ بأقنوم الله الآب*

أن الأندثار والأضطرار التي قد سببتها الخطيئة الجدية الملعونة لأبينا آدم ولسائر الجنس البشري هي عظيمةٌ في الغاية، لأن آدم حينما خسر وقتئذٍ بتعاسةٍ نعمة الله، فقد خسر معها جملةً كل الخيرات الأخرى التي كان هو أستغني بها حين خلقه. ومعاً قد جلب لذاته ولذريته بأسرها بغضة الله جملةً مع الشرور كلها. غير أن الله قد أراد أن يحفظ من غوائل هذه المصيبة العظمى. تلك البتول المباركة التي قد أعدها تعالى مختارةً منه أماً عتيدةً لآدم الثاني يسوع المسيح، الذي كان مزمعاً أن يصلح الضرر المسبب من آدم الأول الساقط. فلنتأمل الأن في كم هو لائقٌ غاية اللياقة بالله الواحد المثلث الأقانيم، أن يسبق ويحفظ هذه البتول المجيدة من دنس الخطيئة الأصلية. وكيف أنه كان يليق بالله الآب أن يستثني هذه العذراء من غوائل الخطيئة المذكورة ومن مفعولاتها، بحسبما أنها هي أبنته عز وجل. وكيف كان يليق بالله الأبن أن يصنع ذلك نحوها بحسبما هي أمه العتيدة أن تلده متجسداً منها، ثم كيف كان يليق بالله الروح القدس أن يصنع معها هذا بحسبما هي عروسته.*

فلنتكلم الآن عن هذه اللياقة المختصة بالله الآب الذي هو الأقنوم الأول من الثالوث الأقدس قائلين: أنه لأمرٌ لائقٌ جداً بالآب الأزلي أن يحفظ مريم البتول ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية، لأن هذه العذراء هي أبنته تعالى، بل هي أبنته البكر. كما كتب عنها: أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً قبل جميع المخلوقات: (أبن سيراخ ص24 ع5) لأن مفسري الكتاب المقدس، والآباء القديسين بل الكنيسة الجامعة نفسها، خاصةً في عيد الحبل بمريم البريء من الدنس قد خصصت كلمات هذا النص الإلهي بوالدة الإله هذه الدائمة بكارتها. على أن مريم العذراء هي أبنةٌ بكرٌ لله. أما من قبيل كونها أختيرت منتخبةً جملةً مع أبنها يسوع المسيح بالمراسيم الأزلية قبل المخلوقات كلها، كما يعلّم ذلك المدارسيون السكوتيستيون، وأما أنها هي أبنةٌ بكرٌ لله بالنعمة بحسب كونها أعدت مختارةً أماً حقيقيةً لفادي الجنس البشري، بعد أن الله سبق وعرف الخطيئة العتيدة حدوثها، كما يعلّم المدارسيون التوماويون. الا أن هؤلاء وأوالئك على حدٍ سواء يتفقون برأيٍ واحدٍ في أن يسموا هذه البتول المجيدة أبنةً لله البكر، الأمر الذي هو مملؤٌ من اللياقة. أنها أي مريم العذراء لا تكون وجدت أصلاً أسيرةً للوسيفوروس، بل دائماً أن تكون حصلت ممتلكةً من الله وحده خالقها، حسبما تقول هي عن نفسها: أن الرب أقتناني بدأً لطرقه قبل أن يصنع شيئاً من البدء: (أمثال ص8ع22) ومن ثم بالصواب قد دعيت هذه البتول من القديس ديونيسيوس البطريرك الأسكندري: أنها وحدها هي أبنةٌ وحيدةٌ للحياة، خلافاً لبقية الأنفس اللواتي يولدن بالخطيئة بناتٍ للموت.*

وما عدا ذلك أنه قد لاق في الغاية أن الآب الأزلي يخلق هذه الأبنة في حال نعمته، لأنه عز وجل قد أقامها منتخباً إياها بصفة مصلحة للعالم الهالك، ووسيطة للصلح والسلام فيما بينه تعالى وبين البشر. حسبما يلقبها بذلك الآباء القديسون، خاصةً القديس يوحنا الدمشقي (في ميمره الأول على ميلادها) اذ يقول نحوها هكذا: أنكِ لقد ولدتِ أيتها البتول المباركة، لتستخدمي صائرةً خلاصاً لسكان الأرض كلها: ولذلك يعلم القديس برنردوس قائلاً: أن سفينة نوح كانت رسما لمريم العذراء لأنه كما أن البشر قد خلصوا من الغرق العرمرمي بواسطة تلك السفينة، فهكذا نحن خلصنا من غرق الخطيئة بواسطة مريم، غير أن الفرق الكائن فيما بين الرسم والحقيقة هو أنه بواسطة السفينة النوحية قد خلص نفرٌ يسيرٌ (أي ثمانية أشخاص فقط) وأما بواسطة مريم فقد خلص الجنس البشري بأسره، ولذلك يسميها القديس أثاناسيوس الكبير أنها هي حواء الجديدة أم الحياة. لأن حواء الأولى قد وجدت هي أم الموت، وأما البتول المجيدة فهي أم الحياة. والقديس ثاوفانوس أسقف نيقية يتفوه نحوها هاتفاً: السلام عليكِ يا مصلحة حزن حواء المنقذة إياها من الغموم. والقديس باسيليوس الكبير يصرخ إليها قائلاً: السلام عليكِ يا وسيطة الصلح فيما بين الله والبشر. والقديس أفرام السرياني يهتف نحوها بقوله: السلام عليكِ يا مصالحة العالم بأسره مع خالقه.*

فأمرٌ واضحٌ هو أن من يدخل وسيطاً فيما للصلح، لا ينبغي أن توجد فيما بينه وبين االمهان من الفريق المهين أدنى عداوةٍ. وبأكثر من ذلك يلزمه أن يكون ناجياً من الأشتراك بجريرة الأهانة عينها. لأنه كما يقول القديس غريغوريوس الكبير: أنه لكي يستعطف خاطر القاضي ويهدئ غضبه لا يحب أن يمضي إليه وسيطاً بذلك، رجلٌ يكون عدواً له، والا فعوضاً عن أكتساب رضوان القاضي وأجتلابه الى الصفح يشتد بالأكثر رجزه ضد المذنب. ولهذا اذ كان يلزم أن مريم تدخل وسيطةً للصلح فيما بين الله والبشر، فبكل الوجوه واللياقة كان يلزمها أن لا توجد هي أيضاً مدنسةً بالخطيئة، ولا تظهر أمامه تعالى مشابةً بالعداوة له عز وجل، بل كان يقتضي أن توجد بكليتها صديقةً له بريئة من الذنب، ناجية من دنس المعصية.*

ثم بأبلغ من ذلك، لاق واجباً أن الله يسبق ويحفظ هذه البتول من تبعة الخطيئة الجدية، لأنه جلت قدوسيته قد كان أعدها مختاراً إياها لأن تسحق رأس الحية الجهنمية، التي لكونها خدعت أبوينا الأولين، فقد سببت بسقطتهما الموت للجنس البشري جميعه. كما يظهر مما قاله الحق بالذات، اذ أبرز الحكومة ضد هذه الحية الخبيثة بقوله لها: وأضعن العداوة بينكِ وبين الأمرأة. وبين نسلكِ ونسلها وهي تسحق رأسكِ: (تكوين ص3ع15) فأن كانت مريم اذاً هي تلك الأمرأة الشجاعة التي أوجدها الله في العالم لتنتصر على لوسيفوروس، فبالحقيقة لم يكن لائقاً أن تكون هي قبلاً وجدت مغلوبةً من هذا العدو الجهنمي حاصلةً تحت أسره، بل بالأحرى قد كان بالصواب أن توجد هي بريئةً من دنس كل خطيئةٍ، وناجيةً من أية ولايةٍ كانت للعدو الجحيمي عليها، فأي نعم أن لوسيفوروس المتعجرف قد أجتهد في أن يدنس نفس هذه البتول الكلية الطهارة، بالنوع الذي به قد كان دنس بسمه القتال أنفس جميع البشر. ولكن فليكن دائماً مسبحاً وممجداً صلاح الله الذي سبق لأجل ذلك وأملأ هذه النفس المباركة نعماً هكذا عظيمةً، حتى أنها اذ أستمرت ناجيةً من تبعة المعصية، وسالمةً من دنس كل خطيئةٍ. فقد أستطاعت على هذه الصورة أن تحارب الحية الجهنمية المتكبرة وتغلبها منتصرةً عليها، كما يقول القديس أوغوسطينوس: ( أو ذاك المنسوب له تفسير سفر التكوين): أنه اذ كان الشيطان هو رأس الخطيئة الأصلية، فمريم قد سحقته لأجل أن الخطيئة لم تجد في نفسها النقية مدخلاً، وهي وجدت بريئةً من كل دنسٍ. ثم كما يقول القديس بوناونتورا واضحاً: أنه قد كان واجباً أن مريم البتول الطوباوية المزيحة عنا العار والأهانة تنتصر على الشيطان، بحسب كونها لم تحصل تحت حوزته بنوعٍ من الأنواع أصلاً.*

الا أنه بوجهٍ أخص من كل الأوجه – لائق أولاً وبدأً بالآب الأزلي أن يصير أبنته هذه خاليةً بالكلية من دنس خطيئة آدم، من هذا القبيل خاصةً، وهو من كونه أنتخبها وميزها وأعدها لأن تكون أماً بالجسد لأبنه الإلهي الوحيد. ولذلك يقول نحوها القديس برنردينوس السياني: أنكِ قد أنتخبتِ مرسومةً في عقل الله قبل الخلائق كلها، لكي تعطي أنتِ الكون الإنساني لله عينه: فاذاً قلما يكون لأجل هذه الغاية اذا لم تكن غاياتٌ أخرى غيرها. أي لكي يكرم الله الآب أبنه الذي هو إلهٌ مساوٍ له، فكان من الصواب أنه تعالى يخلق والدة أبنه هذه بريئة من كل دنسٍ وعيبٍ. فيقول المعلم الملائكي القديس توما: أن كل الأشياء التي رسمت مختصةً بالله، يلزمها أن تكون مقدسةً نقيةً طاهرةً ناجيةً من كل دنسٍ أم وصمةٍ أو عيبٍ. ومن ثم عندما كان هيأ داود الملك تلك المواد العظيمة من الجواهر والذهب والفضة والنحاس وكل ما كان يلزم لتشييد هيكل الله في أورشليم بنوعٍ لائقٍ بالرب قال: لأن هذا البنيان العظيم ليس هو لإنسانٍ بل لله رب العالمين: (سفر الأيام الأول ص29ع1) فكم اذاً بأبلغ من ذلك يلزمنا أن نعتقد بالصواب في أن خالق الكون الأعظم، حينما هيأ لأبنه الإلهي عينه أماً، قد لزم الأمر أن يجملها عز وجل بجميع تلك النعم الأثمن والأسمى، لكي تكون مسكناً لائقاً بإلهٍ.

ويثبت هذا القول نفسه الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس، بل أن الكنيسة المقدسة عينها تحقق لنا ذلك بشهادتها في أن الله قد هيأ نفس البتول الطوباوية وجسدها، وأعدهما ليكونا منزلاً لائقاً في الأرض لأبنه الوحيد. اذ يقول في صلواتها نحو الله الآب هكذا: أيها الإله الأزلي القادر على كل شيءٍ، يا من هيأت نفس العذراء الأم المجيدة وجسدها بنوعٍ يليق لسكنى أبنكَ، كما أن روحكَ القدوس قد شارككَ في هذا الأستعداد:*

فأمرٌ معلومٌ هو أن كرامة الأولاد الأولى وشرفهم الأول هو أتلادهم من والدين شرفا، كما هو مكتوبٌ: أن فخر الأولاد أباؤهم: (أمثال ص17ع6) ولذلك فالأحتقار الذي يلم بأولئك الأولاد من قبيل أنهم لم يملكوا خيراتٍ أرضيةٍ أو علوماً، هو محتملٌ في العالم بأكثر سهولةٍ من الأحتقار الملم بأولئك المولودين مولداً ذا عيبٍ وأهانةٍ. لأن الأبن الفقير يمكنه أن يكتسب بأتعابه وجهده الغنى ويصير مثرياً من الموجودات، وكذلك الأبن العاري من العلوم يمكنه درسها وأكتسابها ولو بعد حينٍ، وأما المولود من سلالةٍ دنيةٍ أو معابةٍ، فأمرٌ كلي الصعوبة هو أن يمكنه البلوغ الى مراتب الشرف. واذا أتفق له أن يحصل على ذلك فدائماً يبقى تحت الخوف من أن أحداً يعيره بدناءة أصله، أو بشائبة مولده، أم بعيب سلالته. فكيف اذاً يمكننا أن نتصور أمراً مستطاعاً لائقاً أن الله الآب، اذ هو قادرٌ أن يجعل أبنه أن يولد متجسداً من أمٍ شريفةٍ بشرفٍ حقيفيٍ. وهو حفظه إياها ناجيةً من دنس الخطيئة بنعمةٍ خصوصيةٍ منه، ولم يرد أن يفعل ذلك، بل شاء أنه يتجسد من أمٍ معابةٍ بجريرة الأثم والمعصية، سامحاً بأن لوسيفوروس يستطيع أن يعيره بأنه ولد من أمٍ حصلت في وقتٍ ما أسيرةً تحت حوزته الجهنمية عدوةً لله، لا لعمري أن الله الآب لم يسمح بذلك قط، لكنه سبق ودبر ما يليق بكرامة أبنه الوحيد، مصيراً أن تكون والدة هذا الإبن الإلهي مستثناةً محفوظةً بريئة من العيب، وناجية من دنس المعصية الأصلية، لتوجد بكليتها أماً لائقةً لأبنٍ هذه صفته. فهكذا تشهد لنا الكنيسة اليونانية في المينولوجيون في فرض اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار قائلةً: أن العناية الإلهية قد صنعت البتول الكلية القداسة بتدبيرٍ خصوصيٍ كاملةً، من قبل أن تبتدئ هي بالحياة. نقيةً طاهرةً بريئةً من العيب، بنوع أنها تكون بكليتها لائقةً ومستحقةً أن تصير للمسيح أماً.*

فرأيٌ عامٌ فيما بين اللاهوتيين متفقٌ عليه من جميعهم هو أنه لم يكن منح قط لأحدى المخلوقات نوعٌ ما من المواهب، الا وقد وجدت الطوباوية مريم البتول غنيةً بذاك النوع نفسه مما نالته من الله، فهكذا يقول القديس برنردوس: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن الشيء الذي منح لبعض البشر لا يمكن أن يكون نكر أعطاؤه لبتولةٍ هكذا عظيمةٍ: ويقول القديس توما الفيلانوفي: أنه لم يكن منح أصلاً شيءٌ ما من المواهب لأحدٍ من القديسين. الا وقد تلألأ بنوعٍ متفاضلٍ سامٍ جداً في شخص مريم البتول منذ الدقيقة الأولى من حياتها.*

ومن حيث أنه أمرٌ حقيقيٌ هو أنه فيما بين والدة الإله وبين عبيد الإله يوجد فرقٌ لا يحد، كقول القديس يوحنا الدمشقي الذائع الصيت: أنه لتباعدٌ غير متناهٍ كائنٌ فيما بين عبيد الله وبين أمه تعالى: فأمرٌ صادقٌ هو أن يحتسب بالحقيقة أن الله قد منح أنعاماتٍ وأختصاصاتٍ ساميةً جداً لوالدته بالجسد، متفاضلةً جداً عن تلك التي منحها لعبيده، وهذا هو تعليم القديس توما اللاهوتي القائل: أنها لأعظم وأجل في كل نوعٍ، ومتميزةٌ جداً هي النعم والأختصاصات الممنوحة لوالدة الإله، وفائقةٌ في الغاية عن تلك الممنوحة لعبيده عز وجل: فاذا أفترضنا ذلك حقيقةً فيبرهن عنه القديس أنسلموس المحامي العظيم عن الحبل البريء من الدنس بوالدة الإله اذ يقول هكذا:" أهل أن حكمة الله لم تستطع أن تهيئ لأبنه الإلهي مسكناً طاهراً نقياً بحفظها هذا المسكن بريئاً من كل دنسٍ ملتحقٍ بالطبيعة الإنسانية، أو هل أن الله الذي أستطاع أن يحفظ الملائكة في السماء غير معابين ولا مدنسين بجريرة الأثم، في حين سقوط عددٍ عظيمٍ من الأرواح الشريرة، وما قدر مع ذلك أن يحفظ والدة أبنه التي هي سلطانة الملائكة من تبعة سقطة البشر العامة". ثم أني أضيف الى ذلك قائلاً هل أن الله قد أستطاع أن يعطي النعمة لحواء أمنا الأولى بأن تأتي الى العالم بريئةً من العيب والدنس في حال البر الأصلي، وبعد ذلك ما قدر تعالى أن يعطي النعمة لمريم العذراء.*

كلا، أن الله قد أستطاع أن يصنع هذا حسناً وقد فعله حقاً. اذ أن الصواب والعقل النطقي يوجبانه بكل لياقةٍ، كما يقول القديس أنسلموس عينه هكذا:" أن تلك البتول التي قد أعدها الله لأن يعطيها أبنه الإلهي نفسه أبناً لها، قد صيرها مزينةً بنقاوةٍ هذا حدها، حتى أنها ليس فقط تفوق بطهارتها على البشر جميعاً وعلى الملائكة كافةً، بل أيضاً أن تكون هي الأعظم بعد الله فيما يمكن للفهم أن يدركه". وبأكثر أيضاحٍ من ذلك يقول القديس يوحنا الدمشقي: أن الله قد حفظ مريم البتول وجسدها بحسبما كان يليق بها أن تقتبل في أحشائها الإله متجسداً، على أنه من حيث أن الله قدوسٌ هو ميستريح في القديسين.*

ومن ثم قد أستطاع حسناً أن يتفوه الآب الأزلي نحو أبنته هذه المحبوبة منه قائلاً: كسوسنٍ بين الأشواك هكذا قرينتي بين البنات، (نشيد ص2ع2) أي أنكِ يا أبنتي لكائنةٌ أنتِ فيما بين جميع بناتي الأخرات كزهرة الزنبق بين الأشواك. لأن تلك البنات كلهن مدنساتٌ بجريرة المعصية وبتبعة الخطيئة، وأما أنتِ فوجدتِ دائماً بريئةً من الدنس ناجيةً من العيب صديقةً حبيبةً لي كقرينةٍ طاهرةٍ.*  

Click to view full size image

الجزء الثاني

* في أنه لائقٌ بالأقنوم الثاني الذي هو الأبن أن يسبق ويحفظ*

* مريم العذراء من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أمه*

أنه لم تفوض لأرادة الأولاد أصلاً، ولا لأحدٍ منهم على الأطلاق، الحرية والأستطاعة على أن يختار كلٌ منهم لذاته أماً له تلك التي هو يريدها، اذ أنه لمن المستحيل أن يوجد أبنٌ قبل والدته ليمكنه أن يختارها لذاته على مشيئته، ولكن اذا فرضنا المحال وهو أن نعمةً هذه صفتها أعطيت من الله لنفس أبنٍ قبل كيانه. أي أن يختار لذاته أماً من يشاءها، وبالتالي كان يمكن لهذا أن يختار أحدى الملكات المعظمات أماً له، فهل يعدل عنها وينتخب لذاته والدةً أحدى الأسيرات اللواتي هن في رقّ العبودية، أو اذ كان يستطيع أن يختارها من بين النساء المتقدمات بالشرف. فهل ينتخب عوضاً عن الشريفة أحدى الفلاحات الحقيرات، أم اذا كان يقدر أن يخصص لذاته أماً تكون في حال نعمة الله وصداقته، أفهل ينتخب لنفسه بدلاً منها أماً عدوةً له تعالى ومبغوضةً منه. فأن كان اذاً أبن الله الأزلي وحده قد أستطاع أن يختار لذاته أماً يتجسد منها متأنساً، وقدر أن ينتخبها بمجرد أرادته ومشيئته المطلقة، فيلزمنا أن نعتقد يقيناً بأنه عز وجل قد أختار لذاته تلك التي كانت تليق أن تصير أماً لألهٍ. فهكذا يقول القديس برنردوس: أن صانع البشر اذ أراد أن يولد من بشرٍ، فيلزم أن يختار لنفسه تلك الأم اللائقة به: ومن حيث أنه لائقٌ في الغاية بإلهٍ كلي النقاوة هو أن يختص لذاته أماً طاهرةً بريئةً من دنسٍ أية خطيئةٍ أو زلةٍ كانت. فعلى هذه الصورة قد صنع والدته ناجيةً من دنس الأثم، كما يثبت ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أما نظراً الى تقديس الأم، فأمرٌ ضروريٌ هو أن يبعد عنها مطلقاً كل نوعٍ من الخطيئة الأصلية، فهذا الأمر تم في الطوباوية مريم البتول، لأن الله بالحقيقة قد خلق أماً هذه صفتها شريفةً في الطبيعة، وكاملةً في النعمة بنوعٍ يليق أن تكون هي به أماً له.*

وهذا هو موافقٌ لما كتبه الرسول الإلهي بقوله: أن مثل هذا لائقٌ أن يكون لنا رئيس كهنةٍ باراً لا شر فيه ولا دنس، منفصلاً عن الخطأة وصائراً أعلى من السموات: (عبرانيين ص7ع26) فعن هذا النص يقول أحد العلماء البارعين: أنه على موجب تعليم القديس بولس: لائق وواجب أن فادينا يكون منفصلاً ليس عن الخطايا فقط. بل عن الخطأة أيضاً: كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي قائلاً: قد كان واجباً به تعالى الذي، أنما جاء الى العالم ليرفع خطيئة العالم أن يكون منفصلاً من الخطأة، نظراً الى الذنب الذي حصل آدم تحت تبعته. فاذاً كيف لكان يمكن أن يصدق القول عن يسوع المسيح أنه منفصلٌ عن الخطأة، لو كان أتخذ له أماً قد وجدت مدنسةً بجريرة الخطيئة الأصلية.*

ثم أن القديس أمبروسيوس يقول: أن المسيح قد أختار لذاته هذا الأناء ليس من الأرض بل من السماء، لكي ينحدر بواسطته من السماء الى الأرض، وقد كرسه لذاته هيكلاً طاهراً مقدساً. مريداً بذلك هذا القديس أن يشير عن كلمات الرسول الإلهي وهي: أن الإنسان الأول من الأرض ترابي والإنسان الثاني الرب من السماء: (قرنتيه أولى ص15ع47) وأنما يسمي القديس أمبروسيوس هذه الأم الإلهية إناءً سماوياً، لا كأنها لم تكن هي من الأرض بحسب طبيعتها: كما حلم الأراتقة. بل هي سماوية بالنعمة، لأنها هي فائقةٌ على الملائكة السماويين بالقداسة والطهارة. حسبما كان يليق بإله المجد الذي أعدها لأن يسكن فيها متجسداً من أحشائها. كما أوحى القديس يوحنا المعمدان للقديسة بريجيتا بقوله لها: أنه لم يكن لائقاً بملك المجد أن يسكن قاطناً، الا في الأناء الكلي النقاوة، والمنتخب منه قبل الملكية والبشر أجمعين. وليضف الى ذلك ما أعلنه الآب الأزلي نفسه بالوحي لهذه القديسة وهو: أن مريم قد كانت إناءً نقياً وليس بنقيٍ، وهي نقيةٌ لأنها جميلةٌ بكليتها، وليست بنقيةٍ لأنها ولدت من والدين مدنسين بالخطيئة الأصلية، ولكن قد حبل بها غير مدنسةٍ بالخطيئة الجدية، لكي يولد منها أبني من غير خطيئةٍ: فينبغي هنا أن نلاحظ هذه الكلمات الأخيرة، أي حبل بها من دون خطيئةٍ، لتلد الأبن الإلهي خارجاً عن خطيئةٍ، لا كأنه كان ممكناً أن أبن الله يولد بالخطيئة، بل كيلا يحصل مهاناً من قبيل كونه ولد من أمٍ وجدت وقتاً ما مدنسةً بالخطيئة الأصلية أسيرةً للعدو الجهنمي.*

فالروح القدس يقول: أن كرامة المرء هي كرامة أبيه، وقباحة الأبن هي الأب بلا كرامةٍ: ( ابن سيراخ ص3ع13) ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن يسوع المسيح قد حفظ جسد مريم البتول والدته بريئاً من الفاساد بعد موتها، لأنه لكان الأمر راجعاً لأعانته تعالى، لو كان أعترى الفساد والنتن لحمان جسد هذه السيدة البتولي، الذي منه هو كان لبس الناسوت. فاذاً أن يكن أمراً مهيناً ليسوع المسيح أن يولد من أمٍ ذات جسدٍ لم يكن محفوظاً من فساد النتانة بعد الموت، فكم لكانت الأهانة له عز وجل أعظم، لو أنه ولد من أمٍ كانت نفسها تدنست بنتانة فساد الخطيئة الأصلية. ثم ما عدا ذلك أنه لشيءٌ حقيقيٌ هو أن جسد يسوع المسيح هو من جسد مريم البتول بعينه، ولذلك يقول القديس أوغوسطينوس: أن لحمان جسد المخلص قد أستمرت بعد قيامته من الموت أيضاً هي هي نفسها التي كان هو لبسها من جسد والدته العذراء. ومن ثم يقول القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن جسد يسوع وجسد مريم هما جسدٌ واحدٌ، ولذلك أنا أعتبر أن مجد أبن الله مع مجد والدته ليسا هما مجداً مشتركاً فقط، بل مجدٌ هو هو بعينه: فاذاً من حيث أن ذلك هو شيءٌ حقيقيٌ. فلو كان الحبل بالطوباوية مريم البتول قد تم بحال دنس الخطيئة الأصلية، فلئن لم يكن أبنها الإلهي أتخذ عنها ومنها هذا الدنس لذاته أصلاً، فمع ذلك لكان التحق به تعالى على الدوام نوعٌ ما من العيب، لأتخاذه لذاته لحماناً ناسوتيةً قد كانت وقتاً ما مدنسةً بنفس أمه الملتحق بها دنس الخطيئة الجدية، والصائرة إناءً قبيحاً. والخاضعة لولاية لوسيفوروس.*

فمريم الطوباوية هي ليست أماً فقط للمخلص. بل هي أمٌ لائقةٌ أيضاً ومستحقةٌ له عز وجل، كما يسميها الآباء القديسين كافةً. فيقول نحوها القديس برنردوس: أنكِ أنتِ وحدكِ وجدتِ أهلاً ومستحقةً لأن يسكن في حجرتكِ البتولية ملكَ الملوك، الذي قبل أن يقطن فيكِ قد سبق وأعدكِ لذاته. ويقول القديس توما الفيلانوفي: أن مريم البتول من قبل الحبل الإلهي وجدت موضوعاً قابلاً بلياقةٍ لأن تصير أماً لله. بل أن الكنيسة المقدسة نفسها تشهد لنا في إحدى صلواتها: بأن البتول القديسة قد أستحقت أن تكون أماً ليسوع المسيح: وفي هذا الشأن كتب القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن مريم ليس من ذاتها أستطاعت أن تستحق تجسد الكلمة الإلهي من أحشائها، بل أنها بقوة النعمة الإلهية قد أستحقت هذا الكمال الذي جعلها أهلاً ومستحقةً لأن تكون أماً لائقةً لإلهٍ: وكذلك يقول القديس بطرس داميانوس: انها لأجل سمو قداستها الفريدة من قبل نعمة الله قد أستحقة أن تعتبر أهلاً لأن تقتبل الله في أحشائها.*

فاذا تبرهن كما تقدم القول، أن مريم البتول قد وجدت أماً مستحقةً وأهلاً لله، فأية درجةٍ ساميةٍ من الفضيلة والكمال لائقة بها (كما يقول القديس توما الفيلانوفي) ثم أن المعلم الملائكي نفسه يورد قائلاً: أن الله حينما يختار أحداً الى دعوةٍ أو مرتبةٍ ما، فهو تعالى يصيره موضوعاً قابلاً لذلك بلياقةٍ. ومن ثم اذ أنه عز وجل قد أختار مريم أماً له، فبالحقيقة قد صيرها بواسطة نعمته موضوعاً لائقاً مستحقاً لهذا المقام، ولذلك هذه البتول القديسة لم تسقط قط بخطيئةٍ فعليةٍ، حتى ولا بخطيئةٍ عرضيةٍ، والا لما كانت وجدت هي أماً أهلاً ولائقةً ليسوع المسيح، لأن عيب هذه الأم وعدم أستحقاقها لكان يلتحق بأبنها أيضاً، لحصوله على أمٍ خاطئةٍ. فأن كان اذاً أفتراض سقوط مريم البتول بخطيئةٍ واحدةٍ عرضيةٍ، التي لا تعدم النفس نعمة التقديس، لكان يجعلها أماً غير لائقةٍ ولا أهلاً لله، فكم بأعظم من ذلك لما كانت وجدت أهلاً لأن تصير أماً له جلت قدوسيته، لو كانت نفسها تدنست بالخطيئة الأصلية المهلكة، التي كانت صيرتها عدوةً لله وأسيرةً للشيطان، ولهذا قال القديس أوغوسطينوس في تلك الحكومة الشائعة الذكر وهي: أنه حينما يأتي الخطاب عن مريم العذراء، فلم يود أن يؤتى بذكر شيءٍ يمكن أن يتضمن زلةً ما من الزلات، أو نقصاً ما من النقائص، لأجل كرامة ذاك الرب الذي هي أستحقته أبناً لها، وبواسطته قد فازت بالنعمة التي بها أنتصرت على الخطيئة من كل جهاتها.*

فمن ثم يلزمنا أن نعتبر أمراً حقيقياً صادقاً أن كلمة الله المتجسد قد أنتخب لذاته أماً لائقةً به. بنوع أنه لا يلحقه من جرائها أدنى خجالةٍ. كما يبرهن القديس بطرس داميانوس، وحسبما يورد القديس بروكلوس قائلاً: أن الرب قد سكن في تلك الأحشاء التي هو تعالى خلقها بريئةً من العيب. فمخلصنا لم يكن يغتاظ أصلاً من تسمية اليهود إياه. بنية أن يحتقروه: أبن مريم: كأنه أبن أمرأةٍ فقيرةٍ بقولهم: أليس أن أمه تسمى مريم: (متى ص13ع55) فهذا لم يسبب له تعالى عاراً، لأنه جاء الى الأرض ليعطي نموذج التواضع والصبر، ولكن من دون ريبٍ لقد كان بضد ذلك حصل له هوانٌ وسبب له العار، لو أمكن للشيطان وملائكته أن يقولوا عنه: أليس هذا هو المولود من مريم التي في وقتٍ ما وجدت مدنسةً بالخطيئة، وكانت حاصلةً أسيرةً لنا تحت حوزتنا: فلقد كان أمراً غير لائقٍ بالمخلص، لو كان يولد من أمرأةٍ مسقومةٍ بنقصٍ جسديٍ يعيبها ويبشع صورتها، أم أنها تكون معتراةً من الشيطان بجسدها، ولكن كم لكان عظم الأهانة له، لو أنه ولد من أمرأةٍ كانت حيناً ما قبيحة النفس ببشاعة الخطيئة الجدية، ومعتراة نفسها من لوسيفوروس المستولي عليها.*

فغير ممكنٍ أن هذا الإله الذي هو الحكمة بالذات الا يعرف أن يهيئ لذاته في الأرض ذاك البيت اللائق لسكناه الذي كان هو مزمعاً أن يقطن فيه. والحال أنه قد كتب: أن الحكمو أبتنت لها بيتاً ودعمته بسبعة أعمدة: (أمثال ص9ع1) ولقد قدس العلي مسكنه، الله في وسطها فلن تتزعزع، يعينها الله من الغداة: (مزمور 46ع6) أي أن الله من الغداة المعبر عنه في بدء حياة مريم، قد أعانها وقدسها مسكناً له، ليعدها أماً لائقةً لذاته لأنه لم يكن ممكناً ولا لائقاً بإلهٍ كلي القداسة الا يختار لذاته بيتاً مقدساً ليسكن فيه، كما يقول المرتل نحو الله: لبيتكَ ينبغي التقديس يا رب الى طول الأيام: (مزمور93ع5) والحال أن الباري تعالى يعلن واضحاً أنه لن يدخل هو الى نفسٍ معابةٍ، ولن يقطن في جسدٍ مجرم بجريرة الأثم، اذ يقول: لأن النفس الرديئة صناعتها لن تدخل الحكمة عليها، ولن تسكن في جسمٍ غريمٍ للخطايا: (حكمة ص1ع4) فكيف اذاً نقدر نحن أن نفتكر في أن أبن الله قد أختار أن يسكن في نفس مريم البتول وفي جسدها، قبل أن يكون حفظها ناجيةً من كل شائبةٍ وعيبٍ صادرٍ عن دنس الخطيئة، وقبل أن يكون قدسها. فالقديس توما اللاهوتي يقول: أن كلمة الآب الأزلي قد سكن ليس في نفس مريم فقط، بل في مستودعها وفي أحشاء جسدها أيضاً: ولذلك ترتل الكنيسة المقدسة بقولها: أنك لم تأنف أيها السيد من أن تقطن في بطن البتولة. على أنه لقد كان أمراً تأنف منه الطبيعة الإلهية أنه تعالى يتجسد متأنساً في أحشاء القديسة أنيسا مثلاً، أو في مستودع القديسة جالتروده، أو في بطن القديسة تريزيا، لأن هؤلاء ولئن كن قديساتٍ بتولاتٍ طاهراتٍ، الا أنهن مع ذلك في وقتٍ ما كن مدنساتٍ بالخطيئة الأصلية التي هن أتلدن بها، ولكن لم يأنف عز وجل من أن يتأنس في أحشاء مريم البتول، لأن هذه العذراء المجيدة المحبوبة قد وجدت دائماً بريئةً من الدنس، وخائبةً من أدنى شائبةً أو عيبٍ صادرٍ عن الخطيئة، وقط لم تدخل تحت حوزة الحية الجهنمية ولا هنيةً زهيدةً من الزمان. ولهذا كتب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن أبن الله لم يصنع لذاته بيتاً آخر أشرف من والدته مريم، التي قط لم تكن خضعت لأعدائه ولا تعرت من زينتها: وبالخلاف يقول القديس كيرللس الأسكندري (في العدد السادس من أعمال المجمع الأفسسي):" من سمع أن أحد علماء المهندسين، بعدما كان يشيد لذاته بيتاً خاصاً، فيعطي فيه حق التملك والأستيلاء عليه أولاً وبدءاً لعدوه الألد". ولهذا يقول القديس متوديوس: أن ذاك الرب الذي أمرنا بوصيته بأن نكرم والدينا، لم يرد تعالى اذ تجسد متأنساً أن يهمل تكميل هذه الوصية، بل أنه أعطى والدته كل نوعٍ من الكرامة والنعمة. ولذلك يبرهن القديس أوغوسطينوس، بأنه يلزم بالحقيقة أن يعتقد في أن يسوع المسيح قد حفظ من الفساد جسد أمه مريم بعد موتها، كما سبق القول، لأنه اذا لم يكن يصنع هذا لما كان حفظ حقاً الشريعة المرسومة منه التي، كما أنها تأمر بتكريم الوالدين، كذلك تنهي عن أهانتهم.*

فكم لكان نقص يسوع في تكريم والدته، لو أنه لم يكن حفظها من تبعة خطيئة آدم، فيقول الأب توما أرجانتينا أحد رهبان قانون القديس أوغوسطينوس: أنه يرتكب الخطأ من دون ريبٍ ذاك الأبن الذي، مع مقدرته على أن يحفظ والدته من دنس الخطيئة الأصلية لا يريد أن يفعل ذلك. فالشيء الذي يحسب علينا خطيئةً يلزم أن يعتقد أنه لم يكن ملائماً لكرامة أبن الله أن يفعله، أي أن يهمل خلقه والدته بريئةً من العيب، مع مقدرته على خلقها كذلك: كلا، أنه تعالى لم يهمل أن يصنع ذلك، حسبما يهتف العلامة جرسون قائلاً نحو مخلصنا هكذا: أنك اذا أردت أيها الملك السماوي أن تختار أماً لذاتك فكان يلزمك بالحقيقة أن تكرمها، والحال أنه لكان أمراً واضحاً جداً أنك لم تكن أكملت بالصواب هذه الشريعة، لو أنك تكون سمحت بأن دنس الخطيئة الأصلية الرجس يلتحق بتلك التي كان يلزمها أن توجد مسكناً للنقاوة بجملتها. وما عدا ذلك أنه أمرٌ واضحٌ هو ما يقوله القديس برنردينوس السياني: ان الأبن الإلهي جاء الى العالم لينقذ بنوعٍ أخص مريم العذراء فضلاً عن سائر الجنس البشري. ومن حيث أنه كتعليم القديس أوغوسطينوس يوجد نوعان بهما يتم الأنقاذ: فأحدهما هو أنهاض ذاك الذي يكون سقط، وثانيهما هو تدبير طريقةٍ بها يحفظ هو من أن يسقط. ومن دون ريبٍ أن النوع الثاني هو الأشرف (كما يقول القديس أنطونينوس) لأنه بذلك تصير النجاة من الضرر ومن العيب اللذين دائماً يلتحقان بنفس من يسقط بخطيئةٍ. فمن ثم بهذا النوع الثاني الأشرف والأليق بمن هي والدة الإله ينبغي واجباً أن يعتقد في أن مريم قد أنقذت. اذ أن القديس بوناونتورا في عظته الثانية على نياح والدة الإله ( العظة التي هي بالحقيقة له كما يبرهن العلامة فراسان) يقول هكذا: أنه يلزم أن يعتقد بأنه في نوع التقديس الجديد المختص بالحبل بهذه السيدة، فالروح القدس في الدقيقة الأولى حررها معتقاً من تبعة الخطيئة الأصلية (لا كأنها وجدت مدنسةً بها وهو بررها منها، بل أنه جعلها الا تتدنس بها) وهكذا بنعمةٍ حصوصيةٍ حفظها منها: وقد كتب في هذا الشأن الكردينال كوزانوس عباراتٍ جليلة بقوله: أن الآخرين قد فازوا بالمسيح مخلصاً إياهم من الخطيئة التي قد فعلت، وأما مريم البتول فقد فازت بهذا المخلص منجياً إياها من أن تلتحق بها جريرة الخطيئة مطلقاً.*

وبالأجمال أختتاماً لهذا الجزء يقول أوغون الذي من سان فيتورة: أنه من الثمرة تعرف الشجرة. فأن كان الخاروف حمل الله قد وجد دائماً بريئاً من العيب، فيلزم أن تكون والدته كذلك دائماً بريئةً من العيب: ومن ثم يتفوه نحوها هذا العلامة نفسه قائلاً: يا لكِ من أمٍ مستحقةٍ إبنٍ مستحقٍ (مريداً أن يبين المعنى بأن مريم العذراء وحدها وجدت أهلاً ولائقةً أن تصير أماً لإبن إلهي هذه صفة عظمته وقداسته. الذي هو وحده أستحق أماً هذا حد نقاوتها وطهارتها التي هي هذه البتول المجيدة): يا لكِ من مستأهلةٍ لمستأهلٍ، وجميلةٍ لجميلٍ، وساميةٍ لسامٍ: فلنقل اذاً نحو هذه السيدة العظيمة (مع القديس أيدالفونسوس) هكذا: يا مريم رضعي خالقكِ، أغدي باللبن ذاك الذي صنعكِ، وقد جملكِ بهذا الحد من النقاوة والكمال، حتى أنكِ أستحقيتِ أن يتخذ هو منكِ الطبيعة الإنسانية:*

 

Click to view full size image

 

الجزء الثالث

في أنه أن كان لائقٌ بالله الآب أن يحفظ مريم البتول بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، بحسبما هي أبنته،ولائقٌ بالله الأبن أن يصنع معها ذلك، بحسبما هي أمه... ولائقٌ أيضاً بالله الروح القدس أن يفعل

* معها هذا بحسبما هي عروسته.*

فيقول القديس أوغوسطينوس:" أن مريم قد كانت هي تلك التي وحدها أستحقت أن تسمى والدة الله وعروسته معاً". على أن القديس أنسلموس يبرهن:" أن الرروح الإلهي قد جاء وحل فيها جسدياً، واذ أغناها من النعم فوق المخلوقات كلها، فقد أستراح فيها، وصير سلطانة السماوات والأرض هذه عروسةً له". وأنما قال عن الروح القدس أنه حل فيها جسدياً ليعنى ثمرة حلوله بها، لأنه تعالى حل فيها ليصور من ناسوتها البريء من العيب ذاك الجسد الكلي الطهارة ليسوع المسيح. حسبما سبق رئيس الملائكة جبرائيل وأخبر هذه البتول بقوله لها: روح القدس يحل فيكِ: (لوقا ص1ع35) ولذلك يقول القديس توما المعلم الملائكي: انه لأجل هذه الغاية تسمى مريم هيكل الرب. ومقدس الروح القدس، وهي لأنها بقوة معل الروح القدس قد صارت أماً لكلمة الله المتجسد.*

فاذاً لو كان ممكناً أن يعطى من الله أحد المصورين أن الأمرأة التي هو يصور صورتها حسبما يريد، جميلةً كانت أو شنيعةً، فهذه نفسها ستكون له عروسةً شرعيةً، فترى كم من الجهد والعناية لكان يبذل هذا المصور في أن يجعل تلك الصورة بهيةً جميلةً فائقةً على كل ما سواها. فمن يمكنه اذاً أن يقول، أن الروح القدس لم يصنع نظير ذلك مع مريم البتول. أي أنه تعالى مع كونه قادراً على خلقها بتلك النقاوة وجمال النفس الفائق البهاء. لتكون عروسةً له، فلم يخلقها هكذا، كلا، أنه عز وجل قد خلقها بريئةً من الدنس لأنه هكذا كان يليق به أن يصنع وكذلك حقاً صنع. حسبما يشهد هو نفسه الحق بالذات في مديحه هذه المخلوقة الجليلة قائلاً نحوها: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ (نشيد ص4ع7) فهذه الكلمات تفهم بالحصر عن مريم العذراء. كقول القديسين أيدالفونسوس وتوما اللاهوتي، كما يورد كورنيليوس الحجري في تفسيره هذا النص، بل أن القديسين برنردينوس السياني، ولورانسوس يوستينياني يبرهنان على أن الكلمات المذكورة قيلت عن مريم العذراء حين الحبل بها البريء من الدنس. ومن ثم يخاطب هذه السيدة أيديوطا العلامة قائلاً: أنتِ كلكِ جميلةٌ أيتها البتول الكلية المجد، أي ليس بالتجزيء أنتِ جميلةٌ بل بكليتكِ، وليس فيكِ عيبٌ لا من دنس الخطيئة المميتة، ولا من تبعة الخطيئة العرضية ولا من جريرة الخطيئة الأصلية.*

والى هذا المعنى نفسه قد أشار الروح القدس حينما دعا عروسته هذه بستاناً مغلقاً بقوله: أن أختي العروسة هي بستانٌ مغلقٌ جنةٌ مقفلةٌ عينٌ مختومةٌ: (نشيد ص4ع12) فيقول القديس أيرونيموس:" أن مريم هي بالحصر هذا البستان المغلق، وهذه العين المختومة، لأن الأعداء ما أستطاعوا قط أن يدخلوا إليها ليهينوها. بل أنها قد أنحفظت على الدوام غير مثلومةٍ ولا معابةٍ، بأستمرارها دائماً قديسةً نفساً وجسماً معاً". ونظير ذلك قال القديس برنردوس مخاطباً هذه السيدة المجيدة في تفسيره النص المقدم ذكره هكذا: انتِ هي هذا البستان المغلق، لأن أيدي الخطأة لم تدخل إليكِ لتسلب منك شيئاً.*

ثم اننا نعلم أن هذا العروس الإلهي قد أحب عروسته مريم أشد حباً مما أحب به القديسين كافةً جملةً مع الملائكة. كما يبرهن الأب سوارس مع القديس لورانسوس يوستينياني وغيرهما. فهو تعالى منذ البدء قد أحبها وشرفها وكرمها، كما يرتل داود النبي بقوله: الذي أساسه في الجبال المقدسة، الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب... إنسانٌ ولد فيها وهو العلي الذي أسسها: (مزمور 87ع1 ثم ع5) فلا ريب في أن هذه الكلمات كلها تعلن أن مريم كانت قديسةً منذ الحبل بها. وهذا نفسه تعنيه أوقال الروح القدس من أجلها في أمكنةٍ أخرى فيقول عز وجل هكذا:" بناتٌ كثيراتٌ صنعن قوةً، كثيراتٌ أمتلكن غناءً. كثيراتٌ وجدن شرفاً وأماءً، وأنتِ فقتِ عليهن وأرتفعتِ مستعليةً على جميعهن: (أمثال ص31ع29) فأن كانت مريم فاقت وأرتفعت على الجميع بغنى النعمة، فاذاً قد فازت منذ خلقتها بالبر الأصلي. كما كان حصل على ذلك آدم والملائكة. ثم يقول تعالى: أن الملكات هن ستون، والسريات هن ثمانون، والشواب لا عدد لكثرتهن، وأما حمامتي وكاملتي (بل أنه يقرأ في النص العبراني كاملتي البريئة من الدنس) فهي واحدةٌ، هي وحيدةٌ لأمها، هي منتخبةٌ لوالدتها: (نشيد ص6ع7) فالأنفس البارة كافةً هن بناتٌ للنعمة الإلهية، وأما مريم فهي فيما بينهن الحمامة النقية الخالية من مرارة الخطيئة، وهي الكاملة البريئة من دنس المعصية الجدية، وهي الوحيدة التي حبل بها في حال النعمة.*

ولذلك زعيم الملائكة جبرائيل قد وجد هذه البتول ممتلئةً نعمةً قبل أن تكون بعد صارت أماً لله. ولهذه العلة نفسها حياها بالسلام قائلاً لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. فعن هذه الكلمات كتب صفرونيوس هكذا: أن النعمة تعطى للقديسين الآخرين بالتبعيض والتجزيء، وأما للبتول القديسة فقد أعطيت النعمة كلها، بنوع أنه كما يقول القديس توما اللاهوتي: أن النعمة قد صيرت قديسةً لا نفس مريم العذراء فقط، بل لحمان جسدها أيضاً، حتى أنها أستطاعت هي بعد ذلك أن تلبس الكلمة الأزلي من هذه اللحمان المقدسة جسداً: فهذه الأقوال كلها تقودنا أن نستنتج ونفهم جيداً، أن البتول مريم قد أغنيت من عروسها الروح القدس في حين الحبل بها بالنعمة الإلهية ممتلئةً منها، كما يبرهن بطرس جالانسه:" بأنه في هذه الأم وجد ملوء النعمة مجموعاً، لأنها منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها قد أفيضت عليها النعمة كلها من قبل فعل أنسكاب الروح القدس". ولذلك يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله قد أنتخب سريعاً هذه البتول، وسبق الروح القدس وأختارها عاجلاً كمختطفٍ: مريداً بهذا القول أن يشير عن السرعة التي بها الروح القدس حين الحبل بهذه العذراء، قد سبق مختصاً إياها لذاته عروسةً قبل أن يدنو منها لوسيفوروس بتدنسٍ ما.*

فأنا أريد أخيراً أن أختتم الفصل الحاضر (الذي قد أمتدت فيه الإيرادات بأكثر مما سواه، من حيث أن جميعيتنا الحقيرة الصغيرة قد أتخذت البتول الكلية القداسة محاميةً عنها بالحصر تحت صفة الحبل بها البريء من الدنس) وأني أنهي هذا الجزء الثالث نفسه، بإيرادي بقدر ما يمكنني من الأختصار، العلل والأسباب التي صيرتني مقتنعاً كل الأقتناع، كما أنها هي كافيةٌ لأن تلزم كل أحدٍ بالأقتناع في هذا الرأي الحاوي ما هو الأفضل في العبادة الحسنة لهذه السيدة المجيدة. وفي تكريمها الواجب الراجه لمجدها السامي، بالأعتقاد في أنه حبل بها نقية ناجيةً من دنس الخطيئة الأصلية.*

على أنه يوجد علماءٌ كثيرون وهم غالاتينوس، الكردينال كوزانوس، دابونته، سالاسار، كاتارينوس، نوفارينوس، فيفا، دالوغوس، أجيديوس. ريكاردوس، وغيرهم جزيلوا العدد الذين تمسكوا بهذا الرأي أيضاً محامين عنه بقوةٍ، وهو أنه لم يلتحق بالعذراء المجيدة حتى ولا الدين الناتج عن الخطيئة الأصلية، فهذا الرأي يمكن أثباته كثيراً، لأنه أن كان أمراً حقيقياً هو أنه ضمن أرادة الأب الأول آدم قد كانت موجودةً بالتضمن أرادة جميع البشر. بحسب كون هذا الأب هو رأس الطبيعة البشرية، كما يرتأي أمكانية ذلك المعلمان غونات وهابارت مع آخرين غيرهما، مستندين على كلمات القديس الرسول بولس القائل: أن جميع الناس أخطأوا فيه: (رومانيين ص5ع12) أي بواسطة آدم. فممكنٌ هو أيضاً أن مريم البتول لم تدخل تحت طائلة الدين الصادر عن معصية آدم، من قبيل أن الله قد ميزها كثيراً عن عموم البشر بالنعم الخصوصية. ومن ثم ينبغي أن يعتقد بحسن تدينٍ أن الله لم يشأ أن تكون أرادة مريم العذراء محتويةً ضمن أرادة آدم.*

فهذا الرأي أنما هو رأيٌ ممكنٌ أثباته لا غير، وأنا أتبعه من أجل أنه ذو مجد أفضل لسيدتي، ولكنني أعتبر أكيداً حقيقياً ذاك الرأي القائم في أنه لم تلتحق قط بهذه السيدة المجيدة خطيئة آدم، الأمر الذي تمسك به اللاهوتيون الآتي ذكرهم وأعتبروه حقيقياً، بل أعتقدوا به أنه قضيةٌ مناهزةٌ أن تكون محددةً من الكنيسة الجامعة بأنها من الإيمان، وهم الكردينال أيفاراردوس، دوفاليوس، راينالدوس، لوسادا، فيفا، وغيرهم كثيرون. وهنا أترك جانباً، الأوحية التي صارت توطيداً لهذا الرأي، لا سيما تلك التي حصلت عليها القديسة بريجيتا المثبتة من الكردينال طوراكراماتا، ومن أربعة أحبار رومانيين، كما يقرأ في أمكنةٍ مختلفةٍ من الكتاب السادس من هذه الأوحية، الا أنه لا يمكن لي أصلاً أن أترك إيراد بعض الأقوال، التي توجد فيها واضحةً أحكام الآباء القديسين المؤيدة هذا الرأي، لكي يظهر للقارئ كيف أنهم قد أتفقوا جميعاً في أثبات هذه الموهبة الخصوصية، الراجعة لتكريم الأم البتول الإلهية. فالقديس أمبروسيوس يقول مناجياً الله هكذا: أقبلني لا من سارة بل من مريم، حتى أن هذه التي أنت تقبلني لأجلها تكون بتولاً غير مفسودةٍ. ولكن بتولاً بنعمة الله بريئةً من كل دنسٍ ناتجٍ عن الخطيئة. والمعلم أوريجانوس اذ يتكلم عن مريم العذراء يقول: أن هذه البتول ما تدنست قط من نفخة الحية السمية. وقال القديس أفرام السرياني: أن مريم هي بريئةٌ من العيب، وخاليةٌ من الدنس، وناجيةٌ من جريرة أية خطيئةٍ كانت على الأطلاق. والقديس أوغوسطينوس في تفسيره السلام الملائكي كتب قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل بواسطة هذه الكلمات وهي: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً، قد أوضح بالتمام (لاحظ أيها القارئ لفظة بالتمام) أن رجز الحكومة الأولى المبرزة ضد حواء قد تلاشى، وقد أستردت البركة بملؤ النعمة. ويقول القديس أيرونيموس: أن العذراء مريم ما وجدت قط في الظلام، بل صودفت دائماً في النور: ثم أن القديس كبريانوس (أم المنسوبة له هذه العبارة أياً كان) يقول: أن العدل لم يكن يحتمل أن ذاك الأناء المنتخب يوجد مدنساً من قبل الأهانة العامة، لأن الأناء المذكور (أي مريم) هو مختلفٌ جداً جداً عنا نحن الآخرين، لأن هذه البتول قد أشتركت معنا بالطبيعة لا بالخطيئة. وقال القديس أمفيلوكيوس: أن ذاك الذي خلق البتول الأولى حواء بريئةً من العيب والدنس، فهو خلق هذه البتول الثانية بريئةً من العيب وخاليةً من دنس الخطيئة. وكتب صفرونيوس: أنه يقال عن البتول مريم أنها بريئةٌ من الدنس، لأنها لم تكن قط فسدت بنوع من الأنواع: والقديس أيدالفونسوس يقول: أن مريم قد وجدت بريئة من تبعة الخطيئة الأصلية: وقال القديس يوحنا الدمشقي: أن الحية لم تجد لها مدخلاً الى هذا الفردوس الذي هو مريم: ويقول القديس بطرس داميانوس: أن جسد العذراء المجيدة هو متسلسلٌ من آدم، ولكنها هي لم تتدنس بجريرة آدم. وقال القديس برونونه: أن هذه الأرض، أي البتول مريم هي غير مفسودةٍ، لأن فيها بركة الرب، وهي ناجيةٌ من عدوة سم كل خطيئةٍ على الأطلاق. ويقول القديس بوناونتورا: أن سيدتنا قد وجدت ممتلئةً نعمةً متقدمةً على تقديسها، نعمةً حافظةً إياها من طاعون سم الخطيئة الأصلية. وكتب القديس برنردينوس السياني قائلاً: أنه لا يمكن أن يصدق هذا وهو أن أبن الله أراد أن يولد من البتولة، ويأخذ من جسدها ناسوتاً مدنساً بجريرة الخطيئة الجدية. وقال القديس لورانسوس يوستينياني: أن مريم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها وجدت حاصلةً على البركات السابقة. والعلامة أيديوطا في تفسيره كلمات المبشر القائل: أنكِ يا مريم قد وجدتِ نعمةً: يخاطب هذه البتول قائلاً: أنكِ قد وجدت نعمةً خصوصيةً أيتها العذراء الكلية الحلاوة، نعمةً قد حفظتكِ ناجيةٍ من دنس الخطيئة الأصلية: وهذا نفسه يقوله معلمون آخرون كثيرون جداً.*

غير أن سببين خاصين يحققان لنا صدق هذا الرأي ويوطدان لنا هذه الحقيقة ذات الديانة الحسنة بنوعٍ أخص، فأحدهما هو أتفاق مذهب المؤمنين بوجه العموم على هذه الحقيقة، فيشهد الأب أجيلايوس بأن جمعيات الرهبنات كافةً قد أتبعوا هذا الرأي، أما رهبنة القديس عبد الأحد، فهذه عينها (كما يقول أحد العلماء المتأخرين) ولئن كانت تحوي أثنين وتسعين معلماً قد كتبوا ضد هذا الرأي، فمع ذلك في الوقت عينه حوت مايةً وستة وثلاثين معلماً قد أتبعوا رأينا ضد أولئك، ولكن الأمر الذي ينبغي أن يزيدنا تأكيداً فوق ذلك جميعه في هذا الرأي والحقيقة ذات حسن الديانة، فهو أضافة رأي البابا ألكسندروس السابع الى رأي جميع المؤمنين الكاثوليكيين، والمصرح في رسالته الرسولية المبدوة: أعتناء جميع الكنائس: المبرزة سنة 1661 حيث يقول فيها (ما عدا الأشياء الأخرى) هذه الكلمات وهي: أنه قد تضاعفت كثيراً هذه العبادة الحسنة نحو والدة الإله... فعلى هذه الصورة المدارسيون قد أعتنقوا هذا الرأي الصالح، وقد درج على نوعٍ ما عند جميع الكاثوليكيين". وبالحقيقة أن هذه القضية قد أعضدت وحومي عنها بقوةٍ من علماء المدارس الشهيرة نظير مدرسة سربونا، ومدرسة الكالا، ومدرسة سالاماناكا، ومدرسة كوامبريا، ومدرسة كولونيا، ومدرسة ماغونتسا، ومدرسة نابولي، ومدارس أخر غيرها كثيرة، وفي هذه المدارس كل من يحصل على صك شهادة الدرس، يلزم ذاته بقوة الحلف بأن يحامي دائماً عن الحبل بمريم العذراء البريء من دنس الخطيئة الأصلية. فأتفاق رأي المؤمنين العام على هذه القضية المذكورة، يستخدم من العلامة بيطافيوس في أثباته إياها، وعن برهان هذا الرأي العام قد كتب السيد الجليل فيما بين العلماء الأسقف يوليوس طورني: بأنه لا يمكن أن لا يغلب منه كل أحدٍ: على أنه أمرٌ حقيقيٌ، اذ لم يكن سوى برهان أتفاق رأي المؤمنين العام، هو الذي صير أكيدةً قضية تقديس مريم العذراء في أحشاء والدتها القديسة حنه، وقضية صعودها الى السماء بالنفس والجسد. لماذا اذاً أتفاق رأي المؤمنين على أنه حبل بهذه الأم الإلهية بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية. لا يصيرنا متأكيدين هذه القضية نظير القضيتين المقدم ذكرهما.*

أما السبب الثاني الذي يحقق لنا بنوع أبلغ وأقوى من السبب الأول صدق هذه القضية، ويجعلنا متأكدين أن مريم العذراء قد حبل بها بريئةً من تبعة المعصية الأصلية، فهو تعيين الكنيسة الجامعة عيداً خصوصياً يحتفل به لتكريم الحبل بها البريء من الدنس. فعن هذا السبب أنا ألاحظ من الجهة الواحدة أن الكنيسة تكرم بهذا العيد الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفس هذه العذراء المجيدة، وأتحدت بجسدها المتكون في أحشاء والدتها، حسبما يعلن ذلك واضحاً البابا ألكسندروس السابع في منشوره الرسولي السابق ذكره الذي به يقول:" أن الكنيسة تقدم للعذراء المجيدة في عيد الحبل بها البريء من الدنس، تلك العبادة عينها التي تكرمها بها كلمات الرأي، أو الحقيقة التي نحن في صددها". أي أنه منذ الدقيقة الأولى التي خلقت بها نفس البتول قد وجدت بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، ومن الجهة الثانية ألاحظ فاهماً ومتأكداً، أن الكنيسة الجامعة لا يمكنها أن تكرم بعبادةٍ أحتفاليةٍ ذات عيدٍ مشتهرٍ شيئاً لم يكن بكليته مقدساً، حسبما يبرهن القديس لاون الكبير الحبر الروماني، ومثله القديس أوسابيوس البابا القائل: أن الإيمان الكاثوليكي قد حفظ دائماً في السدة الرسولية بريئاً من العيب: وكما يعلم اللاهوتيون أجمعون جملةً مع القديس أوغوسطينوس، وكذلك القديس برنردوس والقديس توما اللاهوتي الذي يستخدم هذا البرهان نفسه. أي أحتفال الكنيسة بعيد ميلاد والدة الإله، ليثبت أنها أي العذراء المجيدة قد تقدست قبل أن تولد. وهذه هي كلماته: أن الكنيسة تحتفل بعيد ميلاد الطوباوية مريم البتول، ومن حيث أن الكنيسة لا تعيد الا لشيءٍ مقدسٍ، فمن ثم أستنتج أن الطوباوية العذراء قد تقدست في أحشاء والدتها قبل أن تولد. فاذاً أن كانت قضيةً حقيقيةً هي ما يقول هذا المعلم الملائكي، أي أن والدة الإله قد تقدست في أحشاء والدتها، لأجل أن الكنيسة تحتفل بعيدٍ خصوصيٍ لميلاد هذه العذراء، فلماذا نحن لا نتمسك بأنها حقيقةٌ هي هذه القضية أيضاً، وهي أن مريم البتول قد حبل بها بريئةً من دنس الخطيئة الأصلية، منذ البرهة الأولى من حياتها في حين خلقها، بل أننا عالمون أن الكنيسة تحتفل الآن بعيد الحبل بها البريء من الدنس بالمعنى المحامى عنه من ذوي هذا الرأي الحسن الديانة.*

ثم أثباتاً لهذه الخصوصية الجليلة التي فازت بها الطوباوية مريم البتول. بأن يحبل بها خلواً من تبعة المعصبة الجدية، فمعلومةٌ هي عند الجميع النعم العجيبة الفائقة الأحصاء التي تنازل الله لأن يصنعها على نوعٍ ما يومياً في جميع مملكة نابولي خاصةً. بواسطة الصور المطبوعة فيها أيقونة والدة الإله ذات الحبل بها البريء من الدنس، وأنا لقد كنت أستطيع أنأورد أخبار حوادث كثيرةٍ من ذلك قد جرت عن أيدي آباء جمعيتنا عينها، ولكنني أكتفي بتحرير حادثتين فقط منها وهما الآتي ذكرهما.*

* نموذجٌ *

أنه في أحد بيوت جمعيتنا الحقيرة الكائنة في مملكة نابولي، قد جاءت يوماً ما أحدى النساء عند بعض آباء جمعيتنا، وأخبرته بأن رجلها قد كان له سنون عديدة لم يتقدم الى منبر التوبة ليعترف بخطاياه، وأنها لم تعد هي تعلم ماذا تصنع معه لتجتذبه الى عمل التوبة، لأنها لما كانت تخاطبه في شأن الأعتراف، فهو كان يهينها ويضربها، فالأب بعد أن سمع إيرادها قد أرشدها بأن تعطي رجلها صورةً من صور الحبل بوالدة الإله البريء من الدنس. فاذ أخذت تلك الصورة وأنطلقت الى بيتها، فمساءً حينما جاء رجلها الى البيت فتحت هي له الخطاب عن الأعتراف، أما هو فجعل ذاته كأصم حسب عادته. ولم يصغ لها، فمن ثم قد دفعت إليه تلك الصورة، فحالما تسلمها منها. فعلى الفور قال لها:

متى تريدين أن تأخذيني لأعترف، لأني أنا مستعدٌ، فأمرأته من شدة الفرح طفقت تبكي عند مشاهدتها هذا التغيير السريع العجيب، وبالحقيقة أن الرجل قد ذهب في صباح تلك الليلة عينها الى كنيستنا لهذه الغاية، واذ سأله ذاك الأب نفسه كم كان له من الزمن من غير أعترافٍ، فأجابه أنه منذ مدة ثمانية ةعشرين سنة لم يكن تقدم الى منبر سر التوبة، فأعطف عليه الأب الخطاب قائلاً: وكيف أنك الآن في هذا الصباح باكراً حضرت لتعترف: فقال له: أعلم أيها الأب أني كنت مصراً على عدم التوبة، غير أن زوجتي في الليلة البارحة قد اعطتني صورة الحبل بالعذراء بلا دنس، وحالما أخذتها بيدي شعرت بتغييرٍ كلي في قلبي بهذا المقدار، حتى أنه كانت تظهر لي مدة كل ساعةٍ من هذه الليلة مستطيلةً كأنها سنون عديدة. منتظراً أشراق الفجر لكي آتي وأعترف بخطاياي: وحقاً أنه قد أعترف أعترافاً جيداً بنموذج صالح، وغير سيرة حياته الماضية، وواظب أزمنةً مديدةً على الأعتراف بتكاثرٍ عند ذاك الأب عينه.*

ثم في مكانٍ آخر من أبرشية سالارنو، في الوقت الذي فيه كنا نحن في تلك الأبرشية نمارس خدمة الرسالة المقدسة، قد كان هناك إنسانٌ حاصلة فيما بينه وبين شخصٍ آخر عداوةٌ شيطانية في أقصى حدود البغضة، فأحد آباء جمعيتنا قد تكلم مع ذاك الإنسان في أن يصفح غافراً لعدوه. أما هو فأجاب وقال له: أهل أنك رأيتني مرةً ما أيها الأب حاضراً في الكنيسة لأستماع مواعظكم. فأجابه: كلا، فقال له: اذاً لأجل هذه الغاية أنا ما حضرت قط لأسمع الوعظ عندكم، لأني أعرف ذاتي أني هالكٌ. ولكنني لا أريد شيئاً آخر سوى أن آخذ الثأر من عدوي: فالأب المومى اليه قد تعب كثيراً في أقناعه. ولكن سدى. فلما رآه بهذا المقدار مصراً على عدم التوبة حتى أن الكلام كله كان يمضي ضائعاً قال له أخيراً: خذ صورة حبل العذراء بلا دنس هذه: ففي الأبتداء أجاب وقال: ترى مالي وهذه الصورة: ولكن أخذها بعد ذلك من الأب. واذا به حالاً كأنه قط لم يكن أنكر الصفح قبلاً. سأل ذاك الأب قائلاً: هل أن أبوتك المكرمة تريد مني شيئاً آخر غير الترك والغفران لعدوي، فهوذا أنا مستعدٌ لأن أتتم ذلك: وهكذا أتفق معه على المجيء إليه لهذه الغاية في الصباح المقبل، غير أنه حينما جاء إليه في الغداة، فمن جديد تقلب روحه عن قصده الصالح. ولم يكن يرد أن يصنع شيئاً مما صار عليه الأتفاق، فحينئذٍ الأب المنوه عنه قد سلمه صورةً أخرى من صور الحبل بالعذراء بلا دنس، فلم يرد أن يقبلها أولاً. ولكنه حياءٍ وبعد الجهد قد أخذها، الا أنه منذ البرهة الأولى قال: هيا بنا، لأني أريد نهاية هذه القضية، أين هو ماستروداتي عدوي: وحالاً صنع معه الصلح وغفر له وتقدم الى منبر التوبة معترفاً بخطاياه.*

† صلاة †

يا سيدتي البريئة من الدنس، أنني أفرح معكِ عند ملاحظتي إياكِ غنيةً بهذا المقدار من سمو النقاوة والطهارة. فأشكر الخالق العام عازماً على أن أشكره دائماً، لأجل أنه حفظكِ بريئةً من دنس كل خطيئةٍ. ولكي أحامي عن قضية الحبل بكِ بغير دنس الخطيئة الأصلية، الأمر الذي هو خصوصيةٌ عظيمةٌ وجليلةٌ لائقةٌ بكرامتكِ، فأنا مستعدٌ وأقسم حالفاً، بأني أبيح دمي أن لزم الأمر، وأقبل الموت من أجل تأييدها، ولقد أتمنى أن سكان العالم بأسره يعرفونكِ ويعترفون بأنكِ أنتِ هي نجمة الصبح، التي هي دائماً مشعشعةٌ بالضياء الإلهي. وأنكِ أنتِ هي سفينة الخلاص المختارة ناجيةً من غرق الخطيئة العام. وأنكِ أنتِ هي تلك الحمامة الكاملة البريئة من العيب والخالية من الدنس، كما أوضحكِ عروسكِ الإلهي. وأنكِ أنتِ هي البستان المختوم والجنة المغلقة التي فيكِ وجد العلي تنعمه، وأنكِ أنتِ هي تلك العين المختومة التي لم يدخل إليها العدو ليعكر أمواهها. وأنكِ أخيراً أنتِ هي زهرة السوسن والزنبق النقي، اذ أنكِ قد نبت فيما بين الأشواك الذين هم أبناء آدم المولودون مدنسين بالخطيئة وأعداءً لله، فأنتِ ولدتِ نقيةً طاهرةً بيضاء خليلةً صديقةً لخالقكِ العظيم.*

فدعيني أمدحكِ أنا أيضاً حسبما مدحكِ إلهكِ قائلاً: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: يا حمامةً كلية النقاوة بيضاء بجملتكِ، جميلة بكليتكِ. صديقة الله دائماً. فيا مريم البريئة من الدنس الخالية من العيب الكلية الحلاوة، الموضوع الكلي الحب. فلأنكِ أنتِ بهذا المقدار جميلةٌ في عيني سيدكِ. لا تأنفي من أن تنظري بطرفكِ الشفوق الرحيم الى جراحات نفسي المتخنة المستكرهة. بل أنظري اليَّ وأرحميني وأشفيني. فيا حجر مغناطيس القلوب أجتذبي إليكِ قلبي أنا أيضاً الذليل، فأنتِ التي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد وجدتِ نقيةً وظهرتِ طاهرةً جميلةً أمام الله. أشفقي عليَّ أنا الذي ليس فقط ولدت بالخطيئة، بل أني بعد المعمودية أيضاً قد دنست من جديد نفسي بالمآثم. فذاك الإله الآب الذي أنتخبكِ أبنةً له، والإله الأبن الذي أختاركِ أماً له، والإله الروح القدس الذي أختصكِ عروسةً له. ولأجل ذلك قد حفظكِ الثالوث الأقدس بريئةً من كل دنسٍ. وميزكِ بحبٍ متقدم على مخلوقاته كلها، فأية نعمةٍ يمكن أن ينكر عليكِ. اذاً يلزمكِ أن تخلصيني أيتها البتول البريئة من العيب، فأنا أقول لكِ ما كان يقوله نحوكِ القديس فيلبس نيري: أجعليني أن أفتكر بكِ دائماً، وأنتِ لا تنسيني، ولكن تظهر لي إعاقتي عن الحضور لأشاهد جمالكِ السماوي كأنها مدة ألف سنة، حيث أراكِ في الفردوس، لكي أحبكِ أشد حباً، وأسبحكِ يا أمي ويا ملكتي، ويا حبيبتي الكلية البهاء والحلاوة والنقاوة البريئة من كل عيبٍ آمين.*

 

Click to view full size image

الفصل الثاني

* فيما يخص عيد ميلاد العذراء المجيدة، حيث يبرهن أن مريم ولدت*

* قديسةً عظيمةً، وأنها وجدت أمينةً عظيمةً فيما نالته من الله.*

* فيه حزءان*

* أنما أنا خرجت من فم العلي بكراً، قبل جميع المخلوقات (سيراخ 24/5) *

* فليكن مسبحاً على الدوام من كل البريئة، الحبل بمريم البريء من دنس الخطيئة الأصلية. صفحة 656 *

الجزء الأول

في كم هي عظيمة النعمة الأولى التي بها أغنى الله مريم البتول*

أن من عادة البشر أن يحتفلوا بعلامات الفرح والأبتهاج في تكميل مسرة حصولهم على أولادٍ يفرحون بميلادهم، ولكن بالأحرى كان يلزمهم أن يحزنوا متوجعين من أجل الأطفال الذين يولدون لهم، عند تأملهم في أن هؤلاء الأطفال ليس فقط هم عادمون الأستحقاقات وفاقدون الفهم، بل أيضاً هم مدنسون بالخطيئة الأصلية وأولاد الرجز. ولذلك هم مخصومون تحت حكومة الشقاء والموت. وأما ميلاد العذراء المجيدة، فيحق له حقاً وصواباً أن يحتفل به بالتعييد والأفراح، وبالتسابيح والمدائح والمسرات العامة، لأنها حينما جاءت الى ضوء هذا العالم، فلئن كانت طفلةً بالجسد والعمر، فمع ذلك وجدت كبيرةً في الأستحقاقات وفي الفضائل. فمريم قد ولدت قديسةً عظيمةً، ولكن لكي تفهم درجة القداسة التي بها هي ولدت، فيلزم أن يصير التأمل

أولاً: في كم كانت عظيمةً النعمة الأولى التي بها أغناها الله.

ثانياً: في كم كانت عظيمةً الأمانة التي هي حالاً جاوبت بها على هذه النعمة    لله.*

فاذ نتكلم الآن عن الشيء الأول، تاركين الشيء الثاني للجزء الآخر فنقول، أنه لأمرٌ حقيقيٌ هو أن نفس مريم العذراء قد كانت هي النفس الأجمل فيما خلقه الله، بل الأبلغ من ذلك هو أنه بعد صنيع سر تجسد كلمة الله، قد وجدت نفس مريم هي الصنيع الأعظم، والأكثر لياقةً بالإله القادر على كل شيءٍ، فيما صنعه في هذا العالم، ولذلك يسميها القديس بطرس داميانوس: أنها هي العمل الذي الله وحده يسمو عليه. فمن ثم أن النعمة الإلهية لم تنحدر فوقمريم نقطةً فنقطةً، كما أنحدرت على القديسين الآخرين، بل نزلت عليها: مثل الندى على الجزة ومثل القطر القاطر على الأرض: حسبما سبق وتنبأ عنها داود الملك (مزمور 72ع6) فقد كانت نفس مريم نظير الجزة التي قد أستوعبت قطر نعمة الله كله الذي أنحدر عليها، من دون أن تضيع منه نقطةٌ واحدةٌ، كما يقول عنها، القديس باسيليوس الكبير: أن البتول القديسة قد أجتذبت إليها نعمة الروح القدس كلها وأستوعبت منها: ولذلك هي تقول عن ذاتها بواسطة الحكيم أبن سيراخ (ص24ع16): وفي جمهور القديسين هو مقامي: أي كما يفسر ذلك القديس بوناونتورا قائلاً عن لسانها: أن جميع ما يملكه القديسون كافةً مفرقاً وبنوع التجزيء، فأنا أملكه كله ملواً وبوجه الأتساع المطلق. أما القديس فينجانسوس فراري، فاذ يتكلم بالخصوص عن سمو قداسة هذه البتول قبل أتلادها يقول: أنها قد فاقت بالقداسة على الملائكة القديسين أجمعين.*

فالنعمة التي حصلت عليها العذراء المجيدة قد كانت درجتها أسمى وأعظم، ليس فقط من درجة النعمة التي فاز بها كلٌ من القديسين بمفرده، بل هي أيضاً أعظم من النعم كلها التي حصل عليها القديسون كافةً، جملةً مع الملائكة الطوباويين، كما يبرهن عن ذلك مقنعاً بأثباتاتٍ راهنةٍ الأب العلامة فرنسيس بيبا اليسوعي، في تأليفه الجليل الملقب: عظمة يسوع ومريم. وهناك يورد أن هذه القضية المجيدة في تكريم ملكتنا العظيمة، هي الأن عامةٌ وأكيدةٌ فيما بين اللاهوتيين المحدثين (نظير ما هي مصرحةٌ ومبرهنةٌ من كارتاجانا، وسوارس، وسبينالي، وراكوبيتوس وغوارا، ومن آخرين كثيرين الذين قد فحصوها فحصاً مدارسياً مدققاً، الأمر الذي لم يصنعه هكذا القدماء) ثم يخبر بأبلغ من ذلك بأن هذه الأم الإلهية قد أرسلت من قلبها الأب مرتينوس غوتياراز الى الأب سوارس لكي يشكره على أسمها، لأجل أنه بحرارةٍ قويةٍ حامى عن هذه القضية الكلية الأمكان، كما يشهد أيضاً الأب السنيري بأنه قد حومي عنها فيما بعد من أتفاق رأي أهل مدرسة سالاماناكا العام.*

فأن كان اذاً هذا الرأي أو القضية هي هكذا عامةً وأكيدةً، فكذلك القضية الأخرى هي ممكنةٌ جداً، أي أن مريم العذراء منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس، قد حصلت على هذه النعمة السامية الفائقة درجتها علواً. على النعمة التي فاز بها القديسون والملائكة كلهم معاً. وعن هذا الأمر يحامي بقوةٍ الأب سوارس عينه، وقد تمسك هو به تابعاً للأب سبينالي وللأب راكوبيتوس وللأب كولومباره، ولكن ما عدا قوة رأي اللاهوتيين في هذا الشأن يوجد سببان آخران وعلتان قويتان غير مغلوبتين بهما تتأيد القضية المذكورة ثابتةً، فالعلة الأولى هي لأجل أن الله قد أختار مريم البتول أماً للكلمة الإلهي، ومن ثم يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه من حيث أن هذه العذراء المجيدة قد أختيرت الى رتبةٍ فائقةٍ على جميع المخلوقات، لأن مقام هذه المرتبة أي كونها والدة الإله، هو على نوعٍ ما (كما يورد الأب سوارس) مختصٌ بالأتحاد الأقنومي. فلهذا بالصواب قد أعطيت هي منذ بدء حياتها مواهب ذات رتبةٍ خصوصيةٍ ساميةٍ على المجميع، بنوع أن سمو هذه النعم يفوق بما لا يحد على كل المواهب والنعم الممنوحة لسائر المخلوقات الأخرى، وبالحقيقة أنه لأمرٌ خالٍ من كل أرتيابٍ هو أنه في الوقت عينه الذي فيه بموجب المراسيم الإلهية الأزلية، قد تحدد أمر تجسد كلمة الله الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، ففيه نفسه قد تحددت وتعينت له الأم التي كان يبتغي أن يتأنس منها، ويظهر من أحشائها لابساً جسداً. وهذه الأم هي حبيبتنا مريم المولودة طفلةً من القديسين يواكيم وحنة. فالمعلم الملائكي القديس توما يعلم قائلاً: أن الله يمنح لكل إنسانٍ النعمة الملائمة والمصاقبة للدعوة أ والمرتبة أم الوظيفة التي هو تعالى يكون عينها له وخصصه بها. بل أن القديس بولس الرسول قد علم بذلك قبل القديس توما بقوله: يا أخوة أن لنا مثل هذه الثقة بالمسيح عند الله... بل كفايتنا هي من الله الذي جعلنا كفوئين أن نكون خادمين الموثق الجديد: ( قرنتيه ثانية ص3ع5) مبيناً لنا بهذا النص أن الرسل قد أقتبلوا من الله المواهب الملائمة والكافية لأتمام واجبات الخدمة الرسولية. التي كان عز وجل أختارهم إليها. ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس السياني بقوله: أنه حينما يكون إنسانٌ أنتخب من الله الى دعوةٍ ما، فيقتبل منه تعالى لا التهيئ والأستعداد فقط الضروري لتلك الدعوة، بل المواهب أيضاً التي هو يحتاج إليها لأن يقوم حسناً في واجباتها بلياقةٍ. فاذاً أن كانت مريم البتول قد أختيرت منتخبةً لأن تكون أماً لله. فكان من اللائق والمتوجب حسناً أن الله يزينها منذ الدقيقة الأولى من حياتها بنعمةٍ غير محدودةٍ. وبرتبةٍ عاليةٍ على رتبة النعم الممنوحة منه تعالى للقديسين الآخرين كافةً. وللملائكة أجمعين، اذ يلزم أن النعمة تصاقب مجاوبةً، وتكون ملائمةً لحال الدعوة أو المقام والوظيفة الكلية السمو التي قد رفعها الله إليها. حسبما يبرهن اللاهوتيين أجمعون، جملةً مع القديس توما شمس المدارس الذي يقول:" أن البتول مريم قد انتخبت لتكون أماً لله، فلا ريب ولا أشكال في أن الله قد وهبها النعمة التي تجعلها موضوعاً قابلاً وذات كفايةٍ لهذه الدعوة، بنوع أنها قبل أن تكون صارت أماً لله قد تزينت بقداسةٍ كاملةٍ، حتى أنها صارت أهلاً لهذه الدعوة العظيمة والمقام الفائق سموه". ثم أن هذا القديس عينه قال: أنه لأجل ذلك قد سميت مريم ممتلئةً نعمةً، لا من جهة النعمة عينها، لأنها هي أي مريم ما قبلت النعمة العظمى ذاتياً الممكن الحصول عليها، كما أنها لم تكن عظمى ذاتياً النعمة الملكية التي وجدت في يسوع المسيح نفسه. أي بنوعٍ أن القوة الإلهية لم تعد تقدر أن تزيد هذه النعمة العظمى ذاتياً نمواً جديداً حتى تبلغ بها الى أقتدارٍ مطلقٍ، ولكن قد كانت هذه النعمة في يسوع المسيح مجاوبةً بكفايةٍ ومصاقبةً بلياقةٍ للغاية التي بها كان ناسوته تعالى مدبراً ومساساً من الحكمة الإلهية، أي أتحاد الكون الإنساني وبالأقنوم الإلهي: على أنه كما يعلم القديس المذكور نفسه قائلاً: أن القدرة الإلهي هي هكذا عظيمةٌ، حتى أنها مهما تهب مانحةً، فدائماً توجد مقتدرةً على أن تعطى من جديد، ومهما كانت القوة الطبيعية في الخليقة نظراً الى الأقتبال محدودةً، بنوع أنه يمكن أستيعابها وأملاؤها بالتمام، فمع ذلك أن هذه القوة الطبيعية للأقتبال الخاضعة للإرادة الإلهية هي غير محدودةٍ، فالباري تعالى هو دائماً قادرٌ على أن يملأها بالأكثر اذ يصيرها أن تقبل من جديد نعمةً جديدةً بعدما يكون قبلاً أملأها، ولهذا (اذ نرجع الى موضوعنا) يقول هذا المعلم الملائكي: أن البتول الطوباوية ولئن لم تكن ممتلئةً نعمةً نظراً الى النعمة ذاتها، فمع ذلك يقال عنها ممتلئةً نعمةً نظراً الى ذات مريم، لأنها حصلت على نعمةٍ عظيمةٍ غير محدودةٍ مصاقبةٍ وملائمةٍ ومجاوبةٍ وكافيةٍ لرتبتها ومقامها ودعوتها الغير المحدودة، بنوع أن هذه النعمة العظيمة قد صيرتها أهلاً لأن تكون أماً لله. ومن ثم يضيف الى ذلك بناديكتوس فرناندار قائلاً: أن القياس الذي بموجبه يمكننا أن نفهم ما هو مقدار عظمة النعمة التي نالتها مريم البتول من الله، أنما هو حال الدعوة والمرتبة التي هي أختيرت إليها، أي حال كونها أم الله:*

فاذاً بالصواب يعلن النبي والملك داود أن أساسات مدينة الله هذه هي فوق الجبال المقدسة قائلاً: الذي أساسه في الجبال المقدسة: (مزمور 87ع1) أي أن أساس حيوة مريم وأبتداء وجودها في العالم، كان يلزم أن يوجد أسمى وأعلى قداسةً من حيوة القديسين الآخرين كافةً الذين شاخوا في البر، ثم أن النبي يتبع كلامه بقوله: الرب أحب أبواب صهيون أفضل من جميع مساكن يعقوب. ويبرهن هو نفسه السبب معلناً: لأن إنساناً ولد فيها وهو العلي الذي أسسها. أي لأن الله قد كان مزمعاً أن يصير إنساناً من المستودع البتولي الذي لهذه المدينة صهيون التي هي مريم العذراء ولهذا كان من الواجب أنه تعالى يهب هذه البتول، منذ الدقيقة الأولى التي فيها هو خلقها نعمةً مصاقبةً للدعوة والمقام والرتبة التي هو أختارها إليها، وهي أن تكون والدةً لإلهٍ هكذا كلي الكمال.*

ثم أن النبي أشعيا يريد أن يشير الى هذا نفسه بقوله: لأنه سيكون في آخر الأيام جبل الرب ظاهراً، وبيت الله على قمم الجبال ويستعلي فوق أعلى التلال، ويجيء إليه كل الأمم ويسير إليه شعوبٌ كثيرة: (ص2ع2) مبادرين الى مريم البتول التي هي بيت الرب، ليستمدوا بواسطتها المراحم الإلهية. فالقديس غريغوريوس الكبير يفسر النص المذكور قائلاً: أن هذا الجبل بالحقيقة هو في قمة الجبال، لأن علو مقام مريم يتلألأ سمواً فوق جميع القديسين. ويقول القديس يوحنا الدمشقي: ان مريم هي الجبل الذي سر الله أن يختاره حجرةً لسكناه فيها: فلهذا قد دعيت هذه السيدة شجرة السرو. ولكن سرو جبل صهيون. وسميت بالأرز، ولكن أرز لبنان. ولقبت بالزيتونة، ولكن زيتونة جميلة، وكنيت بالمنتخبة ولكن منتخبة كالشمس، لأنه (يقول القديس بطرس داميانوس: كما أن الشمس تفضل بأشراقها وتفوق بأنوارها على الكواكب والنجوم بهذا المقدار، حتى أن هذه الأجرام لا تعود تشاهد حينما تظهر الشمس. فكذلك البتول العظيمة والأم الإلهية تفضل بقداستها وتفوق بها على أستحقاقات أهل البلاط السماوي أجمعين. بنوع أنه، حسبما يقول بكل فصاحةٍ القديس برنردوس: أن مريم قد كانت هكذا ساميةً في القداسة حتى أنه لم يكن يوجد لله من هي لائقةٌ أن تصير له أماً بالبشرة الا هذه البتول المجيدة. ولم يكن يوجد من هو لائقٌ أن يصير لها أبناً الا الإله الكلي كماله.*

وأما العلة الثانية التي من أجلها يثبت أن البتول القديسة منذ الدقيقة الأولى من حياتها، وجدت أكثر قداسةً من جميع القديسين معاً، فهي الوظيفة العظيمة التي أنتخبت هي إليها بأن تكون وسيطةً للبشر عند الله. الوظيفة التي تحددت لها منذ البدء. ومن ثم أحتاج الأمر الى أنها تكون منذ البدء حاصلةً على مقدارٍ عظيمٍ من النعمة تفوق به على البشر كافةً اذا وجدوا معاً. فأمر واضح هو كيف أن الآباء القديسين واللاهوتيين أجمعين يعطون مريم العذراء هذا اللقب، وهو وسيطة في البشر عند الله، لأجل أنها بواسطة شفاعتها المقتدرة وأستحقاقها العظيم الإضافي الى الرجاء في رأفة الله، قد استمدت الخلاص للجميع، معتنيةً للعالم الهالك بنوال الخير العظيم الصادر عن سر الأفتداء، وأنما يقال عن أستحقاقها أنه إضافي الى الرجاء في رأفة الله، لأن يسوع المسيح وحده هو وسيطنا بطريق العدل وبقوة أستحقاقاته الذاتية. الموازية ما كان يحق للوفاء عن خطايا البشر، حسبما تعلم بذلك المدارس، اذ أنه تعالى قد قدم أستحقاقاته لله أبيه الأزلي الذي قبلها من أجل خلاصنا. وبالخلاف أن مريم هي وسيطتنا بطريق النعمة وبمجرد شفاعاتها فينا. وبأستحقاقاتها الإضافية، اذ أنها قدمتها لله الرأوف، كما يقول اللاهوتييون مع القديس برنردوس من أجل خلاص البشر كافةً، وأن الله منةً ونعمةً منه قد قبلها مع أستحقاقات يسوع المسيح. ولذلك يقول أرنولدوس كارنوفانسه: أن مريم قد حصلت في أمر خلاصنا على مفعولٍ واحدٍ مع المسيح أبنها. ويقول ريكاردوس الذي من سان فيتوره: أن مريم قد أشتهت خلاص الجميع وأعتنت في نواله لهم وأكسبتهم إياه بل أن الخلاص حصل للجميع بواسطتها. وبالتالي أن كل خيرٍ وكل موهبةٍ مختصة بالحياة الأبدية، مما ناله من الله كل واحدٍ من القديسين، فبواسطة مريم قد توزع ذلك عليهم وفازوا به.*

فهذا هو الشيء الذي تريد منا الكنيسة المقدسة أن نفهمه حينما هي تكرم البتول الطوباوية بتخصيصها بها الكلمات المدونة في حكمة أبن سيراخ (ص 24ع25) وهي:" فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ، فيَّ أنا كل رجاء حيوةٍ وفضيلةٍ". فلفظة مسلكٍ تعني أن بواسطة مريم تتوزع النعم كافةً على عابري طريق هذه الحياة. ولفظة حقٍ توضح أن بواسطة هذه السيدة يعطى النور لمعرفة الحق. ولفظة حيوةٍ تعلن أننا نرجوا أن ننال بوساطة هذه الأم الإلهية حياة النعمة ما دمنا قاطنين في الأرض، والمجد السماوي بعد ذلك في الحياة الأبدية. ولفظة فضيلةٍ تبرهن أننا بواسطة شفيعتنا هذه نستمد أقتناء الفضائل، لا سيما الثلاث الفضائل الإلهية التي هي أساس فضائل القديسين. فتقول هذه السيدة في الاصحاح المذكور عينه (ع24): أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والمعرفة والرجاء المقدس: لأن وسيطتنا هذه عند الله بقوة شفاعاتها فينا تستمد لنا نحن المتعبدين لها مواهب الحب الإلهي، والخوف المقدس، والنور السماوي، والرجاء الأمين، والطمأنينة المقدسة. ومن ذلك يستنتج القديس برنردوس أن تعليم الكنيسة الجامعة هو، أن مريم هي واسيطةٌ عامةٌ لخلاصنا، اذ يقول: عظم يا هذا اللتي وجدت النعمة، وسيطة الخلاص، مصلحة الدهور، لأن الكنيسة هكذا ترتل عنها، وقد علمتني أنأرتل أنا أيضاً من أجلها هذه الأشياء عينها. فلأجل ذلك يعلن القديس صفرونيوس البطريرك الأورشليمي قائلاً: أن زعيم الملائكة جبرائيل أنما تفوه نحو البتول الطوباوية هاتفاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً. لأنه قد أعطى للآخرين مقدارٌ من النعمة محدودٌ، وأما لمريم فقد أعطيت النعمة كلها بملؤها كاملةً. وهذا قد تم لكي تستطيع هي فيما بعد بهذا النوع أن تكون بواجب الأستيهال وسيطةً فيما بين الله والبشر! حسبما يورد هذه الألفاظ عينها القديس باسيليوس الكبير، والا اذا لم تكن البتول الكلية القداسة حصلت على ملوء النعمة الإلهية، فكيف كان يمكنها أن توجد هي سلم الفردوس، وشفيعة العالم، والوسيطة الحقيقية فيما بين الإله والبشر. كما يقول هذه الكلمات نفسها القديس لورنسوس يوستينياني في عظته على عيد البشارة.*

فهوذا السبب والعلة الثانية قد توضحت فوق الكفاية، على أنه أن كانت مريم الطوباوية قد أقيمت منذ بدء حياتها بحسب كونها أماً للمخلص العام، بوظيفة وسيطةٍ في البشر أجمعين. وبالتالي وسيطة في القديسين أيضاً، فكان لازماً أنها منذ البدء تحصل هي على نعمةٍ متفاضلةٍ فائقةٍ سمواً، على جميع النعم التي فاز بها القديسون كلهم معاً، وأن توجد محبوبةً من الله وعزيزةً لديه بنوع يعلو تفوقاً على البشر كافةً، ليس مفرقاً بل مجملاً أيضاً. والا فكيف كان مستطاعاً لها أن تتشفع فيهم جميعاً لديه تعالى. لأن لكي يقدر إنسانٌ ما أن يستمد بشفاعاته من أحد الملوك النعمة والمواهب لرعايا هذا الملك بأسرهم الخاضعين لولايته، فيلزم بضرورةٍ مطلقة أن يكون الشفيع المومى إليه عزيزاً على قلب ذاك الملك، ومحبوباً منه بنوعٍ أفضل من جميع أولئك الرعايا. ولذلك يستنتج القديس أنسلموس قائلاً: أن مريم قد أستحقت بكل لياقةٍ أن تصير مصلحةً للعالم الهالك.لأجل أنها كانت هي الأكثر قداسةً من الجميع والأعظم طهارةً من المخلوقات كلها.*

ولقائلٍ ان يقول أن مريم البتول اذاً هي وسيطة عند الله في البشر فمسلمٌ. ولكن كيف يمكن أن يقال عنها أنها هي وسيطة في الملائكة أيضاً. فلاهوتيون كثيرون يبرهنون في أن يسوع المسيح قد أستحق مكتسباً للملائكة أيضاً نعمة الثبات في البر. ومن ثم كما أن يسوع المسيح على هذه الصورة وجد هو وسيطاً في الملائكة أيضاً. بوساطة الأستحقاق الذاتي الموازي الوفاء فهكذا مريم هي وسيطتهم بوساطة الأستحقاق الإضافي بالرجاء في رأفة الله. لأنها بقوة تضرعاتها وصلواتها قد أعجلت مجيء المسيح الى العالم، وقد أستحقت قلما يكون أستحقاق الرجاء في المراحم الإلهية أن تكون هي أماً للمسيح. وأكتسبت أن تملأ من الأنفس المخلصة بسر التجسد كراسي الملائكة الساقطين الفارغة، فاذاً قد ربحت للملائكة القديسين قلما يكون هذا المجد العرضي. ولذلك كتب ريكاردوس الذي من سان فيتوره قائلاً: أن الخليقة الواحدة والخليقة الأخرى، أي الملائكة والبشر قد خلصوا بواسطة هذه السيدة، وبها قد أصطلحت طبيعة الملائكة. وتصالحت مع الله الطبيعة الإنسانية. والقديس أنسلموس كان قبل هذا المعلم قال: أن الأشياء كلها قد دعيت الى الحال الأولى التي كانت حاصلةً عليها قبلاً، وأصلحت بواسطة هذه البتول القديسة. فلهذا أن مريم الطوباوية المولودة طفلةً سماويةً، قد أقتبلت من الله منذ الدقيقة الأولى من حياتها نعمةً أعظم من جميع النعم التي فاز بها القديسون أجمعون جملةً، وذلك بحسب كونها أختيرت وتعينت أماً لمخلص العالم، وبحسبما أقيمت بوظيفة وسيطة العالم عند الله، فكم كان اذاً مشهداً جليلاً شهياً مجيداً لأهل السماء والأرض حال بهاء نفس هذه الطفلة القديسة ولئن كانت بعد مسجونةً في مستودع والدتها القديسة حنه. فهي كانت المخلوقة المحبوبة لدى عيني الله أكثر حباً من سائر المخلوقات. لأنها قد حصلت ممتلئةً نعمةً، ومنذ ذاك الوقت كان يمكنها أن تفتخر قائلةً عن ذاتها: أنني منذ حداثتي أرضيت الله. وقد كانت معاً في الوقت عينه هي المخلوقة المحبة لله أكثر حباً من الخلائق بأسرها، التي لحد ذاك الوقت كانت ظهرت في الوجود، بنوع أنه لو أتفق لهذه الطفلة القديسة أن تخرج مولودةً من أحشاء أمها في الدقيقة الأولى التي بها تكونت هي في مستودعها بريئةً من الدنس، لكانت هي جاءت الى العالم حاصلةً على أعظم غنى بالأستحقاقات وأسمى قداسةً من جميع الأبرار والقديسين جملةً. فلنتأمل اذاً في كم كانت أستحقاقات هذه الطفلة المجيدة أعظم من ذلك حينما ولدت من أمها، بعد أن كانت في مدة التسعة الأشهر التي فيها أستمرت محبوسةً في جوف والدتها، وأكتسبت أستحقاقاتٍ جديدةً. وليكن هذا كافياً فيما يلاحظ الجزء الأول الحاضر المختص بالموضوع الأول في شأن النعمة الأولى العظيمة التي نالتها هذه السيدة في الدقيقة التي بها حبل بها بريئةً من الدنس.* 

 

الجزء الثاني

* في كم كانت عظيمةً الأمانة التي بها مريم البتول جاوبت*

* حالاً على النعمة الإلهية التي نالتها ساعيةً معها.*

أنه لم يكن رأياً بسيطاً أم خصوصياً، بل هو رأيٌ عامٌ عند كل اللاهوتيين، كما يقول أحد العلماء الماهرين: (وهو الأب كولومبياره) أن مريم المتكونة طفلةً في بطن أمها القديسة حنه اذ أنها أقتبلت نعمة التقديس، فقد نالت معاً في الدقيقة الأولى من حياتها التعقل الكامل، وبلغت الى المعرفة والتمييز، مع نورٍ سماوي عظيم مصاقب عظمة النعمة التي فازت هي بها وقتئذٍ مستغنيةً بها، ولذلك يمكننا أن نعتقد حسناً بأنه منذ البرهة الأولى التي فيها أتحدت نفس هذه الطفلة المملؤة قداسةً مع جسدها الكلية الطهارة، قد أستنارت حالاً بجميع أنوار الحكمة الإلهية، لتفهم جيداً الحقائق الأبدية، وجمال الفضيلة، وفوق كل شيءٍ تعرف خيرية صلاح الله الغير المتناهي. والأستحقاق الموجود به تعالى لأن يكون لأجل ذاته محبوباً من الجميع محبة التفضيل، وبنوعٍ أخص أستحقاقه تقدس أسمه لأن يحب من هذه السيدة محبةً عظيمةً، نظراً الى المواهب السنية والنعم الفريدة التي تنازل عز وجل لأن يزينها بها مميزاً إياها عن الخلائق كلها، حافظاً الحبل بها بريئاً من دنس الخطيئة الأصلية، مانحاً إياها نعمةً هكذا عظيمةً غير محدودة. ومنتخباً إياها أماً لكلمته الأزلي، ورافعاً مرتبتها الى مقام سلطانة العالمين وملكة الكونين.*

فمن ثم منذ هذه البرهة الأولى من حياتها قد وجدت هي عارفةً جميل المحسن إليها، وأبتدأت حالاً بأن تصنع كل ما كان ممكناً لها صنيعه، متاجرةً من ذاك الحين بوزنات النعمة السامية التي وهبة لها. ممارسةً كل شيءٍ بقصد أن ترضي الله، وتسر الصلاح الإلهي. وقد أحبته تعالى منذ بدء حياتها، وداومت بأتصالٍ على حبه فوق كل شيءٍ بمقدار أستطاعتها وبكل قواها. في مدة تلك التسعة الأشهر التي فيها أستمرت قبل أتلادها في جوف أمها، غير تاركة ولا مهملة دقيقةً واحدةً أن تمر من دون أن تضاعف حبها له تعالى، وأتحادها به بعواطف المحبة المتقدة كالنار. فقد كانت هذه القديسة من دون كل ريب بريئةً معتوقةً ناجيةً من جريرة الخطيئة الأصلية. وبالتالي ناجيةً أيضاً من كل أنعطافٍ وتعلقٍ نحو الأشياء الأرضية. ومن أية حركةٍ غير مرتبة، ومن كل تشويش عقلي، ومن جميع أنفعالات الحواس، مما يمكن أن يصدها عن أن تتقدم على الدوام في زيادة الحب لله. وقد كانت قواها وحواسها أيضاً متفقةً مع روحها الطاهرة بالأتجاه والأنعطاف نحو العلي. ولهذا اذ كانت نفسها الجميلة محلولةً من كل مانعٍ، فمن غير توقفٍ كانت دائماً تطير الى الله، وتحبه من دون أنقطاع، وتنمو على الدوام في محبته، ولهذا قد دعيت هي نفسها: شجرة الدلب المرتفعة مغروسةً على شط الماء: (أبن سيراخ ص24ع19) لأنها قد كانت هي غرسة يمين العلي الشريفة التي نمت على الدوام مستقيةً من مجاري النعمة الإلهية، ولذلك قالت هي عن ذاتها: أنا مثل الجفنة أثمرت رائحةً طيبةً، وأنواري أثمار البهاء والمجد: (أبن سيراخ ص24ع23) وأنما شبهت ذاتها بالجفنة ليس فقط لأجل الحال المتضعة التي كانت هي بها لدى أعين الناس، بل أيضاً لأجل أنه كما أن الكرمة تنمو وتمتد على الدوام. ولذلك يقال بالمثل: أن الكرمة لا ينتهي نموها: اذ أن الغروس الأخرى كأشجار الليمون والتوت والتفاح وأمثالها تنمو مرتفعةً وممتدةً الى حدٍ أعتياديٍ لا تتجاوزه. وأما الجفنة فتمتد دائماً ناميةً وتعلو أغصانها بمقدار علو الشجرة التي تكون هي أي الكرمة ملتقةً عليها ومستندةً فوقها. فهكذا مريم البتول الكلية قداستها قد أمتدت على الدوام ناميةً في الكمال. ولذلك يهتف نحوها القديس غريغوريوس العجائبي مسلماً عليها بقوله: أفرحي أيتها الكرمة الحية النامية على الدوام: وقد كانت هذه السيدة متحدةً بالله دائماً ومستندةً عليه بحسب كونه تعالى مسندها الوحيد. ومن ثم يتكلم عنها الروح القدس قائلاً: من هي هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فالقديس أمبروسيوس يقول في تفسيره هذا النص: من هي هذه التي لمرافقتها الكلمة الإلهي الأزلي، تنمو ممتدةً وصاعدةً نظير الكرمة المستندة على شجرةٍ عالية جداً والملتفة عليها.*

فكثيرون من العلماء اللاهوتيين البارعين الرصينين يقولون أن تلك النفس المكتسبة قوة ملكة الفضيلة متأصلةً فيها، فطالما هي تجاوب بأمانةِ ساعيةً مع النعم الحالية الفعلية التي يمنحها الله إياها. فيمكنها دائماً أن تبرز فعلاً بالعزم والنية موازياً لملكة الفضيلة تلك المكتسبة منها، بنوع أنها في كل المرات تربح لذاتها أستحقاقاً جديداً مضاعفاً موازياً لمجموع الأستحقاقات كلها التي تكون هي قبلاً أكتسبتها، فهذا النمو العظيم قد أعطى (كما يعلم اللاهوتيون المومى إليهم) للملائكة في الحال التي هم مستسيرون بها، فأن كان منح للملائكة هذا الإيهاب والنعمة فمن تراه يستطيع أنكاره على الأم الإلهية في مدة حياتها على الأرض. وبنوع أخص في الزمن الذي هي فيه أستمرت مسجونةً في أحشاء أمها، حيث أنها بكل تأكيدٍ قد كانت حينئذٍ أمينةً على حفظ النعمة الإلهية مجاوبةً عليها بأبلغ نوع من الملائكة أنفسهم. فهذه الطفلة القديسة اذ قد أمكنها وأكتسبت في الزمن المشار إليه جميعه، وفي كل دقيقة منه أضعاف تلك النعمة السامية في العظمة التي نالتها من الله منذ البرهة الأولى من حياتها. لأن سعيها مع هذه النعمة كان بكل قواها وبسائر أنواع الكمال في كل دقيقةٍ. بنوع أنها أن كانت في الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها قد فازت من النعمة الإلهية بمقدارٍ مثلاً يوازي ألف درجة من هذه النعمة، ففي الدقيقة الثانية قد أكتسبتها مضاعفة أي ألفين درحة، وفي الدقيقة الثالثة أربعة ألف، وفي الرابعة ثمانية ألف، وفي الخامسة ستة عشر ألفاً، وفي السادسة أثنين وثلاثين ألفاً. وهلم جرا الى يومٍ كاملٍ والى شهرٍ بتمامه وأخيراً الى تسعة أشهرٍ، مضاعفةً فيها هذه النعم والأستحقاقات بالنوع المذكور، فاذاً حينما أتلدت من أحشاء أمها كم وجدت هي غنيةً بخزائن النعم والأستحقاقات الفائقة الأدراك.*

فلنفرح اذاً متهللين مع حبيبتنا هذه الطفلة المجيدة. التي ولدت في العالم من أمها بهذا المقدار ساميةً في القداسة، محبوبةً في عيني الله، ممتلئةً من النعم الغنية. ولنبتهج ليس من أجلها هي فقط بل من أجل ذواتنا نحن أيضاً. لأنها هي قد جاءت الى العالم ممتلئةً نعمةً ليس من أجل مجدها الذاتي فقط بل من أجل خيرنا نحن أيضاً. فالقديس توما اللاهوتي يتأمل في كتيبه الرابع، في أن مريم العذراء المثلثة القداسة قد كانت بثلاثة أنواع ممتلئةً نعمةً، فهي بالنوع االأول كانت ممتلئةً نعمةً في نفسها الجميلة، التي منذ بدء خلقتها كانت بجملتها مختصةً بالله. وبالنوع الثاني كانت ممتلئةً نعمةً بجسدها، حتى أنها أستحقت أن تنسج من لحمانها الفائقة الطهارة سداءً تلبس منه جسداً لكلمة الله الأزلي المتجسد من دمائها، وبالنوع الثالث كانت ممتلئةً نعمةً لأجل الخير العام، لكي يستطيع البشريون أجمعون أن يستفيدوا الخير لذواتهم بواسطتها ومنها. ثم يضيف الى كلامه هذا، القديس المذكور قائلاً: أن البعض من القديسين قد نالوا من الله مقداراً وافراً من النعم، كافيةً ليس لخلاصهم هم فقط، بل لخلاص غيرهم أيضاً من البشر، ولكن لا لخلاص البشر أجمعين، الا أنه ليسوع المسيح فادينا، ولمريم العذراء شفيعتنا قد أعطيت نعمةٌ هذه صفتها لخلاص كل البشر. ومن ثم أن ما كتبه القديس يوحنا الإنجيلي عن يسوع المسيح بقوله: زمن أمتلائه نحن كلنا أخذنا: (ص1ع16) فهذا نفسه يقوله القديسون بالنسبة الى مريم العذراء، فالقديس توما الفيلانوفي كتب قائلاً: أن البتول المجيدة هي ممتلئةً نعمةً. ومن ملوء هذه النعمة أستوعب الكون. بنوع أنه يقول القديس أنسلموس: أنه لا يوجد أحدٌ مطلقاً لا يشترك بنعمة مريم، لأنه من هو الذي يوجد في العالم ولا يشترك بها حاصلاً على مريم رأوفةً حنونةً شفوقةً من أجله ولا توزع هي عليه مفاعيل رحمتها: الا أننا نلتزم بأن نفهم جيداً أننا أنما نقتبل نحن النعمة من يسوع بحسبما هو تعالى مصدرها وفاعلها بقوته الإلهية الذاتية. وأما من مريم فنقتبل النعمة بحسبما هي وسيطةٌ بنا لديه عز وجل، وهكذا نحن ننال النعمة من يسوع المسيح بحسب كونه فادينا ومخلصنا. وأما من مريم فبحسب كونها شفيعةً بنا أمامه تعالى، ونفوز بهذه النعمة من يسوع بحسبما هو الينبوع، ومن مريم بحسبما هي المجرى. ولذلك كتب القديس برنردوس: أن الله قد أقام مريم قناةً تجري إلينا بواسطتها مياه مراحمه التي يريد جلت خيرية صلاحه أن يوزعها على البشر. ولذلك قد صيرها ممتلئةً نعمةً لكي يشترك من أمتلائها كل أحدٍ بالجزء الذي أعطى له أن يفوز به: وهنا القديس المذكور يحرض الجميع على أن يتأملوا، في كيف أن الله يريد منا أن نكرم هذه البتول العظيمة بمحبةٍ ساميةٍ، من حيث أنه سبحانه قد أدخر فيها خزائن خيراته بأجمعها. حتى أن كل ما نحن نناله من الرجاء ومن النعمة ومن الخلاص. فنشكر من أجله بأسره ملكتنا الكلية الحب نحونا، اذ أن كل شيءٍ أنما يأتينا ويتصل إلينا من يدها وبواسطة شفاعاتها بنا. فالويل اذاً لتلك النفس التي تسد عن ذاتها مجرى النعم هذا، بأهمالها مطلقاً الألتجاء الى مريم المجيدة. فسفر يهوديت (ص7ع6) يوضح لنا: أن أليفانا حينما كان يطوف البلد بالقرب من مدينة بيت فالو قد شاهد عين الماء الجاري الى المدينة من ناحية الجنوب، فأمر غلمانه بأن يقطعوا المجرى: فهذا الأمر نفسه يصنعه الشيطان حينما يريد أن يستولي على نفسٍ ما. وهو أنه يجتهد في أن يصيرها أن تهمل عبادتها لمريم الكلية القداسة. لأنه اذا ما قطع عن تلك النفس هذا المجرى فهي تفقد بسهولةٍ أشراق النور السماوي، ثم خوف الله المقدس، وأخيراً الخلاص الأبدي، فليقرأ النموذج الآتي إيراده ليعرف كم هو عظيم أشفاق قلب هذه الأم الإلهية، وكم هو وافر الخراب الروحي الذي يلم بمن يقطع عن ذاته هذه القناة الروحية بأهماله التعبد لوالدة الإله ملكة السماء والأرض.*

* نموذج *

قد أخبر تريناميوس وكاتيسيوس وآخرون غيرهما بأنه في مدينة ماغدابورك من بلاد ساسونيا، قد كان رجلٌ أسمه أودونه الذي بهذا المقدار لم يكن حاصلاً على موهبةٍ للعلم، لقصر مفهوميته منذ حداثته، حتى أنه أضحى موضوعاً للسخرية به عند جميع الشبان رفاقه في الدرس. فهذا يوماً ما لشدة غمه من نقص فهمه مضى أمام أحدى أيقونات العذراء المجيدة، متوسلاً إليها بحرارةٍ في أن تشفق عليه مغيثةً إياه، فالبتول المجيدة قد ظهرت له في الحلم قائلةً له: يا أودونه أنا أريد أن أعزيك وأسرك ومن ثم فأنا أستمد لك من الله ليس فقط الموهبة الكافية للعلم، لتنجو بها من الأستهزاء والعار، بل أيضاً فهماً وحذاقةً وجودة عقلٍ تصيرك محبوباً من الجميع، وبأكثر من ذلك أعدك بأنه بعد وفاة أسقف المدينة ستكون أنت خليفةً له بالدرجة والوظيفة. فجميع ما قالته له هذه السيدة الكلية القداسة قد تم في أوقاته. لأن أودونه قد نجح في العلوم، وحصل فيما بعد أسقفاً لتلك المدينة، ولكنه قد أضحى بعد ذلك عديم المعروف وناكر الجميل نحو الله. ليس بأقل مما نحو شفيعته مريم، مهملاً جانباً كل نوعٍ من العبادة، وصار حجر عثرةٍ وصخرة شكٍ للجميع بسيرةٍ رديئة. فليلة ما حينما كان هو على فراشه مع الأمرأة التي كان يدنس ذاته بها نفاقياً، قد سمع صوتاً يقول له: أترك يا أودونه أستهوانك بأهانة الله، يكفي ما قد صنعته لحد الأن: ففي المرة الأولى التي سمع بها هو هذا الصوت قد فكر بأنه ربما كان صادراً من إنسانٍ يقصد أصلاحه ناصحاً. ولكن لما سمع الصوت والكلمات عينها مكررةً عليه في الليلة الثانية. وكذلك في الليلة الثالثة. فدخل عليه نوعٌ من الخوف من أن يكون هذا الصوت هو من السماء، ولكن مع هذا جميعه قد أستمر سالكاً في عوائده الرديئة وسيرته المشككة. غير أنه بعد مرور ثلاثة أشهرٍ من هذا التنبيه الإلهي، حيث أن الله بجودةٍ غير متناهيةٍ قد أعطاه مهلةً هذه صفتها كافيةً للرجوع إليه تعالى، قد بلغ أوان الأنتقام العادل. فقد كان ليلةً ما في كنيسة القديس موريسيوس رجلً من طغمة أكليروس الكاتدرا حسن العبادة أسمه فاداريكوس، مصلياً لله تعالى في أن يصنع علاجاً لداء الشكوك المسببة من رداوة عيشة ذاك الأسقف الشرير، ففيما كان هو مصلياً على هذه الصورة واذا بباب الكنيسة قد أنفتح بأنزعاجٍ من قوة عاصفة الريح الشديدة، ثم دخل من الباب شابان حاملان بأيديهما شمعتين ضخمتين، فجاءا ووقفا بجانبي الهيكل الكبير، ودخل بعد ذلك شابان آخران اللذان فرشا أمام الهيكل وسادةً ووضعا فوقها كرسيين من ذهب، وجاء شابٌ آخر متشحاً بثوبٍ كجندي والسيف بيده، حيث وقف في وسط الكنيسة وصرخ بصوتٍ عظيمٍ هاتفاً: يا معشر قديسي السماء الذين توجد لكم أعضاءٌ مكرمة في هذه الكنيسة تعالوا الى ههنا. لتحضروا أجراء الحكومة التي مزمع أن يبرزها القاضي السماوي. فعندما قال هذا قد ظهر كثيرون من القديسين. وكذلك الأثنا عشر رسولاً بمنزلة أصحاب وظائف في هذه المحكمة الرهيبة. وبعد هذا جاء الديان الإلهي يسوع المسيح وجلس فوق أحدى ذنيك الكرسيين، وأخيراً ظهرت مريم البتول محاطةً من العذارى المجيدات، حيث أجلسها تعالى فوق الكرسي الآخر. وحينئذِ أمر القاضي الإلهي بأن يؤتي بالأسقف المجرم الى المحكمة، فأحضر حالاً الى الوسط أودونه المنكود الحظ، فالقديس موريسيوس قد طلب من الديان على أسم شعب الأبرشية أن يجرى حقوق العدل ضد ذاك الأسقف. الذي سبب للرعية تلك الشكوك بأفعاله الأثيمة، والجميع رفعوا أصواتهم قائلين: أيها السيد أنه لمستحق الموت. فوقتئذِ قال القاضي الأبدي: فليمت أودونه. ولكن قبل أن توضع الحكومة بالعمل نهضت القديسة والدة الإله (يا لعظم أشفاق قلبها الحنون) وذهبت من الكنيسة كيلا تشاهد موت أودونه بذاك النوع المخيف المحزن، ثم بعد ذلك تقدم الخادم السماوي الذي كان جاء قبلاً والسيف فضرب عنق أودونه واذا برأسه معزولاً في الأرض عن جثته، وحالاً زالت الرؤيا وصار ظلامٌ في الكنيسة. أما فاداريكوس المرتجف خوفاً من هذا المنظر، فقد ذهب ليقد الشمعة من القنديل المضيء في الكنيسة السفلي، ولما جاء ثانيةً الى وسط الكنيسة فشاهد بالحقيقة جسد أودونه مطروحاً ورأسه مقطوعاً، ودمه جارياً فوق بلاط المعبد الإلهي. فلما صار النهار وتقاطر الشعب الى الكنيسة ليشاهد هذا الأمر الغريب فالكاهن فاداريكوس قد أخبر الجميع بالرؤيا التي شاهدها، وبكيفية الحكومة التي جرت على أودونه، الذي في ذاك النهار عينه ظهر لأحد كهنته الذي لم يكن بعد عارفاً بشيءٍ من الحادث. وأخبره بأنه حكم عليه بالهلاك الأبدي، فمن ثم أخذت جثته وطرحت في حفرة خارج المدينة وبقي دمه ذكراً مخلداً في بلاط الكنيسة لأنتقام العدل الإلهي من الأشرار المصرين على ذنوبهم. وكان يغطى البلاط ببساطٍ ولا يكشف الا حينما أحد أساقفة تلك الأبرشية يقام عليها جديداً ويأخذ تملك وظيفته، لكي يشاهد دم أودونه ويحرص على السلوك بسيرةٍ صالحةٍ، ولا يكون خائناً ناكر الجميل ضد الله وضد والدته الكلية القداسة.*

† صلاة †

أيتها الطفلة السماوية المثلثة القداسة، فأنتِ التي قد أنتخبتِ وتعينتِ أماً لمنقذ العالم وفاديه، وأخترتِ وسيطةً عظيمةً من أجل الخطأة الأشقياء المساكين، أرحميني أنا المنطرح على قدميكِ الكائن واحداً من العديمي المعروف والناكري الجميل، ولكني أبادر إليكِ مستغيثاً بكِ، فأي نعم أن كفراني بالنعم ونسياني الأحسانات المصنوعة نحوي من الله ومنكِ، وتصرفاتي السيئة تجعلني مستحقاً أن أرذل من الله ومنكِ مهملاً. الا أني أسمع ما يقال عنكِ الأمر الذي أنا معتقده صادقاً (اذ أني أعلم كم هي عظيمة مراحمكِ) وهو أنكِ لا يمكن أن ترفضي من ياتجئ إليكِ بحسن الرجاء ويفوض لديكِ أمره بثقةٍ، فاذاً من حيث أنه لا يعلو فوقكِ أحدٌ سمواً وقدرةً وقداسةً وربوبيةً الا الله وحده، أيتها المخلوقة الأشرف والأجل والأقدس من سائر المخلوقات، حتى أن أكبر من هم في البلاط السماوي يوجدون بالنسبة إليكِ وبأزائكِ صغاراً جداً. أنتِ التي هي أقدس القديسين وبحر النعم التي أنتِ ممتلئة منها، فأسعفي خاطئاً ذليلاً قد أضاع النعمة. فأنا أعرف جيداً أنكِ محبوبةٌ من الله وعزيزةٌ لديه بهذا المقدار، حتى أنه تعالى لا يمكن أن ينكر عليكِ شيئاً من كل ما تسألينه. وأعلم أيضاً أنكِ أنما تتصرفين بالجاه والشرف والعظمة الممنوحة لكِ، تصرفاً عائداً بجملته لأفادة الخطأة البائسين وأسعافهم، فصيري اذاً أن تظهر مفاعيل عظمة النعمة التي أنتِ حاصلة عليها من الله بأستمدادكِ لي نوراً لرشدي، وحباً إلهياً متقدة حرارته مقتدراً على أن ينقلني من حال كوني خاطئاً، الى حال القداسة التي أوجد بها باراً أمام الله. واذ بهذا النوع يقتلع من قلبي أصل أميالي وأنعطافاتي نحو الأشياء الأرضية حتى لا يعود باقياً فيَّ شيءٌ من ذلك. فألتهب بكليتي بالحب الإلهي، فأصنعي معي أيتها السيدة هذا العمل الذي أنتِ بلا ريبٍ قادرةٌ على صنيعه، وأفعلي ذلك معي حباً بذاك الإله الذي قد صيركِ بهذا المقدار عظيمةً مقتدرةً رحيمةً. فهكذا أرجو من جودكِ، وكذلك فليكن لي برحمتكِ آمين.* 

 

الفصل الثالث

يقول الرب الإله: أن الملكات هن ستون،

والسريات ثمانون، والمغبوطين، لا عدد لكثرتهن،

 أما حمامتي وكاملتي، فواحدة هي. (نشيد 6/7)

*فيما يلاحظ عيد دخول القديسة والدة الإله الى هيكل الرب*

*في أورشليم، حيث قدمت هذه الفتاة الجليلة ذاتها لله بسرعةٍ*

*وتأهبٍ خالٍ من كل أبطاءٍ. وبتقدمةٍ كاملةٍ كليةٍ من دون أن*

تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها.

*وفيه جزءان*

الجزء الأول

* في سرعة تقدمة مريم البتول ذاتها لله.*

أنه لم تكن وجدت قط ولن توجد أبداً تقدمةٌ ما صنعت أو عتيدةٌ أن تصنع لله تعالى من خليقةٍ ما بسيطةٍ، وقد قبلت منه عز وجل ووجدت لديه عظيمةً كاملةً. نظير التقدمة التي صنعتها الفتاة مريم العذراء في تمام السنة الثالثة من عمرها، بدخولها الى هيكل الرب في أورشليم، لكي تقرب لديه جلت قدوسيته لا عجولاً أو محرقاتٍ، أم بخوراً، ولا ذهباً أو فضةً، بل ذاتها بجملتها ضحيةً كاملةً، مكرسةً له نفسها وجسدها وكل ما لها قرباناً أبدياً لتكريمه تقدس أسمه. وقد فهمت هي حسناً منذ ذاك الوقت أرادة الله وصوته الباطن الذي به دعاها لأن تخصص ذاتها بكليتها مكرسةً لحبه الإلهي، بتلك الكلمات المقولة منه تعالى نحوها: أنهضي يا قرينتي، تعالي يا حمامتي، هلمي يا جميلتي: (نشيد ص2ع10) ولذلك قد أراد منها سيدها من ذاك الحين أن تنسى وطنها وأهلها وكل ما لها، لكي تتفرغ مهتمةً في أتمام واجبات حبه وصنيع مرضاته هو وحده. كما يخاطبها بفم نبيه داود قائلاً: أسمعي يا بنت وأنظري وأنصتي بأذنيكِ وأنسي شعبكِ وبيت أبيكِ: (مزمور 45ع11) أما هي فبأستعدادٍ حسنٍ وبطاعةٍ كاملةٍ وبسرعةٍ كليةٍ أطاعت صوت الله. فلنتأمل اذاً في هذا الجزء كم كانت مقبولةً لديه عز وجل التقدمة التي بها هذه البتول قربت ذاتها له وشكاً من دون إبطاء مطلقاً، تاركين للجزء الثاني التكلم عن كيفية هذه التقدمة الذاتية بجملتها من دون أن تبقي شيئاً مختصاً بها.*

فمريم منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد تقدست في أحشاء والدتها (في البرهة الأبتدائية من الحبل بها البريئ من دنس الخطيئة الأصلية) وقد حصلت منذ تلك الدقيقة على المعرفة الكاملة، لكي تبتدئ من ذلك الحين أن تكتسب الأستحقاقات، حسبما يعلم بهذا اللاهوتيون جملةً مع الأب سوارس القائل: أنه من حيث أن النوع الأكمل المستعمل من الله بتقديسه نفساً ما هو أنه تعالى يقدسها لأجل الأستحقاق الذاتي، كموجب تعايم القديس توما اللاهوتي. فهكذا يلزم أن يعتقد بأن مريم قد تقدست بهذا النوع: لأنه أن كانت هذه الموهبة وهذا الأختصاص قد أعطيا للملائكة ولآدم في حين خلقه. حسبما يبرهن المعلم الملائكي فبأبلغ من ذلك ينبغي لنا أن يعتقد أن الله قد وهبها نعماً أعظم وأجل مما وهبه لجميع مخلوقاته، لأجل أنه تنازل لأن يختارها أماً له بالجسد. كما يعلم القديس توما نفسه بقوله عنها: أنه لأجل أن المسيح أخذ منها الناسوت فقد وهبها أعظم نعمة، حتى أضحت ممتلئةً نعمةً. ويقول من ثم الأب سوارس أن مريم من قبيل كونها أماً فهي مستولية (على نوعٍ ما) على جميع المواهب المختصة بأبنها. وكما أن يسوع المسيح لأجل أتحاده الأقنومي وقيامه بأقنوم الكلمة الأزلي قد كان له ملؤ النعم كلها ذاتياً، فهكذا لأجل سمو كون مريم والدة لله قد وجد حسناً وصواباً به تعالى، أنه يلتزم من قبل دينٍ طبيعيٍ بحسب كونه متأنساً منها، أن يمنحها نعمةً عظمى فائقةً على جميع النعم التي وهبها لملائكته ولقديسيه الآخرين.*

فاذاً مريم منذ بداية حياتها المقدسة في مستودع والدتها قد عرفت الله معرفةً هكذا ساميةً، حتى أنه لم يكن ممكناً للسانٍ ما أن يشرح بكفايةٍ، كم أتصل عقلها لأن ينفذ غائصاً فيه تعالى منذ الدقيقة الأولى التي فيها عرفته عز وجل: (حسبما قال الملاك للقديسة بريجيتا) فمن ثم منذ ذاك الوقت مريم قدمت ذاتها بجملتها لسيدها حينما حازت منه أشراق النور الأول الذي به أنار عقلها لمعرفته، وكرست نفسها وجسدها بكليتهما لحبه ولخدمته. (حسبما أتبع كلامه السابق ملاك الرب في خطابه مع القديسة بريجيتا بهذه الكلمات قائلاً): أن ملكتنا منذ ذاك الوقت قد أعتمدت حالاً على أن تضحي أرادتها لله، مع حبها له بجملته في مدة حياتها كلها، بنوع أنه لا يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الخضوع الذي به هي أخضعت أرادتها حينئذٍ لأقتبال كل تلك الأشياء الراجعة لمرضاته ومسرته عز وجل:*

ولكن حينما فهمت بعد ذلك هذه الفتاة البريئة من العيب، أن والديها القديس يواكيم والقديسة حنه ق كانا وعدا بنذرٍ خصوصي لله بأن يقدماها مكرسةً له تعالى، كما يبرهن عن ذلك علماء كثيرون بقولهم: أنهما قد وعدا الله بأنهما اذا نالا من كرمه ولداً ما فهما كانا يقدمانه مكرساً لخدمته عز وجل في هيكله بأورشليم، وهكذا اذ كانت عادةٌ جاريةٌ عند اليهود أن يضعوا بناتهم محصوناتٍ داخل القلالي الكائنة ضمن أروقة الهيكل الأورشليمي، لكي يتربين هناك تربيةً صالحةً، حسبما يحقق ذلك الكردينال بارونيوس، والمؤرخ نيكيفوروس، والعلامة جادانوس، والأب سوارس، جملةً مع يوسيفوس المؤرخ العبراني، ومع القديسين يوحنا الدمشقي، وجاورجيوس النيكوميدي، وأنسلموس، وأمبروسيوس، بل كما يظهر واضحاً من سفر المكابيين الثاني (ص3ع19) اذ يقال: أن العذارى الحبيسات أيضاً كن يجرين الى حونيا وأخراتٍ الى الحيطان وأخراتٍ كن ينظرن من الطاقات وجميعهن كن يتضرعن رافعات اليدين الى السماء، وذلك حينما جاء الى أورشليم أيليودوروس أول وزراء سالوكيوس فيلوباطوره ملك سوريا بأمرٍ منه، لكي يأخذ من هيكل الرب خزنة المال  المحفوظ فيه. فاذاً اذ عرفت العذراء المجيدة من والديها حقيقة نذرهما المقدم ذكره، فلما كان لها من العمر ثلاث سنواتٍ، كما يشهد القديسان جرمانوس وأبيفانيوس (القائل في عظته على مديحها أنها قربت لله في الهيكل في السنة الثالثة من حياتها) ففي هذا السن الذي فيه بأبلغ مما سواه يوجد الأطفال تعلقٌ كلي بوالديهم وأقربائهم، ويحتاجون فيه الى السياسة والعناية الوافرة قد أرادت هي أن تكرس ذاتها لله بأحتفالٍ مشتهر، بدخولها في هيكل الرب، الأمر الذي هي نفسها توسلت به الى والديها في سرعة تتمتهما نذرهما السابق، وهنا كما يقول غريغوريوس نيصص: أن أمها القديس حنه لم تتأخر أصلاً عن أن تقودها الى هيكل الرب وتقدمها لله:*

فالقديس يواكيم والقديسة حنه على هذه الصورة أعتمدا على أن يضحيا لله بسخاءٍ أعز ما كان لديهما، بل أخص أجزاء قلبيهما وأكرم ما وجد لهما في الأرض، أي طفلتهما المحبوبة منهما. ولذلك سافرا بها من مدينة الناصرة الى مدينة أورشليم حامليها تارةً هو وتارةً هي على ذراعي كلٍ منهما، لأنها لم تكن تستطيع بعد على المشي مسافة ثمانين ميلاً، كما هي المسافة الكائنة فيما بين هاتين المدينتين. حسبما يحقق ذلك الذين يعرفون هذه الطريق، وقد رافقهما في هذه السفر البعض من أقربائها، الا أن أجواقاً كثيرة من الملائكة كانوا صحبتهما (كقول القديس جاورجيوس النيكوميدي) يكرمون بكل أحترام هذه الملكة المنطلقة الى بيت الرب. كما جاء البيان عن ذلك في العدد الأول من الاصحاح السابع من سفر النشيد بهذه الكلمات وهي: ماذا ترى في السولامية الا صفوف العساكر، ما أحسن خطواتكِ في أحذيتكِ يا بنت الرئيس: فهؤلاء الأجواق الملائكية كانوا يقولون نحوها (مرتلين كما كان من الواجب) ما أحسن خطواتكِ التي أنتِ تسيرين بها لكي تقدمي ذاتكِ لله، أيتها الأبنة العظيمة لرئسنا السماوي والمحبوبة منه في الغاية، بل أنه كقول برنردينوس البوسطي: أن الباري تعالى نفسه في ذاك اليوم قد سر مع أهل بلاطه السماوي كفي عيدٍ مشاع. عند مشاهدته عروسته هذه مقدمةٍ له في هيكله الأرضي، لأنه عز وجل لم يكن قط شاهد فيما بين الأشخاص الذين كانوا يقدمون له ذواتهم أحداً. لا أكثر قداسةً منها، ولا محبوبةً لديه أشد حباً نظيرها: ولذلك كان القديس جرمانوس يقول نحوها هاتفاً: أذهبي يا ملكة العالم يا والدة الإلة مسرورةً، وأمضي فرحةً الى بيت الرب. لتنتظري أتيان الروح القدس الذي يصيركِ أناً للكلمة الأزلي.*

فعندما بلغ هؤلاء كلهم الى مدينة أورشليم كأهل بلاطٍ حول هذه الطفلة الملوكية، فهي من دون تأخيرٍ أخذت تقبل أيدي والديها جاثيةً. طالبةً منهما البركة، وحالاً دخلت هيكل الرب صاعدةً على الخمس عشرة درجةً التي كانت للهيكل (كما يقول أرياس مونتانوس نقلاً عن يوسيفوس المؤرخ اليهودي) من غير أن تلتفت ناظرةً الى والديها وأقاربها، وبلغت أمام كاهن العلي زخريا (حسبما يشهد القديس جرمانوس) وحينئذٍ اذ أنها رفضت كل ما هو في العالم، وجميع ما يعد به تابعيه من الخيرات فكرست ذاتها لله خالقها ضحية حية.*

فالغراب حينما أرسل من سفينة نوح، أنطلق ثم أستقر فوق جيف الموتى يرتعي من اللحوم المنتنة، وبخلاف ذلك حينما أرسلت الحمامة من السفينة، فطارت وعادت إليها من دون أن تستقر في مكانٍ (سفر التكوين ص8ع1) فهكذا أن كثيرين قد أرسلوا من الله الى هذا العالم، وهم بتعاسةٍ أستقروا يرعون أنفسهم بخيراته الزائلة، الا أن الحمامة السماوية مريم لم تكن على هذه الصورة، بل أنها قد عرفت جيداً أن رجانا الوحيد، وخيرنا المحض الفريد، وحبنا النقي الشديد، يلزم أن يكون في الله وحده. وقد فهمت حسناً أن العالم هو مملؤٌ من الأخطار، وأن ذاك الذي يهمل الدنيا بأكثر سرعةٍ، يكون معتوقاً حراً من أشراكها. فمن ثم رغبت هي حسناً أن تهرب منها منذ نعومة أظفارها، منفردةً حبيسةً في أمكنة هيكل الرب المقدس، حيث كان يمكنها بأفضل نوع أن تسمع صوت الله، وأن تحبه وتكرمه وتعبده. وبذلك قد صيرت ذاتها من بداية أعمالها مقبولةٌ لديه تعالى محبوبةً منه، حسبما تقول الكنيسة عن لسانها هكذا (في فرض اليوم الخامس من شهر آب): أفرحوا معي يا جميع المحبين الرب، لأني منذ حداثتي قد أرضيت العلي الذي سر بي: ولهذا قد مثلت البتول المجيدة بالقمر، لأنه كما أن القمر يتمم مجرى دورانه بأكثر سرعةٍ من باقي الكواكب والأجرام السماوية، فكذلك مريم بأوفر سرعةٍ من جميع القديسين بلغت الى قمة الكمال بتقدمتها ذاتها لله من دون إعاقةٍ، بل بسرعةٍ كلية منذ بداية حياتها.*

 

Click to view full size image

الجزء الثاني

* في أن مريم العذراء قدمت ذاتها لله تقدمةً كاملةً من دون أن*

* تبقي لنفسها شيئاً ما خاصاً بها.*

فهذه الطفلة المجيدة قد كانت تعلم يقيناً، لحال أستنارة عقلها بالنور السماوي، أن الله لا يقبل قلباً مقسوماً، بل يريد أن يكون القلب بجملته مكرساً لحبه، كحسب الوصية الموسومة منه تعالى على كلٍ من البشر بقوله: أن تحب الرب إلهك من كل نفسك ومن كل قوتك: فلذلك هي منذ الوقت الذي فيه أبتدأت أن تعيش، شرعت حالاً في أن تحبه عز وجل من كل قلبها، ومن كل قواها، وقد أوهبته ذاتها بجملتها. الا أن نفسها الكلية القداسة كانت تنتظر بأشواقٍ مضطرمة. الزمن الذي فيه تكرس له ذاتها بالتمام والكمال حقيقةً وبطقسٍ خارجي أحتفالي. ولهذا فلنتأمل بكم من الحب والخشوع والأنعطاف القلبي، مارست مريم أفعال عبادتها الأولى لله، حينما رأت ذاتها مغلوقاً عليها داخل حصن هيكل الرب المقدس، فقبل كل شيءٍ جثت على الأرض مقبلةً إياها، بحسبما هي أرض بيت الله، ثم سجدت لعظمته تعالى الغير المحدودة، وقدمت له الشكر على ما أنعم به عليها، بأنه عاجلاً قد أرتضى في أن يقبلها منذ طفولتها لتسكن في بيته، وهكذا قربت ذاتها كضحيةٍ وقربانٍ كاملٍ بجملتها، من دون أن تبقي لنفسها شيئاً ما خاصاً بها، بتقدمتها له كل قواها وجميع حواسها، وعقلها بتمامه، وقلبها بكليته، ونفسها بأجمعها، وجسدها كله، لأنها حينئذٍ، كما يقول العلماء، لكي ترضي الله بأفضل نوع قد صنعت نذر البتولية الدائمة، مكرسةً له جسدها الكلي الطهارة بحفظ العذرية مطلقاً، وكقول الأنبا روبارتوس: أن مريم العذراء كانت هي أول من صنع لله هذا النذر، وقد قربت لله ذاتها بجملتها من دون تحديد زمنٍ، كما يبرهن برنردينوس البوسطي. بل مطلقاً ودائماً، لأنها كانت معتقدةً على أن تخدم الرب في هيكله مدة حياتها كلها، أن يكن هذا موافقاً لمسرته تعالى، من دون أن تخرج أصلاً من ذلك المعبد الإلهي. فبكم من أمارات الحب والأنعطاف والتعلق القلبي نحو الله كانت تقول كلمات العروسة الإلهية: أن حبيبي لي وأنا له: (نشيد ص2ع16) وكما يفسر ذلك الكردينال أوغون، بأن هذه البتول المجيدة كانت تقول نحو الرب: أنني قد جئت الى ههنا لكي أرضيك أنتَ وحدكَ أيها السيد، ولكي أعطيكَ الكرامة الواجبة لكَ بقدر أستطاعتي، فأنا أريد أن أحيى هنا بكليتي لكَ، وأموت من أجلكَ، فأقبل (أن يكن هذا مرضياً لكَ) تقدمتي هذه الدائمة، وقرباني أنا عبدتكَ الذليلة، وأعني على أن أتتم ذلك بأمانة:*

وهنا ينبغي لنا أن نتأمل كم كانت قداسة سيرة حياة مريم عظيمةً في بيت الرب، نظير الفجر الذي ينمو أشراقه حتى أن يبلغ الى ضياء النهار، فمن تراه يمكنه أن يصف كيف كانت فضائلها تزداد يوماً فيوماً أشراقاً ونمواً، ويتلألأ جمال حبها، ونقاوة أحتشامها، وعمق تواضعها، وصرامة صمتها، وشدة أماتتها، وعظم دعتها، وعذوبة وداعتها. فيقول القديس يوحنا الدمشقي: أن هذه الزيتونة الجميلة اذ أنغرست في أرض بيت الرب، وأسقيت من الروح القدس، فأضحت مسكناً للفضائل كلها: ويقول (في عظته على ميلادها): أن وجه هذه البتولة القديسة كان مملؤاً من الأحتشام، ونفسها مؤسسةً في التواضع، وكلماتها موعبةً عذوبةً ومحبةً صادرةً عن ترتيب باطن. ثم يبرهن عن كيف أنها قد أبعدت أفكارها عن جميع الأشياء الأرضية، معتنقةً كل الفضائل، فاذاً من حيث أنها مارست واجبات الكمال على هذه الصورة، فأستحقت بزمنٍ وجيزٍ أن تصير هيكلاً لائقاً بالله.*

وكذلك القديس أنسلموس يتكلم عن كيفية عيشة هذه الفتاة الجليلة في هيكل الرب قائلاً: أن مريم كانت هناك هادئةً عذبةً لطيفةً لينةً، قليلة التكلم، حافظة هندام أثوابها بالأحتشام. بعيدة مطلقاً عن الضحك، عادمة أن تقلق أو تضطرب من شيء، مواظبة على الصلوات بأنعطاف كلي، مثابرةً على قراءة النصوص الإلهية، ممارسةً الأصوام ومجتهدة في أتقان كل الفضائل. ثم أن القديس أيرونيموس يورد عن سيرتها في الهيكل أشياء أخرى ذات تدقيقٍ أوفر بقوله: أن العذراء المجيدة كانت مرتبة حياتها في هيكل الرب على هذه الصورة، وهي أنها منذ الصباح الى الساعة الثالثة كانت تداوم على الصلوات، ومن الساعة الثالثة الى التاسعة كانت تباشر أعمالاً خدميةً بيديها، ومن الساعة التاسعة الى ما بعد كانت تعود الى ممارسة الصلوات، التي لم تكن تنتزح عنها الا حينما كان ملاك الرب يأتيها بالطعام، حسب العادة، وكانت تجتهد في أن تكون هي الأولى في المجيء الى صلاة السهرات الليلية، وفي حفظ الصيامات، وأن تكون هي الأوفر تدقيقاً في تكميل شريعة الله، والأشد تعمقاً في التواضع، والأكثر كمالاً في الفضائل كلها، ولم يكن أحدٌ قط يراها مغتاظةً مغمومةً محتدةً في الخلق، وكلماتها كافةً كانت موعبةً حلاوةً وعذوبةً، ولم يكن ينقص ذكر أسم الله من لسانها:*

ثم أن هذه القديسة والدة الإله المجيدة هي نفسها قد أوحت للطوباوية أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، في دير سكوناوجيا، بأنه حينما تركها في هيكل الرب أبواها، قد عزمت هي على أن تتخذ الله وحده أباً لها، مراتٍ مترادفةً كانت تفتكر في كيف يمكنها أن تجد ما به ترضيه تعالى وتسره بأفضل نوع، وقد اعتمدت على أن تكرس له عذريتها الدائمة، وبالا تمتلك شيئاً ما على الأرض، وأن تهب لله أرادتها بجملتها، وأنها فيما بين الوصايا الإلهية بنوع أخص كانت تكرر التأمل في تلك الوصية الآمرة بأن يحب الرب الإله من كل القلب. وأنها في ساعة نصف الليل كانت تمضي أمام هيكل الله مصليةً بتوسلاتٍ حارة لديه تعالى، في أن يمنحها أن تحفظ بالتمام وصاياه، وفي أن ترتضي بأن يصير أن تولد في العالم أم المسيح المخلص المنتظر. وكانت تتضرع لمراحمه في أن يحفظ لها عينيها الى حينما تشاهد بهما أم المسيح، ولسانها لكي تمدحها به، ويديها ورجليها لكي تخدمها بها، وركبتيها لكي تسجد بهما لأبن الله الطفل الكائن في أشائها حين حبلها به. غير أن البارة أليصابات عندما سمعت هذه الكلمات من العذراء المجيدة قالت لها: أفما كنتِ أيتها السيدة ممتلئةً نعمةً وفضائل: فأجابتها الطوباوية بقولها:" أعلمي أني كنت أعتد ذاتي الأكثر ذلاً وحقارةً، والعديمة الأستيهال بالكلية للنعمة الإلهية، ولذلك كنت ألتمس بأتضاعٍ منه عز وجل أن يهبني النعمة والفضيلة". وأخيراً لكي نقتنع باحتياجنا المطلق جميعاً لأن نتوسل لله في أن يمنحنا النعم الضرورية لنا، قد أردفت قولها لها: أتظنين أنتِ يا إبنتي قد نلت أنا من الله النعم والفضائل من دون تعبٍ، فأعلمي أني لم أفز من الرب بنعمةٍ ما كمرغوبي من غير أتعابٍ عظيمة، وصلواتٍ متصلة، وأشواقٍ متقدة، ودموعٍ غزيرة، وأماتاتٍ شاقة.*

غير أنه بأبلغ من ذلك يجب أن يصير التأمل فيما أوحى به للقديسة بريجيتا عن الفضائل والرياضات والأعمال التقوية السامية التي مارستها مريم الطوباوية في مدة حداثتها، كما يظهر من كلماتها الآتي إيرادها التي قيلت للقديسة المذكورة وهي:" أن مريم البتول منذ طفولتها وجدت ممتلئةً من الروح القدس، وبحسبما كانت تنمو في العمر فبحسبه كانت النعمة تنمو فيها متزايدةً، ومنذ ذاك السن الطفولي قد وطدت هي عزمها على أن تحب الله من كل قلبها، بنوع أنه ما كان يصدر على الأطلاق، لا في أعمالها ولا في كلماتها شيء ما يمكن أن يغيظه تعالى، ولذلك قد أحتقرت خيرات الأرض كلها ورذلتها، وكانت تعطي الفقراء الصدقة بمقدار أستطاعتها، وفي مأكولها كانت بهذا المقدار قنوعةً، حتى أنها لم تكن تقتات سوى بتلك الأشياء البسيطة الضرورية التي لا بد منها لقيام الحياة، واذ فهمت فيما بعد من تلاوتها الكتاب المقدس أن الإله القادر على كل شيءٍ نفسه، كان مزمعاً أن يظهر في العالم متجسداً مولوداً من بتولةٍ ليخلص العالم، فقد ألتهب قلبها مشتعلاً بنار الحب الإلهي، أتقاداً هذا حده، بنوع أنها لم تعد تشتهي شيئاً آخر أو تفتكر في موضوعٍ ما سوى في الله وحده، وفيه عز وجل كانت قائمةً لذتها وتعزيتها القصوى، وكانت تهرب من المخاطبات والأحاديث حتى مع والديها ذاتهما، لكيلا تفصلها مفاوضاتها مع البشر عن التفكر الدائم بالله، وكانت عواطفها ومرغوباتها وأشواقها مضطرمةً بزيادةٍ كلية نحو هذا الموضوع، وهو أن توجد هي في الحياة على الأرض، حينما كان مزمعاً أن يظهر في العالم المسيح المنتظر، ليمكنها أن تتعبد لتلك البتول العتيدة أن تلده من أحشائها، وتخدمها كجاريةٍ لها، لأجل أنها تكون أستحقت أن تصير له تعالى أماً.*

فيا له من حبٍ هكذا متقدٍ في قلب الله نحو هذه الطفلة المثلثة قداستها حتى أنها عطفت قلب الكلمة الأزلي لأن يسبق الزمن المحدود منه لتجسده، وأن يأتي الى العالم قبل الزمان آخذاً منها جسداً، لأنها في الوقت الذي فيه لم تكن هي من عمق تواضعها تحتسب ذاتها أهلاً حتى ولا أن تصير جاريةً لوالدة الإله، ففيه عينه قد أختارها الله هي ذاتها أن تكون تلك الأم الإلهية التي منها يظهر المسيح. وهكذا بواسطة عرف فضائلها، وبقوة صلواتها المتقدرة قد أجتذبت أبن الله من السماء الى مستودعها البتولي. ولذلك قد دعيت هذه العروسة الطاهرة من عروسها الإلهي يمامةً بقوله: صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12) وأنما لقبت هي منه عز وجل باليمامة ليس فقط من كونها نظير اليمامة قد أحبت دائماً الأنفراد والتوحد، عائشةً في هذا العالم كأنها في القفر البعيد عن الناس، بل أيضاً، كما أن اليمامة تجول على الدوام طائرةً في الحقول والكروم مناغيةً بصوتٍ خشوعي كمترثية. فهكذا مريم كانت من دون أنقطاعٍ في هيكل الرب تتنهد مترثيةً وتندب متوجعةً حال شقاوة العالم الهالك بالخطيئة. وتلتمس من الله سرعة مجيء الفادي المنتظر قدومه مخلصاً للعالم. فبكم من الحراة والأتضاع كانت هي أمام هيكل الله تكرر بعواطف الحب التضرعات لديه تعالى، والتنهدات المستعملة قبلها من الأنبياء والقديسين، في ألتماس أرسال المخلص الى العالم. كم من مرةٍ كانت تهتف نحو الرب قائلةً كلمات النبي أشعيا وهي: أرسل يا رب الحمل المسلط على الأرض من صخرة البرية الى جبل بنت صهيون: (ص16ع1): سحي نداءً أيتها السموات من فوق والغيوم فلتمطر الصديق: (ص45ع8): ليت السموات تنشق وتنزل يا رب: (ص64ع1).*

وبالأجمال أن هذه الفتاة الإلهية قد وجدت أمام الله موضوع مسرته ورضاه الكلي، عند مشاهدته إياها متراقيةً يوماً فيوماً على درج الكمال الأكثر سمواً، متجهةً نحو قمته العالية في الغاية نظير عامود دخان مؤلفاً من أطيب روائح الفضائل الزكية العرف. حسبما أشار عنها الروح القدس نفسه بهذه الكلمات وهي: من هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور من طيوبٍ ومرٍ وكندر ومن جميع ذرائر العطار: (نشيد ص3ع6) فيقول صفرونيوس: أن هذه الفتاة القديسة قد كانت بالحقيقة نظير البستان المختص بالله، المملؤ من التنعمات، لأنه كان يوجد فيه جميع أنواع الزهور وطيب نشر الفضائل كلها. ويثبت ذلك القديس يوحنا فم الذهب قائلاً:" أن الله لأجل هذه العلة أنتخب مريم أماً له بالجسد في الأرض، أي لأجل أنه تعالى لم يجد على الأرض بتولةً، لا أكثر منها قداسةً، ولا أسمى منها كمالاً، ولم يصادف محلاً أعظم لياقةً وأكثر أهلاً ليسكن فيه، من مستودعها البتولي الكلي الطهارة والقداسة". ويؤيد ذلك القديس برنردوس بقوله: أنه لم يوجد على الأرض مكانٌ لسكنى الإله الكلمة. أوفر لياقةً وأكثر أهلاً من مستودع العذراء مريم الدائمة بتوليته. ويقول القديس أنطونينوس: أنه يازم أن تكون الطوباوية مريم البتول وجدت ممتلكةً درجاتٍ سامية جداً من الكمال، بنوع أنها فاقت بها متعاليةً سمواً على كمال جميع المخلوقات، حتى أنها لأجل ذلك أنتخبت وتعينت أماً لله على الأرض.*

فاذاً بالنوع الذي به مريم المثلثة قداستها في سن ثلاث سنين من عمرها قدمت ذاتها لله في هيكله الناموسي من دون أبطاءٍ، ومن غير أن تبقي لذاتها شيئاً خاصاً بها. فبهذا النوع نحن اليوم ينبغي لنا أن نقدم ذواتنا أمام هذه السيدة عاجلاً، ومن دون أنقسام قلوبنا، متوسلين إليها بأن تقدمنا هي نفسها لله الذي لا يأنف من أن يقبلنا، عندما يرانا مقدمين إليه بواسطتها وعن يدها، هي التي كانت الهيكل الحي للروح القدس، وموضوع تنعم الرب سيدها، والأم المنتخبة للكلمة الأزلي. وهكذا نحن نرجوا واثقين بهذه السيدة العظيمة والكلية الأحسان، في أنها تكافئ بحبٍ وافرٍ الكرامة والتعبد الذي يتقدم لها من عبيدها، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.*

* نموذج *

أنه يقرأ في حيوة الراهبة عبدة الأحد باراديسوس، المحررة من الأب أغناتيوس نيانته أحد آباء رهبنة القديس عبد الأحد، بأن هذه البتول البارة أي عبدة الأحد كانت مولودةً من والدين فقيرين من قرية تسمى باراديسوس بالقرب من مدينة فيورنسا، ومنذ نعومة أظفارها شرعت تخدم والدة الإله بتعبدها لها. فقد كانت تمارس الصوم في كل أيام السنة، أما نهار السبت فكانت تكريماً لهذه السيدة توزع على الفقراء ذاك القوت الموفر من أكلها. كما أنها يوم السبت نفسه كانت تجول في الحقول القريبة وفي كرم بيتهم أيضاً، وتجمع ما هو ممكن لديها من الزهور وتأتي بها مقدمةً إياها أمام أيقونة والدة الإله، المصورة حاملةً طفلها الإلهي على ذراعيها، الكائنة في بيتهم. فلننظر الآن بكم من حقائق الحب وزيادة المعروف قد كافتها الأم الإلهية عن عبادتها لها المشار إليها، فيوماً ما كانت واقفةً عبدة الأحد عند نافذة البيت (وكان لها حينئذٍ من العمر عشر سنوات) فشاهدت مجتازةً في الطريق أمرأةً ساميةً في الجمال، ومعها طفلٌ مقاد منها بيده، وكانت باسطةً يدها وكذلك الطفل بهيئة طلب الصدقة، فالفتاة عبدة الأحد أسرعت لتأتي بالخبز لتعطيهما، ولكن حالاً من دون فتح باب البيت قد شاهدتهما داخلاً بالقرب منها، ورأت في يدي الطفل وفي رجليه وفي صدره جراحاتٍ. فمن ثم سألت هي تلك الأمرأة قائلةً: من هو الذي جرح الطفل هذه الجراحات: فأجابتها أمه: أن الحب قد جرحه. فالفتاة اذ لاحظت في ذلك الطفل الجميل حقائق الأحتشام قد سألته أن كانت تلك الجراحات تسبب له وجعاً أم لا ، أما هو فلم يرد عليها جواباً سوى أنه تبسم ضاحكاً بأحتشام. وبما أن الثلاثة كانوا واقفين --- أي الأمرأة وطفلها وعبدة الأحد نفسها بالقرب من الأيقونة السابق ذكرها، فقالت الأمرأة للفتاة: أخبريني يا إبنتي ما الذي يحرككِ الى أنكِ تتوجين هذه الأيقونة بالزهور: فأجابتها قائلةً: أن حبي لمريم العذراء ولأبنها يسوع يحركني لذلك فسألتها أيضاً: وكم هو مقدار حبكِ هذا: فقالت لها: أني أحبهما بكل أستطاعتي. فكررت عليها السؤال بقولها: وكم هي أستطاعتكِ. فأجابتها: أنها هي مقدار ما تساعدني مريم وأبنها. فحينئذٍ قالت لها الأمرأة: داومي يا أبنتي على حبكِ لهما بأتصالٍ، وهما يكافئانكِ عنه في الفردوس السماوي: ثم بعد ذلك قد شعرت الفتاة برائحةٍ عطرية كليه الزكاوة بما يفوق الوصف، كانت تنبعث من جراحات الطفل، ومن ثم سألت هي أمه بأية ماهية من المراهم كانت مدهونةً تلك الجراحات، وهل أنه يمكن أبتياع ذاك الدهن لتشتري هي منه، فأجابتها أمه. أي نعم أنه يشترى بواسطة الإيمان والأعمال: فحينئذٍ عبدة الأحد قدمت للطفل الخبز الذي كانت جاءت به إليهما، أما الأمرأة فقالت لها: أن القوت الذي يستعمله أبني هذا أنما هو الحب، فقولي له أنكِ تحبين يسوع وبهذا يبتهج هو، فالطفل عند سماعه لفظة الحب بدأ يتهلل وتمسك بعبدة الأحد قائلاً لها: أخبريني كم تحبين يسوع: فأجابته بأنها تحبه كثيراً جداً حتى أنها نهاراً وليلاً دائماً تفتكر به، وأنها لم تكن تهتم في شيءٍ آخر سوى في أن ترضيه بقدر أستطاعتها، فوقتئذٍ قال هو لها: جيداً تصنعين، فحبيه لأن المحبة له تعلمكِ ماذا ينبغي لكِ أن تفعليه لكي تسريه: ثم من حيث أن رائحة العطر الزكية كانت تنمو متزايدةً ونشرها كان يعبق بفيضانه من تلك الجراحات، فعبدة الأحد صرخت هاتفةً: أواه أن هذه الرائحة هي كافية لأن تجعلني أن أموت من شدة الحب، فأن كانت رائحة طفلٍ ما هكذا هي كلية العذوبة فما عساها أن تكون روائح الفردوس. الا أن الحال قد تغيرت أمام الفتاة، لأنها شاهدت تلك الأمرأة متشحةً بأثوابٍ ملوكية، ونورٌ أبهى من الشمس كان ينبعث من أبنها. ثم أخذ هو الزهور التي كانت موجودةً على أيقونته وأيقونة والدته. وكلل بها هامة عبدة الأحد، التي حينئذٍ عرفت أن تلك الأمرأة هي مريم البتول الكلية القداسة. وذاك الطفل هو يسوع المخلص. ولهذا سجدت لهما في الأرض. ووقتئذٍ غابت عنها الرؤيا. فبعد ذلك هذه الفتاة هجرت العالم ودخلت في رهبنة القديس عبد الأحد. وعاشت بسيرةٍ فاضلة وماتت ميتةً مقدسةً سنة 1553.*  

† صلاة †

أيتها الفتاة الجليلة مريم حبيبة الله العظيمة، ليتني أستطيع بالنوع الذي به أنتِ قدمتِ ذاتكِ لله في هيكله الأورشليمي وشكاً وبكليتكِ ضحيةً لمجده مكرسةً له بالحب، أن أقدم أنا لكِ في هذا اليوم سني حياتي الأولى ذات الصبوة، لكي أخصص ذاتي وأكرسها لخدمتكِ أيتها السيدة الكلية الحلاوة. ولكني لست قادراً على ذلك، اذ أنني أصرفت أنا الشقي سنين كثيرةً من حياتي في خدمة العالم، وفي مراعاة أهوائي ومرغوباتي الذاتية. وعلى نوع ما قد نسيتكِ ليس بأقل مما نسيت إلهي. فالويل للزمان الذي ما أحببتكِ فيه، الا أنه لأفضل هو الأبتداء متأخراً من أن لا يصير أبتداءٌ أصلاً. ومن ثم هوذا أني اليوم أقدم لكِ ذاتي أيتها الأم الإلهية مخصصاً إياها بجملتها لخدمتكِ في الحياة الباقية لي على الرض، أن تكن زمناً وجيزاً أو مستطيلاً، ونظيركِ أرفض الأشياء الأرضية كافةً، وأترك المخلوقات كلها، وأكرس ذاتي لعبادة الخالق بمفرده وأحبه وحده، فاذاً أنا أقدم لكِ أيتها الملكة عقلي لكي يفتكر دائماً في الحب الذي أنتِ تستحقينه، ولساني ليمدحكِ، وقلبي ليحبكِ. فأقبلي أيتها البتول الكلية القداسة التقدمة التي يقربها لكِ هذا الخاطئ البائس، بحق تلك التعزية التي شعرتِ بها حينما قدمت ذاتكِ لله في هيكله الأرضي. وأن كنت هكذا بدأت متأخراً في خدمتكِ، فعادلٌ هو أني أضاعف نحوكِ الحب والتعبد، لكي أعوض عن الزمان الماضي الضائع.

فعينيني أنتِ أيتها الأم الرحيمة بواسطة شفاعتكِ المقتدرة.

مستمدةً  لي من أبنكِ يسوع نعمة الثبات، والقوة في

أن أكون أميناً في خدمتكِ الى الموت. حتى

اذا ما أحسنت تعبدي لكِ في هذه

الحياة. يمكنني أن آتي الى

الفردوس السماوي لأمدحكِ

†الى الأبد آمين   

 

Click to view full size image

الفصل الرابع

* فيما يلاحظ عيد بشارة البتول المجيدة بالحبل الإلهي، حيث*

* يبرهن عن عمق تواضع هذه السيدة الكلي، وعلو الرفعة*

* السامية التي عظمها الله بها في سر التجسد*

* وفيه جزءان*

الجزء الأول

*في أن مريم البتول لم يمكنها أن تواضع ذاتها أكثر أتضاعاً*

* مما أتضعت به حين تجسد الكلمة الأزلي منها.*

أن كلمات الرب القائل: كل من يرفع نفسه يتضع وكل من يواضع نفسه يرتفع: (متى ص23ع12) أنما هي كلمات الحق بالذات العديمة الخلل والزلل، فاذ كان الله قد حدد منذ الأزل أن يتجسد متأنساً ليفدي البشر الهالكين بالخطيئة. وبهذا يعلن للعالم عظم خيرية صلاحه الغير المتناهي، وبالتالي لأجل أنه كان يلزم لهذه الغاية أن يختار له تعالى أماً في الأرض. فعندما كان يتأمل ليرى من هي فيما بين أفراد الجنس النسائي بأسره تلك التي هي أعظم قداسةً منهن كافةً، والأعمق تواضعاً من جميعهن، فمريم العذراء وحدها وجدت فيما بينهن كلهن متصفةً بذلك ومستحقةً هذه المرتبة، لأنها بمقدار ما كانت هي كاملةً في الفضائل، فبأكثر من ذلك كانت عند ذاتها ساذجةً حقيرةً مملؤةً من التواضع، ولهذا قال عنها الروح القدس: أن الملكات هن ستون والسريات ثمانون والشواب لا عدد لكثرتهن، أما حمامتي وكاملتي فواحدة هي: (نشيد ص6ع7) فاذاً قال الرب أن هذه قد أخنرتها أماً لي. فلنلاحظ اذاً الآن في هذا الجزء كيف أن مريم البتول لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد أكثر مما تواضعت به. تاركين للجزء الثاني التكلم عن كيف أن الله لم يقدر أن يرفع هذه العذراء أكثر مما رفعها*

فاذ تكلم الرب في سفر النشيد (ص1ع12) مشيراً الى عظم تواضع هذه البتول القديسة قال تعالى هكذا: أنه اذ كان الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. فالقديس أنطونينوس في تفسيره هذا النص الإلهي يقول: أن نصبة شجر النردين التي هي صغيرة واطية ذليلةً، كانت رسماً لعمق تواضع مريم التي فاحت رائحة طيبها، وأرتفع نسيم عرفها الزكي حتى السماء وأجتذب من حضن الآب الأزلي الى مستودعها البتولي الكلمة أبن الله: فعلى هذه الصورة رائحة طيب تواضع هذه العذراء المجيدة، قد أجتذبت الرب لأن يختارها أماً له عندما شاء أن يتأنس ليفدي العالم. غير أنه عز وجل لكي يمجد هذه الأم الإلهية ويزيد أستحقاقاتها، لم يرد أن يصير هو لها أبناً من دون أن يأخذ قبلاً رضاها بذلك، كما يقول الأنبا غولياموس في تسبحته الثالثة: أن الرب لم يشأ أن يأخذ من هذه العذراء جسداً ألم تعطيه إياه هي برضاها. فمن ثم حينما كانت البتول المملؤة تواضعاً جالسةً في بيتها الحقير في حال الفقر، مصليةً بأشد حرارةٍ متنهدةً من سويداء قلبها، ملتمسةً من الله أن يرسل سريعاً الى العالم المخلص المنتظر المشوق إليه، حسبما أوحي للقديسة أليصابات الراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس، فحينئذٍ أنحدر زعيم الملائكة جبرائيل من القناطر العلوية، الى بيت هذه العذراء النقية ليخبرها بهذا الأمر العظيم من قبل الله، واذ مثل أمامها قد قال لها: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ مباركةٌ أنتِ في النساء: (لوقا ص1ع28) وكأنه برهن لها قائلاً: السلام عليكِ أيتها العذراء الممتلئة نعمةً. لأنكِ قد وجدت دائماً غنيةً بالنعم فوق جميع القديسين والقديسات، أفرحي الرب معكِ، لأنكِ متعمقةٌ بالتواضع، فأنتِ مباركةٌ فيما بين النساء، لأن النساء كلهن قد حصلن في اللعنة الصادرة عن الخطيئة، وأما أنتِ فلأنكِ أنتخبتِ أماً للمبارك فقد بوركتِ منذ البدء وعتيدة أن تكوني على الدوام مباركةً معتوقةً بريئةً من كل زلةٍ وعيبٍ ودنسٍ.*

فما الذي أجابت به هذه البتول النقية عندما سمعت كلام المدح والنعت والتقريظ بالنوع المتقدم ذكره، أنها لم تجب بشيء عن هذا، بل أنها أضطربت من ذاك الكلام، وفكرت ما هذا السلام، ولكن لماذا هي أضطربت، أهل خوفاً من الخداع. أم حياءً من دخول رئيس الملائكة إليها بصورة رجلٍ، كما فسر ذلك بعض العلماء، كلا، بل أن نص كلمات الإنجيل عن هذا التبشير هو واضح اذ يقال: فلما سمعت أضطربت من كلامه: كما ينبه أوسابيوس الأميساني، بأن الإنجيل لم يقل أنها أضطربت من منظره بل من كلامه، فاذاً أنما كان قلقها وأضطرابها جميعه صادراً من قبل عمق تواضعها، عندما سمعت ألفاظ ذاك المديح البعيد بجملته عن روح أتضاعها. وعن أحتسابها ذاتها كلا شيء ومن ثم بمقدار ما كانت تسمع من جبرائيل ألفاظ الرفعة والتقريظ، فبأكثر من ذلك كانت هي تخفض نفسها وتحقر ذاتها متأملةً في كونها عدماً لا تستحق أدنى مديح. فهنا يتأمل القديس برنردينوس قائلاً: أنه لو كان الملاك يقول لها أنها هي أعظم الخاطئات الموجودات في العالم، لما كان حصل عندها من هذا القول تعجب بالكلية ولكنها عندما سمعت منه ألفاظ ذاك المديح السامي قد أستوعبت قلقاً وأضطراباً: فاذاً أنما أضطربت هذه البتول لأجل أنها اذ كانت مملؤةً من التواضع العميق. فلم تكن تطيق أستماع أية كلمات كانت راجعةً لمدحتها. وكل رغبتها وأشواقها كانت في أن خالقها وحده الذي هو علة المواهب، وأصل جميع الخيرات والنعم يوجد ممدوحاً معظماً مباركاً مسبحاً، كما أوضحت ذلك هي نفسها فيما أوحت به للقديسة بريجيتا بتكلمها معها عن زمن تجسد أبن الله منها قائلةً: أني لم أكن أريد أن أمدح أنا بل الله وحده أصل المواهب وخالق كل شيء:*

ولكنني أقول أن الطوباوية مريم البتول قد كانت، لتعمقها في قراءة نصوص الكتاب المقدس، وأقوال الأنبياء تعرف حسناً قلما يكون، أن زمان مجيء المسيح الى العالم قد كان دنا، وأن أسابيع دانيال قد كانت ناهزت النهاية، وأن قضيب ملك يهوذا قد كان أنتقل الى يد هيرودس الرجل الغريب عن قبيلة هذا السبط، وأن بتولةً ما كان ينبغي لها أن تحبل بالمسيح وتصير أمه، ولكن عندما سمعت هي من زعيم الملائكة ألفاظ نعوتٍ لم تكن واجبةً الا لمن هي والدة الإله، وهو كان يخصصها بها نفسها هي، فهل أنه ربما جاء في فكرها حينئذٍ أنه من يعلم أنها هي تكون تلك التي أختارها الله لهذه الدعوة. لا لعمري، أن عمق تواضعها لم يكن يحضر في عقلها تصوراً هذه صفته، بل أن كلمات ذاك المديح لم تفعل فيها شيئاً آخر سوى دخول الخوف العظيم على قلبها بهذا المقدار، حتى أنها حسبما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: كما أن المسيح مخلصنا قد أراد أن يظهر له في بستان الزيتون ملاكٌ ليشجعه ويقويه. فهكذا لزم الأمر أن جبرائيل لملاحظته شدة الخوف الذي أعترى قلب هذه الفتاة من قبل سلامه وكلامه لها أن يأخذ في أن يشجعها ويقويها بقوله لها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله: وكأنه يريد بذلك قائلاً: لا تجزعي ولا يأخذكِ أنذهالٌ من قبل ما نعتكِ أنا به نعتاً عظيماً، لأنكِ اذا كنتِ أنتِ عند ذاتكِ هكذا حقيرةً تعتدين شخصكِ أدنى ما يوجد في البشر، فالله الذي يرفع المتواضعين قد أهلكِ مستحقةً أن تجدي النعمة التي أضاعها البشريون كافةً، ولذلك قد حفظكِ تعالى سالمةً ناجيةً بريئة من الدنس العام الذي ألتحق ببني آدم أجمعين، ومن ثم منذ الدقيقة الأولى من الحبل بكِ قد زينكِ بنعمةٍ عظمى فائقة على كل النعم، التي حازها من الله القديسون الآخرون كلهم، ولهذا الآن قد رقاكِ الى مقام والدةٍ له. وها أنتِ تحبلين وتلدين أبناً وتدعين أسمه يسوع: فهنا القديس برنردوس يقول: ماذا تنتظرين يا مريم، هوذا الملاك يريد أن يسمع منكِ الجواب، ولكن نحن بأبلغ من الملاك ننتظر جوابكِ، لأنه حكم علينا كافةً بالموت، فها أن ثمن خلاصنا وقيمة نجاتنا قد فوضت إليكِ وخيرتِ بها، وهي أن كلمة الله أزمع أن يتجسد منكِ متأنساً، فأن كنتِ تقبلينه أبناً لكِ فنحن حالاً نصير معتوقين من حكومة الموت. فسيدنا نفسه بمقدار ما أنه أحب جمالكِ حباً شديداً، فبمقدار ذلك ينتظر رضاكِ الذي حدد هو عز وجل أن به توجد علة خلاص العالم: (بل يضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً): فاذاً أعجلي أيتها السيدة باعطاء الجواب من دون تأخيرٍ. ولا تجعلي أن خلاص العالم يعاق أمره، لأن فداء الدنيا ونجاة الكون هي الآن متوقفة على رضاكِ.*

 فهوذا أن البتول المجيدة قد أعطت الجواب لرئيس الملائكة بقولها له: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: فيا له من جوابٍ هو الأعظم حسناً، والأعمق أتضاعاً. والأكثر فطنةً، من كل ما تستطيع البشر كافةً والملائكة أجمعون بحكمتهم كلها أن يخترعوه، اذا كانوا أجتمعوا معاً وأستمروا عدةً من السنين يدرسون ليرتبوه بهذه الكلمات، يا له من جوابٍ ذي أقتدارٍ قد أوعب السماء تهليلاً، وجلب لسكان الأرض بحراً ذاخراً من النعم والمواهب التي لا تحد ولا تحصى، يا له من جوابٍ حالما خرج من فم البتول الكلية القداسة، قد أجتذب من حضن الآب الأزلي أبنه الوحيد الحبيب الى أحشائها الفائق الطهر متأنساً من دمائها النقية. على أنه في الدقيقة عينها التي فيها هذه العذراء المجيدة قالت: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولكَ: ففيها نفسها: الكلمة صار جسداً وحل فينا: وأبن الله صار أبن مريم أيضاً. فهنا القديس توما الفيلانوفي يهتف صارخاً: يا لعظم أفتدار لفظة فليكن، يا لها من لفظة فعالةٍ، يا لها من لفظة تستحق منا فوق كل لفظةٍ تكريماً عظيماً، لأنه بواسطة لفظة فليكن الأخرى المتكررة من الله بقوله فليكن الضوء، فليكن جلدٌ فيما بين الماء والماء فليكن فليكن ألخ قد خلق تعالى السموات والأرض، وأما بهذه اللفظة المقولة من العذراء مريم: فليكن لي كقولكَ: قد صار الله إنساناً مثلنا:*

ولكن من دون أن نبتعد عن الموضوع الذي نحن في صدده. فلنتأمل في عمق التواضع الذي لا قرار له. المعلن في هذا الجواب المعطى من مريم العذراء لزعيم الملائكة. فهي وقتئذٍ قد عرفت جيداً مستنيرةً من الله كم كانت عظيمةً المرتبة والدعوة التي أختارها إليها تعالى بأن تكون والدةً له، لا سيما لأن ألفاظ المبشر رئيس الملائكة المقولة منه لم تكن ذات أشتباه، بأنها هي هي تلك البتول السعيدة المنتخبة من الرب لتجسد كلمة الله منها، فمع ذلك جميعه هي لم تتقدم الى ما قدام معتبرةً ذاتها شيئاً. ولم تلبث قط مستلذةً بأرتفاعها الى هذا المقام الأسمى، بل اذ شرعت من جهةٍ أولى تتأمل في دناءتها وعدمها، ومن جهةٍ أخرى في سمو عظمة جلالة الله خالقها الذي تنازل لأن يختارها أماً له. فقد أعتبرت ذاتها حسناً أنها لم تكن أهلاً لذلك، ولا مستحقةً لهذه الكرامة، غير أنها لم ترد أصلاً أن تقاوم أرادته الإلهية، فلهذا اذ ألتزمت بأن تعطي الجواب. فماذا صنعت وفي أي شيء أفتكرت، أنها قد أنخفضت كأنها متلاشية بجملتها في عمق الأتضاع، وفي الوقت ذاته قد أشتعلت بنيران الشوق لأن تتحد بالله أعظم أتحاداً، فأهملت ذاتها بكليتها بخضوع تام لمشيئته تعالى، وأجابت قائلةً:" ها أنا أمةٌ للرب". هوذا العبدة الأسيرة لخالقها الملتزمة بأن تصنع ما يأمرها به سيدها، وكأنها تقول بذلك، أنه أن كان الله يريد أن ينتخبني أماً له، أنا التي لا أملك شيئاً خاصاً بي، وجميع ما عندي أنما هو خاصته تقدس أسمه موهوبٌ لي منه. فمن ثم من يمكنه أن يفتكر بأنه عز وجل قد أختارني لهذا المقام من أجل أستحقاقي، أنا التي أنما أمةٌ للرب، فأي أستحقاقٍ تستطيع أن تملكه من هي عبدةٌ أمةٌ جاريةٌ أسيرةٌ لأن تصير أماً لسيدها ومولاها، فأنا أمةٌ للرب، وبالتالي فليكن المديح كله لصلاح الرب ولخيرية جوده، ولا تمدح الأمة الأسيرة، لأن هذا جميعه هو مفعول صلاح الله، بأنه رمق بنظره الرحيم خليقةً ذليلةً، متواضعةً نظيري، ليجعلها كبيرةً عظيمةً بهذا المقدار.*

فهنا يهتف الأنبا غواريكوس صارخاً:" يا له من تواضعٍ عميقٍ قد صير مريم البتول المتضعة به صغيرةً حقيرةً دنيةً عند ذاتها، ولكن عظيمةً جليلةً مكرمةً في عيني الله، وجعلها في نفسها ذليلةً كلا شيء، وأما عند ذاك الرب الغير المحدود الذي العالم لم يعرفه فمستأهلة مكرمة ذات أستحقاقٍ كلي". الا أن كلمات هتاف القديس برنردوس في هذا الموضوع هي أحلى وأكرم بقوله في عظته الرابعة على أنتقال الطوباوية مريم البتول الى السماء هكذا:" كيف أمكنكِ أيتها السيدة أن تجمعي في قلبكِ أتضاعاً بهذا المقدار عميقاً، بأحتقاركِ ذاتكِ وبأعتدادكِ إياها كالعدم، جملةً مع طهارةٍ ونقاوةٍ وبرارةٍ فائقة الوصف، ثم مع كمالٍ ونعم ومواهب سامية على كل ما سواها ممتلكةً إياها بغنى عظيم، فمن أين ومن أي قبيل قد أصلت فيكِ أيتها البتول الطوباوية تواضعاً هذه صفته قراره العميق، في الوقت الذي فيه أنتِ حاصلةٌ على مرتبةٍ كلية السمو، عارفةً مقدار الرفعة العظيمة والوظيفة الفائق جلالها التي رقاكِ الله إليها. فلوسيفوروس حينما كان شاهد ذاته مزيناً بجمالٍ فائقٍ قد أشتهى قاصداً أن يرفع كرسيه فوق الكواكب، ويصير شبيهاً بالله، كما يقول عنه أشعيا النبي (ص14ع13) هكذا: أنت قلت في قلبك أصعد الى السماء وفوق كواكب الله أرفع كرسيَّ... وأكون شبيهاً بالعلي: فلو أن هذا الروح المتكبر كان يجد ذاته حاصلةً على تلك الصفات والأختصاصات والمرتبة والوظيفة والرفعة التي حصلت عليها البتول المجيدة، فكم لكان قال وأدعى وأشتهى. فلم يكن روح هذه القديسة الا بالضد أي بمقدار ما رأت نفسها مرتفعةً فائزة بهذا جميعه، فبأكثر من ذلك كانت تواضع ذاتها محتقرةً إياها. ومن ثم يختتم القديس برنردوس خطابه قائلاً: أنكِ أنتِ أيتها السيدة لأجل تواضعكِ هذا الجميل قد أستحقيتِ حسناً وصواباً أن ينظر الله إليكِ نظراً ذا حبٍ فريدٍ في نوعه. وصرت أهلاً لأن تكتسبي قلب ملككِ الى محبة جمالكِ. وفزتِ بأن تعطفي بواسطة نشر طيب أتضاعكِ الزكي الرائحة أبن الآب الأزلي الكائن سعيداً في حضن أبيه في راحته الأبدية، وأن تجتذبيه من القناطر العلوية الى مستودعكِ البتولي الكلي الطهر والنقاوة". وهنا يقول العلامة برنردينوس البوسطي: "أن مريم العذراء قد أكتسبت بجوابها لرئيس الملائكة قائلاةً: ها أنا أمةٌ للرب:" أستحقاقاً لم يكن للمخلوقات كلها معاً ممكناً أن تكتسبه بجميع أعمالها الصالحة مهما كانت عظيمة.*

فهذا هو أمرٌ حقيقيٌ (يقول القديس برنردوس في ميمره الأول) على أنه ولئن كانت هذه العذراء قد أهلت ذاتها بواسطة بتوليتها ونقاوتها، لأن تكون عزيزةً مقبولةً لدى الله، فمع ذلك قد صيرت نفسها بواسطة التواضع أهلاً بمقدار ما هو ممكنٌ لخليقة أن تجعل ذاتها مستحقةً لأن تنتخب أماً لخالقها". ويثبت هذا الأمر القديس أيرونيموس بقوله: أن الله أنما أختار مرمي أماً له لأجل عمق تواضعها، أفضل مما لأجل سائر فضائلها الأخرى السامية: بل أن هذه البتول المجيدة هي نفسها قد أوضحت ذلك في الوحي للقديسة بريجيتا قائلةً: من أين أمكنني أنا أن أستحق نعمةً هذه صفتها، وهي أن أصير أماً لسيدي وربي، الا من هذا القبيل، وهو من معرفتي ذاتي أنني كلا شيء عديمة كل أستحقاق وهكذا غصت في عمق التواضع: كما قد كانت هي عينها أعلنت ذلك في تسبحتها المملؤة تواضعاً اذ هتفت قائلةً: تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر الى تواضع أمته... لأنه صنع معي عظائم: (لوقا ص1ع47) وهنا القديس لورانسوس يوستينياني ينبه: بأن العذراء المجيدة لم تقل في تسبحتها أن الله نظر الى بتوليتها والى برارة نفسها، بل الى تواضعها: ثم أن القديس فرنسيس سالس يبرهن بقوله: أن مريم الكلية قداستها لم تقصد بكلماتها المقدم ذكرها أن تمدح فضيلة تواضعها، بل أرادات أن توضح حقاً أن الله قد نظر الى كونها عدماً، وكلا شيء، وبمجرد صلاحه وخيرية رحمته شاء أن يرفعها الى مقامٍ هذا سموه، وأن يصنع معها العظائم.*

وبالأجمال يقول القديس أوغوسطينوس: أن تواضع مريم العذراء قد وجد نظير السلم التي فيها قد تنازل الرب لأن ينحدر من السماء الى الأرض متأنساً في أحشائها. ويؤيد ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن أتضاع مريم البتول قد كان هو الأستعداد الأخص والأكمل والأقرب لصيرورتها والدةً لله. ويشير بهذا الى ما كان النبي أشعيا سبق وتفوه به قائلاً: يخرج قضيبٌ من أصل يسىَّ وتصعد زهرةٌ من أصله. فعن هذا النص يتفلسف الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن الزهرة الإلهية أي أبن الله الوحيد قد كان يلزمه حسب نبؤة أشعيا أن ينبت صاعداً، لا من رأس القضيب الخارج من نسل يسىَّ، ولا من أحد فروعه، بل من أصله وشلشه، ليعلن بالحصر عمق أتضاع والدته: وكذلك يفسر هذا النص الأنبا جلانسه قائلاً: أن الزهرة المذكورة كان يلزمها أن تفرخ من عمق القضيب وأصله الواطي وليس من رأسه: ولذلك قال الله لأبنته هذه المحبوبة منه: ردي عينيكِ من مقابلتي فهما قد طيراني: (نشيد ص6ع4) فهنا يقول القديس أوغوسطينوس: ترى من أين طيرته مقلتاها الا من حضن الله أبيه الى مستودعها البتولي. وفي هذا الشأن يتكلم المفسر العلامة فارنانداس قائلاً: أن مقلتي مريم العذراء المملؤتين تواضعاً اللتين بهما قد نظرت ملاحظةً العظمة الإلهية، في الوقت عينه الذي فيه لم تفتر أصلاً من النظر الى ذاتها ذليلةً كأنها عدمٌ، فقد فعلتا في قلب الله حركة أنعطافٍ كأنها أغتصابية بهذا المقدار حتى أنهما أجتذبتاه من كرسي جلاله الى أحشائها الطاهرة. ويقول الأنبا فرنكوني: أنه بهذا المعنى نفسه ينبغي أن يفهم المديح الذي به كرم الروح القدس عروسته هذه واصفاً جمالها، بأنها حاصلة على مقلتين نقيتين وديعتين متواضعتين كالحمامة بقوله: ها أنتِ جميلةٌ يا قرينتي، ها أنتِ حسنة، عيناكِ كحمامتين (نشيد ص4ع1) لأن مريم البتول اذ كانت تنظر الى الله بعين ساذجة نقية متضعة كحمامةٍ طاهرة، قد جذبته الى أن يحبها بهذا المقدار كمغرم في جمال نفسها حتى أنه برباطات الحب أرتضى أن يقيد ذاته محبوساً في مستودعها الأعذر.*

فلنختتم اذاً هذا الجزء قائلين: أن مريم من ثم لم تقدر أن تواضع ذاتها في سر التجسد بأكثر مما تواضعت به. ولننظر الآن في الجزء الآتي كيف أن الله بتصييره إياها أماً له، لم يقدر أن يرفعها بأكثر مما رقاها.* 

 

الجزء الثاني  
 

* في أن الله لم يقدر أن يرفع مريم العذراء رفعةً أكثر سمواً*

* مما رفعها إليه في سر التجسد الإلهي*

أنه لكي يمكن أن يفهم جيداً ما هو مقدار عظمة الرفعة التي أرتقت إليها العذراء في سر التجسد، لقد كان يحتاج أن يفهم ما هو مقدار عظمة الله ذاته وسمو جلالته، فاذاً يكفي في هذا الموضوع القول أن الله قد صير هذه البتول أماً له، وبذلك يعرف أنه تعالى لم يقدر أن يعلي شأنها ويرفع مقامها بأكثر مما صنع معها. فحسناً كتب القديس أرنولدوس كارنوتانسه قائلاً: أن الله، بتصييره ذاته أبناً للبتول المجيدة قد أقامها بمرتبةٍ رئاسيةٍ ساميةٍ على جميع الملائكة والقديسين. فاذاً من بعد الله هي بنوع فائق التقدير والتمثيل سامية متعالية مرتفعة فوق الأرواح الطوباوية كافةً، حسبما يقول القديس أفرام السرياني، ويثبت ذلك القديس أندراوس الأقريطشي بقوله: أنها ما عدا الله هي أعلى من الجميع مطلقاً: ومثله القديس أنسلموس القائل نحوها: أنكِ أيتها السيدة لا تجدين أحداً معادلاً لكِ أصلاً، لأن الكائنات الأخرى كلها هي أما أنها أعلى منكِ، وأما أنها دونكِ. فالله وحده هو أعلى منكِ. وسائر الكائنات التي ليست هي الله فجميعها هي دونكِ واطية عنكِ: ويقول القديس برنردينوس: أن علو مقام هذه العذراء المجيدة هو بهذا المقدار سامي في العظمة والأرتفاع، حتى أن الله وحده هو الذي يعرفه ويمكنه أدراكه:*

ثم أن القديس توما الفيلانوفي يقول هكذا: أن هذا الأمر يرفع من الوسط علةً تعجب بعض القائلين:" لماذا أن القديسين الإنجليين قد وجدوا أسخياء في تحريرهم المديح الوافر عن شخص القديس يوحنا المعمدان وعن شخص المجدلية، فقد وجدوا بعد ذلك شحيحين في كتابتهم المديح والصفات المختصة بشرف مريم البتول": فماذا تريد يا هذا أن تفهم من الإنجيليين عن عظمة هذه العذراء المجيدة وعن صفاتها الكلية السمو أكثر مما دونوه عنها. فينبغي أن يكفيك ما قالوه في مديحها عند كتابتهم عنها أنها أم يسوع، وأنها هي والدة هذا الإله، فمن حيث أنهم في تسجيلهم صفتها ومرتبتها هذه قد دونوا عنها، وشهدوا من أجلها بمجموع المدائح وبسائر التعظيمات وبكل التفخيمات. فلم يعد بعد ذلك لازماً أن يشرحوا عنها مفصلاً خصوصياتها وصفاتها الأخرى فرداً فرداً، بعد أن جمعوا كل شيء في صفتها هذه العظمى. ثم يضيف الى ذلك القديس أنسلموس قائلاً:" كيف لا، والحال أن القول عن مريم العذراء هذا فقط، وهو أنها والدة الإله. فيعلو متسامياً ويفوق متزايداً على كل أرتفاعٍ وعلوٍ وعظمةٍ يمكن التفوه بها، أو الأفتكار فيها بالعقل من بعد الله". وهكذا بطرس جالانسه يتبع هذه الكلمات بقوله: أنك يا هذا بتسميتك مريم العذراء سلطانة السموات، أو سيدة الملائكة، أم بأية صفةٍ أخرى ذات شرفٍ وكرامةٍ مهما كانت عظيمةً، مما تريد أنت أن تكرم بها سيدتنا المجيدة، فلا تستطيع أن تبلغ الى أن تمدحها بما يساوي تسميتك إياها بهذه الصفة فقط، وهي والدة الإله:*

فالسبب والبرهان في ذلك هما واضحان. لأنه كما يعلم القديس توما اللاهوتي قائلاً: أن الشيء بمقدار ما أنه يدنو من مركزه وأصله وقطبه مقترباً منه، فبمقدار ذلك يكتسب منه كمالاً، ولهذا اذ كانت مريم البتول هي الخليقة الأكثر دنواً وأقتراباً الى الله، فقد أخذت عنه تعالى ونالت منه نعمةً وكمالاً وعظمةً، أكثر مما أخذت عنه المخلوقات الأخرى كلها: ثم أن الأب سوارس يستنتج عن ذلك الحجة الراهنة التي لأجلها قد وجدت المرتبة الوالدية لله هي المرتبة الفائقة سمواً على كل مرتبةٍ أخرى مطلقاً في المخلوقات بأجمعها، وهي من حيث أن هذه المرتبة هي متوقفة ومؤسسة على نوعٍ ما بالأتحاد بأقنومٍ إلهي، الذي بالضرورة هي مضافة إليه. ومن ثم يضيف الى ذلك القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس بقوله:" أنه من بعد الأتحاد الأقنومي الذي به أتحد كلمة الله بالناسوت المأخوذ من مريم العذراء فلا يوجد شيء من الأشياء أكثر قرباً لله من تلك التي هي والدة الإله". ويعلم القديس توما بقوله: أن هذا هو الأتحاد الأسمى والأعظم الذي يمكن لخليقة ما أن تتحد به مع الله. والطوباوي ألبارتوس الكبير يوضح قائلاً: أن الكيان والدةً لله هو المرتبة الفضلى الغير المتوسطة بعد مرتبة الألوهية. وبالتالي أن مريم البتول لا تقدر أن تتحد بالله أكثر أتحاداً مما فازت به بصيرورتها والدة الإلة، الا أن ترتقي الى مرتبة الإلوهية عينها:*

ويثبت ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن البتول القديسة لكي تصير والدةً للإله، قد أحتاجت لأن ترتقي الى مرتبة التساوي على نوعٍ ما بالأقانيم الإلهية. بأيهاب الله إياها نعماً هي على نوعٍ ما غير متناهية: ومن حيث أن الأولاد يحتسبون على نوع أدبي شيئاً واحداً مع والديهم. حتى أن خيرات الجهة الواحدة وكراماتها هي مشاعة للجهة الأخرى، فلأجل هذا اذاً يقول القديس بطرس داميانوس: أن الله يوجد متحداً مع خلائقه على أربعة أنواع، فأتحاده مع مريم البتول هو أتحاد ذاتي، لأنه تعالى هو نظيرها وهي نظيره (في الناسوت): فمن ثم يهتف هذا القديس تلك الكلمات الجليلة قائلاً: فلتصمت هنا كل الخليقة وترتعد وبالكاد يمكنها أن تتجاسر على أن تنظر ملاحظةً مرتبةً هكذا عظيمةً فائقة الأدراك، وهي أن الله يسكن في البتولة ومعها يحوي جوهر طبيعةٍ واحدةٍ هي ذاتها. ولهذا يقول القديس توما اللاهوتي: أنه من حيث أن مريم قد صارت والدةً لله فلسبب أتحادها الشديد بخيرٍ محض، هكذا متناهٍ، قد أقتبلت مرتبةً على نوعٍ ما هي غير متناهية: بل أن الأب سوارس يسمي هذه المرتبة غير متناهيةٍ في نوعها، حسبما كتب عن ذلك مبرهناً. على أن مرتبة كون العذراء مريم والدةً لله هي المرتبة العظمى الفائقة على كل ما سواها، مما هو ممكنٌ أن ترتقي إليه خليقة ما محضة. اذ أن القديس توما اللاهوتي نفسه يورد عن ذلك قائلاً: أنه كما أن ناسوت يسوع المسيح ولئن كان ممكناً له أن يقتبل من الله نعمة ملكية أعظم (اذ أن النعمة الملكية: وهذا هو السبب: هي موهبة مخلوقة، فيلزم أن نقر بأن جوهرها هو محدود، لأنه يوجد مقدار محدود من الأستيعاب لكلٍ من الخلوقات. وهذا المقدار المحدود لا يثني حقوق القدرة الإلهية، عن وسعها أن تبدع خليقةً أخرى ذات أتساعٍ أعظم...) فمع ذلك نظراً الى الأتحاد بالأقنوم الإلهي فلم يقدر أن يقتبل شرفاً أعظم. لأن القدرة الإلهية ولئن كانت تستطيع أن تخلق شيئاً ما أعظم وأجود من النعمة المكلية، التي وجدت في المسيح، فمع ذلك لن تقدر أن تصنع شيئاً متجهاً الى ما هو أعظم من الأتحاد الأقنومي الكائن فيما بين الآب والأبن الوحيد، وبالعكس هو أن البتول الطوباوية لم تكن موضوعاً قابلاً لأن ترتقي الى مرتبة أعظم مما رفعها الله إليه، وهي صيرورتها أماً لله، لأنه من حيث أنها هي والدة الإله، فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما، وفائزة به من الخير المحض الغير المتناهي الذي هو الله. ولذلك لم تكن هي قابلةً لأن تحصل على شيء أجود من هذا: ثم أن القديس توما الفيلانوفي قد قال نظير ذلك هكذا: أنه بالحقيقة أن من هي أمٌ للغير المتناهي،  فهي حاصلة على مقامٍ هو غير متناهٍ على نوعٍ ما: وقال القديس برنردينوس: أن الحال التي إليها رفع الله البتول بتصييره إياها أماً له قد كان هو المقام الأعظم والحال العظمى. فاذاً لم يكن قادراً أن يرفعها أكثر من ذلك. ويثبت هذا ألبارتوس الكبير الطوباوي بقوله: أن الرب بأنتخابه المغبوطة مريم البتول الى رتبة والدةٍ له، قد أعطاها موهبةً عظمى لا يمكن إيهاب أعظم منها لخليقةٍ محضة، ولا هو ممكن أن يعطى أعظم منها:*

ومن ثم كتب القديس بوناونتورا تلك القضية الشائعة الذكر وهي: أن الله لقادرٌ أن يخلق عالماً أكبر من عالمنا هذا، وسماءً أكثر أتساعاً من السماء التي فوقنا، ولكنه لا يقدر أن يرفع خليقةً بسيطةً الى رتبةٍ أعظم من أنه يجعلها أن تصير والدةً له: الا أن البتول مريم الكلية القداسة هي نفسها قد أوضحت ذلك أفضل إيضاحاً من هذه الأقوال. بما تفوهت به هاتفةً: أن الله صنع معي عظائم، القوي والقدوس أسمه: (لوقا ص1ع49) وأن سئل، لماذا هذه الأم الإلهية لم تورد مفصلاً ما هي تلك العظائم التي صنعها الله معها، فيجيب عن ذلك القديس توما الفيلانوفي قائلاً: أن البتول لم تفسر ما هي تلك العظائم، من أجل أنها بهذا المقدار هي عظائم سامية عن الوصف والأدراك، حتى أنه لا يمكن تفسيرها وتعدادها أو شرحها كما ينبغي:*

فاذاً بالصواب قال القديس برنردوس: أن الله لأجل هذه العذراء التي كانت عتيدةً أن تصير أماً له تعالى بالجسد، قد خلق العالم بأسره. والقديس بوناونتورا يقول: أن العالم يحفظ تحت أرادة البتول الكلي طهرها: مشيراً بذلك الى كلمات سفر الأمثال وهي: أنا التي كنت عنده ناظمةً كل شيء: لأن الكنيسة المقدسة تخصص هذه الكلمات بالعذراء المجيدة، ثم يضيف الى ذلك القديس برنردينوس بقوله: أن الله لأجل حبه مريم البتول لم يلاشِ من الوجود الإنسان بعد خطيئة آدم: ولهذا بكل صوابٍ ترتل الكنيسة عن هذه الأم العذراء (في فرض عيد نياحها) أنها أختارت النصيب الأفضل في القسمة. على أن هذه البتول المجيدة ليس فقط أختارت من الأشياء الأفضل والأجود، بل أنها قد أنتخبت من الأشياء الأجود والأحسن النصيب والقسمة الأفضل والأجود فيها. اذ أن الرب قد شرفها بالشرف الأسمى، ورفعها الى أعلى درجة من العظمة في النعم كلها، وفي المواهب بوجه العموم والخصوص الممنوحة منه تعالى لسائر المخلوقات، وهذا كله هو نتائج تصييره إياها أماً له بالجسد (كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير في تفسيره بشارة لوقا ع13). لأنه قد وجدت هذه البتول طفلةً بالجسد، ولكن في هذا السن كانت مالكةً برارة الأطفال لا نقص معرفتهم، اذ أنها منذ البرهة الأولى من حياتها فازت بموهبة المعرفة التامة. قد وجدت هي عذراء وبقيت كذلك دائماً. ولكن من دون أن يلتحق بها عار العقرية. قد صارت أماً ولكن معاً قد حفظت كنز البتولية. قد كانت جميلةً بل كلية الجمال في الخلقة، كما يحقق ذلك ريكاردوس الذي من سان فيتوره. والقديس جاورجيوس النيكوميدي، والقديس ديونيسيوس الأريوباجيتا قاضي علماء أثينا الذي (بموجب رأي كثيرين) اذ حصل على الحظ السعيد بأن يتمتع بمشاهدة هذه العذراء الفائقة في الحسن مرةً واحدةً فقال: أنه لولا أن الإيمان يرشده الى أن مريم البتول هي خليقة، لكان هو سجد لها وعبدها كإلهٍ: بل أن الرب نفسه قد أوحى للقديسة بريجيتا بأن جمال والدته الطبيعي، قد فاق جمال البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، اذ أنه تعالى صير هذه البارة بريجيتا أن تسمعه مخاطباً والدته هكذا:" أن جمالكِ قد فاق على جمال الملائكة كافةً والمخلوقات كلها". ولكن جمال هذه العذراء العظيم لم يكن يضر نفس من كان يشاهدها، لأن بهاءها الفائق كان يلاشي في ناظريها مبدداً كل أنعطافٍ دنسٍ، بل كان يحرك فيهم أفكاراً بكليتها طاهرةً، كما يشهد القديس أمبروسيوس قائلاً: أن النعمة التي كانت حاصلةً عليها مريم هي بهذا المقدار عظيمة. حتى أنها ليس فقط حظيت فيها البتولية الطاهرة، بل كانت تبرز مفعولها في الآخرين أيضاً الذين كانوا يشاهدونها، واهبةً إياهم التأمل في موضوع كمال هذه الفضيلة السامية: ويثبت ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله: أن نعمة التقديس ليس فقط قد أبادت في العذراء المجيدة كل حركةٍ مضادة الطهارة أو غير جائزة، بل قد بلغت مفعولها في الآخرين أيضاً. ومن ثم ولئن كانت هي فائقةً جمالاً في جسدها، فمع ذلك لم يكن يتحرك بمشاهديها أدنى أنعطاف ألمي صادر عن الشهوة: ولهذا هي سميت: مراً وميروناً طارداً رائحة الفساد: كما تدعوها الكنيسة المقدسة بتخصيصها إياها بهذه الكلمات وهي: مثل المر المختار فاح مني رائحةٌ طيبةٌ (ابن سيراخ ص24ع20). وقد كانت هي مهتمة في الأعمال الخدمية، ولكن من دون أن تصدها هذه أم تبعدها عن الأتحاد الدائم بالله. وفي تأملاتها وغوصها في الثاوريا مع الله لم تكن تتهاون في أتمام واجبات الأمور الزمنية، ولا فيما يخص أفعال محبة القريب الواجبة. وقد ماتت حقاً بالجسد، ولكن من دون أن تشعر بمرارة الموت ومن غير أن يلتحق بجسدها الفساد*

فلنختتم اذاً القول بأن هذه الأم الإلهية هي بنوعٍ غير متناهٍ متميزة وطواً وأنخفاضاً عن الجوهر الإلهي، ولكنها بنوعٍ غير محدود هي سامية متفوقة على المخلوقات كلها. ومن حيث أنه غير ممكن مطلقاً أن يوجد أبنٌ أشرف وأفضل وأعظم من يسوع المسيح، فغير ممكن أيضاً أن توجد أمٌ أشرف وأفضل وأعظم من مريم العذراء وهذا ينبغي أن يفيد عباد هذه الملكة الجليلة ليس فقط لكي يفرحوا قلبياً لأجل عظمتها وتفوق جلال مرتبتها. بل أيضاً لكي ينمو فيهم حسن الرجاء والأتكال على شفاعاتها وحمايتها المقتدرة: لأنها بحسب كونها والدة الإله (يقول الأب سوارس) فلها على نوعٍ ما السلطة والتولي على مواهبه تعالى. لكي تهبها مستمدةً منه لأولئك الذين هي تتوسل لديه عز وجل من أجلهم: كما أن القديس جرمانوس يقول من جهةٍ أخرى، أن الله لا يمكنه أن يقبل تضرعات هذه الأم، اذ أنه لا يقدر هو أن لا يعرفها أماً حقيقيةً له بريئةً من العيب والدنس. فهكذا يخاطبها هذا القديس قائلاً: أنتِ التي قد حصلتِ على السلطان الوالدي عند الله فتستمدين نعمة المصالحة لأولئك أنفسهم الذين أخطأوا خطأً يفوق الأفراط، لأنه تعالى لا يمكنه أن لا يستجيب طلباتكِ، اذ أنه يعاملكِ كأمٍ حقيقيةٍ له بريئةٍ من الدنس في كل الأشياء. فمن ثم لا ينقصكِ يا والدة الإله وأمنا الرحيمة، لا الأقتدار على أن تعينينا، ولا الأرادة في أن تسعيفينا: (كما يقول القديس برنردوس) وهكذا أقول نحوكِ ما قاله الأنبا جالانسه عبدكِ: أن الله قد خلقكِ ليس لأجل ذاته هو فقط، بل أنه أعطاكِ للملائكة أيضاً مصلحةً. وللبشر كذلك محاميةً ومنقذةً، وللشياطين أنفسهم غالبةً منتصرةً مبيدةً، لأننا بواسطتكِ نحن نكتسب جديداً النعمة الإلهية المفقودة منا، وبواسطتكِ عدونا أيضاً يغلب مقهوراً:*

فأن كنا نرغب أن نرضي هذه الأم الإلهية فعلينا بأن نكرمها متواتراً بتلاوة السلام الملائكي العزيز لديها، لأنها ظهرت هي مرةً للقديسة ماتيلده وقالت لها، أنه لا يمكن لأحدٍ أن يكرمها بأفضل نوعٍ مقبول عندها، من أن يحييها بالسلام الذي حياها به زعيم الملائكة جبرائيل، واذا ما داومنا على ذلك بحسن عبادةٍ فنكتسب منه لأنفسنا نعماً وافرةً خصوصيةً، بشفاعة أم الرحمة هذه، كما يبان من النموذج الآتي إيراده.*

* نموذج *

أنه لشهيرٌ هذا الحادث المورد من الأب بولس السنيري (ف 34 ق3 من كتابه الملقب: بالمسيحي المرتشد): وهو أنه قد كان ذهب في مدينة رومية أحد الشبان الأشقياء الموسوق من أحمال الخطايا الكثيرة المضادة العفة. ومن الرذائل الأخرى ليعترف بها عند الأب نيقولاوس روكي. الذي قد أقتبله بحبٍ ورأفةٍ متوجعاً لشقائه. وقد شجعه محققاً له أن العبادة نحو والدة الإله فيها قوة وكفاية لأن تنقذه من الملكات الدنسة المتأصلة فيه. ومن ثم وضع عليه قانوناً بأنه منذ ذاك النهار الى حين أعترافه المستقبل. كل يوم صباحاً عند نهوضه من فراشه. ثم مساءً حين ذهابه الى الرقاد. يتلو مرةً واحدةً: السلام لكِ يا مريم: تكريماً لهذه الأم البتول الإلهية. وأن يقدم لها يديه وعينيه وسائر  حواس جسده. متوسلاً لديها في أن تحفظها طاهرةً من الدنس كأنها أشياء مختصة بها. وأن يقبل الأرض ثلاث مراتٍ. فالشاب الخاطئ قد مارس بالعمل هذا القنون بأفادةٍ يسيرةٍ لأصلاح سيرته. الا أن معلم أعترافه المذكور قد كرر عليه وضع القانون نفسه المقدم شرحه. محرضاً إياه على أنه لا يهمله أصلاً. ومشجعاً روحه على توطيد ثقته ورجاه في مفعول حماية هذه السيدة المقتدرة. ففي غضون ذلك قد سافر الشاب صحبة آخرين الى بلادٍ مختلفة جايلاً في العالم مدةً من السنين. واذ رجع بعد ذلك الى رومية فذهب من جديد عند الأب نيقولاوس. الذي بفرحٍ لا يوصف قد أختبر فيه تغييراً كلياً عن سيرته الأولى الرديئة، بأصطلاحٍ عجيب معتوقاً به من ملكاته الأثيمة. فسأله هذا الأب قائلاً: كيف حصلت يا أبني من الله على هذه النعمة العظيمة بتغييرٍ هكذا صالح: فأجابه الشاب بقوله: أعلم يا أبتي أن والدة الإله لأجل تلك العبادة الوجيزة التي أنت كنت علمتني أن أمارسها نحوها، قد أستمدت لي من الله هذه النعمة. غير أن العجب لم ينته عند هذا، على أن الأب نيقولاوس عينه قد أورد خبرية هذا الحادث في أحدى عظاته مشتهراً في منبر الكرازة (من دون أدنى أشارة عن شخص المعترف) فاذ سمع ذلك أحد الحاضرين وكان بوظيفة قائد عسكرٍ، وكانت له عشرةٌ دنسةٌ مع أحدى النساء المفسودات، فأعتمد هو نفسه على أن يمارس نوع تلك العبادة، لكي يخلص من قيود مآثمه الفظيعة التي كانت مصيرته حقاً أسيراً للشيطان (كما أن جميع الخطأة الذين يؤملون من العذراء المجيدة نوال النعم، وهي تقدر أن تسعفهم فيلزم أن تكون نيتهم وغايتهم بذلك متجهةً الى أصلاح نوايهم. وبالقصد على تغيير عوائدهم السيئة) فلما واظب ذاك القائد على ممارسة هذه العبادة قد نجا هو أيضاً من تلك الملكة والعشرة القبيحة*

غير أن هذا القائد القليل الفطنة بعد ذلك بستة أشهرٍ أعتمد على أن يذهب عند تلك الأمرأة مفتقداً إياها، لينظر أن كانت هي أيضاً تابت عن خطاياها وأصلحت سيرتها أم لا. الا أنه حينما بلغ الى باب بيتها، وأثر أن يدخل إليه (الأمر الذي بالحقيقة كان خطراً عليه جداً للسقوط جديداً مع تلك الأمرأة، بالدنس الذي كان مارسه هو معها قبلاً أزمنةً مديدةً) واذا بيد غير منظورة قد منعته من الدخول الى الدار مرجعةً إياه الى الوراء. وشاهد ذاته على الفور بعيداً من باب تلك الدار مسافة طول الطريق كلها. ووجد نفسه أمام باب بيته الخصوصي، وحينئذٍ قد عرف بنورٍ واضحٍ أن والدة الإله هي التي أنقذته من خطر السقوط جديداً بالأثم. فمن هنا يفهم جلياً كم هي سريعة هذه الأم الإلهية سيدتنا ليس فقط في أن تخرجنا من حال الخطيئة، اذا نحن ألتجأنا إليها بهذه النية والقصد بأصلاح ذواتنا. بل أنها تنجينا من الخطر أيضاً الذي يلم بنا، لكيلا نسقط جديداً في الأثم.*

† صلاة †

أيتها البتول القديسة البريئة من العيب والدنس. يا من أنتِ هي الخليقة الأعمق أتضاعاً عند ذاتكِ، والأعظم من جميع المخلوقات المحضة أمام الله، فأنتِ التي قد كنتِ صغيرةً في عينيكِ نفسيهما. ولكنكِ ظهرتِ لدى عيني سيدكِ بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه أتصل الى أن يختاركِ عز وجل أماً له، وهكذا صيركِ سلطانة السماوات والأرض. فاذاً أنا أشكر هذا الإله الذي رفعكِ رفعةً هذا سموها. وأفرح معكِ عند تأملي إياكِ متحدةً بالله أتحاداً كلي الأختصاص، بنوع أنه لم يعط قط لخليقةٍ بسيطةٍ أن تحصل على أتحادٍ كهذا. فبالحقيقة أنه يعتريني الخجل أنا المتكبر الشقي الممتلئ أثماً، من أن أظهر أمامكِ، أنتِ التي مع حال كونكِ فزتِ من الله بعطايا وأختصاصاتٍ فائقة الأدراك في عظمتها، فمع ذلك حفظتِ واجبات التواضع العميق. ولكن ولئن كنت أنا في حال هذا الشقاء، فأريد أن أخلص منه أنا أيضاً. ومن ثم أهتف نحوكِ قائلاً: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً. فأنتِ الموعبة نعمةً أستمدي لي أن أنال جزءاً منها:. الرب هو معكِ. أي ذاك الرب الذي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد حل فيكِ بنعمته وأستمر دائماً معكِ، فهو الآن متحدٌ بكِ أشد أتحاداً بعد أن تأنس منكِ صائراً أبناً لكِ: مباركةٌ أنتِ في النساء أيتها الأبنة المملؤة بركاتٍ فيما بين النساء كافةً نرجوكِ أن تستمدي لنا نحن أيضاً البركة الإلهية: ومباركةٌ هي ثمرة بطنكِ. أيتها الشجرة المغبوطة التي أثمرة للعالم ثمرةً بهذا المقدار شريفةً مقدسةً: فيا قديسة مريم والدة الإله. أنا أعترف بإيمانٍ صادقٍ أنكِ أنتِ أمٌ حقيقيةٌ لله، وأني لمستعدٌ لأن أبيح دمي مع ألف حياةٍ لو كانت لي من أجل صدق هذه القضية الدينية: صلي لأجلنا نحن الخطأة. لأنكِ من حيث أنتِ أمٌ لله فأنتِ هي أم خلاصنا، وأمنا نحن الخطأة، وقد صيركِ أماً له لكي تقتدر صلواتكِ على أن تخلص أياً كان من الخطأة. فاذاً صلي من أجلنا يا مريم: الآن وفي ساعة موتنا. بل دائماً تضرعي من أجلنا، أي صلي من أجل خلاصنا الآن، اذ نحن في هذه الحياة محاطون من تجارب وأخطار فائقة الإحصاء، تسوقنا الى أن نخسر الله. ولكن بأبلغ نوعٍ صلي من أجلنا في ساعة موتنا، حين خروجنا من هذه الدنيا وحضورنا في ديوان العدل الإلهي. حتى اذا ما خلصتينا

بأستحقاقات يسوع المسيح أبنكِ، وبواسطة شفاعتكِ من أجلنا،

 فنقدر أن نأتي يوماً ما الى السماء حيث لا يعود علينا خطرٌ

ما في شأن خلاصنا، وهناك نسبح أبنكِ ونمدحكِ

* الى أبد الدهور آمـين* 

 
Click to view full size image

 

 الفصل الخامس

*فيما يلاحظ تذكار زيارة والدة الإله عند نسيبتها القديسة أليصابات،*

*حيث يبرهن عن هذه البتول أنها هي خازنة جميع النعم الإلهية.*

* وأن من يلتجئ إليها يلزمه أن يطمئن بنواله النعم التي يرغبها.*

*وفيه جزءان*

الجزء الأول

* في أن من يروم أن يفوز بنعمةٍ ما فيلزمه أن يلتجئ الى مريم العذراء*

أنه يعتبر سعيداً ذاك البيت الذي يزوره شخصٌ من العيلة الملوكية. أو الملك نفسه، لأجل الشرف الذي تحصل عليه سكان ذاك البيت، ولأجل النجاحات الزمنية التي تؤملون نوالها فيما بعد. ولكن يلزم أن تسمى بأكثر من ذلك سعيدةً، تلك النفس التي تزورها ملكة السموات والأرض البتول الكلية القداسة. التي لا تعرف أن لا توعب خيراتٍ ونعماً تلك الأنفس المغبوطة التي تتنازل هي لأن تفتقدها بمواهبها. فبيت عوبيد أدوم الجيتاني قد أمتلأ من بركات الرب لأجل أن تابوت العهد زار ذلك البيت موضوعاً فيه مدة ثلاثة أشهر (سفر الملوك الثاني ص6ع11) ولكن من أية بركاتٍ أفضل وأعظم تمتلئ تلك الأنفس اللواتي تحلصن على زيارةٍ ما، بها يفتقدهن هذا التابوت الحي للرب الصباوت الذي هو أم الله. كما كتب أنجالكرافه. فقد أختبر حقيقة هذا الأمر سكان بيت أهل القديس يوحنا المعمدان، البيت الذي حالما دخلت إليه البتول المجيدة قد أستوعب سكانه أي العيلة كلها بركاتٍ ونعماً سماويةً، ولذلك يسمى عموماً العيد الحاضر. (المختص بتدكار زيارة والدة الإله عند نسيبتها القديسة أليصابات): عيد العذراء الموزعة النعم: فمن ثم نحن نلاحظ اليوم في الفصل الحاضر كيف أن هذه الأم الإلهية هي خازنة النعم بأسرها. مقسم الى جزئين. فنتكلم في هذا الجزء الأول عن أن من يرغب الفوز بنعمةٍ ما، فيلزمه أن يلتجئ الى مريم خازنة النعم، تاركين الى الجزء الآخر التكلم عن أن من يلتجئ الى هذه الخازنة، يلزمه أن يطمئن في نواله النعم التي يرومها*

فالبتول الكلية القداسة بعد أن سمعت من زعيم الملائكة جبرائيل، أن نسيبتها أليصابات كانت هي أيضاً حبلى بأبنٍ على شيخوختها، وهذا القول كان في الشهر السادس من حبل تلك المدعوة عاقراً. فقد عرفت بنورٍ خاص من قبل اروح القدس، أن كلمة الآب الأزلي المتجسد في أحشائها أبناً لها، قد كان يريد أن يبتدئ في أن يعلن للعالم عنى مراحمه، بتلك النعم الأولى التي كان هو يشاء أن يوزعها على عيلة الكاهن زخريا، فلهذا من دون تأخيرٍ: قامت مريم في تلك الأيام وذهبت مسرعةً الى الجبل الى مدينة يهوذا، ودخلت الى بيت زخريا وسلمت على أليصابات: (لوقا ص1ع39) مع أنها في هذا السفر أحتاجت الى أن تنتزح عن هذوها في أنفرادها المحبوب منها، الذي فيه كانت تمارس تأملاتها في الحقائق الأبدية، ولكن لأجل أن المحبة المقدسة تحتمل كل شيء ولا تعرف أن تتكاسل في عملها، كما يتكلم في هذا الشأن القديس أمبروسيوس قائلاً: أن نعمة الروح القدس لا تعرف أن تستعمل الإعاقة في تكميل مقصودها: فلذلك العذراء المجيدة الحديثة ألسن، واللطيفة المزاج لم تتوقف عن أن تعاني سفراً مضنكاً، بذهابها السريع من الناصرة الى مدينة يهوذا، متحركةً من قبل المحبة التي لا تقوى عليها صعوبةٌ، ومنجذبةً من قبل نعمة الروح القدس. وحالما بلغت الى بيت زخريا فسبقت هي أولاً بالتحية وسلمت على أليصابات، حسبما يلاحظ ذلك القديس أمبروسيوس عينه، ولكن زيارتها هذه لم تكن نظير زيارات أهل العالم التي غالباً تقوم بأحتفالاتٍ خارجية وبغاياتٍ كاذبة، بل أن زيارة الطوباوية مريم البتول قد جلبت لأهل ذلك البيت كنزاً من النعم، لأنه حال دخولها إليه قد أمتلأت القديسة أليصابات من الروح القدس، والطفل يوحنا الذي كان في مستودعها قد أنحل من وثاق الخطيئة الأصلية وتقدس بنعمة الله. لذلك قد أعطى هو العلامة الحسية بحركةٍ غير أعتيادية مبتهجاً في جوف أمه، مريداً بهذا أن يعلن حقيقة النعمة التي فاز بها من الله بواسطة مريم البتول، حسبما أوضحت ذلك القديسة أليصابات نفسها بقولها لهذه السيدة: هوذا لما صار صوت سلامكِ في مسمعي، أرتكض الجنين بأبتهاجٍ في بطني: فمن ثم كما يلاحظ العلامة برنردينوس البوسطي، أنه بقوة سلام مريم قد أقتبل يوحنا في مستودع أمه بأبتهاجٍ نعمة الروح الإلهي الذي قدسه وبرره.*

فأن كانت اذاً نواجم أثمار سر الفداء هذه قد توزعت في العالم بيد مريم الطوباوية، وهي وجدت القناة التي بواسطتها قد جرت نعمة التقديس ليوحنا الجنين في أحشاء والدته. ونعمة الأمتلاء من الروح القدس للبارة أليصابات، ونعمة روح النبؤة للكاهن زخريا والد السابق، وبركاتٌ أخرى كثيرة قد استوعب منها ذاك البيت، وهذه هي النعم الأولى التي نعرفها أنها أعطيت في الأرض من الكلمة الأزلي بعد تأنسه. فاذاً عادلٌ جداً هو الإيقان من دون ريبٍ، في أن الله منذ ذلك الحين قد أقام مريم البتول وعينها بصفة قناةٍ أو مجرى عام للنعم، كما يسميها القديس برنردوس. وبواسطة هذه القناة قد جرت وتجرى إلينا بعد ذلك كل النعم الأخرى. التي يريد الرب أن يوزعها علينا. حسبما برهنا عن هذه القضية في الفصل الخامس من القسم الأول من مؤلفنا الحاضر.*

فاذاً بالصواب قد دعيت هذه الأم القديسة: خزنة النعم الإلهية وخازنتها وموزعتها: كما يسميها الأنبا جلانسه المكرم بقوله: أنها هي خزنة الله وخازنة أنعامه: والقديس بطرس داميانوس يدعوها: خزنة النعم الإلهية. والطوباوي ألبارتوس الكبير يسميها: خازنة يسوع المسيح. والقديس برنردينوس يلقبها: بموزعة النعم والمواهب. وأحد العلماء اليونانيين المورد من بيطافيوس ينعتها: بأنها خزنة الخيرات كلها. والقديس غريغوريوس العجائبي يقول: أنه كتب عن البتول مريم أنها ممتلئةٌ نعمةً، من حيث أن كنز النعم قد أذخر فيها كداخل خزنةٍ. وقال ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أن الله قد أستودع في مريم كضمن الأهراء المختصة برحمته جميع المواهب والنعم، ومن هذا الكنز يغني هو عبيده. ثم أن القديس بوناونتورا بتكلمه عن المثل المورد من سيدنا يسوع المسيح بقوله: يشبه ملكوت السموات كنزاً مخفياً في حقلٍ وجده إنسانٌ فخبأه، ومن فرحه مضى فباع كل شيءٍ له وأشترى ذلك الحقل: (متى ص3ع4) يقول:أن هذا الحقل أنما هو مريم سلطانتنا المخبئ فيها كنز الله الذي هو يسوع المسيح، ومع هذا الكنز الإلهي يوجد ينبوع النعم كلها. وقبلاً قد كان أثبت هذه الحقيقة القديس برنردوس بقوله: أن جميع النعم التي يريد الرب أن يوزعها علينا قد وضعها تعالى في يد مريم، لكي نعرف أن كل ما نحن نقتبله من الخيرات فأنما نفوز به بواسطتها ونعطاه عن يدها: بل أن هذه الأم الإلهية عينها تؤكد لنا ذلك قائلةً: فيَّ أنا نعمة كل مسلكٍ وحقٍ: (ابن سيراخ ص24ع25) أي أن جميع نعم الخيرات الحقيقية التي يمكنكم أنتم يا معشر البشر أن ترغبوها وتشتهوها في مدة حياتكم، فهذه كلها تجدونها فيَّ. ولذلك يقول نحو هذه السيدة القديس بطرس داميانوس: أي نعم أننا نعلم حسناً يا أمنا ورجانا أن خزائن المراحم الإلهية وكنوزها كلها توجد تحت يدكِ. وقبل هذا الجليل كان القديس أيدالفونسوس اوضح ذلك بأكثر أعلان اذ قال مخاطباً هذه السيدة هكذا: أن جميع النعم التي رسم الله وحدد أن يمنحها للبشر، فعين تعالى أن يوزعها كلها عليهم عن يدكِ أيتها السيدة، ولذلك قد سلم إليكِ عز وجل خزائن النعم جميعها: ومن ثم يستنتج القديس جرمانوس قائلاً نحوها: فاذاً لا توجد يا مريم نعمةٌ ما من النعم تعطى لأحدٍ الا بواسطتكِ وعن يدكِ.*

أما الطوباوي ألبارتوس الكبير. فاذ يتكلم مفسراً ألفاظ زعيم الملائكة جبرائيل بقوله للدائمة بتوليتها: لا تخافي يا مريم فقد ظفرتِ بنعمةٍ أمام الله (لوقا ص1ع30) يضيف الى ذلك هذه العبارة الجليلة قائلاً: فأنتِ يا مريم لم تختطفي النعمة كما أختطفها لوسيفوروس، ولا أضعتيها كما أضاعها آدم، ولا أشتريتيها كما كان يرغب أن يشتريها بالأموال سيمون الساحر، لكنكِ قد وجدتيها وظفرتِ بها لأجل أنكِ فتشتِ عليها ورغبتيها، فقد وجدتِ النعمة الغير المخلوقة التي هي الله نفسه المتأنس منكِ صائراً أبناً لكِ. ومع هذه النعمة الغير المخلوقة قد ظفرتِ بجميع الخيرات المخلوقة: ثم أن القديس بطرس خريسولوغوس يثبت ذلك بقوله: أن هذه الأم العظيمة قد ظفرت بالنعمة ووجدتها، لكي تجلب بعد هذا لكل البشريين الخلاص الأبدي، فمريم قد وجدت نعمةً طافحةً يمكنها بها أن تخلص كل واحدٍ.*

يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: بحسبما أن الله قد خلق الشمس لكي تنير الأرض، فهكذا تعالى قد خلق مريم لكي يوزع بواسطتها على العالم مراحمه كلها. ويضيف الى ذلك القديس برنردينوس قائلاً: انه من حينما صيرت مريم البتول والدةً لله المخلص قد أكتسبت على نوعٍ ما التولي على كل النعم:*

فلنختتم اذاً هذا الجزء بما قاله ريكاردوس المار ذكره، وهو أننا أن كنا نريد أن ننال نعمةً ما فلنلتجِ الى مريم التي لا تقدر أن لا تستمد لعبيدها كل ما تطلبه لهم، لأنها قد ظفرت هي بالنعمة الإلهية، ودائماً تظفر بها اذ يقول: أننا أن كنا نرغب أن نصادف نعمةً ما، فلنفتش على تلك التي وجدت النعمة، لأنها هي قد وجدتها دائماً، ولا يمكن أن لا تحصل عليها. وهذا هو موافق لما قاله القديس برنردوس هكذا: فلنطلب النعمة بواسطة مريم، لأنها تجد الذي تطلبه، ولا يمكن أن لا تحصل عليه. فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما، فيلزمنا أن نمضي الى خازنة النعم وموزعتها. لأن هذه هي أرادة معطي كل خير العلي. كما يحقق لنا ذلك القديس برنردوس عينه قائلاً: لأن هذه هي أرادة ذاك الذي شاء أن نحصل نحن على كل شيءٍ بواسطة مريم، أي أن النعم كلها أنما تتوزع بواسطة مريم العذراء وعن يدها: فمن المعلوم أن قوله كلها لا يستثني نعمةً ما منها، ولكن من حيث أنه لكي ينال أحدٌ النعمة التي يرغبها فيلزم بالضرورة أن يكون موجوداً فيه الرجاء والثقة في نوالها. فلنأت الى التكلم عن ذلك في الجزء الآخر.* 

 

Click to view full size image

الجزء الثاني

* في كم يلزمنا أن نثق مطمئنين في نوال النعم التي نطلبها*

* بواسطة ألتجائنا الى مريم العذراء*

فلماذا قد وضع يسوع المسيح في يد والدته هذه المجيدة غنى مراحمه كلها التي هو يريد أن يستعملها نحونا. الا لكي تغني هي بها عبيدها الذين يحبونها ويكرمونها ويلتجئون إليها بحسن الرجاء فوالدة الإله نفسها تعلن قائلةً: عندي هو الغنى والمجد وأقتناء العظمة والعدل، والذين يبكرون إليَّ يجدوني: (أمثال ص8ع17) لأن الكنيسة المقدسة تخصص هذه الألفاظ بالعذراء الكلية القداسة. وتكررها نحوها في صلوات أعيادها السنوية. فيقول الأنبا آدم: أنه ليس لأجل غايةٍ أخرى غير هذه تحفظ خزائن غنى الحيوة الأبدية تحت يد مريم البتول، وهي لكي تكون مفيدةً لنا، لأن مخلصنا قد وضع في حضنها كنز المساكين البائسين حتى أنهم اذا ما أسعفوا من هذا الكنز فيزول عنهم الفقر ويصيرون أغنياء ويضيف الى ذلك القديس برنردوس بقوله: أنه لأجل هذه الغاية قد أعطيت مريم للعالم نظير قناة للرحمة، لكي تنحدر بواسطتها من السموات النعم على البشر بأتصال:*

ثم أن هذا القديس نفسه أي برنردوس يجتاز بخطابه قائلاً: لماذا أن رئيس الملائكة جبرائيل بعد أن عرف أن مريم كانت موعبةً من النعم. ولهذا هو عينه سلم عليها قائلاً: أفرحي يا ممتلئةً نعمةً الرب معكِ. فمع ذلك قال لها: أن الروح القدس يحل فيكِ وقوة العلي تظللكِ. لكي تمتلئ من النعمة بأوفر زيادة، فأن كانت هي من ذي قبل ممتلئةً نعمةً، فما الذي كان يمكنها فوق أستعابها من النعمة أن تأخذه من أتيان الروح القدس عليها من النعم الجديدة. فالقديس المذكور عينه يجيب عن ذلك قائلاً: أن مريم قد كانت قبلاً ممتلئةً نعمةً. الا أن اروح القدس قد حل عليها وأفاض فيها زيادة النعم فوق ملوئها لأجل خيرنا نحن البشر. لكي نفوز نحن الأشقياء المساكين من زيادة أمتلاء هذه البتول من النعم بما نحتاج إليه، ولذلك قد لقبت مريم وشبهت بالقمر الذي يقال عنه: أنه ممتلئ لذاته ولغيره.*

فأمنا هذه الرحيمة تقول عن ذاتها:" من يجدني يجد الحياة ويستقي الخلاص من عن الرب: (أمثال ص8ع35) أي مغبوطٌ هو من يصادفني بألتجائه إليَّ، لأنه بواسطتي يجد الحياة ويفوز بها بسهولةٍ، لأنه كما أن أمراً سهلاً هو أن يجد أحدٌ الماء في ينبوعه وحوضه ويأخذ منه بمقدار ما يشتهي، فهكذا هو سهلٌ وجود النعم ومصادفتها والظفر بها، ونوال الخلاص الأبدي بواسطة الألتجاء الى مريم." فأحد الأبرار كان يقول: أنه لأجل نوال النعمة يكفي طلبها من والدة الإله. كما أن القديس برنردوس يقول:" أنه لأجل ذلك قبل أن تولد مريم العذراء في الدنيا، كان ينقص العالم سخاء النعم العظيمة التي الآن هو مملؤٌ منها، أي من حيث أنه كان ناقصاً وجد هذه القناة المشتهاة التي هي والدة الإله. فاذاً اذ نحن الآن حاصلون على هذا المجرى الذي هو أم الرحمة الإلهية. فأية نعمة نحن نلتمسها منها بألتجائنا إليها ونخاف من أن لا ننالها. فالقديس يوحنا الدمشقي يصيرها أن تتكلم عن ذاتها قائلةً: أنا هي مدينة الملجأ لكل أولئك الذين يبادرون نحوي محتمين بي، فتعالوا اذاً يا أولادي إليَّ لتنالوا النعم بأوفر سخاءٍ مما أنتم تفتكرون وتأملون.*

فأي نعم أنه يحدث لكثيرين ذاك الشيء الذي عرفته الراهبة مريم فيلاني، بواسطة رؤيا سماوية، حيث شاهدت هي مرةً ما والدة الإله بصورة ينبوع ماءٍ عظيمٍ متدفقٍ بغزارةٍ، وأن كثيرين كانوا يدنون من هذا الينبوع ويستقون لذواتهم مياه نعمٍ وافرة جداً، الا أنه ماذا كان يحدث بعد ذلك. فقد نظرت هذه الراهبة البارة أن أولئك الذين كانوا يأتون الى الينبوع، بأوعيةٍ سالمةٍ صحيحةٍ وبها يستقون منه الماء، فكانت مياه النعم تحفظ لهم في أوعيتهم سالمةً فيما بعد أيضاً فائزين بأمتلاكهم تلك النعم. وأما أولئك الذين كانوا يقبلون الى العين بأوعيةٍ مشققةٍ، أي الخطأة المثقلون برباطات الأثم، فأي نعم أنهم هم أيضاً كانوا يملاءون أوعيتهم من نعم هذا الينبوع. ولكن من دون أبطاءٍ كانوا يفقدونها جديداً. فالشيء الحقيقي هو أن البشر يقتبلون يومياً بواسطة مريم البتول نعماً فائقة الإحصاء ويفوز بذلك الناس العديمون المعروف والناكرون الجميل أيضاً والخطأة الأكثر شقاوةً. فيقول القديس أوغوسطينوس مخاطباً والدة الإله هكذا: أننا نحن الأشقياء قد ورثنا الرحمة بواسطتكِ، ونحن الناكرين الجميل حزنا بكِ النعمة، ونحن الخطأة فزنا بكِ بالغفران، ونحن الحقيرين الأذلاء قد حصلنا بكِ على الأشياء العالية، ونحن الأرضيين قد نلنا بكِ الملكوت، ونحن المائتين قد فزنا بكِ بالحياة، ونحن الغرباء بكِ حصلنا على الوطن". فلننعش اذاً فينا يا معشر المتعبدين لمريم الرجاء والثقة والطمأنينة نحوها متزايدةً يوماً فيوماً في قلوبنا. ولنفتكر بأتصالٍ بنوعٍ خاصٍ في هاتين الصفتين الجليلتين الحاصلة عليهما هذه الأم الإلهية، وهما الرغبة المستحرة بأشتياقٍ لأن تصنع معنا الخير، والمقدرة التي لها عند أبنها على أن تستمد منه كل شيء تطلبه، فلكي تفهم الرغبة التي لها في أن تسعف الجميع وتفيدهم، يكفي أن يصير التأمل في سر العيد الحاضر المختص بتذكرة زيارتها عند نسيبتها القديسة أليصابات. على أن المسافة الكائنة فيما بين مدينة الناصرة حيث كانت ساكنةً هذه البتول الكلية القداسة، وبين المدينة التي كانت تسكنها القديسة أليصابات، وهي مدينة حبرون على رأي الكردينال بارونيوس وغيره من الكتبة (والقديس لوقا الإنجيلي يسميها مدينة يهوذا) هي مسافة ذات تسع وستين ميلاً. كما يؤكد ذلك الأب يوسف الراهب الكرملي، وبيدا، وبروكاردوس ومع ذلك هذه الفتاة الحديثة السن واللطيفة الجسم لم تتأخر عن أن تباشر حالاً هذا السفر المتعب جداً، فما الذي حركها لصنيعه، أنه بلا شكٍ لم يكن شيئاً آخر الا الحب المتقد فيها على الدوام بقلبٍ كلي الأنعطاف، لأن تمارس منذ ذلك الوقت وظيفتها التي هي: موزعة النعم: حسبما يتكلم عن ذلك القديس أمبروسيوس في تفسيره الاصحاح الأول من بشارة لوقا قائلاً: أن مريم البتول لم تذهب من الناصرة الى مدينة يهوذا لكي تتحقق صدق ما قاله لها زعيم الملائكة جبرائيل عن حبل أليصابات، بل أنها لأبتهاجها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة. فقد أسرعت فرحةً بذهابها لأن تفعل الصلاح مع الآخرين. متحركةً بجملتها الى ذلك من قبل المحبة المتقدة في قلبها نحو القريب: ولذلك ينبغي أن تلاحظ عبارة الإنجيل المدونة عن سفر هذه الأم الرأوفة وهي: أن مريم قامت وذهبت مسرعةً الى الجبل: وبخلاف ذلك اذ يخبر الإنجيل عن رجوعها فلا يورد شيئاً من الأسراع. بل بنوع البساطة يقول: أن مريم مكثت عند أليصابات نحو ثلاثة أشهرٍ وعادت الى منزلها: (لوقا ص1ع56) ثم أن القديس بوناونتورا يتكلم هكذا قائلاً: فأية غايةٍ أخرى كانت تغتصب والدة الإله لأن تسرع ذاهبةً لتزور بيت أهل المعمدان. الا رغبتها في أن تصنع الخير مع تلك العيلة المكرمة:*

فمن المعلوم أن مريم العذراء بعد أرتقائها الى السماء لم تدع أن يفتر فيها هذا الحب نحو البشر بل أنه هناك قد تضاعف فيها نامياً، لأنها قد عرفت أفضل معرفة كم هي أحتياجاتنا القصوى. ومن ثم هي الآن نحونا ذات أشفاقٍ أعظم، لتفهمها جيداً حال شقائنا، فقد كتب برنردينوس البوسطي: أن مريم تريد راغبةً بشوقٍ أن تفعل معنا الخير أكثر من رغبتنا نحن أن نناله منها بنوع أنه، كما يقول القديس بوناونتورا: ان والدة الإله تحتسب ذاتها مهانةً من أولئك الذين لا يلتجئون إليها طالبين النعم لأن هذه هي رغبة العذراء المجيدة (كما يقول أيديوطا) أي أنها تروم أن تغني الجميع بالنعم. ولكنها بنوعٍ فائقٍ في السخاء ترغب أن تغني المتعبدين لها:*

ولذلك يقول أيديوطا عينه: أن من يجد مريم فيجد كل خيرٍ: ويضيف الى هذا قوله: أن كل أحدٍ يمكنه أن يجدها، ولئن كان هو الخاطئ الأكثر أثماً من أهل العالم بأسره، لأنها اذ هي كلية الحنو والأشفاق فلا تطرد أحداً من أولئك الذين يبادرون نحوها مستغيثين بها. وتوما الكامبيسي يجعلها متكلمةً هكذا: أنني أنا نفسي أدعو الجميع لأن يلتجئوا إليَّ وأنتظرهم كافةً، وأرغب حضورهم إليَّ جميعاً، ولا أزدري بأحدٍ من الخطأة مهما كان عديم الأستحقاق، متى أستغاث بي وطلبني لمعونته: ويقول ريكاردوس: أن كل من يمضي نحو مريم ملتمساً نوال النعم فيجدها على الدوام مستعدةً راغبةً مشتهيةً أن تسعفه بها وتستمد له كل النعم المفيدة لخلاصه الأبدي بواسطة شفاعاتها المقتدرة.*

وقولي شفاعاتها المقتدرة يعني الصفة الثانية التي يلزمها أن توطد رجانا بزيادةٍ وثقتنا بطمأنينةٍ. في أنها تستمد من الله كل شيء تطلبه منه في خير المتعبدين لها. فيقول القديس بوناونتورا: تأمل يا هذا بالحصر في زيارة الطوباوية مريم عند القديسة أليصابات، في كم حصلت كلمات هذه السيدة على القوة العظيمة لأن تبرز مفعولها. لأنها بمجرد كلماتها وصوتها قد أوعبت من نعمة الروح القدس في الوقت عينه أليصابات والجنين في بطنها، كما يوضح الإنجيلي بقوله: وكان لما سمعت أليصابات سلام مريم تحرك الجنين بأبتهاج في بطنها وأمتلأت أليصابات من الروح القدس: (لوقا ص1ع41) فأنظر كم هي عظيمة قوة صوت مريم ومفعول كلماتها المقدسة. حيث أنها حالما تلفظت بها قد منحت نعمة الروح القدس: ثم يقول ثاوفيلوس الأسكندري:

" أن يسوع المسيح يسر جداً حينما تتضرع إليه مريم والداته من أجلنا. لأن جميع النعم التي يمنحناها تعالى حينئذٍ لأجل توسلات مريم، لا يعتدها موهوبةً لنا بمقدار ما يعتبرها أنها معطاة منه لأمه هذه عينها". فلاحظ هنا كلماته المذكورة بقوله عن يسوع المسيح: أنه يعتبر تلك النعم ممنوحةً منه لأمه عينها. على أنه كما يقول القديس جرمانوس: أن يسوع المسيح لا يقدر أن لا يستجيب مريم في كل شيء تطلبه منه، مريداً بذلك على نوعٍ ما أن يطيعها خاضعاً لها بحسب كونها والدته، لأن تضرعات هذه الأم الإلهية لها نوعٌ من الولاية لدى أبنها. ومن ثم هي تستمد منه الغفران للخطأة الأكثر أثماً الذين يلتجئون إليها.*

وهذا الأمر يتحقق بأبلغ البيان، كما ينبه القديس يوحنا فم الذهب، من الحادث الذي تم في عرس قانا الجليل. وهو أنه حينما قالت هذه الأم الرأوفة ليسوع عن أصحاب وليمة العرس. أن ليس عندهم بعد خمرٌ. فأجابها قائلاً: مالي ولكِ أيتها الأمرأة لم تأتِ ساعتي بعد: (يوحنا ص2ع4) فلئن لم يكن حينئذٍ جاء الزمن الذي فيه كان ينبغي للمسيح أن يبتدئ بصنيع العجائب، كما يبرهن الذهبي فمه نفسه. ومثله تاوفيلاكطوس فمع ذلك (يقول هذا العسجدي الفم) أن المخلص طاعةً منه لإرادة أمه قد صنع الأعجوبة التي هي طلبتها منه. اذ أحال الماء الى خمر:*

" فلنتقدم اذاً بدالةٍ الى عرش النعمة (كما يحرضنا الرسول عبرانيين ص4ع16) لندرك الرحمة ونجد النعمة عوناً  لنا في زمانٍ واجبٍ: فعرش النعمة هو الطوباوية مريم البتول، يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: فأن كنا اذاً نرغب نوال نعمةٍ ما فلنذهب نحو عرش النعمة الذي هو مريم، ولكن فلنتقدم الى هذا العرش بدالةٍ أي برجاءٍ وطيد في أن مطلوبنا يستجاب بتأكيدٍ، لأننا حاصلون على شفاعة هذه الأم الإلهية التي تنال من ابنها كل ما تطلبه منه. ولهذا أكرر كلمات القديس برنردوس: أننا أن أردنا أن نجد نعمةً فنجدها بواسطة مريم: مشيراً بذلك الى ما قالته البتول الكلية القداسة هي نفسها للقديسة ماتيلده: أنه اذ كان الروح القدس قد أملأ هذه السيدة من عذوبته كلها. فصيرها عزيزةً على قلبه تعالى ومحبوبةً منه بهذا المقدار. حتى أن كل من ألتمس منه عز وجل بواسطتها النعم التي يرغبها فينالها من دون ريب:*

ثم أن كنا نصدق القضية المشتهرة عن القديس أنسلموس بقوله: أنه يتفق بعض الأحيان أن ننال الخلاص بأستغاثتنا بأسم مريم بأكثر سرعةٍ مما نناله اذا أستغثنا بأسم يسوع: فكذلك (كما يقول القديس نفسه) يتفق بعض الأحيان أن نفوز بالنعم بألتجائنا الى والدة الإله بأكثر سرعةٍ من نوالها إياها اذا ألتجأنا الى مخلصنا يسوع المسيح نفسه، لا كأنه تعالى ليس هو ينبوع النعم كلها ومولاها المطلق، بل من قبيل أننا حينما نبادر بالأستغاثة نحو هذه الأم الإلهية، التي هي حينئذٍ تتوسل لدى أبنها يسوع من أجلنا، فبأكثر سرعةٍ تستمد لنا منه النعم التي نلتمسها. اذ أن تضرعاتها لديه هي تضرعات أمٍ، ولها قوة أكثر من توسلاتنا الغير المتوسطة أمامه. فاذاً ينبغي لنا أن لا نبارح قدمي خازنة النعم هذه قائلين لها مع القديس يوحنا الدمشقي: أفتحي لنا باب التحنن يا والدة الإله المباركة، لأننا بأتكالنا عليكِ لا نخيب وبكِ نخلص من كل المحن، لأنكِ أنتِ خلاصٌ لجنس المسيحيين". واذا ما ألتجأنا الى هذه السيدة، فالأفضل هو أن نتوسل إليها بأن تستمد لنا من الله تلك النعم. التي تعلم هي أنها أكثر ملائمةً وأفادةً لخلاصنا، نظير ما كان يصنع الراهب الدومينيكاني راجينالدوس. حسبما هو مدون في الرأس الخامس من الكتاب الأول من تاريخ هذه الرهبنة. فيوماً ما كان عبد مريم هذا مريضاً، وكان يطلب منها الصحة الجسدية. فظهرت له سيدته هذه المجيدة مرأفقةً من القديستين كيكيليا وكاترينا، وقالت له بعذوبةٍ كلية: يا أبني ماذا تريد أن أصنع من أجلك: فالراهب المذكور عند سماعه منها هذه الكلمات قد حصل مبهوتاً لا يعلم ماذا يجاوب، فحينئذٍ الواحدة من القديستين المقدم ذكرهما شارت عليه بقولها له هكذا: أتعرف ماذا تصنع يا راجينالدوس، فأنت لا تطلب منها شيئاً معيناً، بل سلم ذاتك بجملتها بين يديها تسليماً تاماً، لأن هذه السيدة تعلم هي أن تصنع معك تلك النعمة بأفضل نوع مما أنت تعرف أن تطلبها منها: فهكذا فعل المريض ومريم وقتئذٍ أستمدت له نعمة الشفاء من مرضه.*

ولكن اذا نحن أردنا أن نفوز بأن تزورنا ملكة السموات بزيارتها السعيدة، فيفيدنا كثيراً أننا نحن أيضاً نزورها مراتٍ مترادفةً بذهابنا أمام بعض أيقوناتها المقدسة. فليقرأ النموذج الآتي تسطيره، لكي يفهم بكم من المواهب الخصوصية تكافئ سلطانة العالمين الذين يزورون أيقوناتها بحسن عبادة.*

* نموذج *

أنه يوجد مدوناً في تاريخ رهبنة القديس فرنسيس، أن أثنين من رهبان هذا القانون قد كانا ذهبا معاً يوماً ما لزيارة كنيسةٍ مختصةٍ بوالدة الإله. الا أنه في مسافة سفرهما قد أدركهما زمن الليل وهما في وسط حرشٍ مستطيل، ومن ثم أستحوذ عليهما الخوف والتحير ولم يعودا يعلمان ماذا يصنعان، ولكن اذ مشيا مسافةً قليلةً الى ما قدام، فخال لهما في الظلام أنهما كانا يشاهدان بالقرب منهما بيتاً ما. ولذلك مشيا نحوه، وعندما بلغا إليه، أخذا يلمسان في العتم جهات حيطانه ليجدا الباب، فلما وجداه قرعاه وسمعا صوتاً من داخل يسأل من هذا، فأجابا بأنهما راهبان مسكينان قد أضاعا الطريق عرضاً وأدركهما الظلام ولذلك يلتمسان أن يحتميا مدة ساعات الليل داخل حائط البيت. كيلا يفترسا من الذئاب، قالا هذا واذا بباب الدار قد أنفتح لهما وخرج إليهما رجلان مترديان بأثوابٍ مطرزة ثمينة، كأنهما من خدام عيلةٍ ملوكية، فقبلاهما بكل أنسٍ وكرامةٍ وأدخلاهما الى جوا بكل حبٍ. فحينئذٍ الراهبان سألا ذنيك الرجلين عمن هو ساكنٌ في تلك الدار، فأجاباهما أنها قاطنةٌ هناك سيدتهما وهي امرأة كلية الرحمة والفضيلة، فألتمس الراهبان منهما أن يزوراها مقدمين لها واجبات الأحترام والمعروف، والرجلان قالا لهما: أننا لهذه الغاية نحن نرافقكما لمواجهتها لأنها هي تريد أن تتكلم معكما: فلما صعدا فوق الدرج ودخلا الى القاعات، شاهداها كلها مشرقةً بكثرة المصابيح ومزينةً كدارٍ ملوكيةٍ. وقد شعرا برائحة طيبٍ زكيٍ كأنهما موجودان في فردوسٍ فائق الوصف. فدخلا أخيراً حيث كانت تلك السيدة، التي عندما نظراها قد أستوعبا تهيباً من طلعتها المحترمة ومن جمالها الفريد، وهي أستقبلتهما ببشاشةٍ ولطافةٍ وسألتهما عن سفرهما ومن أين والى أين كان. فأجاباها أنهما كانا منطلقين لزيارة كنيسةٍ ما مختصة بالطوباوية مريم البتول. فقالت لهما: حسناً، اذاً حينما تسافران أعطيكما رسالةً تفيدكما كثيراً". وعندما كانت هي تخاطبهما فكانا يشعران بألتهاب نار الحب الشديد في قلبيهما نحو الله متمتعين بتعزيةٍ وعذوبةٍ ومسرةٍ باطنةٍ. لم يكونا قط في مدة حياتهما ذاقا نظيرها، ثم مضيا بعد ذلك الى الرقاد (أن يكن ممكناً لهما النوم فيما بين تلك الأفراح الباطنة التي أختبراها) وحينما صار النهار حصلا من جديد على مواجهة تلك السيدة ليشكرا فضلها ويأخذا منها الرسالة التي قالت لهما عنها، كما تم الأمر تسلما الرسالة وخرجا من تلك الدار ذاهبين في طريقهما، ولكن من دون أن يبعدا مسافةً ما عن الدار قد أنتبها على أن الرسالة كانت من دون عنوان، ولذلك رجعا نحو الدار ليخبرا بهذا السهو، الا أنهما لم يجدا لا الدار ولا أثراً لها، ولئن كانا فتشا جيداً جايلين في كل تلك الناحية، فحينئذٍ فتحا تلك الرسالة ليفهما الى من كانت مدونةً وماذا كانت تحوي من الخطاب، فرأيا أنها كانت تخبيراً لهما بأن تلك السيدة التي شاهداها في الدار هي والدة الإله، التي مكافأةً لحسن عبادتهما نحوها قد أسعفتهما ذاك الأسعاف الوقتي بالدار والقوت والمنامة. وكانت تحرضهما على دوام العبادة لها والمحبة نحوها موعدةً إياهما بمكافأةٍ أعظم وبالمساعدة لهما في حياتهما وعند موتهما، وهكذا شاهدا أمضاء تلك الرسالة بأسمها. فهنا كل واحدٍ يمكنه بسهولةٍ أن يتأمل كم كان عظيم أبتهاج هذين الراهبين، وردهما الشكر لهذه السيدة أم الرحمة، وكم تزايد في قلبيهما الحب نحوها والنشاط في خدمتها والحرارة في عبادتها.*

† صلاة †

أيتها البتول المباركة البريئة من العيب. أنكِ اذ أنتِ هي موزعة النعم الإلهية كلها، فأنتِ اذاً هي رجاء الجميع ورجائي أنا أيضاً. فأشكر سيدي شكراً دائماً على كونه أفهمني جيداً ما هي الواسطة التي بها أنا أفوز بالنعم وأحوز الخلاص. فهذه الواسطة أنما هي أنتِ أيتها الأم والدة الإله العظيمة. اذ أني عرفت حسناً أن خلاصي هو متوقفٌ على أستحقاقات سيدي يسوع المسيح وعلى شفاعاتكِ أيضاً. فيا ملكتي أنتِ التي بأهتمامٍ كلي قد اسرعتِ ذاهبةً لتزوري بيت نسيبتكِ القديسة أليصابات. وتقدسي تلك العيلة كلها. أني أتوسل إليكِ بأن تزوري سريعاً بيت نفسي الذليلة. فهلمي عاجلاً لأنكِ تعلمين حال فقر نفسي وأمراضها الروحية، وأنعطافاتها الغير المرتبة، وعوائدها السيئة، وخطاياها الماضية، وكل شرورها التي تقودها الى الهلاك، فأنتِ يا خازنة الله تقدرين أن تصيري نفسي غنيةً. ويمكنكِ أن تشفيها من جميع أمراضها. فزوريني يا سيدتي في حياتي، ولكن بنوعٍ أخص زوريني في ساعة موتي. لأني حينئذٍ بأبلغ نوعٍ أكون محتاجاً لمعونتكِ. فأنا لا أدعي ولا أستحق أن أفوز بحضوركِ عندي حضوراً جسدياً حسياً. كما تنازلتِ لأن تفعلي ذلك مع كثيرين من عبيدكِ المستحقين. والذين ليسوا نظيري ناكري الجميل وعدمي الأستحقاق. بل أكتفي بأن أشاهدكِ فيما بغد في السماء حيث تملكين، لكي أحبكِ هناك أشد حباً. وأقدم لكِ الشكر على النعم والخيرات العظيمة التي أستمديتيها لي. أنما أرجو في الوقت الحاضر أن تزوريني برحمتكِ، ويكفيني أنكِ تصلين من أجلي.*

فتضرعي اذاً من أجلي يا مريم حبيبتي. وأوصي بي أنبكِ الإلهي ولأنكِ أفضل مني تعرفين شقاوتي وأحتياجاتي فليس لي ما أقوله لكِ أكثر. بل أرحميني لأني مسكينٌ جاهلٌ لا أعلم ماذا ألتمس من النعم المفيدة لي والمحتاج أنا إليها. فأنتِ يا أمي وسلطانتي الكلية الحلاوة ألتمسي لي من أبنكِ تلك النعم التي تعرفين أنها أكثر إفادةً لي. وأوفر ضرورةً لخلاص نفسي. فأنا أسلم ذاتي بجملتها في يديكِ. وأتوسل للعزة الإلهية بأستحقاقات مخلصي أن تهبني النعم التي أنتِ تطلبينها في شأني. فأطلبي من أجلي أيتها البتول الكلية الطوبى ذاك الشيء الذي تعرفين أنه أجود لي. لأن صلواتكِ لا يمكن أن ترد خائبةً، لأنها صلوات أمٍ نحو أبنها الذي يحبها حباً شديداً، ويسر بأن يصنع كل ما تطلبه منه، لكي يكرمكِ بذلك كرامةً أعظم، ويظهر لكِ في القت عينه سمو درجات الحب الذي يحبكِ به، فقد أتفقنا على ذلك يا سيدتي، وأنا أحيى واثقاً بكِ، وأنتِ يخصكِ أن تفتكري في أمر خلاصي آمين.* 

Click to view full size image

الفصل السادس

* فيما يلاحظ عيد تطهير البتول الكلي طهرها، أي تقدمة أبنها

يسوع المسيح الى الهيكل بعد أربعين يوماً من ميلاده

وفيه يبرهن عن عظمة القربان الذي صنعته هذه

السيدة في مثل اليوم الحاضر لله، بتقدمتها

له حياة أبنها.*

أن وصيتين كانتا مرسومتين في الشريعة الموسوية في شأن الأطفال الأبكار الفاتحين مستودعات أمهاتهم. فالوصية الأولى هي إن الوالدة الطبيعية كان يلزمها أن تستمر مدة أربعين يوماً كأنها دنسةٌ منفردةً في بيتها، وبعد نهاية هذه الأربعين يوماً كان يلزمها أن تمضي الى هيكل الرب لتطهر ذاتها. وأما الوصية الثانية فكانت ألتزام الوالدين بأخذ أبنهما البكر الى الهيكل وبتقدمتهما إياه لله كقربانٍ. فمريم البتول الكلية القداسة قد أرادت في مثل هذا اليوم أن تطيع مكملةً الوصيتين المذكورتين معاً. ولئن لم تكن هي ملتزمةً بأتمام الوصية الأولى الملاحظة تطهير الأمهات من دنسهن، لأنها قد كانت دائماً بتولاً نقيةً طاهرةً بريئةً من الدنس. ولكن مع ذلك حباً منها بفضيلة التواضع. وطاعة زائدة منها نحو الشريعة قد أرادت أن تصنع نظير سائر الأمهات، وتذهب الى هيكل الرب لتطهر ذاتها، كما أنها قد أطاعت بالتمام الوصية الثانية بتقدمتها أبنها في الهيكل الناموسي لله أبيه، كما يخبرنا القديس لوقا الإنجيلي بقوله: أنه لما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى، أخذ يسوع أبواه الى أورشليم ليقيماه للرب، كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعاً يدعى قدوساً للرب: (لوقا ص2ع22) غير أن مريم الطوباوية قدمت لله أبنها بنوعٍ مختلفٍ عن بقية الأمهات، اللواتي حين تقدمتهن أولادهن للرب، كن عارفاتٍ أن ذلك هو أحتفالٌ طقسي بسيط مأمورة صيرورته بقوة الشريعة الموسوية. ومن ثم بواسطة الفدية التي كن يقدمنها عوضاً عنهم، كانوا يصيرون أولادهن الأحرار المعتوقين من كل ألتزامٍ آخر في هذا الشأن، وكن ناجياتٍ من كل خوفٍ من أنهن يلتزمن بأن يقدمنهم فيما بعد مرةً أخرى للموت. أما مريم فقدمت أبنها حقيقةً للموت، لأنها كانت متأكدةً أن ذبيحة حيوة يسوع التي صنعتها في الهيكل حينئذٍ، قد كان يوماً ما لازماً أكتمالها فوق مذبح الصليب. فلهذا عندما قدمت هي حياة أبنها، فلأجل الحب الشديد المرتبطة هي به معه بنوعٍ فائق الوصف. قد ضحت حياتها هي أيضاً وذاتها بجملتها صحبة هذا الأبن الإلهي قرباناً لله. فاذا ما نحن تركنا جانباً التأملات والملاحظات الأخرى كلها، التي يمكننا أن نلاحظها متأملين في الأسرار المختصة بالعيد الحاضر، فلنأخذ بالتأمل في هذه القضية فقط، وهي كم كانت عظيمةً الضحية التي قدمت بها مريم البتول ذاتها لله، بتقدمتها لديه تعالى في مثل هذا اليوم حياة أبنها. والقضية المذكورة هي الموضوع الوحيد لهذا الفصل.*

فالآب الأزلي قد كان حدد راسماً أن يخلص الإنسان الهالك بالخطيئة وينقذه من الموت الأبدي، ولكن من حيث أنه جلت حكمته كان يريد في الوقت عينه أن عدله الإلهي لا يبقى خائباً من الوفاء المحق له ضرورةً، فلذلك اذ لم يوفر في هذا الأمر المهم عنايةً، حتى ولا حياة أبنه الوحيد المتجسد لأجل خلاص البشر، فأراد تعالى أن هذا الأبن يفي بكل صرامةٍ العقاب الذي أستحقته البشر، كما يقول الأنبا المصطفى: أن الله لم يشفق على أبنه بعينه بل بذله عن جميعنا: (رومانيين ص8ع32) فقد أرسله اذاً الى العالم لأجل هذه الغاية متأنساً، وعين أماً له البتول مريم الطوباوية، ولكن لأنه عز وجل لم يرد أن أبنه الإلهي يصير ابناً لهذه العذراء قبل أن تعطى هي رضاها الصريح بذلك. فهكذا لم يشأ تعالى أن هذا الأبن يقدم ذاته وحياته ضحيةً من غير أن ترافقه أرادة والدته ورضاها، حتى يكون على هذا النوع قلب مريم العذراء مقدماً ضحيةً لله جملةً مع تقدمة حياة ابنها يسوع. فالقديس توما اللاهوتي يعلم: بأن للأمهات من قبل صفتهن الوالدية حقاً وولايةً على أولادهن: فاذاً من حيث أن يسوع قد كان في ذاته باراً. ولم يكن مستحقاً أدنى عقابٍ لأجل ذنبٍ خصوصي الذي قط لم يلتحق به. فقد يبان لائقاً أن لا يكون تعينً هو لأن يقدم ذبيحةً على عود الصليب من أجل خطايا العالم من دون رضا أمه، الذي به تقدمه هي طوعاً وأختيارياً للموت.*

ولكن ولئن كانت مريم البتول من حين صيرورتها أماً ليسوع المسيح. قد أعطت رضاها بموته، فمع ذلك أراد الرب أن هذه الأم الإلهية تقدم لديه تعالى في مثل هذا اليوم في الهيكل الأورشليمي ذاتها ضحيةً كاملةً، بطقسٍ أحتفالي خارج، وذلك بتقدمتها الأحتفالية له حياة أبنها الحبيب غفراناً عن خطايا العالم ووفاءً لعدله الإلهي. ولهذا يسمي القديس أبيفانيوس هذه البتول القديسة: العذراء الكاهنة المقدمة الضحية. فالآن ينبغي لنا أن نتأمل في كم وجد ثمن هذه الضحية لدى مريم عظيماً. من قبل الألم الذي شعرت به باطناً، وكم هو مقدار الشجاعة وسمو فضيلة الصبر التي بها مارست هي هذه الضحية، بأمضائها حكومة الموت ضد أبنها الحبيب كأنه بخط يدها.*

فهوذا مريم تبادر نحو مدينة أورشليم بأسراعٍ لتكمل تقدمة أبنها قرباناً. حاملةً على ذراعيها الحمل المهيأ للذبيحة، حيث دخلت الى هيكل الرب، ودنت من المذبح مملؤةً من الأحتشام والتواضع وحسن العبادة، مقدمةً للعلي بكرها المحبوب في الغاية، وفي الوقت عينه قد جاء الى هناك القديس سمعان الشيخ، الذي كان حصل من الله على الوعد بألا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب المنتظر، فهذا البار اذ أقتبل من يدي البتول طفلها الإلهي. وأستنار من قبل الروح القدس، فأخبر هذه الأم عن عظمة ثمن ذاك القربان المقدم لله منها، لأنه كان يلزمها أن تضحي نفسها جملةً مع أبنها. فهنا القديس توما الفيلانوفي اذ يتأمل في كيفية حال الشيخ البار سمعان، عند ألتزامه بأن يعلن للعذراء المجيدة تلك الحكومة المرة ضدها. يقول هكذا: أن هذا الشيخ عند ذلك القلق وسكت، ولكن مريم كأنها كانت تقول نحوه لماذا أنت يا سمعان مضطربٌ، في الوقت الذي أنت فيه حاصلٌ على تعزيةٍ عظيمةٍ بمشاهدتك تمام ما وعدت به. فمن ثم أجابها هو قائلاً: أيتها السيدة الشريفة أني كنت أتمنى الا أخبركِ بقضيةٍ مغمةٍ مملؤةٍ من المرارة، ولكن من حيث أن الله يريد مني أن أعلنها لديكِ، لأجل أزياد أجركِ وأستحقاقاتكِ ، فأسمعي ما أقوله لكِ، وهو أن هذا الطفل الذي الآن يجلب لكِ مقداراً لا حد له من الأبتهاج والمسرة، وذلك بكل صوابٍ، أواه أنه هو نفسه يوماً ما عتيد أن يجلب لكِ الحزن الأشد مرارةً، الذي ما تجرعه قط أنسانٌ في العالم، وهذا سيكون حينما أنتِ تشاهدين أبنكِ هذا نفسه مضطهداً من كل نوعٍ من الشعوب، مطروحاً في الأرض كأحقر العبيد وكآخر الناس، مهزأ به غاية الأستهزاء. وأخيراً أمام عينيكِ سيمات مشجوباً موت العار، ثم أعلمي أيضاً أنه بعد موته عتيد أن يموت من أجله عددٌ عظيمٌ من الشهداء فيما بين العذابات القاسية، ولكن اذا كان أستشهادهم المر مزمعاً أن يتم بأجسادهم، فأستشهادكِ أنتِ أيتها الأم الإلهية عتيد أن يصير بنفسكِ وقلبكِ.*

أي نعم أن أستشهاد هذه البتول المجيدة كان عتيداً أن يتم في قلبها، بواسطة التوجع والحزن المر على أبنها الحبيب الوحيد، وهذا هو السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها قاطعاً فاصلاً مفقداً إياها الأبن الكلي الحب لديها. وهذه هي ألفاظ نبؤة الشيخ سمعان القائل لمريم أمه: ها هوذا هذا موضوع لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل. ولعلامة تخالفٍ، وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوبٍ كثيرين: (لوقا ص2ع34) فيقول القديس أيرونيموس أن البتول الكلية القداسة قد كانت أستنارت من الكتاب الإلهي، وعرفت مقدار الآلام التي كان يلزم أن يحتملها أبنها المخلص في مدة حياته، وبأبلغ من ذلك في حين موته. على أنها كانت تفهم جيداً من أقوال الأنبياء أنه كان ينبغي له أن يسلم بخيانةٍ من أحد المختصين به، كقول داود النبي: أن إنسان سلامي الذي وثقت به الذي أكل خبزي ورفع عليَّ عقبه: (مزمور 41ع10) وأنه سيهمل متروكاً من تلاميذه. بموجب نبؤة زخريا هكذا (ص13ع7): قال رب الجنود أضرب الراعي فتتبدد الخراف: وكانت تعرف حسناً الأهانات التي كان يلزمه أن يتكبدها. واللطم والبصاق والأستهزاء المزمع أن يلم به من الشعوب. كقول أشعيا النبي: أنا لست أعصي ولا أجاوب. قد بذلت ظهري للسياط. وخدي لل لطمات. وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه: (ص50ع5) قد كانت تعلم أنه كان عتيداً أن يصير هو عاراً فيما بين الأمم وهزاءاً للناظرين ورذالةً في الشعب، حسبما تنبأ عنه داود قائلاً (مزمور22ع7): أنا دودة ولست أنساناً، عارٌ للبشر ورذلةٌ في الشعب: وكما قال عنه أرميا (مراثي ص3ع30): يعطي الخد لمن يلطمه، يشبع من العار: وكانت عارفةٌ أن لحمانه المقدسة كانت عتيدةً عند نهاية حياته أن تتناثر بالجلد، كقول أشعيا النبي: هو جرح لأجل تجاوزنا الشريعة، وتوجع بسبب خطايانا: (ص53ع5) بنوعٍ أن جسده كان يلزم أن يعود فاقد الصورة حاصلاً كجسم إنسانٍ أبرص كله جراحاتٌ. حتى أن عظامه نفسها تصير منظورةً مجردةً. كقول النبيين أشعيا وداود هكذا: ليس له منظرٌ ولا جمال... ونحن حسبناه كأبرص: وأحصوا جميع عظامي: وكانت تعرف أنه كان يلزم أن يديه ورجليه تتبجن مسمرةً كقول المرتل: ثقبوا يدي ورجلي: (مزمور22ع18) وأنه مزمعٌ أن يحصى فيما بين الأشرار. كقول أشعيا النبي: أنه حسب مع العادمين الشريعة ( ص53ع12) وأخيراً كانت عارفةً بأنه كان عتيداً أن يموت مطعوناً بحربةٍ على الضليب. كقول زخريا النبي: وينظرون إليَّ أنا الذي طعنوه: (ص12ع10).*

فأي نعم أن هذه الأشياء بوجه العموم كانت معروفةً عند البتول الكلية القداسة، ولكن عندما قال لها سمعان الشيخ: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: فحينئذٍ (حسبما أوحى الرب للقديسة تقلا) قد أنكشفت لديها ظروف آلام أبنها مفصلاً، والأوجاع الباطنية والخارجة التي كانت مزمعةً أن تحيق به حين آلامه، وهي أي العذراء المجيدة قد أرتضت بذلك جميعه، وبثبات عزمٍ وشجاعةٍ تذهل عقول الملائكة قبلت حكومة الموت على أبنها الوحيد. موتاً هكذا شنيعاً وذا آلامٍ مرةٍ قابلةً: أيها الآب الأزلي أنك اذ كنت هكذا تريد، فلتكن مشيئتك لا مشيئتي، وأنا أتحد أرادتي مع أرادتك المقدسة، وأضحي لديك أبني هذا، وأرتضي بأن يعدم الحياة لأجل مجدك، ولأجل خلاص العالم، ومعه أنا أقرب لك ضحية قلبي أيضاً فليجز فيه سيف الحزن والوجع حينما تشاء يا إلهي، ويكفيني أنك تعود ممجداً وراضياً، ليس كمشيئتي بل كمشيئتك". فيا لها من محبةٍ لا قياس لها، ويا لها من شجاعةٍ لا مثيل لها، ويا له من أنتصارٍ يذهل العقول، ويا لها من غلبةٍ تستحق مؤبداً مديح السماويين والأرضيين.*

فمن هذا القبيل والدة الإله حين آلام أبنها قد وجدت ساكتةً، ولم تتكلم شيئاً ضد المثالب الضالة التي منيَ هو بها، بل لم تهتم في أنقاذه عند بيلاطس الذي كان عرف برائته مريداً أطلاقه. ولكنها ظهرت في ذلك المحفل فقط عند جبل الجلجلة لكي تشترك بتقدمة ذبيحته العظيمة هناك، اذ أنها قد رافقته منذ أبتداء صلبه، ولم تفارقه الى أن تمم الذبيحة ومات على الصليب، كقول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: وهذا كله فعلته لتكمل الضحية التي كانت سبقت وقدمتها لله، من يوم تقدمتها يسوع له تعالى في الهيكل.*

فلكي يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الجهاد الذي تكبده هذه الأم الإلهية ضد ذاتها في أمر قربان أبنها وتقدمتها إياه ضحيةً وكم كان علقم مرارة الألم الذي هي تجرعته في شربها هذه الكأس. فينبغي ضرورةً أن يدرك قبلاً مقدار الحب الذي به كانت هي تحب هذا الأبن الوحيد. فنحن بوجه العموم نعلم أن المحبة الوالدية الكائنة في الأمهات عموماً نحو أولادهن، تصيرهن عند موتهم أو فقدانهم أن ينسين بالكلية نقائصهم بأسرها، وخصالهم الرديئة وبشاعة خلقة بعضهم بل الأهانات والأفتراء الذي يكون التحق بهن من البعض منهم. وبالأجمال يشعرون بالوجع والحزن على فقدهم كأنهم مزينون بالكمالات بأجمعها. هذا مع أن حب هؤلاء الأمهات لأولادهن المشار إليهم هو حبٌ مقسومٌ فيما بينهم وبين أولادهن الآخرين، أو فيما بينهم وبين موضوعاتٍ أخرى من الأشياء المجلوقة. أما البتول القديسة فليس لها الا أبنٌ طبيعي واحدٌ فقط، وهو كلي الجمال وسامٍ في البهاء على أولاد آدم كافةً، وهو موضع الحب الكلي، لأنه حاوٍ كل الصفات الموجبة حبه. وهو مطيعٌ وديعٌ عذبٌ بارٌ قدوسٌ، مالكٌ على كل الفضائل الفائقة سمواً، ويكفي القول عنه أنه متأنسٌ، ثم أن الحب الذي لهذه الم الإلهية نحوه تعالى لم يكن مقسوماً فيما بينه وبين موضوعاتٍ أخرى، بل أنها وضعت حبها بجملته في هذا الأبن الوحيد، ولم يكن عندها خوفٌ من أن تفرط بحبه الزائد المتفاوت الحدود، اذا تركت لذاتها العنان بتعلق قلبها الشديد به. لأنه في الوقت عينه الذي فيه هو أبنها، ففيه نفسه هو إلهها المستحق أن يحب فوق كل شيءٍ حباً غير متناهٍ. فأبنٌ هذه صفاته قد وجد هو هو عينه الضحية التي هذه الأم ألتزمت بأن تقدمها أختيارياً للموت.*

فلينظر كل واحدٍ متأملاً في كم أحتملت مريم العذراء في ذاتها وبأية شجاعةٍ قد أتصفت بتقدمتها أبنها هذا الحبيب محرقةً حيةً، ليموت على الصليب موت العار. فهذه هي الأم الأعظم سعادةً فيما بين الأمهات كلهن. من حيث أنها أختيرت والدةً لله، ولكنها في الوقت ذاته هي الأم المستحقة أكثر من سائر الأمهات التوجع من أجلها. لأنها أختبرت في ذاتها مرائر الألام بنوعٍ لم يحدث قط، ولا هو ممكنٌ أن يحدث لأمٍ سواها. لأنها من حينما حصلت على هذا الأبن. فأنما فازت هي به محكوماً عليه بأن يموت فيما بين الآلام الأشد قساوةً. فترى أيت أمٍ تقبل لها أبناً ذاك الذي قد أعد معيناً لأن يموت موت الخزي والعار أمام عينيها. فمريم وحدها قد أقتبلت أن تتبنى بهذا الأبن تحت شرطٍ هكذا شديد المرارة، وفائق الأحتمال طبيعياً، وليس فقط أنها قبلت هذا الشرط، بل أيضاً هي نفسها في مثل هذا اليوم قدمت أبنها بيديها، قرباناً معداً لذبيحةٍ دمويةٍ مزمعة أن تضحى على الصليب اللعدل الإلهي. فيقول القديس بوناونتورا: أن الطوباوية مريم البتول لقد كانت بأوفر رضا أقتبلت على ذاتها الآلام والموت المرسوم على أبنها أحتماله. ولكنها طاعةً منها لله قد صنعت التقدمة العظيمة، مضحيةً حيوة أبنها الإلهية المحبوبة منها بهذا المقدار، منتصرةً بألمٍ لا يوصف على مفاعيل أنعطافات حبها الوالدي الشديد: ومن ثم في هذه التقدمة قد صنعت هي أمراً أعظم جداً. بأغتصابها ذاتها وبصبرها على التوجع بشجاعةٍ، مما لو كانت تقدم ذاتها هي نفسها لأحتمال جميع ما كان مرسوماً على أبنها أن يتحمله، فهي بفعلها هذا سمت متعاليةً على جميع ما أحتمله فيما بعد الشهداء كلهم. لأن الشهداء أنما قدموا لله حياتهم الذاتية، أما مريم فقدمت له تعالى حيوة أبنها الذي كانت تحبه وتعتبره أفضل من حياتها بما لا يحد ولا يوصف.*

ثم أن تقدمة البتول المجيدة لم تنته عند هذا الحد، بل ههنا هي بدايتها، لأن هذه الأم الإلهية منذ تلك الساعة الى نهاية حيوة أبنها، قد كانت على الدوام تشاهج بإزاءٍ عيني عقلها جميع الآلام والموت المزمع هذا الأبن الإلهي أن يتكبده. وبالتالي بمقدار ما كانت يوماً فيوماً تختبر جديداً في حبيبها يسوع موضوعاتٍ للحب ولتعلق القلب به. فبأكثر من ذلك كان يزداد في فؤادها ألم الحزن بتذكرها ما كان عتيداً أن يحدث له عند نهاية حياته.*

أواه أيتها الأم المحزونة. أنكِ لو تكونين وجدت أقل حباً لأبنكِ، أو لو كان هذا الأبن وجد مستحقاً أقل حباً. أم لو أنه كان أحبكِ أقل حباً. فلكان توجعكِ وآلامكِ وجدا أقل مرارةً وعذاباً، بتقدمتكِ حيوة هذا الأبن ضحيةً للموت على الصليب. ولكن لا وجدتِ ولا هو ممكنٌ أن توجد أمٌّ أحبت أبنها بمقدار حبكِ يسوع أبنكِ. لأنه لا وجد قط ولا هو ممكنٌ أن يوجد أبنٌ محبوبٌ ومستحق أن يحب نظير أبنكِ. ولا نظير حبه إياكِ الشديد. أترى لو أمكننا أن نشاهد جمال وجه هذا الطفل الإلهي، وجلالة هيبته ألقد كنا أرتضينا بأن نقدمه ضحيةً من أجل خلاصنا. أما أنتِ يا مريم التي هي أمه المتعلقة بحبه بهذا المقدار كما يستحق. فكيف أستطعتِ أن تقدمي ذبيحةً من أجل خلاص البشر هذا الأبن البار، ضحيةً للموت فيما بين أوجاعٍ فائقة الأدراك، وبميتةٍ لم يحدث مثلها قد لأحدٍ من المجرمين.*

أواه كم كانت مرائر الحزن تجرح قلب هذه الأم الرأوفة منذ ذلك اليوم فصاعداً، أي مدة حياة يسوع المسيح على الأرض. بتذكرها على الدوام، وبتصورها أمام عينيها الآلام والأهانات التي كان البشر عتيدين أن يعاملوا بها هذا الابن الإلهي. فالحب الوالدي كان دائماً يصور لديها يسوع غائصاً في بحر الحزن في بستان الزيتون، قاطراً من جسده عرقٌ دمويّ، مجلوداً في دار بيلاطس، ممزقاً جسمه من شدة الضرب، مكللاً بأكليل الشوك، متردياً بثوب الأرجوان للأستهزاء. وأخيراً معلقاً على خشبة العار فيما بين لصين على جبل الجلجلة. فهوذا أيتها الأم (كان يقول نحوها الحب) الأبن الحبيب البار الذي أنتِ تقدمينه ضحيةً ليحتمل أعظم آلاماً هذه صفتها وشدة مرارتها. فترى ماذا يفيدكِ أن تهربي به الى مصر لتخلصيه من يدي هيرودس، وتحفظيه لميتةٍ ذات حزنٍ أعظم وآلامٍ أمر.*

فاذاً مريم ليس في هيكل أورشليم فقط قدمت أبنها ضحيةً لله أبيه، بل أنها قدمته قرباناً متصلاً متكرراً على الدوام مدة حياته كلها. لأن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا: بأن سيف الحزن والوجع الذي أخبرها عنه سمعان الشيخ لم يفارق قلبها قط، طالما هي بقيت في الأرض الى حينما أرتقت الى السماء.

ثم يقول نحوها القديس أنسلموس: أنه لا يمكنني يا سيدتي أن أصدق، أنكِ مع وجودكِ في حزنٍ ومرارة قلبٍ هكذا شديدةٍ، أستطعتِ أن تعيشي على الأرض دقيقةً واحدةً، لولا أن الله نفسه الذي يهب الحياة يحفظكِ بقوته الإلهية: الا أن القديس برنردوس يشهد لنا عن مرارة الحزن الذي تجرعته هذه البتول، حين تقدمتها أبنها لله في الهيكل الناموسي بقوله: أنها كانت تعيش مائتةً في كل دقيقةٍ، لأنه في كل دقيقةٍ كان يعتريها وجع موت أبنها يسوع الحبيب، الوجع الذي هو أشد قساوةً من أية ميتةٍ كانت.*

فبالصواب هذه الأم الإلهية، لأجل ما أكتسبته من الأستحقاق العظيم، بواسطة هذا القربان الكريم الذي قدمته لله من أجل خلاص العالم، قد دعيت من القديس أوغوسطينوس: مصلحة الجنس البشري. ومن القديس أبيفانيوس: فادية المأسورين: ومن القديس أيدالفنسوس: مقومة العالم الهالك. ومن القديس جرمانوس: أصلاح تهشمنا وشقائنا. ومن القديس أمبروسيوس: أم المؤمنين أجمعين. ومن القديس أوغوسطينوس نفسه: أم جميع الأحياء. ومن القديس أندراوس الأقريطشي:"أم الحيوة". على أنه، كما يقول أرنولدوس كارنوطانسه: أنه في موت يسوع قد أتحدت مريم أمه أرادتها مع أرادة أبنها هذا الإلهي، بنوع أنهما كليهما قدما ذبيحةً واحدةً هي نفسها. ولهذا كما الأبن كذلك الأم قد باشرا عمل الفداء وأستمدا الخلاص للبشر. فيسوع أكتسب لنا الخلاص بواسطة وفائه عن خطايانا. ومريم بواسطة أستمدادها لنا تخصيص هذا الوفاء ومن ثم كتب الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه يمكن أن تسمي هذه الأم أفلهية: مخلصة العالم: لأنها بواسطة الآلام التي هي تكبدتها بتوجعها من أجل أبنها (الذي هي أختيارها قدمته ذبيحةً للعدل الإلهي) قد أستحقت للبشر أن يشتركوا بعد ذلك بأثمار الفداء.*

فمن حيث أن البتول المجيدة اذاً لأجل أستحقاقات آلامها وتوجعها، وما تكبدته بتقدمة أبنها قرباناً لله أكتسبت صفة كونها أماً لجميع المفتدين. فأمرٌ عادلٌ هو الأعتقاد بأنه بواسطتها هي وحدها يعطى لهم حليب النعم الإلهية. التي هي أثمار أستحقاقات يسوع المسيح. ثم الوسائط المبلغة الى الحياة الأبدية. وهذا يوافق لما يقوله القديس برنردوس: أن الله قد وضع في يد مريم كل ثمن فدائنا: فبهذه الكلمات يعلمنا القديس المذكور أنه بواسطة تضرعات البتول الطوباوية. تتخصص الأنفس بأستحقاقات المخلص. في الوقت الذي فيه تتوزع عن يدي هذه الأم الإلهية النعم التي أنما هي قيمة أستحقاقات يسوع المسيح.*

لأنه أن كان الله بهذا المقدا أرتضى مسروراً بتقدمة أبينا أبراهيم. التي بها أطاع صوته تعالى ليقدم له أبنه أسحق ضحيةً. حتى أنه عز وجل ألزم ذاته بأن يكثر نسل أبراهيم كنجوم السماء. كما هو مكتوبٌ: بذاتي حلفت يقول الرب. لأجل أنك عملت هذا العمل وما شفقت من أجلي على أبنك الحبيب. بالحقيقة لأباركنك تبريكاً. ولأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء، وكالرمل الذي عند شاطئ البحر. ويرث نسلك مدن أعدائه، وتتبارك بنسلك كافة أمم الأرض عوض ما سمعت صوتي: (سفر التكوين ص22ع16 ألخ) فيلزمنا بكل تأكيدٍ أن نصدق. بأن القربان الأعظم والأكمل والأشرف. الذي قدمته لله هذه الأم العظيمة بتضحيتها أبنها يسوع. قد وجد لديه سبحانه أكثر قبولاً. وسر به أوفر سروراً من قربان أبراهيم. ولذلك قد اعطاها جلت عدالته. أن بواسطة تضرعاتها يتكاثر عدد المنتخبين. أي نسل أولادها السعيد الذي هي تحامي عنه متشفعةً بالمتعبدين لها.*

فالقديس سمعان الشيخ قد نال الوعد من الله بألا يذوق الموت ألم يعاين مسيح الرب. كما يقول عنه القديس لوقا الإنجيلي (ص2ع26): أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب: الا أن هذا البار لم يفز بهذه النعمة من دون واسطة مريم البتول. لأنه لم يجد مسيح الرب يسوع الا فيما بين ساعدي أمه هذه العذراء، ولهذا من يريد أن يجد يسوع. فلا يحصل عليه الا بواسطة مريم. فلنذهبن اذاً نحو هذه الأم الإلهية أن كنا نريد أن نجد يسوع. ولنبادرن إليها برجاءٍ وطيدٍ واملٍ أكيدٍ. فقد أوضحت العذراء المجيدة لعبدتها برودانتسيا نازاينوني، أن كل سنةٍ في هذا اليوم الثاني من شهر شباط المختص بعيد تطهيرها، يمنح الله نعمةً ذات رحمةٍ عظيمةٍ لواحدٍ من الخطأة، فمن يعلم أن هذا الخاطئ السعيد يكون واحداً منا نحن في هذا اليوم. فأن تكن خطايانا عظيمةً، فأعظم منها هو أقتدار مريم، لأن أبنها الإلهي لا يعرف أن ينكر شيئاً مما تطلبه منه هذه الأم العزيزة لديه، كما يقول القديس برنردوس. وأن كان يسوع هو غضبان علينا، فمريم حالاً تهدئ غضبه وتعطفه الى الرضوان نحونا. فيخبرنا المؤرخ بلوطاركوس بأن أنتيباطروس كتب الى الملك ألكسندروس الكبير رسالةً مستطيلةً ضد أوليمبيا أمه. فلما قرأ الرسالة ألكسندروس قال: أن أنتيباطروس لا يعلم أن دمعةً صغيرةً تقطر من عيني أمي تكفي لأن تمحي عدداً فائق الإحصاء من الرسالات المملؤة شكاواتٍ. فهكذا يمكننا أن نتصور في عقولنا أن يسوع يرد الجواب للشيطان عدونا عن جميع الشكايات التي يقدمها ضدنا، حينما تتوسل مريم الى هذا الأبن افلهي من أجلنا ويقول: أن لوسيفوروس لا يعلم أن تضرعاً واحداً مقدماً لي من أمي من أجل خاطٍ ما، يكفي لأن يجعلني أن أنسى جميع الأهانات التي هو أغاظني بها. وهذ يتضح من النموذج الآتي تحريره.*

* نموذج*

أن هذا النموذج لم يوجد مدوناً في كتابٍ ما عند أحد الكتبة الكنائسيين، بل أن أحد رفاقي الكهنة قد أخبرني به شفاهياً. لأن الأمر الآتي إيراده قد حدث مع هذا الكاهن نفسه، وهو أن خادم الله المومى إليه اذ كان يوماً ما جالساً في كرسي الأعتراف كالعادة في أحدى الكنائس (وهنا نصمت عن ذكر أسم البلد لأجل الأحترام الواجب للسر. ولئن كان المعترف أعطى الأذن لمعلم أعترافه المشار إليه بأن يشهر الحادث) فجاء أمامه شابٌ قد كان يظهر عنه بعض أشاراتٍ دالةٍ على مقاومةٍ في أفكاره، فيما بين الأرادة بأن يتقدم الى منبر الأعتراف وبين رفض قبول هذا القصد. فلما لاحظه الكاهن وهو في كرسي الأعتراف عدة مراتٍ يتقدم ويتأخر حاصلاً في تلك الحال. قد دعاه إليه أخيراً وسأله أن كان يريد أن يعترف، فأجابه الشاب أي نعم أنه كان يرغب الأعتراف. ولكن من حيث أن ذاك الأعتراف كان يلزمه خطابٌ مستطيل. فأخذه الكاهن الى قلايةٍ منفردة نوعاً، وهناك أبتدأ الشاب المعترف بأن يخبره عن ذاته بأنه هو رجل شريف غريب البلاد، ولكنه لم يكن يفهم كيف أن الله كان يمكنه أن يغفر له الخطايا التي أرتكبها هو في مدة حياته بسيرةٍ ممقوتة. لأنه ما عدا الخطايا الفائقة الإحصاء عدداً، التي فعلها بأنواعٍ كثيرة ضد الطهارة وضد العدل، من الفواحش والقتل تعمداً وغيرها من الكبائر. قد أعترف بأنه لحال يائسه قطع رجائه مطلقاً من الخلاص. أبتدأ يرتكب مآثم رديئة جداً تعمداً، ليس لأشفاء آلامه السيئة بل تقصداً منه بأهانة الله، وبالأفتراء عليه تعالى، وبغضةً محضةً في عزته الإلهية، وقال أيضاً انه كان حاملاً على ذاته صليب مجسم مطرحه في الأرض بأهانةٍ. وأعترف كذلك بأنه قبل أيامٍ وجيزة من ذاك اليوم الذي فيه تقدم الى الأعتراف. قد كان تناول القربان المقدس ليس بنفاقٍ فقط، وهو في تلك الحال الأثيمة، بل خصوصاً لهذه الغاية، وهي ليخرج من فمه سراً بعد التناول جسد الرب الأقدس ويضعه تحت رجليه ويدوس عليه. وأنه حقيقةً بعد أن تناوله أخرجه من فمه ليتمم قصده الذي ترتعش المفاصل من مجرد ذكره، ولكنه لم يتمم ذلك حياءً من الناس الذين كانوا ينظرون إليه. ولهذا حفظ القربان الأقدس ضمن ورقةٍ. وحينئذٍ أي حين أعترافه سلمها بيد الكاهن المومى إليه. ثم أورد بعد ذلك أنه حينما كان ماراً في ذاك الصباح من أمام تلك الكنيسة، قد شعر باطنياً بأرادةٍ فعالةٍ تجتذبه الى الدخول هناك، وأنه اذ لم يمكنه مقاومة هذا العزم الباطن الشديد قد دخل الكنيسة، وأنه وقتئذٍ قد أبتدأ ضميره أن يوبخه بقساوةٍ، وتواردت عليه الأفكار في أن يتقدم الى كرسي الأعتراف ليقر بخطاياه، ولكن هذه الأفكار كانت تقاوم من أرادته فيما بين النعم واللا، من دون أن يعتمد على شيء. وأنه لأجل ذلك بعد أن كان دنا من منبر الأعتراف، قد كان قلقه شديداً ورجاؤه ضعيفاً بالكلية في نوال الغفران، حتى أنه أراد أن يخرج من الكنيسة. ولكنه كان يشعر باطناً بشيء يغتصبه على المكث هناك. ثم أردف كلامه قائلاً للكاهن: أني قد أستمريت على هذه الحال الى أن دعوتني أنت أيها الأب، وهكذا أنا الآن أرى ذاتي جاثياً أمامك معترفاً بخطاياي، ولكنني لا اعرف كيف تم بي ذلك. فبعد هذا جميعه قد سأله معلم الأعتراف أن كان في تلك الأيام مارس هو عبادةً ما. وماذا كانت تلك الأشياء التي مارسها. مشيراً بذلك الى عبادةٍ نحو مريم البتول، لمعرفته أن نعماً هذه صفتها فعالةً لا تخرج أعتيادياً الا من يد هذه السيدة المقتدرة أمام الله بشفاعاتها لأستمداد نعمٍ كذا. فأجابه المعترف قائلاً: كلا، لأنه ترى أية عبادة أيها الأب يمارس أنسانٌ مثلي قد كان قطع رجاه من الخلاص بالكلية، فأنا حصلت ميؤوساً على الأطلاق، وكنت أعتد ذاتي هالكاً لا محالة: فقال له الكاهن: أفتكر جيداً لتعرف الحقيقة: فأجابه كالأول نافياً لعلمه بأنه لم يكن يمارس عبادةً ما، ولكنه في هذه الحركة اذ كان مريداً أن يكشف صدره للكاهن، واذا بثوب السيدة المحزونة معلقاً على بعض أثوابه التحتانية كأنه منذ أزمنةٍ. فحينئذٍ قال له الكاهن: هوذا يا أبني التي فعلت معك هذه النعمة، وأعلم يا ولدي أن هذه الكنيسة خاصة سيدتنا والدة الإله. فالشاب عندما سمع ذلك قد تخشع وبدأ يبكي، وقد أتبع إيراد خطاياه بندامةٍ وتوجع مع بكاءٍ بشهيقٍ، حتى أنه من شدة الأسف والندامة الباطنة المرافقة بأنسكاب العبرات، قد سقط في الأرض غاشياً غائباً عن الحواس. فمعلم الأعتراف أحضر إليه بعض روائح معطرة التي بأستنشاقه إياها قد رجع الى ذاته، وهكذا أمكنه أن يتمم أعترافه. والكاهن بعد وضعه عليه القوانين قد حله من خطاياه بتعزيةٍ عظيمةٍ للجهتين. لا سيما للمعترف الممتلئ من الخشوع والندامة والقصد الأكيد على أصلاح سيرته، وبعد ذلك قد أصرفه الكاهن ليسافر راجعاً الى وطنه، وبعد أن اعطاه المعترف أذناً صريحاً بأن يخبر بهذا الحادث لكل من يريده. ويشهره في المواعظ وغيرها. لتعرف عند الجميع المراحم العظيمة التي أستعملتها معه هذه السيدة أم الرحمة.*  

†صلاة †

يا والدة الإله القديسة مريم أمي. أنكِ بهذا المقدار اذاً أنتِ أهتممتِ في أمر خلاصي الأبدي، حتى أنكِ أتصلتِ الى أن تضحي ذبيحةً حيةً الموضوع الذي لا يوجد أعز منه على قلبكِ وتقدميه للموت وهو أبنكِ الحبيب يسوع. فاذاً من حيث أنكِ تريدين أرادةً هكذا فعالةً أن تشاهديني مخلصاً، فبالصواب أنا أضع فيكِ بعد الله رجائي كله، اي نعم أنني أثق بكِ أيتها البتول المباركة بأملٍ وطيدٍ، متوسلاً إليكٍ بأستحقاقات هذا القربان العظيم الذي أنتِ قدمتيه في مثل هذا اليوم، وهو حياة أبنكِ، بأن تطلبي إليه أن يرحمني ويشفق على نفسي، التي من أجلها لم يأنف هذا الحمل البريء من العيب من أن يموت على الصليب.*

فأنا أشتهي يا سلطانتي أقتداءً بنموذجكِ أن أقرب لله في هذا اليوم قلبي المسكين، ولكني أخاف من أنه تعالى يرذله عند مشاهدته إياه هكذا دنساً متمرغاً في حماة الأباطيل. غير أنه اذا أنتِ قدمتيه له تعالى فلا يرفضه. لأن التقدمات التي تتقرب إليه عز وجل عن يديكِ الكلية طهارتهما. فهو يقبلها كلها مرتضياً بها، فمن ثم أتقدم إليكِ في هذا النهار يا مريم أنا الشقي، وأهبكِ ذاتي بجملتها، فأنتِ قدميني كشيء مختص بكِ لدى الآب الأزلي جملةً مع أبنكِ يسوع، وتوسلي إليه بأستحقاقات أبنه الإلهي وحباً بكِ، بأن يقبلني خاصته. فلا تهمليني يا أمي الكلية الحلاوة، بحق المحبة التي بها تحبين أبنكٍ الذي ضحيتيه قرباناً من أجلي. لكن عينيني دائماً. ولا تسمحي بأني يوماً ما أفقد بخطاياي هذا الأبن الإلهي، الذي أنتِ بأوجاعٍ هكذا مرةٍ قدمتيه ضحيةً على خشبة الصليب من أجل خلاصي. بل قولي أني عبدكِ أنا وأني قد ألقيت عليكِ كل رجائي. وبالأجمال قولي له أنكِ تريدين خلاصي، لأنه تعالى بكل تأكيدٍ يقبل ذلك آمين.*

  Click to view full size image 

الفصل السابع

* فيما يلاحظ عيد نياح سيدتنا والدة الإله. وفيه يبرهن عن *

كم كان موتها كريماً، أولاً: لأجل الأشياء التي رافقته.

ثانياً: لأجل النوع الذي به حدث.

وفيه جزءان

الجزء الأول

* في كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء الجليلة التي رافقته*

أن الكنيسة المقدسة في هذه الأيام تقدم لنا موضوعين لنكرمهما ونتأملهما ونحتفل بتذكارهما عبادةً لوالدة الإله، فالأول: هو تذكار أنتقال هذه السيدة من الحيوة الحاضرة الى الحيوة الأبدية. والثاني: هو تذكار أرتقائها الى السماء بالنفس والجسد. فنحن نتكلم في هذا الفصل عن الموضوع الأول وفي الفصل التابع عن الموضوع الثاني مبرهنين في الجزء الأول الحاضر عن كم هو كريمٌ موت هذه السيدة لأجل الأشياء التي رافقته.*

فأمرٌ واضح هو أن الموت أنما هو عقاب الخطيئة، ولهذا يبان أن والدة الإله لم تكن خاضعةً لشريعة هذا العقاب، ولا كان يلزمها أن تتكبد شيئاً من تعاسة أولاد آدم عينها. من حيث أنها وجدت دائماً بريئةً من كل شائبة دنسٍ أو خطيئةٍ مطلقاً، وعلى الدوام كانت قديسةً بكليتها. ولكن لأجل أن الله أراد أن تكون هذه الأم الإلهية شبيهةً بأبنها يسوع في كل الأحوال. فأذ كان هذا الأبن قد مات حقيقةً فكان يجب أنها هي أيضاً تموت حقيقةً، مريداً بذلك تعالى أن يعطي الأبرار نموذجاً مختصاً بالميتة الكريمة لديه المعدة لهم. ولهذا رسم بأن تموت هذه الطوباوية ولكن ميتةً حلوةً بكليتها. سعيدةً بجميع ظروفها. مرافقةً من حوادث جليلة جداً.*

فأعتيادياً أن الموضوعات التي تصير الموت مراً هي ثلاثةٌ، أي تعلق القلب في الأشياء الأرضية، وتوبيخ الضمير من أجل الخطايا المفعولة. وعدم معرفة حقيقة الحكومة العتيدة أن تبرز على النفس بعد أنفصالها من الجسد أن كان بالخلاص أو بالهلاك. فميتة القديسة والدة الإله قد كانت منفصلةً بالكلية عن هذه الموضوعات بجملتها. ومرافقةً من ثلاثة أشياء جليلة تجعلها كريمةً جداً، عذبةً في الغاية، سعيدةً بكل ظروفها. فهي ماتت غير متعلقة القلب بشيء من الأشياء الأرضية مطلقاً. كما عاشت جميع أيام حياتها، ورقدت بسلام ضميرٍ مملؤٍ هدواً لنجاتها من أدنى خيال خطيئةٍ، وتنيحت بمعرفةٍ أكيدةٍ بأنها كانت منتقلةً الى السماء لتملك مع أبنها سرمداً.*

فأولاً: أنه لا ريب ولا أشكال في أن تعلق القلب بخيرات الأرض يصير الموت مراً بزيادةٍ. كما يقول الروح القدس: ما أشد مرارة ذكرك أيها الموت على الرجل المستريح في أمواله: (أبن سيراخ ص41ع1) ولكن من حيث أن القديسين يموتون غير متعلقي القلب بشيءٍ من الموجودات الأرضية. فالموت لديهم ليس هو مراً. بل عذبٌ محبوبٌ كريمٌ. وحسبما يفسر القديس برنردوس لفظة موتٍ كريمٍ، أي أنه يستحق أن يشترى بأثمن ما يوجد من الأشياء الكريمة. فقد كتب في سفر الأبوكاليبسي: طوبى للموتى الذين يموتون بالرب" (ص14ع13) فمن هم هؤلاء الذين يموتون، مع أنهم يسمون موتى. أي ماتوا قبلاً، فبالحصر هن الأنفس السعيدة اللواتي ينتقلن من هذه الحياة الى الأبدية، بعد أن يكن متن قبلاً عن جميع الأشياء الأرضية. اذ أنهن قد وجدن في الله وحده كل خيرٍ لهن. نظير ما كان وجد القديس فرنسيس أسيزي الذي كان يقول: أن إلهي هو كل شيءٍ لي: ولكن ترى أية نفسٍ أمكن أن توجد بعيدةً عن حب الأشياء الأرضية بأبلغ نوع. ومتحدةً بالله أشد اتحاداً من نفس مريم العذراء الكلي جمالها. فهي كانت منفصلةً بكليتها عن التعلق بالأقرباء، بعد أنها منذ السنة الثالثة من عمرها، السن الذي به توجد الأطفال أشد تعلقاً بأقربائهم، وبأوفر أحتياج للمساعدة منهم. قد تركت هي والديها وأنسباءها، ودخلت الى هيكل الرب بكل هدوٍ وسرورٍ، بعيدةً عن كل واحد بالأنفراد. لتهتم بالتردد المتصل مع الله وحده. منفصلة القلب عن محبة الملابس. مكتفيةً بأن تعيش فقيرةً على الدوام، بعيدةً عن حب الكرامات، مختارةً عيشة التواضع والأحتقار، ولئن كان يحق لها أن تسمى سلطانةً، لأجل تسلسلها من نسل ملوك يهوذا. وقد أوحت هذه الأم الإلهية عينها للراهبة التي من قانون القديس بناديكتوس الطوباوية أليصابات، بأنها حينما دخلت هيكل الرب. قد عزمت على أن لا تعرف لها أباً آخر، ولا أن تحب خيراً آخر سوى الله وحده.*

ثم أن القديس يوحنا الرسول قد شاهد رسم البتول المجيدة في تلك الأمرأة التي رآها ملتحفةً بالشمس دائسةً على القمر، حسبما كتب لنا بقوله: وظهرت آيةٌ عظيمة في السماء أمرأةٌ ملتحفةٌ بالشمس، والقمر تحت رجليها، وعلى رأسها أكليلٌ من أثني عشر كوكباً: (أبوكاليبسي ص12ع1) فالمفسرون يفهمون موضحين بالقمر خيرات هذه الأرض. التي هي عابرةٌ زائلةٌ ناقصةٌ نظير القمر. فهذه الخيرات الأرضية كافةً لم تحوها مريم قط في قلبها. بل دائماً أحتقرتها تحت رجليها عائشةً في الأرض نظير اليمامة المحبة التوحد والأنفراد، من دون أن يوجد فيها تعلقٌ ما نحو شيء من الموجودات الزمنية. كما قيل عنها: أن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12): من هي هذه الصاعدة من القفر: (نشيد ص3ع6) حسبما يفسر روبارتوس بقوله نحو العذراء، كذلك أنتِ صعدتِ من القفر حيث أنكِ حاصلة على النفس المحبة الأنفراد: فاذاً من حيث أن هذه البتول المجيدة قد عاشت على الأرض منفصلة القلب بالكلية من محبة الأشياء الأرضية، ومتحدةً بجملتها في الله وحده. فلم يوجد الموت لديها مراً، بل عذباً جداً محبوباً عزيزاً مرغوباً منها. لأنه كان ينقلها من الأرض الى السماء حيث يمكنها بأفضل نوعٍ وبأشد أرتباطٍ أن تتحد مع الله الى الأبد.*

ثانياً:  أن ما يجعل موت الأبرار كريماً هو سلام الضمير وهدؤه. فالآثام المصنوعة في مدة الحيوة أنما هي ذلك الدود الذي يقرض قلوب الخطأة المساكين، ويحزن أفيدتهم حين موتهم، لدنوهم من الساعة التي فيها يلزمهم أن يحضروا في ديوان الله. فهؤلاء يوجدون محاطين في تلك الساعة من مجموع خطاياهم، التي تصرخ حولهم مخيفة إياهم، كقول القديس برنردوس: أننا نحن أعمالك فلا نفارقك: فوالدة الإله بالحقيقة لم تكن حين موتها متعوبةً من قبل ضميرها بشيء يوبخها. لأنها وجدت دائماً قديسةً بارةً خاليةً من العيب، معتوقةً من خيال أثمٍ، ومن كل شائبة خطيئةٍ، لا أصليةٍ ولا فعلية، وعنها قيل: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: (نشيد ص4ع7) لأنها مذ حصلت على المعرفة والتمييز، أي منذ الدقيقة الأولى من الحبل بها البريء من الدنس في أحشاء والدتها القديسة حنه، الى حين نياحها، قد أحبت الله متزايدةً يوماً فيوماً في أضطرام قلبها بمحبته تعالى، وفي الفضائل والكمال مدة حياتها كلها. ولم تكن أشواقها ومرغوباتها وعواطفها شيئاً آخر سوى الأتجاه نحو الله والأتحاد به، والأرتياح إليه والى مجده، من دون أن تفه بكلمةٍ، أو تصنع عملاً، أم تتحرك حركةً، أو تنظر نظرةً، أم تستنشق نفساً، لا يكون راجعاً لله ولمجده، ومن غير أن تنفصل خطوةً ما عن محبته عز وجل، فيا له من أنتقالٍ سعيدٍ طوباوي، لأن فضائل هذه القديسة التي بموجبها مارست هي أفعالها في مدة حياتها. قد أحاطت حينئذٍ فراشها الطاهر أي فضيلة إيمانها الثابت الراسخ، ورجاها بالله الوطيد الأمين، وصبرها الجميل الفريد فيما بين أوجاع الحزن وآلامه القاسية. وأتضاعها العميق فيما بين أختصاصاتٍ ومواهب كلية السمو. وأحتشامها العظيم. ثم وداعتها وأنسها وداعتها ورأفتها وحنوها وأشفاقها على الأنفس، وغيرتها على المجد الإلهي. وفوق الجميع حبها الكامل نحو الله. وتسليمها ذاتها التام للمشيئة الربانية. وبالإجمال كل ما قعلته من القداسة والصلاح والبر. فهذا جميعه كان محيطاً بها. وكأنه يقول نحوها بلسان حاله: أننا نحن أعمالكِ فلا نفارقكِ: أي أننا نحن الفضائل التي أنتِ يا سيدتنا مارستينا، فأنما نحن هن بنات قلبكِ الجميل. فأنتِ الآن تتركين هذه الأرض الحقيرة. أما نحن فلا نريد أن نترككِ، بل أننا نذهب معكِ الى السماء لكي نكون حولكِ كخدام المجد والشرف في الفردوس. أنتِ التي تجلسين هناك سلطانةً بواسطتنا فوق جميع الملائكة والبشر أجمعين.*

ثالثاً: أن الشيء الذي يجعل الموت حلواً محبوباً هو تأكيد أمر خلاص النفس الأبدي. فالموت يسمى عبوراً، أجتيازاً، أنتقالاً، وذلك لأننا بواسطته نعبر مجتازين ونمر منتقلين من حياةٍ وجيزةٍ الى حيوةٍ أبديةٍ. فاذاً كما أنه عظيمٌ هو خوف أولئك الذين يدنون من الموت حاصلين على الأرتياب في أمر خلاصهم، ويدخلون في أبواب المنون ليس من دون خوفٍ صوابي من أنهم يعبرون به الى موتٍ أبدي، فهكذا بضد ذلك عظيمٌ هو فرح القديسين الذين ينهون حياتهم حاصلين على رجاءٍ ليس بضعيفٍ في أنهم أنما ينتقلون من هذه الأرض لكي يمتلكوا الله الى الأبد. فأحدى الراهبات ذوات قانون القديسة تريزيا، حينما أخبرها الطبيب في حال مرضها الأخير بأن أرتحالها من الدنيا قد دنا. فعند سماعها منه هذه الخبرية قد أستوعبت فرحاً وتهليلاً فائق وصفهما، وهتفت نحو الطبيب قائلةً: أيها السيد أنك قد أتيتني بهذه البشارة العظيمة، ولا تطلب مني هديةً لائقةً من أجلها: والقديس لورانسوس سوستينياني اذ أقترب من ساعة الموت، وسمع خدامه يبكون حول فراشه قال لهم: أن كنتم تريدون أن تبكوا، فأمضوا الى أمكنةٍ أخرى، وأما أن كنتم تريدون أن تلبثوا عندي ههنا، فيلزمكم أن تسروا فرحين معي، كما أني أبتهج عند نظري أفتتاح أبواب الفردوس لكي أذهب وأتحد بإلهي. وهكذا القديسان بطرس دالكانترا ولويس غونزاغا وكثيرون غيرهما. قد أظهروا علامات البهجة والتهليل عند سماعهم من الأطباء خبرية دنوهم من الموت، هذا مع أن هؤلاء كلهم لم يكونوا فائزين بعلمٍ سماوي أكيدٍ عن أنهم كانوا في حال النعمة الإلهية حقاً. ولم يكونوا متأكيدين حقيقة قداستهم بالنوع الذي به كانت المجيدة مريم البتول متأكدةً ذلك. فاذاً ترى أي أبتهاجٍ وحبورٍ ومسرةٍ وتهليلٍ شعرت به هذه السيدة حين دنوها من الموت، في الوقت الذي هي فيه كانت كلية التأكيد بأنها حاصلةٌ في حال نعمة الله. لا سيما بعد أن كان أكد لها ذلك زعيم الملائكة جبرائيل أنها ممتلئةً نعمةً. وأنها ممتلكة الله بقوله لها: السلام لكِ يا مريم يا ممتلئةً نعمةً أفرحي الرب معكِ... وقد وجدتِ نعمةً وظفرتِ بها أمام الله: (لوقا ص1ع28) بل أنها هي عينها كانت تعلم كم هو أشتعال قلبها بنار الحب الإلهي بنوع أنها (كما يقول برنردينوس البوسطي) قد حازت من الله موهبة حبٍ خاص  لم يعط لأحدٍ من القديسين الآخرين، به قد كانت تحبه تعالى حباً فعالاً في كل دقيقةٍ من حياتها بأضطرامٍ شديدٍ هذا حده حتى أنه على رأي القديس برنردوس قد كان ضرورياً لها فعل أعجوبةٍ متصلة. ليمكنها أن تعيش على الأرض ولا تموت من شدة ألتهاب قلبها بهذا الحب الفائق الأدراك.*

فعن هذه السيدة العظيمة قد كتب: من هي هذه الصاعدة من العطار: (نشيد ص3ع6) ففضيلة أماتتها الكلية التي قد شبهت بالمر. وصلواتها الحارة التي مثلت بالبخور، وسائر فضائلها الأخرى المقدسة وحبها الكامل لله، قد كانت بمنزلة نارٍ تحرق فؤادها، وتبعث عنها عاموداً من دخان البخور صاعداً نحو السماء معبقاً من كل ناحيةٍ يبعث نشر طيبها الزكي على الدوام. كما كتب عنها روبارتوس بقوله نحوها: أنكِ أيتها الطوباوية مريم أنتِ نظير عامود الدخان المذكور ترسلين نحو الإله العلي رائحةً كلية الزكاوة: وكذلك قال أوسطاكيوس بعباراتٍ أبلغ هاتفاً: أن العذراء المجيدة هي غصن بخورٍ، محترقة داخلاً كمحرقةٍ ملتهبةٍ بنار الحب الإلهي، حيث ينبعث عنها الى خارجٍ طيب رائحةٍ زكية العرف بما لا يوصف. فحسبما عاشت هذه السيدة المغرمة بحب إلهها، كذلك ماتت. وكما أن الحب الإلهي هو الذي حفظها في الحيوة، فهو عينه الذي أماتها. لأن موت هذه الأم الإلهية. كما يقول القديسون والعلماء كافةً، لم يكن مسبباً من قبل مرضٍ طبيعي، بل أنما صدر من قبل حبها الشديد لله. وفيما بين هؤلاء قال القديس أيدالفونسوس أن الطوباوية مريم البتول، أما أنه لم يكن لازماً لها أن تموت بل أن تستمر على الدوام حيةً، وأما أنه كان يلزمها أن تموت من مجرد شدة حبها لله: (فاذاً سهم الحب أماتها).*  

 

الجزء الثاني

* في النوع الذي به تمت وفاة البتول المجيدة*

أنه بعد صعود مخلصنا يسوع المسيح الى السماء قد بقيت والدته العذراء الكلية قداستها في الأرض، لكي تهتم هي أيضاً في أنتشار الإيمان المسيحي المقدس، فمن ثم تلاميذ المخلص كانوا يلتجئون إليها مراتٍ كثيرة، ومنها كانوا يرتشدون في حل مشاكل ليست بقليلةٍ. كما أنها كانت تشجعهم في حين هيجان الأضطهادات، وتحرضهم على الغيرة والتعب من أجل مجد الله وخلاص الأنفس المفتداة، فقد كانت ماكثةً على الأرض بكل أختيارٍ ورضى لعلمها أن هذه كانت أرادة الله، لأجل خير كنيسته المقدسة، ولكن لم يمكنها أن لا تشعر بألم أبتعادها عن أن تشاهد أبنها الحبيب موضوع تعزيتها القصوى الكائن في السماء، لأنه حسب قول مخلصنا نفسه: أن حيث يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) على أن الإنسان حيثما يعتبر كنزه موجوداً وسعادته كائنةً، فهناك تتجه عواطف حبه وأشواق قلبه. فأن كانت اذاً مريم لم تحو في قلبها حب خيرٍ آخر خارجاً عن يسوع. وهذا الموضوع الشهي كان وقتئذٍ صعد الى السماء، فنحو السماء كانت عواطف قلبها كلها متجهة. فقد كتب عنها طاولاروس قائلاً:" مسكن مريم كان السماء عينها، لأنها بواسطة عواطفها نحو السماء كانت تجعل على الدوام سكناها هناك. ومدرسة مريم كانت الأبدية، لأنها دائماً قد وجدت غير متعلقةٍ بخيرات الأرض. ومعلم مريم قد كان الحق الإلهي، لأنها قد تصرفت على الدوام حسب النور الإلهي نفسه، ومرآة مريم كانت الألوهية، لأنها لم تكن تنظر بها الى شيء آخر الا الى الله، لكي توافق ذاتها في كل شيء مع أرادته المقدسة. وزينة مريم كانت العبادة، لأنها على ممر الأوقات كانت هي مستعدةً لأتباع الرضوان الإلهي. ومفاوضاتها كانت مع الله، لأن سلامها كان في أتحادها معه تعالى. واخيراً أن كنزها وخزنة قلبها الثمينة لم توجد في شيء خارجاً عن الله". ثم أن هذه البتول المجيدة كانت تمضي متواتراً في مدة حياتها على الأرض. بعد صعود أبنها لزيارة أماكن بلاد فلسطين. (كما هو مدون عنها من كثيرين من الكتبة الكنائسيين) حيث كان مخلصنا مارس كرازته بالأنجيل، وكانت تصنع هذه الزيارة تارةً في مذود بيت لحم حيث ولدته بالجسد، وتارةً في دكان النجارة في مدينة الناصرة حيث كان أستمر أبنها مدة سنواتٍ عائشاً فقيراً حقيراً، وحيناً في بستان الجستمانية في أورشليم حيث هو عرق دماً في بداية آلامه. ووقتاً في دار بيلاطس حيث كان جلد وكلل بالشوك، ومراتٍ كثيرةً كانت تمضي الى جبل الجلجلة حيث مات هو على خشبة الصليب. وأخيراً الى قبر مخلصنا الذي كانت هي وضعت فيه جسده بعد موته، وبهذا جميعه كانت تخفف عنها نوع عذاب أبتعادها عنه تعالى بالجسم في مدة مكثها على الأرض كمنفيةٍ. الا أن ذلك لم يكن كافياً لأن يجعل قلبها متعزياً. لأنه لمن المستحيل أن شيئاً على الأرض كان يغنيها عن أشواقها نحو السماء حيث هو كنزها. ومن ثم كانت على الدوام تتنهد. وكأنها تهتف مع النبي والملك داود، لكن بعواطف حبٍ أكثر ألتهاباً من عواطفه قائلةً: من يعطيني جناحين كالحمامة فأطير وأستريح: (مزمور55ع7) أي من يعطيني ريش أجنحة الحمام لكي أطير نحو إلهي. وهناك أجد راحتي: ثم كما يشتاق الأيل الى ينابيع المياه كذلك تثوق نفسي إليك يا الله: (مزمور42ع1) أي كما ان الأيل المجروح يثوق الى ينبوع الماء، هكذا نفسي المجروحة بسهام حبك يا إلهي تشتاق إليك وتشتهيك. فتنهدات هذه اليمامة القديسة لم يكن ممكناً لها الا تنفذ الى قلب ابنها وإلهها الذي كان يحبها حباً هكذا عظيماً: لأن صوت اليمامة قد سمع في أرضنا: (نشيد ص2ع12) ولذلك لم يشاء عز وجل أن يؤخر زمناً أطول تعزية هذه الأم الإلهية المحبوبة، بل قبل مرغوبها ودعاها الى ملكه السماوي*

فالكتبة الكنائسيون كادرانوس ونيكيفوروس وسمعان ميتافراسته أخبروا بأن الرب أرسل قبل أيامٍ وجيزةٍ من وفاة هذه السيدة، رئيس ملائكته جبرائيل عينه الذي كان بشرها، بأنها هي تلك الأمرأة المباركة في النساء التي أختارها الإله أماً له، واذ أمتثل أمامها قال لها:" يا سيدتي وملكتي أن الله قد أقتبل مرغوباتكِ وأشواقكِ، وقد أرسلني لأقول لكِ ان تتأهبي لتتركي الأرض، لأنه تعالى يريد أن تكوني معه في السماء، فهلمي اذاً لتأخذي التملك على مملكتكِ، في الوقت الذي فيه أنا وسائر القديسين سكان الملكوت ننتظر حضوركِ متشوقين لمشاهدتكِ". فترى ماذا صنعت هذه البتول المملؤة تواضعاً عند سماعها بشارةً هكذا سعيدةً، سوى أن تغوص بأبلغ نوعٍ في أعماق تواضعها، وأن تكرر للملاك الجواب عينه الذي كانت أعطته إياه حينما بشرها قبلاً بالحبل الإلهي قائلةً له من جديد: ها أنا أمةٌ للرب فليكن لي كقولك، على أن الرب بمجرد صلاحه وجوده، قد أختارني أماً له. والآن يدعوني الى السماء أنا التي لم أكن مستحقةً، لا ذاك المقام العظيم، ولا هذا الشرف الوسيم. ولكن من حيث أنه عز وجل يريد أن يظهر فيَّ ونحوي سخأه الغير المتناهي. فها أنا أمةٌ له، فلتكن مكتملةً بي دائماً مفاعيل أرادة إلهي وسيدي.*

فبعد أن أقتبلت البتول المجيدة هذا التنبيه قد أخبرت به القديس يوحنا الأنجيلي، الذي بسهولةٍ يمكننا أن نتصور بعقولنا كم كانت هذه الخبرية لديه مرةً. اذ أنه كان في مدةٍ ليست بوجيزةٍ من السنين قد تمتع بصفة أبنٍ خاص لهذه الأم الكلية القداسة، فائزاً بمخاطباتها وبعيشته معها، ثم أنها قد زارت من جديد الأماكن المقدسة لا سيما جبل الجلجلة حيث كان أبنها أسلم روحه على خشبة الصليب، وأنفردت في بيتها الحقير متأهبةً للموت. وفي بحر تلك الأيام كانت الملائكة يترددون إليها مسلمين عليها ومعزينها بسرورٍ لا يوصف، عند معرفتهم أنه بعد قليلٍ من الزمان قد كانوا مزمعين أن يشاهدوا ملكتهم هذه مكللةً في السماء. فكثيرون من الكتبة الكنائسين (نظير القديس أندراوس الأقريطشي في خطبته على نياحها. والقديس يوحنا الدمشقي في ميمره على رقودها، وأفتيميوس) أخبروا بأن الرسل القديسين كافةً، وجانباً من تلاميذ الرب بأعجوبةٍ إلهيةٍ قد ألتئموا من أقطار الأرض قبل نياح هذه السيدة الى أورشليم. ووجدوا داخل بيتها، وانها عندما شاهدت أولادها هؤلاء الأعزاء مجتمعين حولها قد خاطبتهم هكذا قائلةً:: أن أبني قد تركني ههنا عندكم لأجل مساعدتكم يا أعزائي وحباً بكم، أما الآن فالإيمان المقدس قد أنتشر في العالم، وأثمار الزرع الإلهي قد نمت متكاثرةً، ولهذا اذ رأى سيدي أن حضوري في الأرض لم يعد ضرورياً، فشفق عليَّ لمرارة أبتعادي عنه. وأستجاب لكثرة عواطفي وأشواقي نحو الخروج من هذه الحيوة، لكي أمضي الى السماء وأتمتع بالنظر إليه، فواظبوا اذاً أنتم على التعب من أجل مجده تعالى. فأنا أن فارقتكم بالجسد فلا أفارقكم بالروح، لأن حبي إياكم العظيم هو في قلبي ودائماً سيكون معي. وهوذا أنا منطلقةٌ الى الفردوس السماوي لكي أصلي من أجلكم". فمن يمكنه أن يصف مقدار الحزن المرافق من هطل الدموع والندب الذي حصل عند هؤلاء الرسل القديسين وتلاميذ الرب. حينما فهموا أنه بعد زمنٍ وجيزٍ كان يلزمهم أن يفارقوا أمهم هذه الرحيمة. فمن ثم بسكب العبرات قالوا لها هكذا: فاذاً تريدين أيتها البتول أن تتركينا. فأي نعم أن هذه الأرض ليست هي مكاناً لائقاً بكِ، ولا نحن مستحقون أن نتمتع برفقة والدة الإله التي هي أنتِ، ولكن أفتكري في أنكِ امنا أنتِ. وقد كنت لحد الأن معلمتنا ومرشدتنا في حل المشاكل والأبهامات، ومعينتنا ومشجعتنا فيما بين الأضطهادات، فكيف الآن تهملينا وحدنا من دون مساعدتكِ لنا المنيعة نحن المحاطين من أعداءٍ أقوياء وكثيرين، والمحاربين من جهاتٍ مختلفةٍ. فقد كنا قبلاً فقدنا من على الأرض معلمنا وأبانا يسوع الذي صعد الى السماء وبقيتِ تعزيتنا الوحيدة قائمةً مدة هذا الزمان في شخصكِ يا أمنا العزيزة. فكيف أنتِ أيضاً تريدين الآن أن تتركينا يتامى، من دون أبٍ ومن غير أمٍ، فيا سيدتنا نتوسل إليكِ أما بأن تمكثي فيما بيننا. وأما بأن تأخذينا معكِ: (هذا ما كتبه القديس يوحنا الدمشقي في ميمره على نياحها) فهنا البتول المجيدة قالت لهم بعذوبةٍ: كلا. يا أولادي الأحباء أن هذه ليست هي أرادة الله. فأرتضوا اذاً بما رسمه عز وجل عليَّ وعليكم. لأنه يخصكم أن تستمروا أيضاً في الأرض لتجاهدوا من أجل مجد المخلص. ولكي تتمموا أكتساب تيجان نصرتكم الأبدية، فأنا لا أفارقكم مهملةً إياكم بل لكي أساعدكم وأسعفكم وأعينكم بأفضل نوعٍ بواسطة تضرعاتي من أجلكم أمام الله في السماء فأمكثوا هادين راضين، وأنا أوصيكم بالكنيسة المقدسة، وأستودعكم الأنفس المفتداة، وهذه لتكن لكم وصيتي الأخيرة الوادعية، فأحفظوها أن كنتم تحبوني، أي أتبعوا من أجل خلاص الأنفس، ومن أجل مجد أبني، لأننا يوماً ما عتيدون أن نجتمع كلنا من جديد في السماء، وحينئذٍ لا يعود يحدث فيما بيننا فراقٌ ما أصلاً.*

ثم بعد ذلك قد توسلت إليهم بأن يدفنوا جسدها بعد موتها. وهكذا باركتهم ورسمت على القديس يوحنا الأنجيلي، كما يورد القديس يوحنا الدمشقي، بأن يعطي عقيب نياحها ثوبيها اللذين كانت تلبسهما، الى أبنتين بتوليتين كانتا خدمتاها مدةً من الزمان، (كما هو مدون من المؤرخ نيكيفوروس وغيره) وبعد هذا الخطاب قد أتكأت بكل أحتشامٍ على سريرها الحقير، منتظرةً بأشواقٍ دنو الموت منها. ومعاً ملاقاةٌ ختنها الإلهي المزمع بعد هنيئةٍ أن يأتي ليأخذها صحبته الى الملك الطوباوي. وهوذا أنها قد أمتلأت باطناً تعزيةً فائقة الوصف وغير مألوفةٍ من الفرح والتهليل، وحينئذٍ اذ رأتها الرسل ناهزت مفارقتهم، فجميعاً جثوا على الأرض حول فراشها نادبين فقدها ساكبين الدموع، ومنهم من كان يقبل قدميها الطاهرتين، ومنهم من كان يلتمس بركتها الخصوصية، ومنهم من كان يتوسل إليها في أمر أحتياج خصوصي، شاعرين كلهم بسهام الحزن الذي صمى أفيدتهم. لفراقهم هذه الأم الإلهية من دون أمل أن يشاهدوها فيما بعد في الأرض مدة حياتهم. وأما هي فكانت موعبةً أشفاقاً عليهم، معزيةً إياهم بعذوبة ألفاظها، موعدةً بمساعدتهم، مباركةً هذا ومشجعةً ذاك، وموصيةً الآخرين، ومحرضةً الجميع على الأجتهاد في أكتساب الأنفس الى الإيمان. واخيراً أستدعت القديس بطرس بحسب كونه هامة الرسل ورأس الكنيسة ونائب أبنها على الأرض، وأوصته بنوعٍ خاص في أنتشار الإيمان، موعدةً إياه بحمايتها الخصوصية في السماء. وكذلك خاطبت القديس يوحنا الأنجيلي الذي بأشد مرارةٍ من الجميع كان مجروحاً على فقدها، متذكرةً هذه السيدة مقدار الحب الذي به خدمها هذا التلميذ الحبيب. في كل السنين التي عاشت بها على الأرض بعد موت أبنها، قائلةً له بمحبةٍ والديةٍ: أنني أشكرك يا يوحنا خاصتي على كل ما صنعته معي. فكن مطمأناً يا أبني بأني لا أكون ناكرة الجميل نحوك، فأن كنت الآن أفارقك فأنا ماضيةً لأن أصلي من أجلك، فأمكث بسلامٍ هادئاً في هذه الحياة، الى حينما يشاهد بعضنا بعضاً جديداً في السماء حيث أنتظرك فلا يبرح في فكرك أن تستغيث بي في جميع أحتياجاتك، وأنا أعينك ولا أنساك أصلاً يا ولدي الحبيب. الذي الآن أنا أباركك. فعش بسلامٍ وها أنا أستودعك لله.*

قالت هذا وقد كان أقترب مجيء الدقيقة التي بها أزمعت هي أن تفارق الحيوة الزمنية، لأن الحب الإلهي بواسطة شهائب حرارته المغبوطة قد جذب عن هذه الأم المثلثة القداسة خارجاً الأرواح الحيونانية. ونظير طير العقاب السماوي كانت هي تفنى بنار المحبة، وقد أقبلت طغمات الملائكة من السماء الى ذلك المسكن السعيد، كأنهم صفوف عساكر مستعدون لمرافقة ملكتهم بزفة الأنتصار. أما هي فكانت تعزيتها تزداد عذوبةً عند مشاهدتها إياهم محيطين بها، ولكن لا تعزيةً كاملةً، اذ أنها لم تكن تشاهد بعد أبنها فيما بينهم، ولذلك كانت تقول نحوهم كلمات النشيد: يا بنات أورشليم أستحلفكن اذا وجدتن حبيبي، فأخبرنه بأني من المحبة ضعيفة: (ص5ع8) فأنتم يا ملائكة السماء القديسين سكان أورشليم العليى، أنما تأتون إليَّ أجواقاً أجواقاً لكي تعزوني، وحقاً أنكم بحضوركم تجلبون لي المسرة والأبتهاج، ولذلك أشكر فضل معروفكم، ولكن جمهوركم لا يوعبني من البهجة الكاملة والتعزية التامة، لأني لا أشاهد أبني الذي هو تعزيتي الوحيدة، فأرجعوا الى السماء أن كنتم تحبوني، وقولوا لحبيبي أنني من شدة المحبة أنا ضعيفة، وصرت عادمة القوة. فاذاً قولوا له من قبلي أن يأتي سريعاً لأني هوذا أموت من شدة أشواقي إليه.*

غير أن رب المجد في هذا الغضون قد جاء ليأخذ والدته المباركة الى ملكوته الطوباوي. فقد أوحي الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن يسوع المسيح قد ظهر لأمه الكلية القداسة قبل نياحها حاملاً بيده الصليب المقدس. لكي يوضح المجد الخصوصي الذي أختصه بواسطة سر الفداء، اذ أنه بموته قد أكتسب تلك المخلوقة العظيمة التي كان يلزمها أن تكرمه في الدهور الأبدية أكثر أكراماً من الملائكة كافةً والبشر أجمعين. ثم أن القديس يوحنا الدمشقي يورد، أن مخلصنا نفسه قد ناول القربان الأقدس لوالدته زوادةً أخيرةً قائلاً لها بعواطف الحب: خذي يا أمي فكلي من يدي جسدي هذا الذي أنتِ أعطيتينيه: وبأن مريم البتول عندما أقتبلت هذه المرة الأخيرة جسد المسيح أبنها بعواطف حبٍ أعظم. قالت له فيما بين أنفاسها النهاية: يا أبني في يديك أنا أستودع روحي، وأسلم بيدك هذه النفس التي خلقتها بخيرية صلاحك منذ الدقيقة الأولى من حياتها غنيةً بنعمٍ هكذا سامية. بل بأختصاصٍ فريد في الغاية أنت سبقت وحفظتها من دنس الخطيئة الأصلية. وأستودعك جسدي الذي أنت تنازلت الى أن تتأنس منه آخذاً لحماً ودماً من جوهره، ثم أني أوصيك أيضاً في أولادي هؤلاء (مشيرةً الى الرسل والتلاميذ الذين كانوا حاضرين عندها) ولأنهم الآن مملؤون من الحزن لسبب أنفصالي عنهم، فأنت عزهم، لأنك تحبهم أكثر مما أنا أحبهم، وباركهم وأعطيهم عونك ليصنعوا العظائم من أجل مجدك.*

فاذاً عندما أشرفت نفس الطوباوية مريم البتول على الأنفصال من جسدها. قد سمع في المسكن الذي كانت هي متكئةً فيه أصوات آلات الطرب الفائقة الوصف. كما يقول القديس أيرونيموس. ثم حسبما أوحى للقديسة بريجيتا قد أشرقت في البيت أنوارٌ سماويةٌ عظيمةٌ. فالرسل عندما سمعوا تلك النغمات وشاهدوا الأنوار الفائقة الأدراك قد عرفوا أنها دنت دقيقة أنفصال نفس سيدتنا المجيدة من جسدها، ومن ثم ضاعفوا تضرعاتهم بسكب الدموع، وكلهم رفعوا أيديهم وأصواتهم قائلين: يا أمنا المنطلقة الى السماء تاركةً إيانا على الأرض، باركينا البركة الأخيرة، ولا تنسينا نحن المساكين. وأما هي فجالت بنظرها نحو جميعهم كأنها تودعهم كافةً وقالت لهم: أني أستودعكم لله وأبارككم. فلا ترتابوا، لأني لا أنساكم أبداً: وحينئذٍ جاء إليها الموت، ولكن لا بالسواد والحزن كما يأتي نحو البشر. بل بالفرح والأشراق. غير أنه ما عسانا أن نقول موتاً وأي موتٍ، بل قد جاء إليها الحب الإلهي، وهو لا سواه قطع خيط حياتها الزمنية. فهي المنارة التي قبل أن تنطفئ قد أبرقت بلميع ضياها الأخير برقاً عظيماً ثم انطفت. وهي الفراشة الإلهية الجميلة التي اذ دعاها أبنها إليه. قد دنت من مصباح نوره وأحترقت بلهيب حبه الغير المتناهي، وفيما بين عواطف تنهداتها قد أنفصلت عن الجسد نفسها المغبوطة، وأنحلت تلك الحمامة الكلية النقاوة من رباطات الجسم. وطارت متراقيةً الى الأخدار السماوية، حيث ملكت وتملك سلطانةً على جميع المخلوقات الى أبد الآبدين.*

فهوذا مريم البتول هي في السماوات العليي تنظر إلينا نحن أولادها القاطنين في وادي البكاء، مشفقةً علينا وموعدةً إيانا بالمعونات أن كنا نريد ذلك. فلنتوسل إليها دائماً بأن تستمد لنا بأستحقاقات موتها السعيد ميتةً صالحةً، وأن تنال لنا منه تعالى أن كان ذلك يسره أن يكون موتنا في يوم سبتٍ اليوم المكرس لعبادتها، أو في يومٍ من الأيام المتقدمة على أعيادها السنوية أو المتأخرة عنها، كما قد وهبت هي هذه النعمة المستمدة من الله لكثيرين من المتعبدين لها، لا سيما للقديس سطانيسلاوس كوتكا من الرهبنة اليسوعية. الذي نالت له أن يموت يوم عيد نياحها. كما هو مدون من الأب بارتولي في سيرة حيوة القديس المذكور.*

* نموذج *

أن القديس سطانيسلاوس المار ذكره الذي كان بجملته ملتهباً بنار الحب نحو والدة الإله، وهو في عنفوان صبوته. ففي اليوم الأول من شهر آب قد أستمع عظةً من الأب بطرس كانيسيوس، فيها هذا الواعظ أعطى لجمهور المبتدئين في رهبنته اليسوعية الكائنين في رومية. هذه المشورة العظيمة بإيراداتٍ خشوعيةٍ جداً، وهي أن كل واحدٍ منهم يعيش يومياً كأن ذاك النهار الذي يبلغ هو الى صاحبه، هو اليوم الأخير من حياته الذي في نهايته يلتزم بأن يحضر في ديوان الله. فبعد أتهاء العظة المذكورة قال القديس سطانيسلاوس الى رفاقه: أن هذه المشورة المقدمة من الكاروز كانت بنوعٍ خصوصي لي كأنها صوتٌ إلهي متجهةٌ نحوي، لأني مزمعٌ أن أموت في هذا الشهر عينه: وأنما قال هذا أما لأن الله كان أوحى إليه بواسطةٍ أكيدةٍ غير أعتياديةٍ بما كان عتيداً أن يحدث له. ثم بعد هذا بأربعة أيامٍ اذ كان ذاهباً الشاب الطوباوي المذكور صحبة الأب عمانوئيل سار لزيارة كنيسة القديسة مريم الكبرى، وجاء الخطاب معهما عن قرب الأيام الأحتفالية المختصة بعيد نياح سيدتنا والدة الإله. قال له هذا الشاب البار: أني أظن أيها الأب أن في يوم عيد أنتقال هذه الأم الإلهية الى السماء تشاهد في الفردوس سماءٌ جديدةٌ، عندما يشاهد مجد مريم والدة الإله مكللةً سلطانةً في السموات، جالسةً بالقرب من الرب فوق طغمات الملائكة كلها. فأن كان حقاً في كل سنةٍ في اليوم المذكور. كما أنا متمسك بذلك كأنه شيء خالٍ من الأرتياب، يتجدد في السماء صنيع هذا العيد. فأنا أرجو أن أكون حاضراً هناك في العيد الأول الآتي: ثم من حيث أنه (بموجب العادة السالكة في الرهبنة اليسوعية، وهي أن كلاً من أبنائها يتخذ محامياً له في كل شهر ذاك القديس الذي بحسب القرعة تأتي في يده الورقة المحرر بها أسم القديس) قد خص الطوباوي سطانيسلاوس محامياً في شهر آب المرحوم القديس لورانسيوس أو بالحري لافرنتيوس المعظم في الشهداء رئيس الشمامسة (الذي يكمل عيده شرقاً وغرباً في 10 آب) فأمرٌ شائع الذكر هو أن الشاب البار حرر رسالةً لأمه العذراء الكلية القداسة بها كان يتوسل إليها بأن تستمد له هذه النعمة، وهي أن يوجد هو في السماء في عيدها الأحتفالي المقبل، وهكذا في عيد الشهيد المجيد لافرنتيوس قد تناول هو القربان الأقدس، وتضرع بحرارةٍ لهذا القديس في أن يقدم رسالته المنوه عنها لدى والدة الإله، ويتوسط بشفاعته أمامها من أجله في أن تتنازل هذه الأم الإلهية لأجابة مسألته. فهوذا في عشية ذلك اليوم عينه قد شعر هذا الشاب البار بالحمى في جسمه، ومع أن الحمى كانت خفيفةً جداً فهو أعتدى من دون ريبٍ، أن النعمة التي ألتمسها في شأن ذهابه الى العيد الأبدي قد أستجيبت، لأته حينما صعد على سريره قال بفرحٍ قلبي متبسماً بعذوبةٍ: أني من على فراشي هذا لن أقوم بعد: وأضاف الى ذلك قوله للأب كلاوديوس أكوافينا: أنني أظن بالصواب يا أبتي أن القديس لافرنتيوس قد نال لي من والدة الإله النعمة التي ألتمستها بأن أوجد في السماء يوم عيد نياحها المقدس. غير أنه لم يكن أحدٌ من جميع الذين سمعوا كلماته السابق إيرادها يعتبرها كشيءٍ حقيقي. فلما بلغ يوم بارمون العيد أي الرابع عشر من آب، فالحمى أستمرت خفيفةً، الا أن القديس قال لأحد الأخوة أنه في الليلة المقبلة يكون هو قد مات. أما ذاك فأجابه قائلاً: مهلاً يا أخي أنها لعجيبةٌ أعظم هي أنك تموت من قبل مرضٍ هكذا خفيفٍ من أنك تشفى منه. ولكن عندما مال نصف النهار قد أستحوذ بغتةً على القديس عارض مرضٍ قتال. وأبتدأ يعرق عرقاً بارداً وفقد قواه بالكلية، فرئيس الدير قد أسرع إليه وشاهده في تلك الحال، أما البار فتوسل الى الرئيس بأن يسمح للحاضرين بأن ينزلوه من على فراشه، ويمدوه فوق الحضيض على الأرض ليموت كأحد التائبين، الأمر الذي قد سمح به الرئيس أجابةً لتوسله، فوضعوه فوق وسادة على الأرض، وهناك أعترف ثم تناول القربان الأقدس زوادةً أخيرةً بكل أحترامٍ وخشوعٍ. ليس من دون أن جميع الحاضرين يذرفون الدموع السخية، لأنهم عاينوه كيف أنه عند الدخول الى قلايته بالسر المسجود له. قد أستحال وجهه كالى وجه ملاكٍ متلألئاً بالأشراق والبهجة السماوية، وكأنه قد التهب بكليته بشهائب نار الحب الإلهي كأحد السيرافيم، ثم أخذ سر المسحة الأخيرة أيضاً، ولم يكن هو يصنع شيئاً آخر سوى أنه تارةً كان يرفع عينيه الى السماء وتارةً يجول بنظره في أيقونة والدة الإله التي كانت بيده، ويقبلها بعواطف الحب، ويضمها الى صدره. ومن حيث أنه كان ماسكاً بيده مسبحة الوردية ملفوفةً على أصابعه، فقال له أحد الآباء الحاضرين: ماذا تفيدك يا سطانيسلاوس هذه المسبحة الملتفة على يدك، أنت الذي الآن لا تقدر أن تصلي فيها؟ فأجابه القديس: أنها تفيدني تعزيةً من حيث أنها شيءٌ مختصٌ بأمي: فأردف إليه كلامه ذاك الأب بقوله: ترى كم تكون تعزيتك أعظم من ذلك عند مشاهدتك بعد هنيهة هذه الأم الإلهية في السماء وعند تقبيلك يديها، فحينئذٍ القديس أزداد أتقاداً بنيران الحب، ورفع يديه نحو السماء مشيراً الى عظم أشواقه نحو تلك الدقيقة السعيدة، ثم بعد هذا ببرهةٍ قد ظهرت له الطوباوية مريم البتول، كما أعلن ذلك هو نفسه للحاضرين عنده تلك الليلة. وهكذا عند أشراق الصبح نهار عيد أنتقال السيدة قد أسلم نفسه السعيدة بهيئةٍ جميلةٍ خشوعيةٍ. وعيناه ناظرتان الى السماء، من دون أن يصنع أدنى حركةٍ بجسمه، حتى أن الحاضرين لم يكونوا يظنوه مائتاً، الى أنهم أختبروا الأمر بدنوهم منه أمام عينيه بأيقونة والدة الإله، واذ لم يعد يقبلها كالسابق فعرفوا أنه قد مات منتقلاً الى السماء ليقبل قدمي ملكته المحبوبة منه بهذا المقدار.*

† صلاة †

يا سيدتنا وأمنا الكلية الحلاوة، أنتِ قد تركتِ الأرض وبلغتِ الى ملككِ السماوي، حيث تجلسين سلطانةً فوق طغمات الملائكة بأسرهم، كما ترتل نحوكِ الكنيسة المقدسة هاتفةً: لقد أرتفعتِ فوق الطغمات الملائكية في الملك السماوي. فنحن نعلم أننا لم نكن مستحقين أن نراكِ معنا نحن الخطأة في أرض الظلمات هذه. ولكننا نعرف أيضاً أنكِ وفيما أنتِ حاصلةٌ على هذا المجد والجلالة والعظمة، ما نسيتينا نحن الأشقياء البائسين. وأن سمو أرتفاعكِ لم ينقص فيكِ الرأفة نحونا نحن أولاد آدم الأذلاء بل قد ضاعف فيكِ الأشفاق والحنو علينا، فأنعطفي اذاً يا سيدتنا من علو عرشكِ العظيم بنظركِ الرحيم نحونا، وترأفي علينا، وتذكري في أنكِ حين أنتقالكِ من الأرض الى السماء قد وعدتينا بأنكِ لا تنسينا، فلاحظينا اذاً وعينينا. وتأملي في كم من الأخطار ومن زوابع التجارب نحن محاطون على الدوام. وسنكون هكذا طالما لا تدنو منا دقيقة رحيلنا من هذه الحياة. فأستمدي لنا بأستحققات ميتتكِ المغبوطة نعمة الثبات في الصلح مع الله دائماً، ليمكننا بذلك أن نخرج أخيراً من الدنيا ونحن في حال نعمته تعالى. وهكذا نحن أيضاً نبلغ يوماً ما الى أن نقبل في السماء قدميكِ المقدستين، متحدين مع أولئك الأرواح الطوباويين، لنسبحكِ ونرتل تمجيداتكِ حسبما تستحقين الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.

 

الفصل الثامن

أنهضي يا عزيزتي،         تعالي يـا جميلتي،

هلمي يا حمامتي،           فها الشتاء قد عبر.

(نشيد 2/10)

* في شأن عيد أنتقال سيدتنا والدة الإله نفسه. وفيه يبرهن عن كم كان *

*مجيداً هذا الأنتقال، وكم وجد عظيماً العرش السماوي *

*الذي هي أرتقت إليه* وفيه جزءان.*

الجزء الأول

* في كم كان مجيداً الأنتصار الذي به أنتقلت البتول*

* الكلية القداسة من الأرض الى السماء*

أنه لقد كان يظهر أمراً عادلاً أن الكنيسة المقدسة في اليوم الحاضر المختص بتذكار نياح العذراء المجيدة، تدعونا الى الندب والبكاء أحرى مما تستدعينا الى الفرح والتهليل، لأن أمنا هذه العزيزة قد تركتنا في الأرض عادمين مشاهدتها وفاقدين حضورها بالجسد فيما بيننا، لأسعافنا ومعونتنا، كما يقول القديس برنردوس:" أنه يلزمنا أن نبكي أحرى مما أن نبتهج لفقدنا النظر إليها". الا أن الكنيسة بالحقيقة تطلب منا في هذا اليوم أن نسر فرحين بقولها نحونا: فلنتهلل كلنا بالرب إلهنا بأحتفالنا بعيد الطوباوية مريم البتول تكريماً لها: وهذا بكل صوابٍ، لأننا أن كنا نحب أمنا هذه، فيلزمنا أن نفرح معها لأجل المجد الذي حصلت هي عليه أفضل من رغبتنا تعزيتنا الذاتية، على أنه أيُّ أبنٍ لا يتهلل مسروراً عندما يعلم أن والدته تبارحه لتمضي فتأخذ الولاية سلطانةً على مملكةٍ ما، ولئن كان يلزمه أن يتكبد مرارة أنفصالها عنه. فمريم البتول في هذا اليوم تنطلق لتأخذ التملك، وتتوج سلطانةً على السموات، فهل يمكننا الا نفرح مبتهجين، ونعيد مسرورين أن كنا حقاً نحبها، فلنتهلل اذاً كلنا بالرب. ولكي نتعزى بأفضل نوعٍ لأجل المجد الذي هي حصلت عليه. فلنتأمل في هذا الجزء كم كان أنتصار أنتقالها الى السماء مجيداً، تاركين للجزء الآخر التأمل في عظمة العرش الذي جلست هي عليه في السماء.*

فالطغمات الملائكية بعد أن شاهدوا أن مخلصنا قد كان أكمل عمل الفداء وخلص الجنس البشري بموته، فكانوا يتشوقون لأن يفوزوا بمشاهدة ناسوته المتحد مع لاهوته مالكاً في السموات، ومن ثم كانوا يهتفون نحوه بالكلمات الداودية: قم يا رب الى راحتك أنت وتابوت قدسك: (مزمور132ع8) أي أنك أنت يا رب اذ أفتديت البشر، فقم وهلم الى ملكوتك معنا، وأصحب معك التابوت الحي المختص بتقديسك أي والدتك التابوت المختار منك الذي أنت قدسته بسكناك فيه. فهكذا القديس برنردينوس يجعل الملائكة مخاطبين الله بقولهم نحوه: "فلتصعد أمك أيضاً الى السماء مريم الكلية القداسة التي أنت قدستها حين حبلها بك." فأراد الرب أخيراً أن يسر سكان السماء هؤلاء ويتمم مرغوبات أشواقهم، بأستدعائه أمه الدائمة بتوليتها الى السماء. ولكن أن كان هو عز وجل قد شاء أن يحتفل بأدخال تابوت العهد الى مدينة داود أحتفالاتٍ عظيمةً، كما هو مكتوبٌ في الاصحاح السادس من سفر الملوك الثاني: أن داود وجميع بني أسرائيل، كانوا يصعدون تابوت عهد الرب بتضريب التهليل وصوت البوق. فقد رسم تعالى بأن يحتفل بأعظم من ذلك في صعود تابوته الحي أي والدته المجيدة الى السماء. فالنبي إيليا قد صعد الى السموات بواسطة مركبةٍ ناريةٍ التي (حسبما يبرهن المفسرون) لم تكن شيئاً آخر سوى جوقٍ من الملائكة قد رفعوه عن الأرض مخطتفين إياه الى العلو: ولكن لأجل رفعكِ أنتِ من الأرض الى السماء (يقول نحو هذه السيدة الأنبا روبارتوس) لم يكن كافياً جوقٌ من الملائكة، بل أن ملك الملائكة نفسه قد جاء إليكِ ليرفعكِ الى السماء، مرافقاً من أهل بلاطه السماوي بأسرهم.*

والقديس برنردينوس السياني هو نفسه يرتأي ذلك بقوله: ان يسوع المسيح لكي يكرم أنتصار مريم والدته، فهو تعالى عينه جاء من السماء الى ملاقاتها، وأخذها صحبته الى الأخدار الملكوتية. ولهذا يقول القديس أنسلموس:" أن المخلص قد أراد أن يصعد هو أولاً الى السماء قبل أن ترتقي إليها أمه، وذلك ليس فقط لكي يهيء هناك عرشاً لائقاً بهذه الملكة. بل أيضاً حتى يصير دخولها فيما بعد الى السماء ذا مجدٍ أعظم بحضوره الى ملاقاتها هو عينه، وبرفقته الأرواح الطوباويون أجمعون". ومن ثم القديس بطرس داميانوس اذ كان يتأمل في عظته أنتقال هذه الأم الإلهية الى الفردوس السماوي قد قال:" أننا نلاحظ أن صعود مريم العذراء الى السماء هو ذو مجدٍ أعظم من صعود يسوع المسيح، لأجل هذا السبب، وهو لأنه في صعود مخلصنا قد جاءت الملائكة فقط لملاقاته ولمرافقته. وأما الطوباوية والدة الإله فقد أرتقت الى السماء بمجدٍ هكذا سامٍ، حيث أن إله المجد نفسه قد استقبلها ورافقها. جملة مع المليكة كافةً والقديسين أجمعين بزفةٍ إلهيةٍ." ولهذا الأنبا غواريكوس يجعل الكلمة الأزلي قائلاً هكذا: أنني قد نزلت من السماء الى الأرض لكي أصنع ما به أمجد أبي الأزلي، ولكن بعد ذلك لكي أكرم أمي مريم وأمجدها قد أنحدرت مرةً ثانيةً من السماء حتى يمكنني هكذا أن أستقبلها بذاتي وأرافقها بحضوري الشخصي الى الفردوس في السموات.*

فلنمض اذاً متأملين بعقولنا كيف جاء المخلص لملاقاة والدته، وحالما رآها قال نحوها معزياً: أنهضي يا قرينتي وتعالي يا جميلتي وهلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر والمطر ذهب وصار الى ذاته: (نشيد ص2ع10) فقومي يا أمي يا عزيزتي يا جميلتي الحمامة النقية، أتركي وادي الدموع هذا الذي هو الأرض حيث تكبدتِ أتعاباً وأحزاناً عظيمةً من أجلي وحباً بي. يا عروستي تعالي من لبنان هلمي من لبنان تجئين فتتكللين: (نشيد ص4ع8) فهلمي بنفسكِ وجسدكِ معاً لتتمتعي بمكافأة حياتكِ المقدسة، ومن حيث أنكِ قد تألمتِ كثيراً في الأرض فأنا قد اعددت لكِ مجداً أعظم بما لا يحد في السماء، فتعالي لتجلسي في العرش بالقرب مني. هلمي لتأخذي الأكليل الذي أتوجكِ به سلطانةً على العالمين.*

فهوذا مريم الكلي قدسها تترك الأرض مفارقةً إياها. ولكنها عند تذكرها مقدار النعم التي حازتها من الرب في هذه الأرض. فتنظر إليها بعلامات الحب والأشفاق والرحمة، تاركةً فيها جميع أولادها المساكين فيما بين الأحزان والشدائد والأخطار. وهوذا يسوع أبنها يسندها بيده حيث رفعها الى الجو، وأجتاز بها من أبواب السحب، وعلا بها فوق الكواكب والنجوم. ودنا بها من أبواب الفردوس. فمن عادة الملوك أنهم حينما ينطلقون ليأخذوا التملك على أحدى المدن فلا يدخلون من بابها، بل أما أنهم يصيرون أن يهدم بابها ليدخلوا منه من دون أن تعلو فوق رأسهم عتبته العليي، وأما أنهم يجعلون أجتيازهم بمماشي خشبية من فوق باب المدينة إليها. ومن ثم كما أن الملائكة حينما دخل يسوع المسيح الى السماء هتفوا قائلين: أرفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد: (مزمور 24ع9) فهكذا عندما بلغت مريم البتول الى الفردوس لتأخذ التولي سلطانةً على السماوات والأرض، فالملائكة المرافقون إياها هتفوا نحو الملائكة المتقدمين أمامها: ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وأرتفعي أيتها الأبواب الدهرية لتدخل ملكة المجد.*

فهوذا مريم المجيدة قد دخلت الوطن الطوباوي، ولكن عند أجتيازها إليه فاذ شاهدتها الطغمات النورانية المنتظرتها هناك، هكذا متصفةً بالجمال والمجد. سألوا الملائكة الآخرين القادمين صحبتها. كما يتأمل المعلم أوريجانوس قائلين: من يه هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فمن هي هذه المخلوقة الفائقة البهاء والكمال المقبلة من قفر الأرض، المكان المملؤ من الأشواك والقرطب. لكنها صاعدةٌ هكذا غنيةً بالفضائل ومتلألئةً بالنقاوة، مستندةً على سيدها العزيز وحبيبها الوحيد الذي قد تنازل هو عينه لأن يستقبلها، ويرافقها بشرفٍ وأكرام هذا حدهما. فأجابهم هؤلاء الأرواح الطوباويين المحيطون بها بقولهم: أتسألون من هذه، والحال أنها هي أم ملكنا وهي سلطانتنا المباركة في النساء الممتلئةً نعمةً، قديسة القديسين، حبيبة الله البريئة من العيب والدنس، الحمامة الفائقة جمالاً على المخلوقات كلها. فمن ثم جميع الأرواح السماوية معاً طفقوا يسبحونها ويباركونها ويمدحونها، بأفضل مما مدح العبرانيون يهوديت الجليلة بقولهم: أنتِ هي شرف أورشليم وعز أسرائيل ومدحة شعبنا: (يهوديت ص15ع10) فأنتِ هي اذاً يا ملكتنا وسيدتنا مجد الفردوس وبهجة وطننا. أنت هي شرفنا كلنا. فسعيدٌ هو قدومكِ إلينا، ولتكوني مباركةٍ سرمداً، فها هو ملككِ الذي تملكين فيه، وها نحن بأجمعنا عبيدٌ لكِ وخاضعون تحت سلطانكِ ومستعدين لطاعة أوامركِ.*

ثم بعد ذلك أقبل نحو هذه الملكة السماوية القديسون أجمعون الموجودون هناك يومئذٍ، يسلمون عليها كسلطانتهم. وكذلك القديسات البتولات كافةً تقدمن إليها واذ: أبصرتها هؤلاء البنات فأعطينها الطوبى ومجدنها: (نشيد ص6ع8) قائلاتٍ لها: أننا نحن أيضاً يا سيدتنا سلطاناتٌ في هذه المملكة، وأما أنتِ فهي ملكتنا بأجمعنا، لأنكِ أنتِ كنتِ الأولى التي أعطتنا النموذج العظيم في أن نكرس بتوليتنا لله، الأمر الذي من أجله نحن نشكركِ نبارككِ. وبعد هذا جاء المعترفون والأبرار ليحيوها بالسلام كمعلمتهم، لأنهم منها أتخذوا تمثال الكمال ونموذجات الفضائل الجميلة بواسطة سيرة حياتها المملؤة قداسةً. وهكذا أقبل مصاف الشهداء ليسلموا عليها كملكتهم، لأنها بثباتها العظيم على أحتمال آلام أبنها الإلهي قد علمتهم الشجاعة. وبصلواتها وأستحقاقاتها قد أستمدت لهم نعمة الأستشهاد التي بها سفكوا دمائهم من أجل الإيمان. وقد جاء أيضاً القديس يعقوب الكبير الذي هو وحده من مصاف الأثني عشر رسولاً كان حينئذٍ في السماء وقدم لها الشكر نيابةً عن باقي أخوته الرسل عما ساعدتهم به وشجعتهم عليه وأرشدتهم إليه. طالما كانت معهم على الأرض. ثم تقدم إليها الأنبياء القديسون قائلين لها: أيتها العظيمة سيدتنا أنتِ هي موضوع نبؤاتنا التي سبقنا وأخبرنا بها عن أتيان المسيح منكِ: ثم تقدم إليها رؤساء الآباء قائلين لها: أنتِ اذاً كنتِ رجانا الذي منذ أزمنةٍ هكذا مستطيلةٍ ننتظره وأشواقنا كانت متقدةً نحوكِ: الا أنه فيما بين هؤلاء وقبلهم كافةً قد دنا منها أبونا آدم مع أمنا حواء قائلين لها: نعماً يا أبنتنا العزيزة فأنتِ قد أصلحتِ الضرر الذي نحن سببناه للجنس البشري. وأستمديتِ للعالم تلك البركة التي نحن فقدناها بمعصيتنا. وقد خلصنا نحن بواسطتكِ، فلتكوني دائما مباركةً.*

وهكذا جاء القديس سمعان الشيخ ليقبل قدميها. مذكراً إياها بذلك اليوم الذي فيه هو كان أقتبل في هيكل الرب من يديها يسوع المسيح طفلاً. وأقبل القديس زخريا مع القديسة أليصابات وكررا لها جديداً تقدمة الشكر، على تلك الزيارة التي كانت صنعتها لهما في بيتهما بأتضاعٍ وحبٍ ساميين، وعما نلاه من النعم العظيمة بتلك الزيارة المقدسة. وبأبلغ من ذلك تقدم يشكرها القديس يوحنا المعمدان على كونه تقدس في أحشاء أمه بمجرد صوت سلامها. ولكن من يمكنه أن يصف مقدار فرح القديس يواكيم والقديسة حنه والديها. عندما أقبلا نحوها يباركانها بذاك الحب والأنعطاف الوالدي قائلين:" يا لسعادتنا ويا لشرف حظنا يا أبنتنا الحبيبة على الغبظة التي فزنا بها بأن نحصل على أبنةٍ هذه صفتها. فأنتِ الآن هي سيدتنا وملكتنا لأنكِ أم إلهنا، فهكذا نعتبركِ وكذلك نسجد لكِ". غير أن الحب والأنعطاف والتهليل والمسرة التي بها جاء إليها القديس يوسف خطيبها. من يستطيع أن يصفها عند مشاهدته عروسته هذه المجيدة بلغت الى الفردوس بتلك العظمة والجلالة سلطانةً على العالمين، وبأية كلماتٍ خشوعيةٍ كان يقول لها: يا خطيبتي وسيدتي بأي نوعٍ يمكنني أن أشكر إلهي وأسبحه وأمدحه على ما أنعم به عليَّ نعمةً هذا سمو مقدارها، بأن أكون خطيباً لكِ أنتِ التي هي والدته الحقيقية، فبواسطتكِ أنا أستحقيت أن أخدم يسوع كلمة الله على الأرض في زمن طفوليته وحداثته، وأن أحمله مراتٍ كثيرةً على ذراعي. وأن أنال منه نعماً خصوصيةً عظيمةً، فلتكن مباركةً تلك الأوقات التي أنا أصرفتها في حياتي خادماً له تعالى ولكِ أنتِ أيتها العروسة السامية في القداسة. فها هوذا يسوع حبيبنا، الذي ليس هو الآن متكياً في مذود البهائم في مغارة بيت لحم كما شاهدناه هناك حين أتلاده منكِ، ولا هو عائشاً فقيراً كما عاش معنا ضمن الدكان في الناصرة، ولا هو معلقاً على الصليب حسبما مات موت العار على جبل الجلجلة في أورشليم من أجل خلاص البشر، بل هو جالسٌ من عن يمين الله الآب ملكاً على السموات والأرض، وها نحن يا سيدتي وملكتي مستمران معه من دون خطر أن نفترق منه بعد، بل نقبل قدميه ونسبحه ونباركه الى أبد الآبدين.*

ثم أنه حينما جاءت الملائكة كافةً ليسلموا على سلطانتهم. فهي شكرتهم على مساعدتهم إياها لما كانت على الأرض، بنوعٍ خاص شكرت زعيمهم القديس جبرائيل على البشارة التي كان أتاها بها بسر الحبل الإلهي، والبشارة التي جلبت لها السعادات كلها بصيرورتها والدة الله. الا أن البتول المجيدة المتواضعة قد جثت ساجدةً للعزة الإلهية، غائصةً في عمق أتضاعها وفي معرفتها ذاتها أنها كالعدم، وقدمت له عز وجل الشكر الواجب على جميع النعم السامية التي أفاضها عليها. لا سيما أنتخابه إياها أماً للكلمة الأزلي، وذلك بمجرد خيرية صلاحه ورأفته. وهنا الذي يستطيع أن يدرك فيمكنه أن يفهم بأية عواطف حبٍ إلهي، قد بارك الثالوث الأقدس هذه المخلوقة المحبوبة منه تعالى حباً لا حد له، وبأية كرامةٍ أقتبل الآب الأزلي أبنته هذه العزيزة، والأبن الإلهي أمه هذه الجليلة، والروح القدس عروسته هذه الفائقة في البهاء والنقاوة. وهكذا قد توجها الآب مفوضاً لها القدرة، والأبن واهباً إياها الحكمة، والروح القدس مفيضاً عليها الحب، ومن ثم الثلاثة الأقانيم الإلهية أقاموا لها عرشاً عن يمين أبنها، وكللوها سلطانةً مطلقةً على السموات والأرض، وأمروا الملائكة والمخلوقات كلها بأن يعرفوها سلطانتهم الحقيقية وتحت هذه الصفة يخدمونها ويطيعونها.* 

 

Click to view full size image

الجزء الثاني

من هي الطالعة من البرية، مدللة، مستندة على حبيبها (نشيد8/5)

قد قيلة فيكِ المسبحات يا مدينة الله (مزمور 87/3)

لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب (مزمور 45/13)

*في كم هو عظيمٌ العرش والمرتبة التي أقيمت *

*فيها هذه البتول المجيدة في السماء*

فيقول القديس برنردوس: أن كان لمن المستحيل أن قلباً بشرياً يدرك تلك الأشياء المعدة في السماء، لأولئك الذين يحبون الله على الأرض، مما لا سمعت به أذنٌ، ولا شاهدته عينٌ، ولا خطر على قلب إنسانٍ، كما يعلم الرسول الإلهي: فمن يمكنه أن يدرك اذاً عظمة المجد الذي أعده تعالى لوالدته الحقيقية، التي قد أحبته على الأرض حباً أشد جداً مما أحبه به البشر كلهم، بل منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد أحبته أكثر مما أحبه به البشريون والملائكة معاً أجمعون، فاذاً لأجل أن مريم اذ كانت على الأرض قد أحبت الله أشد حباً مما أحبه به الملائكة كافةً فبالصواب ترتل الكنيسة عنها (في فرض عيدها الحاضر): بأن الله قد رفعها في السماء فوق طغماتهم أجمعين: أي نعم قد رفعها تعالى فوق الملائكة (يقول الأنبا غوليالموس) بنوع أنها لم تعد ترى أحداً يعلوها سوى أبنها يسوع الذي هو أبن الله الوحيد:.*

ثم أن العلامةجرسون يقول: أنه اذ كانت المصافات الملائكية وطغماتهم تقسم بوجه العموم الى ثلاثة مراتب، حسبما يعلم القديس توما اللاهوتي، جملةً مع القديس ديونيسيوس. فمريم قد أقيمت برتبةٍ خصوصيةٍ في السماء أشرف وأعظم وأمجد من الثلاثة المراتب كلها، وأضحت هي في المرتبة الثانية بعد الله. ويضيف الى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن السيدة تتميز من عبيدها سمواً لا قياس ولا تمثيل له، وكذلك من دون قياسٍ ولا تمثيل والدة الإله هي أعظم قدراً وسمواً من الملائكة كافةً: ولكي يفهم هذا يكفي أن يعرف ماذا يقول النبي والملك داود (مزمور 45ع9) هكذا: قامت الملكة من عن يمينكَ مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: كما يفسر القديس أثناسيوس: بأن هذه الكلمات النبوية قيلت بالحصر عن جلوس مريم البتول ملكةً من عن يمين أبنها في البلاط السماوي:*

أما القديس أيدالفونسوس فيقول: أن أفعال البر التي مارستها العذراء المجيدة في مدة حياتها على الأرض. فهي من دون ريبٍ أعمالٌ تفوق بأستحقاقاتها أمام الله على استحقاقات أعمال القديسين الصالحة كلهم، تفوقاً لا حد لعلوه ولا قياس لأدراكه، ولذلك لا يمكن وصف المكافأة والمجد الذي هي أستحقته في السماء، ولا يستطاع أدراكه: على أنه كان هو أمراً صادقاً (كما هو بالحقيقة) قول الأنا الصطفي: أن الله يجازي كل إنسانٍ حسب أعماله: (رومانيين ص2ع6) فصادقٌ هو وكلي: التأكيد (يقول القديس توما اللاهوتي) أن البتول الكلي قدسها التي يفوق أستحقاقها على أستحقاق البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، قد لزم أرتفاعها فوق جميع المراتب السماوية. وبالأجمال يضيف الى ذلك القديس برنردوس قائلاً: فلتعتبر النعمة التي حصلت عليها والدة الإله في الأرض بنوع أختصاصٍ فريدٍ، وبموجب قياس هذه النعمة فليعتبر سمو المجد والمكافأة التي هي حصلت عليها في السماء.*

فمجد مريم البتول (يقول أحد العلماء الأب كولومبياري) هو مجدٌ تامٌ، مجدٌ كاملٌ، وهو مختلفٌ عن المجد الحاصل عليه القديسون الآخرون في الملكوت: (فهذه الملاحظة هي حسنةٌ) على أنه أي نعم حقٌ هو أن كلاً من القديسين يتمتع في السماء بسلامٍ تامٍ، وبراحةٍ ونعيمٍ كاملٍ. ولكن مع ذلك أمرٌ حقيقي هو، أنه ولا واحدٌ منهم يتمتع بذاك المجد الأعظم، الذي لكان يمكنه أن يفوز هو به في السعادة الأبدية، لو كان خدم الله على الأرض بأعظم أمانةٍ، وأحبه أشد حباً مما خدمه وأحبه في مدة حياته. فمن ثم ولئن كان لطوباويون في السماء لا يشتهون راغبين أن يملكوا مجداً أعظم مما قد حصل كلٌ منهم عليه. بل أنهم جميعاً هم راضون بما قد فازوا به، فمع ذلك يوجد الموضوع لأشتهاء شيءٌ أعظم، يكون هذا ممكناً. ثم كذلك حقٌ هو أن الخطايا المفعولة على الأرض من بعض هؤلاء القديسين قبل تبريرهم منها، لا يمكن أن توجب لهم عنها عقاباً ما في النعيم الأبدي، ولا يعاقب الزمان الضائع منهم على الأرض، أي الذي لم يكتسبوا فيه أستحقاقاً ما. ولكن مع هذا فأمرٌ صادقٌ هو لا يستطاع أنكاره، أن الخير الأوفر أو أعمال البر الأعظم الممارسة على الأرض من البعض منهم، تسبب لهؤلاء فرحاً أعظم وتعزيةً أكمل. ومثل ذلك يحدث للذين حفظوا بر المعمودية غير مدنسٍ، ولم يضيعوا من الزمن شيئاً سدى بدون أعمالٍ ذات أستحقاقٍ. أما مريم البتول فلا ترغب ولا يمكنها أن تشتهي نوال شيءٍ أعظم، اذ أن الظروف المشار إليها لم تلتحق بها أصلاً. على أن القديس أوغوسطينوس يقول: ترى من من القديسين الكائنين في السماء اذا سئل أن كان هو صنع خطيئةً ما على الأرض فيقدر أن يجيب، لا، ما عدا مريم البتول فقط التي هي وحدها تستطيع أن تجيب، كلا، لأنه كما حدد المجمع المسكوني التريدنتيني، المقدس (في القانون 13من الجلسة 6): أن مريم العذراء لم ترتكب أصلاً خطيئةً ما على الأطلاق، حتى ولا أصغر النقائص. على أن هذه السيدة المجيدة ليس فقط لم تفقد قط نعمة التقديس، ولم تضعفها أصلاً، بل أيضاً لم تترك هذه النعمة الإلهية بطالةً من العمل، ولم تمارس مطلقاً عملاً ما لم يكن ذا أسحقاقٍ، ولا تكلمت قط كلمةً، ولا قبلت فكراً ما، ولا تركت من أنفاسها شيئاً من دون أن توجه ذلك جميعه لمجد الله الأعظم. وبالأجمال أنها لم تفتر بالكلية، ولا توخرت هنيئةً من الزمان خلواً من الأنعطاف نحو الله والألتجاء إليه. وبالتالي لم تخسر شيئاً ما خسارة الكسل والتهاون، بل دائماً سعت مع نعمة الله بكلية قواها وأستططاعتها. وأحبته عز وجل بكل ما أمكنها أن تحبه، وبذلك تقدر أن تقول نحوه الآن في السماء: يا سيدي أن كنت أنا ما أحببتك بمقدار ما أنت تستحق، فقلما يكون أحببتك بمقدار ما أسطتعت أنا أن أحبك.*

ثم أن النعم الإلهية قد اعطيت للقديسين بأنواعٍ مختلفةٍ، كما يقول رسول الأمم القديس بولس: أن المواهب والنعم هي متميزة: ومن ثم اذ كان كلٌ منهم قد سعى مع النعمة التي أعطيت له. فقد ظهر هو معتبراً في فضيلةٍ ما بنوعٍ متميز عما سواها. فمنهم من تلألأ في أكتساب الأنفس وأقتادها الى الخلاص. ومنهم أشرق في سيرة النسك وأفعال الأماتات الشاقة جداً. ومنهم من لمع في أحتمال التعاذيب المبرحة. ومنهم من تسامى في الثاوريا والغوص في الأمور السماوية. ولذلك تقول الكنيسة المقدسة في أحتفالها بعيد كل من هؤلاء القديسين: أنه لا شبيه له: وانه كموجب الأستحقاقات يتميز القديسون بعضهم عن بعضٍ بالمجد في السماء، لأن نجماً يفضل على نجمٍ في البهاء: (قرنتيه أولى ص15ع41) فالرسل يتميزون عن الشهداء والأبرار والمعترفون عن البتولات. والذين حفظوا بر المعمودية عن الذين قد أخطأوا وصنعوا توبةً، فأما البتول مريم المثلثة القداسة، فمن حيث أنها وجدت ممتلئةً من النعم كلها. فقد ظهرت في كل الفضائل أسمى من كل من القديسين في فضيلته التي تلألأ هو بها، وأكمل من فضائلهم كافةً. فهي وجدت رسولةً أعظم من الرسل. وسلطانةً للشهداء لكونها تألمت أكثر منهم جميعاً. ومقداماً وقائدةً للبتولين والعذارى. ونموذجاً وقدوةً للمتحدين بسر الزواج، ومارست هي في ذاتها أنواع الأماتات وبالأجمال قد جمعت في قلبها الفضائل كلها بأعلى درجاتها، متساميةً بكلٍ منها على أسمى فضيلةٍ بلغ إليها كلٌ من القديسين. ولذلك قيل عنها: قامت الملكة من عن يمينك مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: (مزمور 45ع10) لأن كل النعم وجميع الفضائل وسائر الأستحقاقات التي تزينت بها الأبرار والقديسون، فقد وجدت مجموعةً في شخص هذه الملكة. كما يخاطبها الأنبا جالانسه قائلاً: أن أختصاصات القديسين أجمعين قد أنجمعت فيكِ بجملتها:*

ومن ثم يقول القديس باسيليوس الكبير: أنه كما أن نور الشمس يفوق ضياءً على أنوار الكواكب والنجوم كافةً، فهكذا مجد هذه الأم الإلهية يعلو متسامياً على مجد الطوباويين كلهم: ويضيف الى ذلك القديس بطرس داميانوس بقوله: كما أن أنوار القمر والكواكب والنجوم تغيب مضمحلةً، كأن هذه الأجرام تفقد كونها من الوجود حينما تظهر الشمس مشرقةً، فهكذا مجد مريم العذراء يفوق على مجد جميع الملائكة وسائر البشر حتى كأن هؤلاء لا يعود لهم ظهورٌ في السماء. ولأجل ذلك كتب القديس برنردينوس السياني بأتفاق رأي مع القديس برنردوس قائلاً: أن الطوباويين يشتركون في جزءٍ من المجد الإلهي، أما البتول مريم فقد أغنيت بالمجد بنوعٍ خاص بهذا المقدار، حتى يبان أنه لمن المستحيل أن خليقةً ما يمكنها أن تتحد مع الله أشد أتحاداً، مما فازت بالأتحاد معه تعالى هذه العذراء المجيدة: ويضاف الى هذا ما حرره الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن ملكتنا السعيدة تشاهد الله وتتمتع بالتأمل فيه بأكثر قربٍ، بنوعٍ فائقٍ عادم القياس على ما يتمتع بالنظر إليه الأرواح السماويون بأجمعهم: بل أن القديس برنردينوس السياني عينه يقول: أنه كما أن سائر الكواكب أو الأجرام السماوية الأخرى تستمد الضياء من الشمس، فهكذا جميع الطوباويين يكتسبون مجداً أعظم ونعيماً متفاضلاً بواسطة مشاهدتهم مريم البتول في مجدها: ويقول في عظته على نياحها: أن هذه العذراء المغبوطة حينما أرتقت الى السماء ضاعفت نعيم سكانه أجمعين. وقد كتب القديس بطرس داميانوس: أنه لا يوجد عند الطوباويين في السماء مجدٌ أعظم بعد الله. من أنهم يتمتعون بالنظر الى هذه الملكة الكلية الجمال: ويقول القديس بوناونتورا: أن مجدنا الأعطم ونعيمنا الألذ بعد الله هو في مريم البتول:*

فلنفرح اذاً مبتهجين مع مريم لأجل سمو العرش وعلو المرتبة التي رفعها الله إليها في السماء ولنسر فرحين مع ذواتنا، لأن أمنا هذه اذ تركتنا على الأرض بأرتقائها الى الملكوت منفصلةً عنا بالجسد، فلم تتركنا من حبها ولم تنفضل عنا بأنعطافاتها نحونا. بل بالأحرى لكونها الآن في السموات أكثر قرباً الى الله، وأشد أتحاداً به تعالى، فتعلم بأفضل نوعٍ حال شقائنا، ومن هناك تتشفق علينا أوفر أشفاقاً، وتقدر بأسهل طريقة أن تسعفنا وتعيننا. ومن ثم يخاطبها القديس بطرس داميانوس قائلاً: أهل أنكِ أيتها العذراء المغبوطة نسيتينا نحن البائسين المضنوكين لأجل أنكِ أرتفعتِ في السموات الى مقامٍ هكذا عظيمٍ، كلا، والعوذ بالله من التفكر بذلك، لأن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه نظير قلبكِ، لا يقدر أن لا يشفق على شقائنا والا يحنو علينا. ويقول القديس بوناونتورا: أنه أن كان بهذا المقدار وجدت عظيمةً رأفة هذه السيدة نحونا حينما كانت هي عائشةً على الأرض، فحنوها الآن هو أعظم من ذلك في حال كونها متملكةً في السموات.*

فلنخصص ذواتنا اذاً لخدمة هذه الملكة. ولننعش فينا روح عبادتنا لها وتكريمنا وحبنا إياها بمقدار ما يمكننا: لأنها ليست هي نظير المسلطين والملوك الآخرين (يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس) الذين يثقلون على رعاياهم حمل إيفاء الأموال والخراجات والخسائر، بل أن ملكتنا هذه تغني عبيدها وخدامها بالنعم والأستحقاقات والمكافأة. ولنصل إليها متضرعين مع الأنبا غواريكوس بقوله لها: أنكِ يا أم الرحمة أنتِ جالسةٌ بالقرب من الله سلطانةً للعالم على عرشٍ هكذا سامٍ، فأشبعي حسناً من مجد أبنكِ يسوع. وأرسلي إلينا نحن عبيدكِ الفتات الذي يزيد عنكِ، فأنتِ انما تتنعمين على مائدة الرب، ونحن المساكين نوجد تحت هذه المائدة ههنا في الأرض نظير كلابٍ صغيرة حقيرة، نطلب منكِ الرأفة والشفقة، فأرحمينا وترأفي علينا يا أم الرحمة.*

* نموذج *

أن الأب سلوانس راتسي يخبرنا ( في كتابه الثالث على عجائب العذراء) عن أحد أصحاب الوظائف الكنائسية الصغيرة، الذي كان جزيل العبادة والمحبة نحو سلطانتنا البتول المجيدة. فهذا اذ سمع وصف كيفية جمال هذه الملكة السماوية الفريد الفائق البهاء. فقد أشتد غرامه مشتهياً أن يرى مرةً واحدةً سيدته هذه الجميلة. ومن ثم قد ألتمس منها بتضرعاتٍ حارةٍ متضعةٍ أن تهبه هذه النعمة. فالعذراء الرأوفة أرسلت إليه أحد الملائكة يقول له عن لسانها، أنها تريد هي أن تتنازل لقبول ألتماسه بأن تجعله أن يشاهدها. ولكن بهذا الشرط، وهو أنه بعد أن يراها هو مرةً واحدةً يفقد نظره ويصير أعمى. فالرجل العابد المومى إليه قد أقتبل هذا الشرط. وهوذا الطوباوية مريم البتول قد ظهرت له يوماً ما، ففي الأبتداء لكيلا يبقى هو أعمى بالكلية قد أكتفى بأن يغلق عينه الواحدة، وينظر الى هذه السيدة بالعين الأخرى. ولكنه لشدة ما أنبهر من جمالها وما تنعم بمشاهدتها، قد فتح عينه الثانية ليتأملها جيداً بنظره كله. الا أن والدة الإله قد غابت عنه حالاً قبل أن يراها بهذه العين الثانية التي أستمرت مفتوحةً والأخرى قد فقد بصرها. فالمسكين أشتمله الحزن وطفق يبكي ليس لأجل عمائه من العين الواحدة، بل لأجل أنه لم يتأمل هذه السيدة حسناً منذ الأبتداء بعينيه كلتيهما. ولهذا شرع يتوسل إليها جديداً في أن تتنازل لأن تظهر له مرةً ثانيةً، غير مبالٍ من أن يفقد بصر عينه الأخرى الباقية له وهكذا يعود أعمى بالكلية، وكان يقول لها: أني أعتد ذاتي سعيداً وأكون مسروراً راضياً يا سيدتي بأن أصير أعمى من عيني كلتيهما، لأجل هذه الغاية وهي لكي أعود مغرماً أشد غراماً بحبكِ وبحرارة تعبدي لكِ. فالبتول المملؤة أشفاقاً قد أنعطفت لدموعه وأستجابت طلبته وظهرت له مرةً أخرى. ولكنها اذ لا تعرف أن تسبب لأحدٍ غماً أو ضرراً ففي ظهورها هذا الثاني له ليس فقط لم تشاء أن يعدم هو بصر عينه الصحيحة، بل أنها قد ردت إليه بصر عينه الأولى. وهكذا أملأته تعزيةً كاملةً وسروراً تاماً.*

† صلاة †

أننا ونحن في وادي البكاء هذا نجثوا لدى عرشكِ أيتها السيدة العظيمة الكلية المجد، ساجدين لكِ ولو عن بعدٍ، وفرحين معكِ قلبياً لأجل المجد الفائق الأدراك الذي أغناكِ به الرب. فأنتِ التي الآن جالسةٌ سلطانةً على السموات والأرض، لا تنسينا نحن عبيدكِ الفقراء البائسين، ولا تأنفي من أن ترمقينا بنظركِ الرحيم. من علو البلاط السماوي الذي أنتِ فيه متملكةً نحن الأذلاء الحقيرين، فأنتِ بمقدار كونكِ قريبةً من ينبوع النعم، فبمقدار ذلك تستطعين بسهولةٍ أن تسعفينا وتغني فقرنا، لأنكِ أنتِ الآن في السماء تعرفين أفضل معرفةً حال شقائنا. ومن ثم يلزم أن تشفقي علينا وترثي لذلنا، وتفتقدينا بأوفر سخاءٍ. فأجعلينا نكون عبيداً أمينين نحوكِ في الأرض، ليمكننا بعد ذلك أن نأتي الى السماء لنبارككِ ونسبحكِ الى الأبد، وها نحن نكرس ذواتنا لعبادتكِ وخدمتكِ في هذا اليوم الذي في اليوم الذي في مثله أنتِ صرتِ سلطانة العالمين. فأقبلينا عبيداً لكِ في حال فرحكِ العظيم المختص بهذا العيد، اذ أنتِ اذاً هي أمنا. فيا أيتها الأم الكلية الحلاوة والمستحقة منا حباً عظيماً. أن هياكلكِ الآن محاطةٌ من شعوبٍ كثيرين. ومنهم من يلتمس منكِ أن تشفيه من مرضٍ ما. ومنهم من يتوسل إليكِ بأن تسعفيه في أحتياجه الخصوصي، ومنهم من يطلب منكِ خصب أثمار أراضية، وغيره يسألكِ أن يربح دعوةً ما مقامةً له في ديوان الشريعة، أما نحن فنلتمس منكِ نعماً أكثر قبولاً لدى قلبكِ الحنون، وهي أن تستمدي لنا من الله أن نكون مثلكِ متواضعين. غير متعلقي القلوب بمحبة خيرات هذه الأرض. محسنين تسليم أرادتنا بالتمام لمشيئة الله. وألتمسي لنا منه تعالى حبه المقدس، وميتةً صالحةً، ونوال الفردوس السماوي، وأنقلينا أيتها السيدة من حال الخطيئة الى حال القداسة، وأن صنعتِ هذه الأعجوبة فهي تسديكِ كرامةً أفضل مما أن تهبي النظر الى الف إنسانٍ أعمى وتفتحي أعينهم، ومما أن تردي الى الحياة ألفاً من الموتى، فأنتِ أمام الله هكذا مقتدرةٌ، ويكفي القول أنكِ والدته والأكثر معزةً لديه الممتلئة نعمةً منه. فاذاً ماذا يمكنه هو أن ينكر عليكِ، أما نحن يا ملكتنا الكلية الجمال فلا ندعي مؤملين أن نشاهدكِ في الأرض، بل نريد أن نأتي الى السماء لنراكِ هناك. الأمر الذي يخصككِ أن تناليه لنا، فهكذا نرجوا بتأكيدٍ آمين.  

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +