Skip to Content

المقالة الثانية: شرح أحزان والدة الإله، بوجه العموم والخصوص - كتاب امجاد مريم

 Click to view full size image

المقالة الثانية

شرح أحزان والدة الإله، بوجه العموم والخصوص 
الفصل الأول

* فيما يلاحظ أحزان هذه العذراء المجيدة بوجه العموم تحت صفة*

* كونها سلطانة الشهداء، لأجل أن أستشهادها وجد أطول*

* وأشد من أستشهادهم كافةً.*

* وفيه جزءان*

Click to view full size image

الجزء الأول

* في أن أستشهاد مريم البتول وجد أكثر أستطالةً من *

* أستشهادات جميع الشهداء*

ترى من هو ذاك الإنسان الحاصل على قلبٍ قاسٍ كالجلمود، حتى أنه لا يتوجع متخشعاً عند أستماعه إيراد حادثٍ مملؤٍ من الغم، مستحق الندب والبكاء الحادث الذي حصل وقتاً ما في هذا العالم وهو أنه كانت على الأرض أمرأةٌ شريفةٌ قديسةٌ، لم يكن لها الا أبنٌ وحيدٌ، وهذا الأبن كان هو الموضوع المستحق أعظم المحبات الممكن تصوره في العقل، باراً جميلاً حاوياً كل الفضائل، مغرماً بالحب الشديد نحو هذه الوالدة، بنوع أنه قط لم يكن أغاظها بأدنى شيءٍ. بل كان دائماً يحترمها بوقارٍ، ويطيعها بتكريمٍ، ويكمل مشيئتها بكل حقائق الحب، ولذلك قد وضعت هي فيه جميع أميالها وعواطفها وحبها على الأرض. فماذا جرى بعد ذلك، فقد حدث أن هذا الأبن لأجل روح الحسد الذي أستوعبت منه قلوب أعدائه، قد اشتكوا عليه كذباً وعدواناً أمام القاضي، الذي ولئن كان عرف براءته وأشهرها معترفاً بها، فمع ذلك لكيلا يغيظ هو أولئك الأعداء قد حكم على هذا الأبن البريء من الذنب بالموت ذي العار والخزي، بالنوع المطلوب من الأعداء أنفسهم، ومن ثم هذه الأم المسكينة أحتملت الحزن الشديد المسبب لها من قبل مشاهدتها أبنها البار المحبوب منها بهذا المقدار، يقتل ظلماً في سن شبوبيته بميتةٍ بربريةٍ كلية القساوة! أعدموه ــ الحياة أمام عينيها، فيما بين العذابات الأشد أوجاعاً، وأماتوه موت الخزي والعار. فماذا تقولون يا ذوي الأنفس الحنونة اللينة، أما أن هذا الحادث هو مستحق التوجع والشفقة، وأما أن هذه الوالدة الحزينة هي مستأهلة أن يرثى لها ويشفق عليها. فأنتم تفهمون جيداً عمن أشير أنا بهذا الحادث. أي أن الأبن الذي حكم عليه بالموت وقتل بالنوع المقدم إيراده، هو مخلصنا يسوع المسيح الموضوع المستأهل كل محبة، والأم التي تكبدت الأحزان والآلام بما أشرنا عنه، هي والدة الإله مريم الطوباوية، التي حباً بنا وبخلاصنا قد أرتضت بأن تشاهد أبنها هذا الحبيب مقدماً ذبيحةً للعدل الإلهي بأيدي البشر القساة القلوب. فاذاً الأوجاع والأحزان التي ذاقتها من أجلنا هذه الأم الإلهية بمرارةٍ تفضل على مرائر ألف ميتةٍ، تستحق منا التوجع والترثي ومعرفة الجميل. وأن كان لا يوجد لنا شيءٌ آخر نكافئ به حبها إيانا هذا الشديد، فقلما يكون نأخذ في هذا اليوم بالتأمل برهةً من الزمان، في شدة الحزن والتوجع والألم الذي تكبدته هذه العذراء، ومن قبل ذلك صارت هي سلطانة الشهداء، اذ أن أوجاع أستشهادها قد فاقت على عذابات الشهداء كافةً.

أولاً: بما أن هذا الأستشهاد  وجد زمنه أكثر أستطالةً من أزمنة عذابات

    الشهداء. الأمر الملاحظ في الجزء الحاضر.

ثانياً: لأنه قد وجد هو الأستشهاد الأشد أوجاعاً من عذاباتهم كلها الأمر

     الملاحظ في الجزء الآخر.*

فكما أن يسوع المسيح سمي: سلطان الأوجاع، وملك الشهداء لأجل أنه في مدة حياته قد أحتمل آلاماً أشد مما أحتمله الشهداء أجمعون، فهكذا بكل عدلٍ تدعى مريم البتول: سلطانة الشهداء لأنها أستحقت هذا اللقب بأحتمالها أستشهاداً أعظم من كل ما سواه بعد ذاك المحتمل من أبنها مخلصنا. فاذاً بالصواب يسميها العلامة ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: شهيدة الشهداء: ويمكن أن يقال عنها ما قاله أشعيا النبي: يكللكِ الله بالضيق تكليلاً: (ص22ع18) أي أن الأكليل الذي تتوجت به هذه السيدة سلطانةً للشهداء قد كان أكليل الضيق والأوجاع عينها التي فاقت على عذابات الشهداء كلهم اذا أنجمعت معاً. فأما عن كون مريم العذراء وجدت شهيدةً حقيقيةً، فهذا لا ريب فيه ولا أشكال، ويبرهن عنه بأثباتٍ العلماء كارتوزيانوس وبالبارتوس وكاتارينوس وآخرون غيرهم. على أنه لحكمٌ عامٌ هو أنه يكفي لحقيقة الأستشهاد أن يحتمل الشهيد عذاباً وألماً كافياً لأن يعدمه الحياة الجسدية، ولئن لم يكن هو يموت من مجرد هذا العذاب، فهكذا القديس يوحنا الأنجيلي قد كرم من الكنيسة الجامعة بصفة شهيد ولئن لم يكن مات هذا الرسول ضمن خلقين الزيت المغلي، حينما هو وضع فيها بأمر الملك دوميتسيانوس، بل خرج من تلك الخلقين أشد قوةً من ذي قبل (كما هو مدون تحت اليوم السادس من شهر أيار في كتاب الفرض الروماني) ويقول القديس توما اللاهوتي: أنه يكفي لأكتساب مجد الأستشهاد أن الإنسان يطيع في أن يقدم ذاته لحد الموت: فمريم وجدت شهيدةً لا مماتةً بواسطة الحديد، بل بشدة أوجاع القلب: كما يقول عنها القديس برنردوس، أي أن كان جسدها الطاهر لم يجرح من الجلادين، فقد طعن قلبها المبارك بسهام أوجاع آلام أبنها، وهذه الأوجاع قد وجدت كافيةً لأن تسبب لها لا موتاً واحداً فقط، بل ألف ميتةٍ أيضاً، ومن ثم أن مريم قد صارت ليس شهيدةً حقيقيةً فقط، بل أيضاً أن أستشهادها الأليم قد فاق على أستشهادات جميع الشهداء، لأجل أستطالة زمنه، لأنه يمكن القول أن حياتها بأسرها قد وجدت أستشهاداً متصلاً من دون أنقطاعٍ.*

فكما أن آلام سيدنا يسوع المسيح قد أبتدأت معه منذ أتلاده على الأرض، حسبما يقول القديس برنردوس: أن المسيح قد ولد ومعه ولدت آلام الصليب: فهكذا مريم التي هي شبيهة بأبنها في كل شيءٍ. قد أحتملت أستشهادها مدة حياتها كلها. فأسم مريم فيما بين التفاسير التي يعنيها يفسر: بحر المرارة: كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير. ولذلك يخصص بهذه البتول ما قاله أرميا النبي في العدد الثالث عشر من الاصحاح الثاني من مراثيه وهو: يا بتول أبنة صهيون أن أنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: لأنه كما أن مياه البحر كلها هي مرةً مالحةً، فهكذا هي حياة مريم البتول قد وجدت دائماً مملؤةً من المرائر، لأجل أن آلام مخلصنا كانت على الدوام بأزاء عقلها مصورةً، فلا يمكن لأحدٍ أن يرتاب في أن هذه السيدة قد أستنارت من الروح القدس أكثر أستنارةً من الأنبياء كلهم. وكانت هي تعلم أفضل علماً منهم حقيقة ما دونوه عن المسيح في أقوالهم النبوية. فهكذا قال الملاك للقديسة بريجيتا، كما أنه قال لها في محلٍ آخر: أن البتول المجيدة اذ كانت تعرف كم هو مقدار الآلام التي كان مزمعاً الكلمة المتجسد أن يتكبدها من أجل خلاص الجنس البشري، فمن قبل أن تصير هي أمه كانت تتصور آلامه وتتوجع من أجل الميتة البربرية المعدة له، ليس من أجل خطاياه، اذ لا خطيئة فيه، وعلى هذه الصورة منذ ذاك الوقت أبتدأ زمن أستشهادها:*

فهذا التوجع والآلام قد أزدادت مرارةً وقوةً بما لا يحد عندما صارت هذه البتول أماً للكلمة المتجسد، لأنها حينئذٍ عند تأملها في جميع ما كان عتيداً هذا الأبن المحبوب منها أن يتألم به. فهي أحتملت بهذا التصور المتصل عذاب أستشهادٍ متصلٍ مدى حياتها، ولذلك يقول نحوها الأنبا روبارتوس: أنكِ اذ كنتِ سبقتِ وعرفتِ آلام أبنكِ العتيدة صيرورتها بعد زمنٍ طويلٍ من معرفتكِ بها. فوجد لذلك أستشهادكِ في تكبدكِ مرارتها مستطيلاً: وهذا بالحصر ما تفسره الرؤيا التي شاهدتها القديسة بريجيتا في مدينة رومية، في كنيسة القديسة مريم الكبرى، حيث ظهرت لها البتول الطوباوية وبرفقتها القديس سمعان الشيخ، مع ملاكٍ كان حاملاً بيده سيفاً طويلاً جداً، مصبوغاً بالدم، مشيراً به الى الحزن والآلام الشديدة المرارة والمستطيلة معاً، التي أجتازت في نفس هذه الأم الإلهية طول أيام حياتها. ولذلك الأنبا روبارتوس يجعل هذه السيدة متكلمةً هكذا: أيتها الأنفس المفتداة، يا بناتي العزيزات لا تتوجعن من أجلي لما تكبدته في تلك الساعة فقط، التي فيها شاهدت أبني يموت فيما بين العذابات أمام عيني. لأن سيف الحزن والوجع الذي سبق سمعان وأخبرني عنه. قد أجتاز في نفسي مدة حياتي كلها. ومن ثم حينما كنت أرضع أبني الحبيب. وأدفئه في حجري وبين ذراعي. فدائماً كنت أشاهد الميتة المرة التي كانت تنتظره. فتأملن كم هي شدة التوجع. وكم هو مستطيلٌ زمان هذه الآلام التي أنا أحتملتها.*

ولهذا بكل صوابٍ يمكن للعذراء المجيدة أن تقول عن ذاتها ما قاله النبي والملك داود: أن حياتي قد فنيت بالأوجاع وعمري بالتنهد: (مزمور 31ع10): لأنني أنا للضرب مستعدٌ ووجعي مقابلي في كل حين: (مزمور 380ع17): فقد أصرفت حياتي كلها بالأوجاع والدموع. من حيث أن حزني وتوجعي الصادرين من تذكري في آلام أبني الحبيب وموته. ولم يبرحا قط من أمام عيني، بل دائماً كنت أشاهد أنواع آلامه، وكيفية ميتته التي يوماً ما كان هو مزمعاً أن يتكبدها: فهذه الأم الإلهية قد أوحت الى القديسة بريجيتا: بأنها قد استمرت تشعر حتى بعد قيامة أبنها من بين الأموات وصعوده الى السموات، بمرارة آلامه وموته في قلبها باقي الزمن الذي عاشت هي فيه على الأرض. سواءٌ كانت تمارس أعمالها، أو تأكل أم تصنع شيئاً آخر الى حين نياحها: ولهذا كتب طاولاروس: بأن مريم البتول قد أجتازت زمن حياتها بأسره في توجعٍ متصلٍ. لأنه لم يكن يهجس في قلبها شيءٌ من قبيل الآلام سوى الغم والحزن:*

ولهذا فأستطالة الزمان المعتاد أن يصرف من المحزونين في الأنفراج. وفي تمويه الحزن ونسيان موضوعه، لم يفد البتول القديسة لتخفيف أوجاعها، بل بالعكس أن أستطالة الزمن كانت لديها علةً لأزدياد التوجع والحزن، لأن نمو أبنها يسوع في القامة والعمر، فبمقدار ما كان ينمى فيها تعلق قلبها به من الجهة الواحدة، لمشاهدتها فيه موضوعاتٍ جديدةً للحب والكمال وحسن الصفات، فبأكثر من ذلك من الجهة الأخرى، لتقدمه نحو زمن الآلام ولدنوه من أيام الحكومة عليه بالموت البربري كان ينمى فيها شدة الحزن والتوجع من أجله لفقدانها إياه من على الأرض. وحسبما أخبر ملاك الرب في الرؤيا للقديسة بريجيتا:" أنه كما أن الوردة تظهر نابتةً فيما بين الأشواك، فكذلك والدة الإله كانت تتقدم بالسنين فيما بين الأوجاع. ونظير ما أن الوردة في نموها تنمو معها الأشواك المحيطة بها، فهكذا وردة الرب المختارة هذه بمقدار ما كانت هي تنمو في العمر، فبأكثر من ذلك كانت تنمو معها أشواك آلامها وأحزانها لتزيدها وجعاً وغماً". فاذ تأملنا لحد ههنا في أستطالة زمن أحزان هذه السيدة فلنأتِ الى

*الجزء الثاني لنتأمل عظم هذه الأحزان.* 

Click to view full size image

الجزء الثاني

* في أن أستشهاد مريم البتول هو أشد أوجاعاً من عذابات الشهداء كلهم*

فمريم العذراء دعيت سلطانة الشهداء ليس فقط من كون زمن أستشهادها في أحتمال الآلام وجد أطول من أزمنة عذابات الشهداء بل أيضاً من كون أوجاعها وآلامها قد وجدت أشد وأعظم من أوجاع الشهداء وآلامهم كافةً. على أنه ترى من يمكنه أن يقايس مقدار هذه الأوجاع. ويعرف حقيقتها وشدتها وعظمتها. فالنبي أرميا يشير الى أنه لا يقدر أن يجد من يمثل هو به أوجاع هذه  الأم وأحزانها، لأنه يقول: بمن أشبهكِ، أو بمن أمثلكِ يا بنت أورشليم. من أقايس عليكِ وأعزيكِ، يا بتول أبنة صهيون فأن أنكساركٍ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: (مراثي ص2ع13) ولذلك اذ فسر هذا النص الكردينال أوغون فكتب قائلاً نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أنه كما أن مرارة مياه البحر تفوق في شدتها على مرائر الأشياء المرة كلها. فعلى هذا المثال أن أوجاعكِ أيتها العذراء المباركة قد فاقت في شدتها على الأوجاع الأخرى بأسرها: ولهذا يقول القديس أنسلموس: أنه لولا يكون الله بأعجوبةٍ خصوصيةٍ حفظ حياة مريم البتول. لكان وجع قلبها كافياً لأن يميتها في كل دقيقةٍ من دقائق حياتها: وأما القديس برنردينوس السياني فقد أتصل الى أن يقول: أن أوجاع مريم قد كانت بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه لو أمكن تفريقها موزعةً على البشر كلهم. لكانت كافيةً لأن تميتهم كافةً بكل سرعةٍ.*

الا أننا ههنا نتأمل الأسباب التي من أجلها وجد أستشهاد هذه الأم الإلهية أعظم من أستشهاد كل الذين سفكوا دماؤهم من أجل الإيمان بالمسيح. فليعتبر.

أولاً: أن الشهداء أنما أحتملوا العذابات في أجسادهم بواسطة النار أو الحديد وغيرهما. أما مريم فأحتملت عذاب أستشهادها باطناً في نفسها. حسبما سبق القديس سمعان الشيخ وقال لها: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: (لوقا ص2ع35) وكأنه يريد بقوله هذا أن يعلن لها هكذا مخاطباً: أيتها البتول المثلثة القداسة أن جميع الشهداء أنما عتيدون في أجسادهم أن يتكبدوا أوجاع الحديد، وأما أنتِ فأستشهادكِ أنما هو باطنٌ، لأن سيف الحزن مزمع أن يحوز في نفسكِ وتحيق الأوجاع بقلبكِ مع آلام أبنكِ يسوع: فاذاً بمقدار ما أن النفس هي أشرف من الجسد فبمقدار ذلك كان أستشهاد مريم بنفسها أعظم من أستشهاد الشهداء بأجسادهم. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة كاترينا السيانية بقوله لها: أنه فيما بين الأستشهاد بالأجساد، وبين الأستشهاد بالأنفس يوجد فرق لا قياس لعظمته: ومن ثم يقول الأنبا القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن من أتفق له أن يوجد حاضراً في جبل الجلجلة ليشاهد ذبيحة الحمل البريء من العيب، حينما هو مات على خشبة الصليب. لقد كان لاحظ هناك مذبحين عظيمين. أحدهما في قلب يسوع، وثانيهما في قلب مريم. حيث أنه في زمنٍ واحدٍ نفسه الذي فيه كان الأبن يضحي قرباناً بالتوجع القلبي:*

ثانياً: يقول القديس أنطونينوس: أن الشهداء الآخرين قد تعذبوا بواسطة ذبيحة حياتهم الذاتية. واما البتول البطوباوية فتعذبت بواسطة ذبيحة حياة أبنها الذي كانت هي تحبه أشد حباً بما لا يحد من حياتها الذاتية. ولهذا ليس فقط قد تكبدت هي بنفسها كل الأوجاع التي تكبدها أبنها في جسده. بل أيضاً قد سبب لقلبها نظرها بعينيها تعاذيب أبنها أوجاعاً أعظم مما لو كانت هي نفسها أحتملت تلك التعاذيب في جسدها عينه. فعن القول أن مريم العذراء قد تكبدت في قلبها جميع العذابات التي شاهدت هي أبنها الحبيب يسوع معذباً بها. لا يمكن أن يوجد ريبٌ أو أشكالٌ. فكل أحدٍ يفهم أن عذاب الأبناء هو نفس عذاب أمهاتهم. اذا كن حاضراتٍ وناظراتٍ مباشرة ذاك العذاب. فالقديس أوغوسطينوس اذ كان يتأمل في الأوجاع التي أحتملتها القديسة (صالومي) أم السبعة شهداء المكابيين بمشاهدتها العذابات التي كانت أولادها هؤلاء يتكبدونها قال: أنها اذ كانت تنظر أوجاع أولادها قد تألمت هي بالأوجاع كلها، لأنها كانت تحبهم كلهم. وبالتالي كانت هي تتعذب في عينيها بجميع العذابات التي هم كانوا يتعذبون بها في أجسادهم. فهكذا حدث لوالدة الإله، أي أن جميع تلك العذابات من الجلد وأكليل الشوك، والمسامير، والصليب التي تعذبت بها لحمان يسوع الطاهرة. فهذه كلها دخلت حينئذٍ في قلب مريم لتكمل بواسطتها أستشهادها، كما كتب القديس أماداوس قائلاً: أن هذه العذابات التي دخلت على جسد يسوع هي نفسها دخلت على قلب مريم: بنوع أنه (حسبما قال القديس لورانسوس يوستينياني) قد أضحى قلب هذه الأم بمنزلة مرآةٍ للأوجاع التي أحتملها أبنها، وبهذه المرآة كانت تنظر اللطمات والبصاق والجراحات وسائر العذابات التي تألم بها يسوع. ثم أن القديس بوناونتورا يتأمل: في أن جميع تلك الجراحات التي كانت مفرقةً في جسد يسوع كله، فهذه بأسرها وجدت مجموعةً معاً في قلب مريم.*

فاذاً قد تكبدت هذه البتول لأجل أوجاع أبنها وآلامه محتملةً في قلبها الشديد الحب أنواع تلك الآلام! أي الجلد، التكليل بالشوك، الأهانات، التعييرات، المسامير، الصليب، كأنها هي نفسها جلدت، كللت، أهينت، عيرت، سمرت، صلبت، ولهذا اذ يتصور القديس بوناونتورا عينه حال وجود هذه الأم الإلهية في جبل الجلجلة حاضرةً موت أبنها، فيخاطبها كمستفهمٍ قائلاً: أيتها السيدة أخبريني أين كنتِ حينئذٍ واقفةً، أهل أنكِ وجدتِ قريبةً فقط من صليب يسوع، كلا بل أنني أقول الأجود أنكِ كنتِ مرفوعةً على الصليب عينه، ومسمرةً مصلوبةً مع أبنكِ نفسه. أما ريكاردوس فالى كلمات النبي أشعيا المدونة في العدد الثالث من الاصحاح 63 من نبؤته المقالة منه عن لسان مخلصنا وهي: دست المعصرة وحدي ومن الأمم ليس معي رجلٌ: يضيف هو هذه الكلمات قائلاً: أنك بالصواب تقول أيها السيد أنه في عمل أفتداء الجنس البشري أنت وحدك دست المعصرة متألماً، ولم يكن معك رجلً يتوجع من أجلك بكفايةٍ. ولكن توجد أمرأةٌ وهي أمك التي مقدار ما أنت أحتملت في جسدك، فهي مقدار ذلك تكبدت في قلبها.*

الا أن هذه الأقوال كلها هي شيءٌ زهيدٌ جداً بالنسبة الى حقيقة ما تألمت به العذراء المجيدة، من حيث أنها (كما قلت آنفاً) قد تكبدت هي بالنظر الى عذابات يسوع آلاماً وأوجاعاً أشد مرارةً من آلام يسوع وأوجاعه عينها، لو كانت هي أحتملتها في جسدها بدلاً منه. فالعلامة أيرازموس كتب في تكلمه بوجه العموم عن الوالدين بقوله عنهم: أنهم يشعرون في ذواتهم بالأوجاع التي تتعذب بها أولادهم. أشد آلاماً مما يشعرون بأوجاعهم الذاتية: الا أن هذا ليس بحقيقي دائماً ولا في كل الوالدين. أما في مريم البتول فقد تحقق ذلك بكل تأكيدٍ. لأجل أن هذه الأم المجيدة كانت تحب أبنها الإلهي حباً أعظم بما لا يحد، ولا يمكن وصفه من حبها ذاتها، بل من حبها ألف حياةٍ لو كانت لها. ولذلك بكل صدقٍ يشهد لنا القديس أماداوس: بأن هذه الوالدة المحزونة اذ كانت تشاهد المنظر المرثى له، الذي به أبنها يسوع الحبيب كان يحتمل العذابات، فهي قد تعذبت أكثر جداً مما لو كانت هي نفسها تحتمل في جسمها آلام هذا الأبن كلها: فالبرهان هو واضحٌ من حيث أنه كما يقول القديس برنردوس: أن النفس توجد مستقرةً ومتحدةً في الموضوع المحبوب منها أتحاداً أشد جداً من كيانها في الجسد الذي هي تحييه: بل أن مخلصنا عينه قبل هذا القديس قال: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) فاذاً من حيث أن هذه البتول كانت بقوة الحب تحيى بيسوع بنوعٍ أفضل مما كانت تحيى في ذاتها، فمن دون ريبٍ أنها تكبدت من الآلام، لأجل موت حبيبها هذا، أوجاعاً أشد وعذاباً أعظم مما لو كانت هي نفسها تمات فيما بين أمر عذابات العالم، ميتةً ذات قساوةٍ أشد من كل ما يمكن أختراعه من التعذيبات.*

ثالثاً: أن السبب الذي قد صير عذاب أستشهاد والدة الإله أعظم من عذابات الشهداء كلهم بما لا حد له ولا قرار، هو أنها قد تألمت هي كثيراً، ومن دون أدنى تعزيةٍ. فأي نعم أن الشهداء كانوا يشعرون بالعذابات التي كان المضطهدون القساة يذيقونهم إياها، ولكن حبهم ليسوع كان يصير عذبةً حلوةً مراير تلك الأمتحانات. بل كان يجعلها محبوبةً منهم. فالقديس فينجانسوس في أستشهاده تكبد عذاباتٍ وافرةً كلية القساوة، من الزيار والجلد، وسلخ الجلد والتمشيط بالأظفار الحديد، والحريق بالمشاهيب. ولكن يقول عنه القديس أوغوسطينوس: أن آخر كان يتعذب هكذا، وآخر كان يتكلم بفصاحةٍ: لأن هذا الشهيد وهو فيما بين عذاباتٍ هذه صفتها كان يخاطب المغتصب بشجاعةٍ وفصاحةٍ، وبأحتقار عظيمٍ لتلك التعاذيب، حتى أنه أستبان أن فنجانسوس واحداً كان يعذب. وفينجانسوس آخر كان يتكلم، ومن هنا يظهر واضحاً كم كان الله بعواطف حبه العذبة، يشجع هذا الشهيد ويقويه على أحتمال تلك النكال المرة. وهكذا القديس بونيفاسيوس الشهيد كان يقاسي شدائد الأمتحانات، بتمزيق لحمان جسده بالمخالب الحديد، وبأدخال القضيب الرفيع تحت أظافره، وبصب الرصاص المذاب في فمه. أما الشهيد ففيما بين هذه العذابات لم يكن يشبع من تكرار الشكر لله هاتفاً: أشكرك شكراً دائماً أيها الرب يسوع المسيح. وكذلك القديسان مرقص ومركلوس اذ كانا يتكبدان عذابات الأستشهاد، مسمرين بأرجلهما على قائمةٍ من خشبٍ، والمغتصب كان يقول لهما: أيها الشقيان تأملا حالكما هذه التعيسة. وخلصا ذاتيكما من هذا العذاب بالطاعة. فهما أجاباه قائلين: عن أية عذابات أنت تتكلم، فهذه هي أشياء مضحكةٌ، لأننا نحن ما شعرنا قط بلذةٍ ولا تنعمنا أصلاً على مائدةٍ، بمقدار ما نلذ ونتنعم الآن في هذه الوليمة، التي فيها نحتمل الأوجاع بالتذاذٍ عظيمٍ حباً بيسوع المسيح. ومثلهما القديس المجيد في الشهداء رئيس الشمامسة لافرنتيوس حينما كان يشوى على المصبع الحديد فوق جمرات النار: قد وجد حينئذٍ (يقول القديس البابا لاون في خطبته على عيد هذا القديس) أعظم قوةً لهيب الحب الباطن في قلبه لله ليعزي نفسه، وأشد حرارةً من لهيب النار المادية الخارجة التي كانت تحرق جسده. وقد فاز بالقوة والشجاعة في تلك الحال بنوع أنه أتصل الى أن يستهزئ بالمغتصب قائلاً له: هوذا لحماني قد أشويت حسناً وأنتهي شيها من الجانب الواحد، فأن كنت تريد أن تأكل منها فأقلبها على الجانب الآخر وكل. ولكن كيف أمكن لهذا الشهيد في أحتماله تلك الميتة المستطيلة بعذابٍ هذه صفة شدته أن يتهلل مبتهجاً، فيجيب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن هذا المعظم في الشهداء قد سكر بخمرة الحب الإلهي، حتى أنه لم يعد يشعر لا بالعذابات ولا بالموت:*

فاذاً أن الشهداء بمقدار أشتداد حبهم ليسوع، فبمقدار ذلك كانت تحلو لديهم العذابات من أجله. حتى كأنهم لم يعودوا يشعروا بها. وكان الموت يصير لديهم عذباً حلواً. وكان مجرد تصورهم مرائر آلام إلهٍ متجسدٍ على الصليب يخفف عنهم مرائر تعاذيبهم معزياً إياهم. ولكن أهل أن حب سيدتنا مريم البتول ليسوع، قد كان على هذه الصورة يعزيها ويخفف عنها مرائر الأوجاع، لا لعمري، بل أن أبنها الحبيب يسوع الذي كان هو يتألم، فهو نفسه كان علة أحزانها وآلامها، وأن الحب الشديد الذي كان قلبها به مغرماً نحوه تعالى، فهو عينه كان الجلاد الوحيد الكلي قساوة المعذب إياها. لأن كل أستشهاد هذه الأم الإلهية كان قائماً في مشاهدتها عذابات أبنها المحبوب منها بهذا المقدار، والبريء من كل خيال ذنبٍ. بل البراءة بالذات، الذي كان يتألم آلاماً فائقة الوصف. وبالتالي أنها بمقدار أزدياد حبها إياه حباً هكذا عظيماً، فبمقدار ذلك كانت شدة أوجاعها وأحزانها تتعاظم من دون أدنى تعزيةٍ: فأنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر يا بتول أبنة صهيون فمن يعالجكِ. أواه يا سلطانة السموات والأرض، أن المحبة قد صيرت الشهداء الآخرين أن ينسوا عذابتهم، لخفتها عنهم من قبل الحب الذي كان يشفي جرحاتهم، وأما أنتِ فمن يعالجكِ ويجلي لديكِ بحر المرائر والحزن العظيم. ومن يشفي جراحاتكِ المتخنة الكلية الأوجاع، المجروح بها قلبكِ. لأن ذاك الأبن الحبيب عينه الذي كان يمكنه أن يفرح غمكِ ويعزيكِ فهو كان بآلامه العلة الوحيدة لأوجاعكِ. والحب الذي أنتِ ملتهبةٌ به نحوه فهو نفسه الذي كان يصور مجموع أستشهادكِ. ولهذا يقول العلامة دياز: أنه قد جرت العادة في أن المصورين عندما يصورون أيقونات الشهداء ففي كلٍ منها يرسمون مع الشهيد صورة تلك الآلة التي بها كمل أستشهاده، مثلاً السيف مع القديس بولس، الصليب مع القديس أندراوس، المصبع الحديد مع القديس لافرنتيوس وهلم جراً. فأما العذراء مريم فيصورن آلة أستشهادها المسيح عينه ميتاً متكئاً على ركبتيها، لأن حبها الشديد إياه كان لها آلة الأستشهاد. أما القديس برنردوس فبألفاظٍ وجيزةٍ يثبت جميع ما قلته لحد الآن، اذ أنه كتب هكذا قائلاً: أنه في الأستشهادات الأخرى عظم الحب الشديد يخفف مرائر العذابات، أما البتول الطوباوية فبمقدار ما كان حبها له تعالى أشد ألتهاباً. فبأكثر من ذلك كانت أوجاعها أعظم قساوةً ومرارةً، وهو الذي صير أستشهادها أوفر تألماً وأمر توجعاً.*

 فأمرٌ حقيقي هو أنه بقياس المحبة التي توجد في قلب إنسانٍ ما نحو موضوعٍ ما، يقاس حزنه وغمه على فقد ذاك الموضوع، وهكذا يوجد قياس شدة توجعه على خسرانه إياه، مقدار شدة غرامه في حبه الزائد نحوه. ومن ثم أن فقد الإنسان أخاه الطبيعي بالموت يحزن قلبه أشد حزناً، مما يحدث له من الغم على فقده أحد الحيوانات، كالفرس وغيرها. وكذلك يتوجع الأب على موت أبنه أعظم توجعاً مما على موت أحد أصدقائه. ولهذا يقول كورنيليوس الحجري: أنه لكي يفهم كم كان مقدار توجع مريم البتول على موت أبنها يسوع، يلزم أن يفهم مقدار الحب التي هي كانت تحبه به تعالى. ولكن من يمكنه أن يعرف قياس هذا الحب الذي هي كانت مغرمةً به نحو أبنها (يقول الطوباوي أماداوس) حيث أن حبها إياه بالنوع الواحد وبالنوع الآخر قد أجمعا معاً في قلبها كشيءٍ واحدٍ، أي الحب الفائق الطبيعة الذي به كانت هي تحبه عز وجل بحسبما هو إلهها، ثم الحب الطبيعي الذي به كان قلبها متعلقاً بمحبته بحسب كونه أبنها". فاذاً هذان النوعان من الحب قد أجتمعا واحداً في قلبها. ولكن بهذا المقدار وجد هذا الحب المضعف عظيماً فائق الحد والقياس، حتى أن غوليالموس الباريسي يقول:" أن الطوباوية مريم العذراء قد أحبت أبنها وإلهها يسوع بمقدار ما أمكن للنوع الإنساني أن يكون قابلاً لأن يحب، أي أن خليقةً محضةً لم تقدر أن تكون موضوعاً قابلاً لأن تحب أكثر من ذلك". ولهذا كتب ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه كما ان حب مريم ليسوع ما وجد قط ولن يوجد أبداً أعظم منه، فلا وجد ولن يوجد أصلاً وجعٌ أعظم من وجعها من قبل آلامه وموته، ومن حيث أن حبها إياه تعالى كان عديم الحد ولا قرار له، فعديم الحد ولا قرار له كان وجعها بفقدها إياه بالموت. وقال الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه حيثما يكون الحب أشد. فهناك يوجد التوجع أعظم.*

ولهذا فلنتصور أن مريم اذ كانت واقفةً تحت صليب يسوع على جبل الجلجلة، فبكل عدلٍ وصوابٍ كان يمكنها أن تخصص ذاتها بكلمات أرميا النبي وهي: يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي: (مراثي ص1ع12) أي يا معشر المجتازين على الأرض أيام حياتكم ولا تفتكرون بي ولا تتوجعون من أجلي. قفوا قليلاً متأملين فيَّ أنا التي الآن أشاهد أمام عيني مدنفاً على الموت، في بحرٍ من الآلام هذا الأبن الحبيب، وأنظروا هل يوجد فيما بين جميع الحزانى والمتألمين أحدٌ أوجاعه تشابه أوجاعي. فهنا يرد الجواب القديس بوناونتورا قائلاً: كلا، أيتها الأم المملؤة أحزاناً أنه لا يمكن أن يوجد من الأرض وجعٌ مرٌ قاسٍ مثل وجعكِ، لأنه لا يمكن وجود أبنٍ عزيزٍ حبيبٍ على الأطلاق نظير أبنكِ. ويضيف الى ذلك القديس لورانسوس يوستينياني بقوله: أنه حقاً لم يكن وجد قط في العالم أبنٌ موضوعٌ للحب الشديد نظير يسوع، ولا أمٌ مغرمةٌ بالحب الكلي نحو أبنها مثل مريم. فأن كان اذاً ما صودف على الأرض حبٌ هكذا عظيمٌ يشابه حب هذه الأم الإلهية لأبنها، فكيف يستطاع أن يصادف وجعٌ شديد القساوة يماثل وجعها ويشابهه.*

ومن ثم القديس أيدالفونسوس لم يرتب في أن يقول: أنه لقليلٌ هو أن يورد عن مريم البتول أن آلامها قد فاقت على عذابات الشهداء كلهم، حتى ولو أفترضت أوجاعهم متحدةً معاً بجملتها. ويضيف الى ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن التعاذيب الأشد مرارةً ووجعاً التي بها عذب الشهداء القديسون بأعظم قساوةٍ، قد وجدت خفيفةً وكلا شيء بالنسبة الى أستشهاد البتول المجيدة. وكتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه كما أن الشمس تفوق بأنوارها على سائر الكواكب والنجوم، فهكذا مريم العذراء قد فاقت بآلامها على مرارة أوجاع الشهداء الآخرين أجمعين.

من العلماء العباد (وهو الأب بينامونته) يبرهن بعبارةٍ جليلةٍ عما أشرنا إليه قائلاً: أن أوجاع مريم البتول قد كانت بهذا المقدار شديدةً وعظيمةً، حتى أن هذه الأم الحنونة وحدها وجدت حين آلام أبنها بهذه الأوجاع كافيةً ومقتدرةً على أن تتوجع بألمٍ كافٍ على موت إلهٍ متأنسٍ.*

ولكن ههنا يلتفت القديس بوناونتورا نحو هذه السيدة المجيدة قائلاً كمستفهم هكذا: أخبريني يا سيدتي لماذا أنتِ أردتِ أن تذهبي الى جبل الجلجلة، لتقدمي أنتِ أيضاً ذاتكِ ذبيحةً. أهل أنه ربما لم يكن كافياً لأفتدائنا أن إلهاً يموت من أجلنا على الصليب بالجسد، ولذلك رغبتِ أن تصلبي معه أنتِ أيضاً والدته: الجواب، أنه لأمرٌ كلي الوضوح هو أن موت يسوع المسيح وجد كافياً ليس لخلاص هذا العالم كله فقط، بل لخلاص عوالم غير متناهٍ عددها أيضاً، الا أن هذه الأم الصالحة قد أرادت لأجل الحب الشديد الذي تحبنا به، أن تفيد أمر خلاصنا هي أيضاً بواسطة أستحقاقات الأوجاع التي تكبدتها هي وقدمتها لله على جبل الجلجلة. ولذلك يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه كما أننا ممنونون وملتزمون بالمعروف نحو يسوع المسيح، لأجل آلامه التي تكبدها حباً بنا. فهكذا نحن ممنونون وملتزمون بمعرفة الجميل نحو مريم العذراء لأجل الأستشهاد الذي هي أرادت بموت أبنها أن تحتمله من تلقاء مشيئتها لأجل خلاصنا.*

وأنما قلت من تلقاء ذاتها: لأن أمنا هذه الكلية الأشفاق نحونا (كما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا) "قد أرتضت بأن تحتمل بالأحرى العذابات كلها، من أن تشاهد الأنفس غير مفتداة باقيةً مهملةً في حال الخسران القديم". فهذا الموضوع يمكن أن يقال عنه أنه كان هو التعزية الوحيدة التي هي شعرت بها في حين غرقها في بحر تلك الآلام العظيمة الشديدة المرائر، المسببة لها من آلام أبنها، أي ملاحظتها أنه بواسطة آلامه المقدسة قد أفتدى العالم الهالك، وفاز البشريون بالصلح مع الله بعد أن كانوا أعداءً له تعالى: (حسبما يقول سمعان الكاسياني).*

فحبٌ هكذا عظيمٌ من والدة الإله نحونا يستحق منا معرفة الجميل نحوها، وقلما يكون ينبغي لنا أن نكافئ جميلها بتأملنا في أوجاعها وآلامها. وبتوجعنا من أجلها، لأن هذه السيدة قد تشكت للقديسة بريجيتا من أن قليلين جداً هم أولئك الذين يفتكرون بأوجاعها، والأكثرين يعيشون متناسين هذا الموضوع. ولذلك أوصت هي هذه القديسة بأن تتذكر أحزانها. فلكي يفهم كم هو أمرٌ مقبولٌ لدى هذه الأم الإلهية التفكر مراتٍ كثيرةً في آلامها وأوجاعها. يكفي أن يعرف هذا الحادث فقط، وهو أنها أي والدة الإله قد ظهرت سنة 1239 للسبعة الأشخاص المتعبدين لها، الذين هم مؤسسوا الجمعية الملقبة: برهبنة عبيد مريم: وكان ظهورها لهم بثوبٍ أسود، وأوضحت لهم أنه أن كانوا يريدون أن يكتسبوا رضاها ومسرتها، فيلزمهم أن يتأملوا متواتراً في أحزانها وأوجاعها. وأعلنت لهم أرادتها في أنهم تذكرةً لآلامها يتردون من ذلك الوقت فصاعداً بالثوب الأسود الذي شاهدوها متشحةً به (كما هو مدون في الرأس 14من الكتاب1 من تاريخ الرهبنة المذكورة) ثم أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديسة فارونيكا البيناسكية قائلاً لها هكذا: أعلمي يا أبنتي أنه مقبولٌ لدي جداً ذرف الدموع من عبيدي حين تأملهم بآلامي، ولكنني لأجل حبي والدتي حباً لا حد له. فأكثر قبولاً لدي هو التأمل في أحزانها وأوجاعها التي هي أحتملتها حين موتي، من التذكر بآلامي أنا عينها: (كما يوجد مدوناً في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثالث عشر من كانون الثاني).*

ومن ثم عظيمةٌ هي النعم والمواهب الموعود بها من فادينا يسوع، لأولئك الذين يتأملون متواتراً في أوجاع والدته، محسنين العبادة نحو هذا الموضوع. فقد كتب العلامة بالبارتوس بأنه أوحى الى القديسة أليصابات الراهبة، بأن القديس يوحنا الأنجيلي بعد أن كانت الطوباوية مريم البتول صعدت الى السماء قد كانت أشواقه متقدةً لأن يشاهدها مرةً ما، فهذه النعمة قد أعطيت له، وهكذا قد ظهرت له هذه الأم المحبوبة منه حباً عظيماً، وقد ظهر صحبتها يسوع المسيح أيضاً. وقد فهم هذا القديس أن المجيدة مريم البتول كانت تطلب من أبنها نعماً ما خصوصيةً للمتعبدين لآلامها وأوجاعها، وأنه تعالى قد وعدها بأن يهبهم أربع نعم خاصةً متقدمةً.

فالأولى: هي أن من يستغيث بهذه الأم الإلهية بأستحقاقات أوجاعها. فقبل موته يكتسب نعمة أن يصنع التوبة الحقيقية على جميع خطاياه.

والثانية:  هي أنه عز وجل يحفظ هؤلاء العابدين في حين شدائدهم وتجاربهم التي تلم بهم، لا سيما في ساعة الموت.

والثالثة:  هي أنه يرسم في قلوبهم مطبوعةً تذكرة آلامه وتعد لهم المكافأة الغنية في السماء.

والرابعة: هي أنه تعالى يضع هؤلاء العباد في يد مريم عينها لكي تتصرف هي بهم حسبما تشاء وتريد. وأن تستمد لهم كل النعم التي ترغبها لهم، وأثباتاً لذلك فلنلاحظ في النموذج الآتي ذكره كم تفيد للخلاص الأبدي العبادة نحو البتول المتألمة.*

* نموذج *

أنه يوجد مدوناً في الرأس 97 من الكتاب 6من سيرة حياة القديسة بريجيتا، أنه كان رجلٌ ما الذي بمقدار ما وجد أصله شريفاً ومولده ذا نسبٍ منيفٍ، فبمقدار ذلك كان هو شريراً رديء السيرة، حتى أنه أتصل الى أن يسلم ذاته بأشتراطٍ واضحٍ أسيراً للشيطان. وقد خدمه في هذه العبودية مدة ستين سنة بأتصالٍ. عائشاً بسيرةٍ يمكن لكل واحدٍ بسهولةٍ أن يتصور كم كانت رداوتها، بعيداً على الدوام عن أقتبال الأسرار المقدسة. فهذا الأمير قد دنا أخيراً من الموت، ولكن لكي يستعمل معه الله رحمته الغير المتناهية قد أمر تعالى القديسة بريجيتا بأن تقول لمعلم أعترافها، أن يمضي فيزور هذا الأمير في بيته، وأن يحرضه ناصحاً على الأعتراف بخطاياه، فالكاهن المشار إليه ذهب عند الأمير وتمم واجبات رسالته. الا أن الأمير أجابه بأنه لم يكن هو محتاجاً الى أعترافٍ، لأنه كان يعترف متواتراً. فذهب إليه معلم الأعتراف مرةً ثانيةً، ولكن من دون فائدةٍ، لأن ذاك التعيس أسير الجحيم أستمر مصراً على عدم أرادته أن يعترف. فمخلصنا أوحى للقديسة بريجيتا جديداً آمراً بأن يمضي الكاهن إليه مرةً أخرى. فذهب عنده خادم الله المرة الثالثة وأخبره بما أوحى به تعالى للبارة بريجيتا، وبأنه لأجل هذه الغاية هو حضر إليه ثلاثة مراتٍ، لأن الرب هكذا كان أمره مريداً أن يستعمل معه رحمته الإلهية. فلما سمع المريض هذا القول قد تخشع وبدأ يبكي، ولكنه صرخ هاتقاً: كيف يمكن أن تغفر لي خطاياي بعد أني خدمت الشيطان مدة ستين سنة أسيراً له، وحملت نفسي أوساقاً عظيمةً من الخطايا والآثام القبيحة. فأجابه الأب المرشد مشجعاً إياه بقوله: لا ترتاب يا أبني، فأن كنت أنت تندم على هذه الخطايا كلها تائباً، فأنا من قبل الله أعدك بغفرانها. فحينئذٍ أبتدأ المريض أن يثق بالله وقال للكاهن: يا أبتي أنا كنت أعتد ذاتي هالكاً بالكلية ومن ثم قطعت رجائي من الخلاص، ولكني الآن أنا أشعر بالندامة على خطاياي، وهذا يشجعني على أن أرجو غفرانها من الله، فممن حيث أنه عز وجل لم يهملني بعد، فأنا أريد أن أعترف بمآثمي. وبالحقيقة أنه في ذلك اليوم أعترف أربع مراتٍ بخشوعٍ وتوجعٍ حقيقيٍ على خطاياه. وبعد هذا تناول القربان الأقدس. وفي اليوم السادس مات بعلامات الندامة الصادقة وحسن التسليم للأرادة الإلهية ميتةً صالحةً. فبعد موته قد أوحى مخلصنا للقديسة بريجيتا مخبراً إياها بأن ذاك الخاطئ فاز بالخلاص الأبدي. ولكنه بعد لم يزل في المطهر، وأن خلاصه قد تم بواسطة شفاعة والدته المجيدة مريم البتول. لأجل أن ذاك الأمير ولئن كان عائشاً بسيرةٍ هذا عظم شرها، فمع ذلك قد حفظ عبادته نحو أوجاع هذه السيدو. وكان يتذكرها بتوجعٍ ويتأملها بغمٍ وحزنٍ.*

† صلاة †

يا سلطانة الشهداء أمي المحزونة بل سلطانة الأوجاع، فأنتِ قد بكيتِ بهذا المقدار على أبنكِ الذي مات لأجل خلاصي، ولكن ماذا تفيدني دموعكِ أن كنت أنا أمضي هالكاً. فبأستحقاقات أحزانكِ وأوجاعكِ اذاً أستمدي لي توجعاً حقيقياً على خطاياي، وأصلاحاً كاملاً لسيرتي. مع أنعطافٍ دائمٍ وتوجعٍ متصلٍ، بتذكري آلام أبنكِ يسوع المسيح وأحزانكِ. ومن حيث أن أبنكِ الذي هو البراءة بالذات، وأنتِ البريئة من كل زلةٍ قد احتملتما آلاماً هكذا عظيمةً من أجلي، فأمنحاني أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم أنا أيضاً محتملاً شيئاً ما أجلكما وحباً بكما: فيا أيتها السيدة (أني أقول نحوكِ ما قاله القديس بوناونتورا) أن كنت أنا أغظتكِ فأجرحي بالعدل قلبي. وأن كنت أنا خدمتكِ فأطلب الآن المكافأة بأن تطعنيه، لأنه شيءٌ مرذولٌ مكروهٌ هو أن يشاهد يسوع مجروحاً وأنتِ مجروحةً معه، وأنا أبقى سالماً من الجراحات. واخيراً أتوسل إليكِ يا أمي بحق الحزن والآلام التي تكبدتيها عند مشاهدتكِ أبنكِ فيما بين عذاباتٍ هكذا قاسية، محنياً رأسه ومائتاً على الصليب، أن تستمدي لي ميتةً صالحةً. فلا تهملين حينئذٍ يا شفيعة الخطأة نفسي المحزونة والمتضايقة في وقت ذاك الرحيل من الدنيا، خاليةً من معونتكِ في حين أنطلاقها نحو الأبدية. ومن حيث أنه يمكن أن يحدث لي وقتئذٍ أن أفقد الصوت والتكلم، ولا أعود أستطيع أن أستغيث بفمي بأسم أبنكِ الحبيب وبأسمكِ، مع أنه هو تعالى وأنتِ أيضاً كلاكما رجائي الوحيد. فلهذا منذ الساعة الحاضرة أنا أستغيث بأسمه عز وجل وبأسمكِ. بأن تعيناني في تلك الساعة الضيقة، وهكذا أقول: يا يسوع ويا مريم

*أنني أستودعكما نفسي مسلماً.*

 

 تنبيه (1)

أننا اذ كنا في الفصل الأول المنتهي تكلمنا عن أوجاع مريم البتول وأحزانها بوجه العموم، فالآن لزم أن نتكلم عن كلٍ من أحزانها

*السبعة بوجه الخصوص، في الفصول السبعة الآتية.* 

 تنبيه (2)

أن الذي تكون فيه عبادةٌ مرغوبةٌ منه في أن يتلو المسبحة المختصة بأحزان والدة الإله، فيراها مدونةً في الجزء الأول من الباب السابع من كتاب الرياضة اليومية الذي طبعناه في مطبعة مجمع أنتشار الإيمان المقدس عينها. وهي تأليف الطوباوي المصنف هذا الكتاب نفسه. 

 

Click to view full size image

إفـرحي أيتهـا السماوات

والسـاكـنـون  فـيهـا 

ويـلٌ لساكني الأرض والبحر

لأن   إبلـيس  نزل  إليكما 

وبـه غضب عظيم، لأنـه

عـالم أنه زمناً قليلاً بقي له.

(رؤيا 12/12) 

  †   

Click to view full size image

 

الفصل الثاني

* في موضوع حزن مريم العذراء الأول: الصادر عن نبؤة القديس*

* سمعان الشيخ. التي سبق هو وأخبرها بها*

أن كلاً من البشر يولد لكي يبكي في وادي الدموع هذا، وكلاً منهم يعيش ملتزماً بأن يحتمل الشدائد والأحزان التي تداهمه على نوعٍ ما كل يومٍ. ولكن ترى كم لكانت حياة الإنسان أشد مرارةً وأوفر حزناً، لو أمكنه أن يعرف حقيقة تلك الشرور والشدائد المقبلة العتيدة أن تلم به. فيقول سينكا الفيلسوف (في رسالته 98): أنه لتعيسٌ في الغاية هو ذاك الإنسان الذي يقدر أن يعلم بتأكيدٍ الشرور المزمعة أن تحيق به في أيام حياته الآتية: وحقاً أن الرب يصنع معنا رحمةً عظيمةً في أنه لا يظهر لنا ما هي الصلبان العتيدون نحن أن نحملها، حتى اذا كان يلزمنا أن نتألم بها، فلا يدركنا التوجع الا مرةً واحدةً حين حلول الشدة فقط. غير أن الله لم يستعمل هذه الملاحظة الرأوفة مع مريم البتول التي (لأنه عز وجل كان يريد أن يجعلها سلطانة الأوجاع، وأن تكون شبيهةً بأبنها في كل الأشياء) قد حصلت على معرفة الآلام التي كانت عتيدةً هي أن تتألم بها. وهكذا وجدت على الدوام مشاهدةً إياها أمام عينيها، ومتألمةً من دون أنقطاعٍ بملاحظتها العذابات كلها. التي كان مزمعاً أبنها الحبيب يسوع أن يحتملها ويموت بها على خشبة الصليب. على أن القديس سمعان الشيخ حينما أقتبل من هذه الأم الإلهية على ساعديه طفلها يسوع، سبق وأخبرها بالأضطهادات والمضادات العتيدة أن تلم به بقوله لها: ها هوذا هذا موضوعٌ لسقوط وقيام كثيرين في أسرائيل ولعلامة تخالفٍ. وأنه من هذا القبيل عتيدٌ أن يطعن قلبها بسيف الأحزان قائلاً: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوب كثيرين: (لوقا ص2ع34).*

فالبتول والدة الإله عينها أوحت للقديسة ماتيلده قائلةً لها:" أنها حالما سمعت من البار سمعان هذا التنبيه، قد أنقلبت فيها المسرات كلها الى الحزن والتوجع. لأنه، كما أوحى للقديسة تريزيا أيضاً: ولئن كانت هذه الأم الإلهية عارفةً حسناً من ذي قبل بالقربان الذي كان يلزمها أن تقدم به أبنها ذبيحةً لله أبيه. من أجل خلاص العالم. فمع ذلك قد عرفت من كلمات البار سمعان بأكثر إيضاحٍ. وبوجه الخصوص كيفية الآلام الشديدة، والميتة الكلية القساوة التي كانت تنتظر أبنها الحبيب. وفهمت جيداً كيف أن المقاومات والأضطهادات من كل ناحيةٍ كانت عتيدةً أن تقوم ضده، كما قد تم. لأنه تعالى قد أهين نظراً الى تعاليمه كأنه مجدفٌ، لأجل قوله عن نفسه أنه ابن الله، كما صرخ قيافا المنافق قائلاً: أنه قد جدف ما حاجتنا الى شهودٍ: وهكذا حكموا بأنه مستوجب الموت (متى ص26ع65) وقد أفترى على كرامته وأعتباره، لأنه قد كان شريف المولد من أصلٍ ملوكي. فأحتقر كفلاحٍ وقيل عنه: أليس هذا هو أبن النجار: (متى ص13ع55) وقد عومل كجاهل العلوم مع أنه هو الحكمة بالذات. وقيل عنه: كيف يحسن هذا الكتب ولم يتعلم: (يوحنا ص7ع15) وأهين كنبي كذاب، لأنهم غطوا وجهه ولطموه قائلين: تنبأ لنا من هو الذي لطمك: (لوقا ص22ع64) وقد عومل كمجنون اذ قالوا عنه: أن به شيطاناً وقد جن فما أستماعكم له: (يوحنا ص10ع20) وقد أحتسب كسكري وحنجراني وخليل الأشرار كما كتب: جاء أبن البشر يأكل ويشرب فقلتم هذا إنسانٌ أكولٌ شروب الخمر محب العشارين والخطأة: (لوقا ص7ع34) وقد قرف كسامري أراتيكي وكساحر بقولهم: أنه باركون الشياطين يخرج الشياطين: (متى ص9ع34) وكمعترى من الشيطان بقولهم له: ألسنا نقول حسناً أنك سامريٌ وبك شيطانٌ: (يوحنا ص8ع48) وبالأجمال قد عومل كرجلٍ شريرٍ مفضوح الصيت حتى أنه لم يكن لازماً للحكم عليه بالموت أن يقام عليه فحصٌ. كما قال اليهود لبيلاطس: أنه لولا يكون هذا فاعل رديء لما كنا أسلمناه إليك: (يوحنا ص18ع30) وقد قهرت نفسه من قبيل أنه توسل الى أبيه الأزلي بقوله: يا أبتاه أن كان يستطاع فلتعبر عني هذه الكأس الا أشربها: (متى ص26ع39) ولم يقبل الآب توسله هذا، لأنه أراد أن عدله الإلهي يستوفي ما يخصه، بل أهمله لمفاعيل الحزن والأكتئاب، ولتأثيرات الخوف والقلق. حتى أنه من شدة آلامه الباطنة وحزنه القلبي العظيم وجزعه قال: أن نفسي هي حزينةٌ حتى الموت: (متى ص26ع38) وبلغ به حده هذا التألم الباطن حتى أتصل الى أن عرق دماً. وأخيراً قد أضطهد وعذب في جسده كله عضواً فعضواً من جميع أعضاء جسمه المقدسة، لا سيما في رأسه ووجهه ويديه ورجليه. حتى أنه مات من شدة العذابات موت الخزي والعار على خشبة الصليب.*

فداود الملك وهو فيما بين تنعمات المجد الملوكي كلها، والعظمات والكرامات التي بلغ إليها قد أستوعب حزناً وقلقاً. ولم يعد يجد راحةً ولا سلاماً ولا تعزيةً، عندما أخبره النبي ناتان بأن أبنه كان عتيداً أن يموت بقوله له: فالأبن الذي ولد لك موتاً يموت: (ملوك ثاني ص12ع14) ومن ثم أخذ يبكي ويصوم وينام على الأرض لربما أن الله يعفي له عن هذا الأبن. أما مريم البتول فبكل هدوءٍ وسلامٍ أقتبلت خبرية الميتة التي أبنها الحبيب كان مزمعاً أن يتكبدها، وبذاك الروح السلامي الهادئ عاشت محتملةً مرائر هذه الحكومة. ولكن أية آلامٍ باطنيةٍ شديدةٍ قد تعذبت بها جوارح قلبها على الدوام من هذا القبيل. عندما كانت تنظر بعينيها ذاك الأبن المحبوب في الغاية، وتسمع بأذنيها كلمات الحيوة التي كانت تخرج من فمه، وتلاحظ صفاته الجليلة وفضائله السامية وتصرفاته المملؤة قداسةً. فأب الآباء أبراهيم قد تكبد مرارة الحزن في مدة تلك الثلاثة الأيام. التي بها بعد أن أمر من الله بأن يذبح أبنه أسحاق قرباناً له تعالى كان سائراً به الى الجبل المكان المعين لهذه الذبيحة. ولكن أواه أن مريم قد تكبدت مرائر الحزن على أبنها لا مدة ثلاثة أيامٍ نظير أبراهيم، بل مدة ثلاثة وثلاثين سنةً. الا أني ماذا أقول نظير ابراهيم. والحال أن أوجاعها وآلامها قد كانت أعظم من حزنه بمقدار ما أن أبنها الإلهي هو موضوع الحب أكثر من أبن أبراهيم. فهذه الأم الإلهية عينها قد أوحت الى القديسة بريجيتا قائلةً: أنني حينما كنت عائشةً على الأرض، ما كنت أستمر مدة ساعةٍ واحدةٍ، بها لم يكن هذا الحزن والأوجاع الشديدة تطعن قلبي. لأني حينما كنت أنظر أبني، أم أحله من اللفائف وأرجع فأقمطه، أم أشاهد يديه ورجليه، فحينئذٍ كانت تمتلئ نفسي أوجاعاً كأنها جديدة، وتكرر في جوارحي رشق سهام الآلام. لأني كنت أتصور في عقلي بأي نوعٍ هو كان يلزمه أن يصلب: أما الأنبا روبارتوس، فاذ كان يتأمل في والدة الإله حاملةً على ذراعيها أبنها الحبيب مرضعةً إياه. فكان يقول عن لسانها كلمات نشيد الأنشاد وهي: اذ الملك في مضجعه النردين الذي لي أفاح نسيم طيبه. رباط مر حبيبي هو لي يستوطن فيما بين ثديي: (ص1ع12) ثم يجعلها أن تخاطب أبنها هكذا: آواه يا ولدي أنني أضمك الى صدري فيما بين ذراعي، لأنك محبوبٌ مني في الغاية القصوى. ولكن بمقدار ما أنت ولدي عزيزٌ على هذه الصورة، فبأكثر من ذلك أنت تضحى لدي كرباطٍ مرٍ، أي كحزمة المرائر والأوجاع كلها، عند تفكري في آلامك العتيدة: ويقول القديس برنردينوس: أن مريم البتول كانت عند مشاهدتها طفلها الإلهي تتأمل في أن قوة القديسين وبرجهم الحصين كان يلزمه أن يحصل منازعاً مدنفاً على الموت. وأن جمال الفردوس السماوي ونعيمه كان عتيداً أن ينظر لا جمال له ولا صورة، بل تشاهد صورته مهانةً. وأن سيد العالم ورب الكائنات كان مزمعاً أن يربط مقيداً كمجرمٍ. وأن خالق البرايا بأسرها كان عتيداً أن يلطم ويجلد. وأن قاضي القضاة وديان العالمين كان مزمعاً أن يحاكم ويقضى عليه بالموت. وأن مجد السماوات وزينتها كان عتيداً أن يحتقر ويهان. وأن سلطان السلاطين وملك الملوك كان مزمعاً أن يكلل بأكليلٍ من شوكٍ. وأن يعامل بالأستهزاء كأنه ملكً للسخرية.*

ثم أن الأب أنجالغرافه يبرهن في أنه قد أوحى الى القديسة بريجيتا عينها، بأن العذراء المجيدة المملؤة حزناً اذ كانت تعلم جيداً كم كان عتيداً أبنها يسوع أن يحتمل في آلامه. فكل مرةٍ كانت هي تلبسه قميصه، كانت تفتكر بأنه يوماً ما كان مزمعاً أن ينزع عنه هذا القميص ليسمر هو على الصليب عارياً. وعند مشاهدتها يديه ورجليه المقدسة كانت تتصور في عقلها المسامير المعدة لثقب تلك اليدين والرجلين. ومن ثم قالت هذه الأم الإلهية للقديسة المذكورة: أنني في الأوقات المشار إليها كنت أذرف الدموع من عيني بغزارةٍ. وكان قلبي يستوعب من الأوجاع والأحزان الشديدة.*

فالأنجيل المقدس يقول عن مخلصنا: أن يسوع كان ينمو في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس: (لوقا ص3ع53) أي أن هذا الفتى الإلهي كان ينمو في الحكمة والنعمة عند الناس نظراً الى رأيهم به وظنهم فيه. وأما عند الله (حيث أنه كما يفسر ذلك القديس توما اللاهوتي بقوله) أن أعماله كلها لكانت وجدت ذات أستحقاقٍ ينمو متزايداً. وذات ثمنٍ تتضاعف قيمته، لولا يكون منذ الأبتداء حصل مستوعباً من ملوء النعمة الكاملة، لعلة أتحاده الأقنومي الذي به تقنم ناسوته بأقنوم لاهوته. فاذاً أن كان يسوع وجد في أعين الناس يسمو أعتباره، وتنمو كرامته، ويتزايد حبه منهم حسب مشاهدتهم إياه. فكم بأعظم من ذلك كان ينمو أعتباره وحبه عند والدته المجيدة. ولكن آواه، أنه بمقدار ما كان يتكاثر حبها نحوه وأعتبارها إياه. قد كان ينمو أضعافاً حزنها وتوجعها. من حيث أنها كانت مزمعةً أن تفقده بميتةٍ مرعبةٍ من أشد العذابات. وبمقدار ما كان يقرب زمن تلك الآلام والموت، فبأكثر من ذلك كان سيف الحزن السابق الأيعاز عنه من سمعان الشيخ. يحوز طاعناً قلب هذه الأم المغرمة بحب أبنها. ويجدد فيها الأوجاع بأوفر مرارةٍ. حسبما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا قائلاً: أنه بحسبما كان يدنو زمان آلام يسوع المسيح مقترباً، فبحسبه كان يزداد وجع أمه العذراء مرارةً وأحزانها شدةً.*

فأن كان اذاً يسوع الذي هو ملكنا وأمه الكلية القداسة. لم يرفضا أن يتألما حباً بنا مدة حياتهما كلها على الأرض، ويتكبدا توجعاً وتعذيباً هذه صفة مرارتهما. فليس بالصواب نحن نشكوا متمرمرين أن كنا نتكبد شدةً ما وقتيةً. فيوماً ما ظهر في الرؤيا فادينا يسوع المسيح للراهبة مادلينا التي من قانون القديس عبد الأحد، في الوقت الذي فيه هذه البارة كانت منذ زمنٍ مديدٍ متكبدةً آلام الشدة. وقد شجعها عز وجل على أن تستمر هي معه على الصليب محتملةً ذاك التوجع الذي كان يعذبها. فهذه الراهبة عند ذلك تشكت لديه تعالى قائلةً: يا سيدي أنت أحتملت الآلام على الصليب مدة ثلاثة ساعاتٍ فقط، وأما أنا فمنذ عدةٍ من السنين أذوق الوجع متألمةً بهذا الصليب: فحينئذٍ أجابها فادينا قائلاً: مهلاً يا جاهلة ماذا تقولين، فأنا منذ الدقيقة الأولى من الحبل بي قد تكبدت في قلبي بأتصالٍ الآلام، التي ألمت بها في جسدي حين موتي على خشبة الصليب: فاذاً عندما نحن أيضاً نحتمل شدةً ما ويتفق لنا أن نشكوا من جرائها. فلنتصور بعقولنا أن يسوع المسيح ووالدته الكلية القداسة يقولان لنا الكلمات المقدم ذكرها.*  

* نموذج*

أن الأب روفيليونه اليسوعي كتب (في الرأس4من القسم 2من كتابه الملقب بباقة الورد) مخبراً عن أحد الشبان بأنه كان من عادته أن يزور بعبادةٍ يومياً إحدى أيقونات والدة الإله، التي كانت مصورةً تحت صفة أحزانها، مطعونةً في قلبها بسبعة سهامٍ. فليلةً ما هذا الشاب سقط بتعاسةٍ بفعل خطيئةٍ مميتة، ففي الصباح المقبل اذ مضى هو ليزور الأيقونة المشار إليها، فقد شاهد السهام في قلب العذراء المجيدة لا سبعةً فقط بل ثمانيةً، فحينما هو أنذهل من ذلك وكان يتأمل ليعرف السبب، واذا بصوتٍ يقول له، أن خطيئته التي أرتكبها هو في تلك الليلة هي التي سببت السهم الثامن لقلب والدة الإله. فمن ثم قد تخشع الشاب وندم متأسفاً على ذنبه. وحالاً ذهب الى منبر الذمة فأعترف بخطاياه. وهكذا بصلوات شفيعته الرحيمة أكتسب جديداً النعمة المفقودة منه بالأثم.*

† صلاة †

آواه يا أمي المباركة أنه لا سهمٌ واحدٌ فقط، بل سهامٌ كثيرةٌ بعدد كثرة خطاياي قد أضيفت الى قلبكِ على سبعة سهام أحزانكِ الأصلية. فليس لكِ أيتها السيدة البارة البريئة من كل ذنب. بل لي أنا الأثيم تحق الآلام والعذابات الواجبة لكثرة ذنوبي ومآثمي. ولكن من حيث أنكِ قد أردتِ أختيارياً أن تحتملي هذا المقدار

من التألم لأجلي، فأستمدي لي بأستحقاقاتكِ توجعاً شديدا ًعلى خطاياي،

 وصبراً جميلاً به أحتمل شدائد هذه الحيوة ومصائبها،

التي هي دائماً أخف جداً مما كنت أستحق

أنا الذي مراتٍ عديدةً قد أستأهلت

الهلاك في جهنم الى أبد الآبدية

*آمين*

  †  

الفصل الثالث

* في الموضوع الثاني لحزن مريم البتول. وهو هربها بطفلها *

* الإلهي يسوع الى مدينة مصر*

فكما أن الغزالة المرشوقة من الصياد بسهمٍ نافدٍ في جسمها. فالى أينما هربت في الجبال والبراري يوجد السهم المجروحة هي به صحبتها. فهكذا الأم الإلهية مريم العذراء بعد النبؤة التي تنبأ بها عيلها سمعان الشيخ، ومن قلبها رشقت بالسهم المحزن الذي هو سيف الآلام في قلبها. حسبما لاحظنا في الفصل السابق. فقد أصبحت معها على الدوام هذا السيف الجارح، بتفكرها أينما مضت بآلام أبنها الحبيب العتيدة. فالعلامة هايلغرينوس في تفسيره كلمات سفر النشيد وهي: أن رأسكِ كجبل الكرمل وشعر رأسكِ كبرفير الملك مربوط في ضفائره: (ص7ع5) يقول: أن شعر رأس مريم البتول هذا المربوط. أنما هو أفكارها وتصوراتها المتصلة بآلام أبنها يسوع التي كانت على الدوام تحضر بأزاء عينيها الدم (المعبر عنه بالبرفير الأحمر اللون) الذي يوماً ما كان عتيداً أن يجري من جراحاته تعالى: فمن ثم أن هذا الأبن الإلهي عينه قد كان لوالدته نظير السهم في قلبها الذي بمقدار ما كان ينمو فيه الحب نحوه. فبأكثر من ذلك كان يخرج بالوجع والحزن على كونها مزمعةً أن تفقده بميتةٍ شديدة العذابات. فلنأتِ الآن الى التأمل بسيف الحزن الثاني الذي جرح قلب هذه السيدة من قبل الأضطهاد الذي حركه ضد أبنها هيرودس الملك. ومن جرائه ألتزمت هي بالهرب به الى مصر.*

فهيرودس عندما سمع أن المسيح المنتظر أتيانه الى العالم قد كان ولد، فأستحوذ عليه الخوف بحماقةٍ من أن هذا المسيح كان عتيداً أن يأخذ منه المملكة. فلهذا  اذ يوبخ القديس فولجانسيوس حماقة هيرودس يقول نحوه هكذا: أن الملك الذي قد ولد في بيت لحم لم يأتِ ليترأس ويملك بواسطة الأسلحة والمعركات، بل أنه بنوع مذهلٍ عجيبٍ أتى ليخضع الكل له بواسطة موته عنهم. فاذاً هيرودس كان ينتظر رجوع ملوك الفرس المجوس القديسين إليه، ليفهم منهم أين ولد المسيح. وهكذا يمكنه بزعمه أن يبيد حياته، ولكن اذ خاب أمله منهم، أي لما رأى سخرية المجوس به غضب جداً وأمر بقتل كل صبيان بيت لحم وكل تخومها من أبن سنتين فما دون. فلأجل ذلك: ترءى ملاك الرب للقديس يوسف في الحلم قائلاً قم فخذ الصبي وأمه وأهرب الى مصر وكن هناك حتى أقول لك، فأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبي ليهلكه: (متى ص2ع13) فحسب رأي العلامة جرسون يورد أن القديس يوسف حالما سمع من الملاك هذه الكلمات، أخبر بها مريم العذراء من دون توقفٍ. وهي قامت معه في تلك الليلة عينها آخذةً طفلها الحبيب على ذراعيها. وهربوا كافةً في الليلة نفسها. كما يبان من كلمات الأنجيل التابعة وهي: فقام يوسف وأخذ الصبي وأمه ليلاً وذهب الى مصر: (متى ص2ع14) فالطوباوي ألبارتوس الكبير يلاحظ كأن مريم حينئذٍ هتفت صارخةً: أواه يا ربي أهل أنه يلتزم اذاً بأن يهرب من البشر ذاك الذي أتى لخلاص البشر: ووقتئذٍ عرفت هذه السيدة أن نبؤة سمعان الشيخ قد أبتدأت أن تتحقق بالعملية نظراً الى أبنها أي قوله: ها هوذا هذا موضوعٌ لعلامة تخالف: لأنها رأت أنه حالما ولد أبنها قد تحرك التخالف والأضطهاد ضده وكان يطلب ليمات. فيقول القديس يوحنا فم الذهب: ترى كم كان أليماً الحزن والتوجع الذي ألم بقلب هذه الأم الإلهية، عندما سمعت التنبيه بألتزامها بالذهاب هي وأبنها الى المنفى القاسي، وذلك حينما قيل لها أهربي من عند أقربائكِ ومعارفكِ الى بلاد الغرباء ومن هيكل أورشليم الى معابد الأصنام والشياطين. فأية شدةٍ ومصيبةٍ أعظم من هذه، وهي أن طفلاً مولوداً منذ زمنٍ وجيز متعلقاً بعنق والدته. يلتزم بالهرب مع أمه نفسها الفقيرة المعوزة من كل شيءٍ.*

ثم أن كل أحدٍ يمكنه بسهولةٍ أن يتصور بعقله كم تكبدت مريم العذراء من المشقات في سفرٍ هكذا عسرٍ، فمسافة الطريق من اليهودية الى مصر هي شاسعةٌ بالكفاية. لأن الخبيرين بها عموماً مع الرجل الشهير بيرادا يرتاءون بأن هذه المسافة هي أربعماية ميلاً. ولذلك يبان أن هذه العيلة المقدسة أستمرت نحو ثلاثين يوماً معانيةً هذا السفر. ثم أن الطريق كانت. حسبما يكتب عنها القديس بوناونتورا. وعرةً متعبةً مملؤةً من الصعوبات. غير مستعملة الا من القليلين. مجهولة المسلك ذات أحراشٍ في بعض أجزائها. مهملةً من الناس. وقد كان زمن هذا السفر في فصل الشتاء وبالتالي أشد صعوبةً. ولا بد من أن تكون صادفتهم الأمطار والبرد، وربما الثلج مع الأهوية، وتعكيس الطريق والوحل. ولم يكن وقتئذٍ عمر البتول المجيدة أكثر من خمس عشرة سنةً. فتاة لطيفة الجسم غير معتادة على اسفارٍ ومشقاتٍ وأتعابٍ وأضاماتٍ هذه صفتها. ولم تكن معها أمرأةٌ تخدمها أو تساعدها. كما يقول القديس بطرس الذهبي النطق: بأن هذه السيدة مع القديس يوسف قد صنعا هذا السفر خلواً من خادمٍ أو جاريةٍ بل هما كانا السيد والسيدة. والخادم والخادمة: فيا له من منظرٍ محزنٍ أن تشاهد هذه الفتاة البتول الغضة الجسم، مع طفلها الإلهي المولود منذ زمنٍ وجيزٍ، محمولاً على ذراعيها هاربةً به في القفر. فالقديس بوناونتورا يسأل كمستفهمٍ بقوله:" ماذا كانوا يأكلون في هذه المسافة، وأين كانوا يبيتون ليلاً، ومن هو الذي كان يأويهم". فمن المعلوم أنهما كانا يقتاتان، أما من الخبز اليابس الذي ربما أخذه زوادةً القديس يوسف. وأما من الخبز الذي كانا في الطريق يحصلانه من التسول. وأين كانا يبيتان مع الطفل الحبيب في سفرٍ هذه حاله (لا سيما في مسافة المايتين ميلاً في القفر القريب من مصر الخالي من البيوت ومن المنازل. كما يخبر الأنام المختبرون الحيقية) الا تحت الجو على الرمل، أو في ستر بعض الأشجار البرية مخضعين لأنفعالات الأهوية، وتحت خطر مجيء اللصوص عليهم. أم هجوم الوحوش المفترسة المتكاثرة في أراضي مصر. أواه أن من كان يشاهد هؤلاء الثلاثة الأشخاص الذين هم أعظم ما يوجد في العالم. فترى ماذا كان يعتدهم في تلك الحال سوى ثلاثة أشخاص شحادين تائهين مرذولين.*

ثم أنه على رأي بروكاردوس وجانسانيوس، أن والدة الإله مع طفلها وخطيبها قد سكنت بعد وصولها الى بلاد مصر، في أرضٍ تدعى ماطوريا. ولئن كان القديس أنسلموس يبرهن على أنها قطنت في مدينة الشمس أيليوبولى. التي كانت تسمى قبلاً مانفي، والآن تدعى القاهرة. وهنا يلزم أن يصير التأمل في حال الفقر الكلي الذي به عاشت هذه العيلة المقدسة. مدة السبع السنوات التي أستمرت فيها هناك قاطنةً، كما يرتأي القديسان أنطونينوس وتوما اللاهوتي وغيرهما. فقد كانوا في تلك البلدة مجهولين من كل أحدٍ. لا مدخول لهم ولا عندهم مالٌ، خالين من الأقرباء والأنسباء هناك. وبالجهد كانوا يقدرون أن يقيتوا ذواتهم بما كانوا يكتسبونه بأتعاب أيديهم المضنكة بحالٍ فقريةٍ في الغاية. فقد كتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه لأمرٌ واضحٌ هو أن هذه العيلة المقدسة قد كانوا هناك يحصلون قوتهم الضروري بأعراقهم وكدهم وأتعابهم المتصلة: وقد أضاف الى ذلك العلامة لاندولفوس الساسوني قوله (الأمر المعزي للفقراء): أن البتول مريم كانت عائشةً هناك بفقرٍ كلي هذا حده. حتى أنه بعض الأحيان لم تكن توجد عندها كسرةٌ من الخبز. لتعطيها لأبنها يسوع حينما كان يطلبها منها مضطراً من شدة جوعه:*

فلما مات هيرودس واذا بملاك الرب تراءى للقديس يوسف في الحلم بمصر قائلاً: قم فخذ الصبي وأمه وأذهب الى أرض أسرائيل. فقد مات طالبوا نفس الصبي: (متى ص2ع19) فالقديس بوناونتورا في تكلمه عن رجوع هذه العيلة من مصر الى اليهودية. كان يتأمل صعوباتٍ أكثر من سفرهم الأول. وأن أحزاناً وأتعاباً وأضاماتٍ أشد قد ألمت بالبتول المجيدة. وهي تكبدتها بمرارةٍ. على أن الطفل يسوع كان له حينئذٍ من العمر نحو سبع سنواتٍ. وفي هذا السن (يقول القديس المذكور) لأجل كبر جسمه لم يعد ساهلاً حمله على الذراع، ولأنه بعد حدث جداً في العمر فلم يكن يمكنه المشي في سفرٍ كذا مستطيل:*

فلنتأمل اذاً في أن يسوع ومريم قد وجدا هكذا غربين جايلين في الأرض كهاربين متسولين. يعلمنا بأنه يلزمنا نحن أيضاً أن نعيش في العالم كغرباء وعابرين طريق. من دون أن تكون قلوبنا متعلقةً بمحبة خيرات هذه الأرض، وبما يقدمه لنا العالم لأنه سريعاً يلزمنا أن نترك ههنا كل شيءٍ وننطلق الى الأبدية. كما يقول الرسول الإلهي: أن ليس لنا ههنا مدينةً ثابتةً. لكننا نلتمس العتيدة: (عبرانيين ص13ع14) ويضيف الى ذلك القديس أوغوسطينوس قائلاً: أننا مسافرون غرباء، اليوم نشاهد ههنا وغداً ننتقل الى الأبدية: ثم أن التأمل المار ذكره يعلمنا أيضاً أن نعتنق الصلبان. لأنه لا يمكن أن يعيش أحدٌ في هذا العالم من دون صليبٍ. فلأجل هذه الغاية قد أختطفت بالروح الطوباوية فارونيكا التي من جيناسكو وهي أحدى راهبات قانون القديس أوغوسطينوس. لمرافقة هذه العيلة المقدسة في سفرهم الى مصر. فبعد نهاية هذا السفر قالت الأم الإلهية مريم لهذه البارة:" أرأيتِ يا أبنتي بكم من المشقات والأضامات والأتعاب بلغنا الى هذا البلد. فأعلمي الأن أنه ليس أحدٌ يفوز بنوال نعمةٍ ما من غير أن يتألم". فمن يريد اذاً أن يشعر بشدائد هذه الحياة وبمرائرها أقل أشعاراً، فعليه بأن يأخذ صحبته يسوع ومريم: قم فخذ الصبي وأمه: لأن من يحوي في قلبه هذا الأبن الإهي مع أمه فتعود لديه الآلام كلها خفيفةً بل حلوةً عزيزةً. فلنحببهما اذاً ولنعز الطوباوية مريم بحملنا داخل قلوبنا أبنها هذا الحبيب، الذي لم يزل حتى يومنا هذا مضطهداً من البشر بواسطة خطاياهم المتصلة.*

* نموذج *

أن البتول الكلية القداسة قد ظهرت يوماً ما للطوباوية كولاتا الراهبة، التي من قانون القديس فرنسيس مقدمةً أمامها صينية كان يوجد عليها الطفل يسوع مهشم الجسم أرباً أرباً. ثم قالت لها: هكذا تعامل الخطأة أبني على الدوام مجددين له الموت ولي الأوجاع، فصلي من أجلهم لكي يرجعوا إليه تعالى بالتوبة. ثم فلتضف الى ذلك الرؤيا الأخرى التي حصلت عليها الراهبة يونا المكرمة. التي هي أيضاً من قانون القديس فرنسيس. فهذه البارة اذ كانت يوماً ما آخذةً بالتأمل في حال الأضطهاد المحرك من هيرودس ضد الطفل يسوع. قد سمعت ضجةً وأضطراباً مزعجاً نظير هجوم جنودٍ كثيرين راكضين في أثر إنسانٍ ما بأسلحتهم. وبعد ذلك شاهدت طفلاً كلي الجمال هارباً من أيديهم عادم التنفس من شدة ركضه وخوفه. فأقبل نحوها قائلاً لها: يا يونا خاصتي ساعديني وخبيئيني عندكِ. أنا يسوع الناصري الهارب من أيدي الخطأة الذين يريدون أن يقتلوني مضطهدين إياي نظير هيرودس. فأنتِ خلصيني.* 

† صلاة †

فاذاً بعد أن مات أبنكِ الحبيب يا مريم المجيدة بأيدي البشر الذين أضطهدوه من حين مولده الى ساعة موته، فالى الآن لم يكفوا عن أضطهادهم إياه بواسطة خطاياهم بأتصالٍ، كافرين بالجميل ومجددين لكِ الأحزان أيتها الأم المتألمة. أواه أن أحد هؤلاء هو أنا الشقي، فيا أمي الكلية الحلاوة أستمدي لي دموعاً غزيرةً لكي أبكي على عدم معروفي ونكراني الجميل لحدٍ كذا. ثم بأستحقاقات الآلام التي تكبدتيها في سفركِ الى مصر ساعديني بمعونتكِ في حال سفري الممارس مني الآن نحو الأبدية، حتى يمكنني أخيراً أن آتي الى السماء كي أحب يسوع مخلصي المضطهد، حباً دائماً

* في بلدة الطوباويين آمين* 

  †  

Click to view full size image

الفصل الرابع

في الموضوع الثالث لحزن مريم البتول، وهو فقدانها أبنها الإلهي

* في مدينة أورشليم. حينما كان له من العمر أثنتا عشرة سنةً*

فقد كتب القديس يعقوب الرسول أن كمالنا يتوقف على فضيلة الصبر بقوله: يا أخوتي أحتسبوا كل فرحٍ اذا سقطتم في محنٍ متلونة. عالمين أن مختبر إيمانكم يفعل صبراً. والصبر فليكن له عملٌ كاملٌ، لتكونوا كاملين وتامين غير ناقصين في شيءٍ: (يعقوب جامعه ص1ع2) فمن حيث أن الله قد أعطانا مريم البتول نموذجاً للكمال. فلزم أنه يملأها من التألم ليمكننا أن نتأمل صبرها العظيم ونقتدي به. ففيما بين أعظم الأحزان والأوجاع التي تكبدتها هذه السيدة في مدة حياتها هو التألم الذي الآن نأخذ بالتكلم عنه. أي حينما أضاعت هي أبنها في هيكل أورشليم. فأمرٌ معلومٌ هو أن الإنسان الذي يولد من بطن أمه أعمى. فيشعر قليلاً بالغم على كونه فاقداً مشاهدة نور النهار. وأما ذاك الذي بعد أختباره مشاهدة النور قد فقد بصره، فهذا يتكبد بالحقيقة حزناً عظيماً على خسرانه إياه. فعلى هذه الصورة أن الأنفس التعيسة اللواتي هن كفيفات البصر روحياً من قبل وحل خيرات هذه الأرض، وقليلاً عرفن الله. فقليلاً أيضاً يحزنهن عدم وجودهن إياه. ولكن بضد ذلك أن من يكون أستنار ذهنه بالضياء السموي. وبأستحضاره أمام عينيه الخير الأعظم. فأواه كم يحصل عنده من الحزن والتألم عندما يرى ذاته معدوماً هذه المشاهدة الكلية اللذة. فلنتأمل الآن كم كان لدى مريم البتول قاسياً هذا السهم. أي سيفالحزن الثالث الذي جرح فؤادها، حينما فقدت يسوع في مدينة أورشليم مدة ثلاثة أيام. بعد أنها كانت أعتادت أن تشاهده دائماً. وتتمتع بلذة النظر إليه الشهي في الغاية.*

فالقديس لوقا الإنجيلي يخبرنا في العدد الحادي والأربعين وما يتلوه من الأصحاح الثاني من بشارته عن هذا الحادث قائلاً: وكانت مريم ويوسف يمضيان في كل سنةٍ الى أورشليم في عيد الفصح. فلما تمت ليسوع أثنتا عشرة سنةً صعدا الى أورشليم كعادة العيد. فلما كملت الأيام ليعودوا تخلف عنهم يسوع الصبي في أورشليم. ولم يعلم يوسف وأمه. وكانا يظنان أنه مع السائرين في الطريق، فجاءا مسيرة يومٍ وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولما لم يجداه رجعا الى أورشليم يطلبانه. فكان بعد ثلاثة أيامٍ وجداه في الهيكل جالساً في وسط العلماء يسمع منهم ويسألهم، وكان كل من يسمعه يبهت من فهمه وأجوبته. فلما أبصراه بهتا، فقالت له أمه يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا، ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين. فلنتأمل اذاً في كم كان شديداً الحزن والتوجع اللذان أختبرت مفعولهما في ذاتها هذه الأم المكتئبة، في مدة تلك الثلاثة الأيام التي فيها كانت تجول في كل موضعٍ مفتشةً على أبنها الحبيب. هاتفةً مع عروسة النشيد: أرأيتم من أحبته نفسي: (نشيد ص3ع3) لأنها كانت تفحص عنه عند كل أحدٍ من دون أن تعلم عنه خبراً ما. أواه بكم من الحزن والندب والغم كانت حاصلةً هذه السيدة المتعوبة من الجري ههنا وهناك ومن الفحص والتفتيش على حبيبها ولم تجده. وبكم من التوجع الأعظم والأمر والأشد مما أحاق بروبيل بكر يعقوب، عندما رجع الى الجب ولم يرى فيه أخاه يوسف، ومن ثم خرق ثيابه ومضى الى أخوتهن قائلاً لهم: الصبي ليس هو في الجب، وأنا الى أين أذهب: (سفر التكوين ص37ع30) فكانت هي تندب ذاتها قائلةً: أن أبني يسوع هو فاقد ولا أعلم أين هو، ولا عدت أعرف ماذا أصنع لأجده. ولكن الى أين أذهب أنا من دون أن يكون معي كنزي: ولهذا كانت هي تبكي في مدة تلك الثلاثة الأيام مكررةً كلمات النبي والملك داود بقولها: صارت لي دموعي خبزاً النهار والليل اذ قيل لي كل يومٍ أين إلهيكِ: (مزمور 42ع3) ولهذا كتب بالصواب بالبارتوس بقوله: أن هذه الأم الحزينة لم تذق لذة الوسن في تلك الثلاث الليالي، ولم تعرف ما هو النوم، بل كانت دائماً تنوح باكيةً وتصلي لله متضرعةً في أن يجعلها أن تجد أبنها الحبيب المفقود منها: ومراتٍ مترادفةً كانت تكرر نحو هذا الأبن هتاف عروسة النشيد قائلةً: أخبرني يا من أحبته نفسي أين ترعى أين تضجع في وقت الظهيرة. لكيلا أطوف جايلةً وراء قطعان أصحابك: (نشيد ص1ع7) فخبرني يا أبني أين أنت حتى لا عدت أجول تائهةً في كل مكانٍ أطلبك من دون فائدةٍ:*

ثم أنه وجد من قال أن هذا الحزن الذي تكبدته مريم العذراء ليس فقط يلزم أن يحصى في عدد أحزانها الشديدة التي هي ذاقت مرائرها في مدة حياتها. بل أيضاً ينبغي أن يعتبر أنه هو الحزن الأعظم والأمر من سائر أحزانها الأخرى. وهذا القول ليس هو خالياً من البراهين وهي:

أولاً: أن هذه الأم الإلهية في أحزانها الأخرى كانت حاصلةً على يسوع رفيقاً لها. فأي نعم أنها تألمت عند سماعها من سمعان الشيخ في الهيكل نبؤته عن سيف الحزن المزمع أن يحوز في نفسها. وكذلك تألمت في هربها الى مصر. ولكن دائماً كان يسوع معها. وأما في هذا الحزن فكانت تتألم بعيدةً عن هذا الأبن الحبيب. غير عارفةٍ أين كان موجوداً. هاتفةً بدموعٍ: أن نور عيني لم يبقى معي: (مزمور 38ع10) أواه أن حبيبي يسوع نور مقلتي يعيش بعيداً مني ولا أعلم أين هو: فالمعلم أوريجانوس يقول: أنه لأجل شدة الحب الذي به كان قلب هذه الأم القديسة مغرماً بمحبة أبنها. قد تكبدت آلاماً عظيمةً في مدة فقدانها إياه. أمر وأشد وأعظم من الآلام التي تكبدها أحد الشهداء مهما كان حين أنفصال نفسه من جسده: فترى كم كانت تظهر لدى هذه البتول مستطيلةً مدة تلك الثلاثة الأيام. كأنها ثلاثة أجيال. مملؤةً من المرائر من دون أن يقدر أحدٌ أن يعزيها، لأنها كانت تهتف مع النبي أرميا قائلةً: لذلك أنا باكيةٌ وعيني تنبع المياه لأن المعزي أبتعد مني: (مراثي ص1ع16) وكذلك كانت تكرر كلمات طوبيا البار بقولها: من أين يكون لي الفرح وأنا قاعدة في الظلام وما أبصر ضوء السماء (طوبيا ص5ع11).

ثانياً: أن البتول مريم كانت في حصولها بالأحزان الأخرى عارفةً أسبابها وغاياتها. أي عمل أفتداء الجنس البشري، ومراسيم المشيئة الإلهية. وأما في هذا الحادث فلم تكن تعلم سبب فقدانها أبنها وأبتعاده عنها. فيقول المعلم لاسبارجيوس، أن هذه الأم المحزونة كانت حينئذٍ تتوجع بمشادهتها أن يسوع كان منفصلاً عنها بعيدا، لأجل أن فضيلة أتضاعها العميق كان يجعلها أن تظن ذاتها غير مستحقةٍ أن توجد بعد قريبةً من أبنها لكي تخدمه في هذه الأرض، وتهتم في حفظ كنزٍ بهذا المقدار فائق على كل ثمنٍ". وربما كانت تفتكر في قلبها قائلةً باطناً. من يعلم أن ذلك حل بي من قبيل أني لم أكن لحد الآن خدمته تعالى حسناً وبالنوع المتوجب عليَّ. أو ربما أنه أهملني تاركاً إياي لأجل تكاسلٍ ما صدر مني في خدمته. فالمعلم أوريجانوس كتب عنهما أي عن مريم ويوسف: أنهما طلباه لخوفهما من أنه يكون اهملهما: فأمرٌ حقيقي هو أنه لا يوجد للنفس المحبة لله تألمٌ أعظم، من الخوف الذي يشتملها من أن تكون أغاظت الله. وهذا السبب الذي من أجله مريم لم تشك في حزنٍ ما من أحزانها سوى في هذا الحزن الذي به عاتبت أبنها الحبيب بعذوبةٍ بعد أن وجدته قائلةً: يا أبني ما هذا الذي صنعت بنا هكذا. ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: (لوقا ص2ع48) فبهذه الكلمات لم تقصد هي أن توبخ يسوع، كما جدف بعص الأراتقة، بل أرادت هذا الشيء فقط وهو أن تبين له التألم الذي هي تكبدته في ذاتها من قبل أبتعاده عنها، لشدة الحب الذي هي كانت تحبه به. ولذلك يقول الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن كلماتها هذه لم تكن ذات تأنيبٍ وتوبيخٍ بل ذات معاتبةٍ ناجمةٍ عن عظم الحب:*

وبالأجمال أن سيف هذا الحزن قد كان جارحاً مؤلماً لقلب البتول المجيدة بمقدارٍ كذا عظيمٍ. حتى أن الطوباوية بانافانوتا اذ كانت يوماً ما متشوقةً لأن ترافق هذه الأم المحزونة مشتركةً بحزنها هذا الثالث. وملتمسةً بتضرعاتٍ أن تنال منها هذه النعمة. فعندما فازت هي بأن تظهر لها والدة الإله جملةً مع طفلها الإلهي الفائق في الجمال. وكانت هي أي بانافانوتا متمتعةً بالنظر الى هذا الطفل الكلي جماله فعلى الفور غاب عنها وفقدت النظر إليه. فمن ثم شعرت هي بحزنٍ هكذا فعالٍ حتى أنها ألتجأت الى الأم الإلهية متوسلةً بزفراتٍ وافرةٍ بالا تدعها أن تموت من شدة التألم. فالبتول القديسة ظهرت لها ثانيةً بعد ثلاثة أيامٍ وقالت لها: أعلمي يا أبنتي أن حزنكِ وتوجع قلبكِ هذا لم يكن سوى شيءٍ جزئيٍ جداً بالنسبة الى ما تألمت أنا به حينما ضاع مني أبني.*

فتوجع مريم العذراء هذا يلزم أن يستخدم بالوجه الأول نموذج شجاعةً وتقويةٍ لجميع الأنفس الحاصلة في حال اليبس الروحي، عادماتٍ تلك التعزية واللذة التي كن وقتاً ما تمتعن بها بعذوبة حضور الرب معهن. فأي نعم أن هؤلاء الأنام يبكون على فقدهم تعزيةً هذه صفتها. ولكن بكاهم يكون بسلام قلبٍ وبهدوء ضميرٍ، كما كانت تبكي مريم البتول لبعد أبنها عنها. وعلى هذه الصورة ينبغي لهم أن يتشجعوا ولا يخافوا من أنهم بذلك يكونون فقدوا النعمة الإلهية. على أن الرب قد أوحى للقديسة تريزيا قائلاً: أنه لا يمكن لأحدٍ أن يمضي هالكاً من دون أن يعرف علة هلاكه. ولا يدخل على أحدٍ الغش أو الخداع ما لم يرد هو أن يغش أو يخدع: فاذا أتفق أن الرب يغيب من أمام عيني أحدى الأنفس التي تحبه تعالى، فليس لأجل ذلك يكون هو عز وجل أبتعد عن قلبها، اذ أنه جلت حكمته يختفي بعض الأحيان عن هذه النفس، لكي تفتش هي عليه بأوفر نشاطٍ وبأشد حرارةٍ في الحب. لأن من يريد أن يجد يسوع فيلزمه أن يطلبه بأجتهادٍ. ولكن لا فيما بين تنعمات العالم ومسراته بل فيما بين الصلبان والأماتات، نظير ما طلبته مريم البتول مفتشةً عليه. كما قالت له: ها أبوك وأنا كنا نطلبك متوجعين: فعلى هذه الصورة يلزمنا أن نطلب يسوع. كما كتب المعلم أوريجانوس.*

وما عدا ذلك أنه يلزمنا أن لا نسعى في طلب خيرٍ آخر في هذا العالم خارجاً عن يسوع. على أن أيوب البار لم يكن تعيساً حينما فقد في هذه الأرض كل ما كان له، من المال، والموجودات، والأولاد، والكرامات، وصحة الجسم. حتى أنه أتصل الى أن ينحدر عن كرسيه الى مزبلةٍ جالساً تحت الجو. ولكن من حيث أنه كان لم يزل حاصلاً على الله معه. فكان هو في تلك الحال عينها سعيداً. ولهذا اذ يتكلم عنه القديس أوغوسطينوس فيقول: أن أيوب قد خسر ما قد كان الله أعطاه إياه، ولكنه في الوقت نفسه كان حاصلاً على الله عينه معه: غير أنهن تعيساتٌ بالحقيقة وشقياتٌ تلك الأنفس اللواتي خسرن الله بالذات، فأن كانت العذراء المجيدة قد بكت مدة ثلاثة أيامٍ على أبتعاد يسوع عنها، فبكم من الأزمنة المستطيلة يلزم الخطأة أن يبكوا على خسرانهم النعمة الإلهية. وعنهم قال الله: لا أنتم شعبي ولا أنا لكم: (هوشع ص1ع9) لأن الأثيم يفصل ذاته بالخطيئة عن الله. كقوله تعالى: أن أثامكم فرقت بينكم وبين إلهكم وخطاياكم أخفت وجهه عنكم لكيلا يسمع: (أشعيا ص59ع2) ومن هذا القبيل يصدر أنهم أي الخطأة اذا كانوا ممتلكين خيرات الأرض كلها، في الوقت الذي هم فيه فاقدون الله، وفي عينه تضحى لديهم الأشياء بأسرها على الأرض أيضاً دخاناً وعذاباتٍ، كما أعترف بذلك سليمان الحكيم بقوله: أنني عرفت في جميع الصنائع المصنوعة تحت الشمس، فاذا هي كلها باطلةٌ وعناية الروح: (جامعة ص1ع14): الا أن المصيبة العظمى لذوي الأنفس العميى. يقول القديس أوغوسطينوس: هي أنهم اذا فقدوا بقرةً ما، فأنهم يسعون في طلبها غير متغافلين عن التفتيش عليها. وأن ضلت لهم غنمةٌ ما فلا يتركون من جهدهم جهداً في الفحص عنها ليجدوها. واذا ضاع لهم بهيمةً فلا تحصل لهم راحةً ألم يصادفوها. ولكنهم حينما يخسرون الخير الأعظم الذي هو الله فيستمرون آكلين شاربين مرتاحين منشرحين: وهكذا لا يفتحون أعينهم الا في جهنم.*

* نموذج *

أنه يوجد مدوناً في الرسائل السنوية المختصة بالرهبنة اليسوعية عن شابٍ ما من بلاد الهند هذا الحادث. وهو أنه اذ عزم هذا الشاب على أرتكاب خطيئة مميتة، وبالعزم المذكور أخذ بالخروج من مكان سكناه، فسمع صوتاً يقول له: قف ثابتاً حيث أنت: واذ ألتفت الى ورائه قد شاهد أيقونة والدة الإله المحزونة التي كانت هناك بتمثال مجسم. واذا بها أخرجت من قلبها أحد السبعة حراب. وقالت له هكذا: خذ بيدك عاجلاً مني هذه الحربة. وأطعن بها قلبي. أحرى من أنك تجرح قلب أبني بأرتكابك هذه الخطيئة: فحالما سمع الشاب هذه الكلمات أنطرح على الأرض باكياً بشهيقٍ نادماً بتوجعٍ شديدٍ طالباً من الله ومن البتول القديسة غفران ذنبه. وقد نال ذلك.*

† صلاة †

أيتها العذراء المباركة لماذا تحزنين بهذا المقدار على ضيعان أبنكِ وتطلبينه بتوجعٍ هكذا شديدٍ، أفهل لأنكِ لم تكوني تعلمين أين كان موجوداً،كلا، بل كنتِ تشعرين بأنه لم يزل كائناً في قلبكِ. أما تعرفين أنه كان يرعى فيما بين السوسن والزنبق. والحال أنتِ قلتِ: أن حبيبي لي وأنا له. الذي يرعى السوسن: (نشيد ص2ع16) فأفكاركِ وعواطفكِ هذه كلها هي متواضعةٌ طاهرةٌ نقيةٌ مقدسةٌ. وهي زهور السوسن والزنبق التي تستدعي عروسكِ الإلهي ليسكن فيكِ. أواه يا مريم المجيدة أنتِ تطلبين بكل رغبةٍ أن تجدي يسوع الذي لا تحبين أحداً غيره. فأتركيني أن أطلبه أنا وغيري من الخطأة الكثير عددهم الذين لا يحبونه تعالى. وبواسطة أغاظتهم إياه قد فقدوه، فيا أمي المحبوبة جداً أن كان أبنكِ لحد الآن، لأجل ذنبي الخصوصي لم يوجد بعد في نفسي، فأنتِ أجعليني أن أجده. فأنا أعلم جيداً أنه عز وجل يوجد عند من يطلبه، لأنه مكتوبٌ: أن الرب هو طيبٌ للمتوكلين عليه للنفس التي تطلبه: (مراثي أرميا ص3ع25) ولكن أنتِ أجعليني أن أطلبه بالنوع الذي به يلزمني أن أطلبه، لأنكِ أنتِ هي الباب الذي بواسطته الجميع يجدون يسوع. فاذاً بكِ أرجو أن أجده أنا أيضاً من دون أن أفقده مرةً أخرى آمين.*

  †  

الفصل الخامس

في الموضوع الرابع المختص بحزن والدة الإله، وهو مقابلتها أبنها

* ماضياً ليموت مصلوباً على جبل الجلجلة*

أن القديس برنردينوس يقول:" أنه لكي يمكن أن يستحضر موضوع الحزن العظيم الذي شعرت به مريم البتول حين فقدانها أبنها الحبيب بالموت، فيلزم أن يصير التأمل في شدة الحب الذي كان قلب هذه الأم العذراء مغرماً به نحو أبنها". فالأمهات كلهن يشعرن بالعذابات التي يتألم بها بنوهن كأنها عذاباتهن أنفسها. ولذلك حينما تضرعت الأمرأة الكنعانية الى مخلصنا بأن ينقذ أبنتها المعذبة من الشيطان قالت له: أرحمني يا رب يا أبن داود فأن أبنتي يعذبها الشيطان: (متى ص15ع22) ولم تقل له أرحم أبنتي. ولكن ترى أية أمٍ أحبت أبناً لها بمقدار ما أحبت مريم أبنها يسوع، فهو تعالى كان ولدها الوحيد، وهي ربته بأتعابٍ وأنصابٍ ومشقاتٍ فائقة الوصف. وهو أبنٌ موضوعٌ للحب الكلي وشديد الحب نحوها. وفي الوقت الذي فيه هو أبنها ففيه عينه هو إلهها. الذي اذ كان أنما جاء الى الأرض ليشعل لهيب نار الحب المقدس. كما أعلن ذلك هو عينه بقوله: أتيت لألقي ناراً على الأرض ولا أريد الا أضطرامها: (لوقا ص12ع49) فترى كم كان لهيب هذه النار التي أضرمها بشدةٍ عظيمةٍ في قلب والدته النقي الفارغ من كل أنعطاف نحو الأشياء الأرضية. فالبتول المجيدة عينها قالت في الوحي للقديسة بريجيتا:" أن قلبي وقلب أبني بالحب كانا واحداً. فالحريق الذي أضطرم في لب هذه العذراء المباركة كان مؤلفاً من موضوعات حبها نحوه تعالى بحسب كونها له عبدةً وأماً، وبحسب كونه لها أبناً وإلهاً. وبكلٍ من هذه الموضوعات كان قلبها يلتهب حباً به. الا أن هذا الحريق قد أستحال فيها حين آلام أبنها الى بحرٍ زاخر متموجٍ بالأحزان والأوجاع الغير المدركة. ومن ثم كتب القديس برنردينوس قائلاً:" أن أوجاع العالم بأسره وأحزانه كلها، اذا أجتمعت معاً، فلا يمكنها أن تصور في ذاتها حقيقة الحزن والوجع الذي تكبدته العذراء المجيدة". وهذا هو أمرٌ صادقٌ، لأنه كما قال القديس لورانسوس يوستينياني: بمقدار عظمة الأنعطاف والحب الذي به تعلق قلب هذه الأم الإلهية بمحبة هذا الإبن فبأكثر من ذلك تألمت هي متوجعةً عند مشاهدتها إياه متألماً، خاصةً حينما صادفته حاملاً صليبه مجذوباً الى جبل الجلجلة ليمات بموجب الحكومة المبرزة ضده: وهذا هو سيف الحزن الرابع المختص الفصل الحاضر بالتأمل فيه.*

فقد أوحت هذه البتول المجيدة للقديسة بريجيتا بأنه حينما كان أقترب زمن آلام الرب، لم تكن عيناها على نوعٍ ما تنشفان من الدموع المتصلة، بتذكرها في أنه قريباً كان يلزمها أن تفقد أبنها الحبيب من هذه الأرض، وأنه من قبل الخوف الذي كان يشتملها عند تفكرها بالمشهد المزمع حدوثه بموت يسوع، كان العرق البار يقطر من أعضاء جسمها كافةً. فهوذا أخيراً قد بلغ الزمن المرسوم لهذا العمل العظيم، وجاء يسوع عند والدته لكي يودعها ويمضي الى الموت. فالقديس بوناونتورا اذ كان يتأمل فيما صنعته حينئذٍ العذراء في تلك الليلة، قد خاطبها هكذا قائلاً:" أنكِ لقد أجزتِ تلك الليلة من دون رقادٍ بالكلية، وفي الوقت الذي فيه الآخرون كانوا نائمين فأنتِ أستمريتِ ساهرةً". فلما صار الصباح كان تلاميذ الرب الواحد بعد الآخر يأتون عند هذه الأم الإلهية المحزونة، وكلٌ منهم كان يخبر عما يكون شاهده أو سمع به. ولكن من المعلوم أن جميع هذه الأخبار كانت محزنةً. ووقتئذٍ قد كملت عن هذه السيدة حقيقة كلمات أرميا النبي بقوله: باكيةٌ بكت في الليل ودموعها على خديها ليس من يعزيها من جميع أحبائها: (مراثي ص1ع2) فاذاً البعص كانوا يأتون بأخبار الأهانات التي عومل بها يسوع في دار قيافا، وغيرهم بخبرية الأحتقار الذي أحتقره به هيرودس مع جنده. ثم جاء أخيراً القديس يوحنا الرسول (لأني أترك جانباً باقي الملاحظات لكي أصل من دون أسهابٍ الى الموضوع المقصود) وأعلمها بأن بيلاطس الفاقد كل عدالةٍ قد حكم على يسوع ظلماً بأن يموت مصلوباً وأنما قلت عن بيلاطس فاقد كل عدالةٍ أو بالحري كلي الظلم، لأن القديس لاون الكبير يقول عنه:" أنه أبرز الحكومة بالموت ضده وهو نفسه، أي بيلاطس أعترف مشهراً براءته، وأعلن أنه لم يجد فيه علةً تستوجب الموت". فاذاً قال لهذه السيدة القديس يوحنا الحبيب: أيتها الأم المملؤة أحزاناً أن الحكومة بالموت قد أعطيت ضد أبنكِ، وهوذا الجند قد حملوه صليبه على عاتقه وخرجوا به من دار الولاية ذاهبين نحو جبل الجلجلة ليصلبوه هناك. (كما أن هذا الإنجيلي دون ذلك هو نفسه فيما بعد بقوله: فحينئذٍ بيلاطس أسلمه إليهم ليصلبوه، فأخذوا يسوع وخرجوا به وهو حامل صليبه وجاءوا به الى موضع يسمى الجمجمة وبالعبرانية يسمى الجلجلة: (يوحنا ص19ع16) فأن كنتِ اذاً تريدين أن تنظريه وتودعيه المرة الأخيرة، تعالي لكي نذهب الى أحدى الطرقات المزمع أن يجتاز هو منها عابراً.*

فخرجت مريم البتول صحبة القديس يوحنا من البيت الذي كانت مقيمةً فيه، واذ شاهدت في الطريق نقط الدم الواضحة قد أستدلت منها على أن الجند كانوا أجتازوا بيسوع من هناك الى ما قدام. فهكذا أوحت هذه السيدة للقديسة بريجيتا قائلةً:" أنني قد عرفت أن أبني قد كان مر من تلك الطريق وجاز عند نظري أثره من قبل أنصباغ الطريق بدمه". فالقديس بوناونتورا يقول: أن الأم الإلهية الموعبة حزناً، عند علمها أن يسوع كان أجتاز من تلك الطريق، فهي أسرعت من طريقٍ أخرى قليلة المسافة وسبقت ووقفت عند رأس المسلك لملاقاة أبنها الحبيب المتألم المزمع أن يمر من هناك". فيا لها من والدةٍ متوجعةٍ في لجة الأحزان، ويا له من ابنٍ غارقٍ في بحر الآلام: يقول القديس برنردوس: ففي مدة وقوفها هناك ترى كم سمعت من اليهود الذين كانوا يعرفونها، من التكلم بالأهانة والأفتراء ضد أبنها الحبيب، وربما ضدها هي أيضاً. ولكن أواه كم كان سهم الحزن جارحاً قلب هذه الأم عند مشاهدتها خدام الشريعة مارين من هناك قبل يسوع، بالمسامير والمطارق والحبال وسائر الأشياء المقتضية لأتمام حكومة الموت. وكيف صارت حالها حينما سمعت المنادي أمام أبنها الحبيب يعلن مشهراً كالعادة مضمون الحكومة المبرزة بالموت ضد يسوع. ولكن بعد أن أجتازوا بآلات الصلب ومر المنادي وخدام الشريعة هوذا أمام عيني هذه الأم المحزونة مجتازاً ذاك الشاب المكتسى جسمه من الرأس الى القدمين من الجراحات القاطرة الدماء من كل ناحيةٍ من جسده، وعلى هامته حزمةٌ من الشوك. وصليب ذو خشبتين محمولٌ على منكبيه. فنظرت إليه، أواه يا له من منظرٍ محزنٍ يفتت الأكباد، وكأنها لم تعرفه. كما قال عنه أشعيا النبي: ورأيناه ولم يكن منظرٌ ولا جمالٌ مهاناً وآخر الرجال، رجل الأوجاع مجرباً بالأمراض وكان وجهه مكتوماً ومرذولاً... ونحن أحتسبناه كأبرص ومضروباً من الله: (ص53ع2) لأن الجراحات الموجودة في جسمه. والدماء المسفوكة منها قد صيرته كأبرص مضروبٍ بالقروح. الا أن الحب أخيراً قد حقق لهذه الأم أن ذاك الإنسان هو يسوع أبنها بعينه. فوأسفاه واحسرتاه كم كان شديداً سهم الحزن الذي طعن قلبها فيما بين الحب والخوف معاً (كما يقول القديس بطرس دالكانتارا في تأملاته) لأن الحب من الجهة الواحدة كان يجتذبها لأن تتفرس في وجه حبيبها يسوع لتراه جيداً، والخوف من الجهة الثانية كان يصدها عن مشاهدة منظرٍ كافٍ لأن يميتها من شدة الحزن. ولكن أخيراً قد نزع يسوع عن عينيه الدم الجامد الذي كان يمنع نظره (كما أوحى للقديسة بريجيتا) وشاهد والدته جيداً وهي شاهدته. أواه يا لها من مشاهدةٍ قد جرحت بسهامها هاتين النفسين الجميلتين. فمرغريتا أبنه توما موروس عندما رأت أباها ماراً في الطريق مجذوباً الى القتل، فلم تقدر أن تقول له سوى هاتين الكلمتين: يا أبي يا أبي: ثم سقطت في الأرض غائبةً عن حواسها كمائتةٍ، أما مريم فحينما شاهدت أبنها في تلك الحال ذاهباً الى جبل الجلجلة ليصلب فلم تغب عن حواسها، لأنه لم يكن لائقاً بهذه الأم الإلهية أن تفقد الأنتباه والمعرفة. حسبما قال الأب سوارس، ولا ماتت من شدة الحزن، لأن الله كان يحفظها لأحتمال آلامٍ أمر، ولكن ولئن لم تمت فمع ذلك قد ألم بها حزنٌ كافٍ لأن يميتها ألف ميتةٍ.*

فيقول القديس أنسلموس أن مريم حينئذٍ أقتربت من يسوع مريدةً أن تعانقه، الا أن خدام الشريعة صدوها عن ذلك بأهانةٍ وعنفٍ وأغتصبوا يسوع على المشي مجتازين به، ووقتئذٍ هذه الأم أتبعته لاحقةً. أواه أيتها البتول القديسة الى أين تذهبين، أهل الى جبل الجلجلة. ولكن أيمكنكِ أن تثقي بذاتكِ في أنكِ تقدرين أن تشاهدي معلقاً على الصليب ذاك الذي هو حياتكِ. كما قيل في تنبيه الأشتراع: وتكون حياتك كالمعلقة قدامك: (ص28ع66) فالقديس لورانسوس يوستينياني في تأملاته يخاطب هذه السيدة كأن أبنها يسوع يقول لها حينئذٍ هكذا: يا أمي لماذا تقتربين مني والى اين تريدين أن تذهبي، فأن كنتِ تأتين برفقتي الى حيث أنا ماضٍ فتتعذبين بشدة عذاباتي عينها. وأنا أتألم بآلامكِ نفسها. ولكن ولئن كانت هي عارفةً أن ذهابها معه ومشاهدتها إياه يموت على الصليب كانت مزمعةً أن تسبب لها آلاماً فائقة الوصف. فمع ذلك لم ترد أن تفارق موضوع حبها الوحيد، بل أن أبنها كان يسير أمامها وهي كانت تتبعه لتصلب معه. كما يقول عنها غوليالموس: أن مريم حملت صليبها وأتبعت يسوع لتصلب هي أيضاً معه. فقد كتب القديس يوحنا فم الذهب قائلاً: أننا نوجد متحننين على الحيوانات أيضاً، وهذا هو شيء حقيقي، لأننا اذا رأينا مثلاً أسدةً تجري وراء شبلها المأخوذ من الصيادين للقتل، فلئن كانت هي وحشاً مفترساً مبغوضاً منا فمع ذلك مشاهدتنا إياها متألمةً في تلك الحال تحركنا الى التوجع من أجلها، أفما نحزن اذاً متوجعين عند تأملنا والدة الإله النعجة الطاهرة تابعةً أبنها الحمل البريء من العيب مجذوباً للذبح: فلنشاركها بأحزانها اذاً متألمين معها، ولنجتهد في أن نتبع أبنها وإياها لاحقينهما نحن أيضاً حاملين بصبر ذاك الصليب الذي يفتقد الرب كلاً منا به. فالقديس يوحنا فم الذهب يسأل كمستفهمٍ: لماذا سيدنا يسوع المسيح في جميع آلامه الأخرى أراد أن يكون وحده من دون أن يسعفه أحدٌ بشيء، وأما في حمله الصليب شاء أن سمعان القانوي يعينه في حمله: وهو نفسه يجيب عن سؤاله قائلاً: أنما ذلك هو من كون صليب المسيح وحده لا يفيدك يا هذا من دون أن تحمل أنت أيضاً صليبك: فاذاً لا يكفينا للخلاص صليب يسوع أن كنا نحن لا نحمل الى ساعة موتنا الصلبان التي يريد الله أن نحملها بحسن تسليم الإرادة.*

* نموذج *

أن مخلصنا ظهر مرةً ما للبارة ديوميرا الراهبة التي من فيورنسا وقال لها:" أفتكري بي وحبيني، وأنا أفتكر بكِ وأحبكِ: وفي الوقت ذاته قدم تعالى لهذه الراهبة باقةً من الزهور جملةً مع صليبٍ، مشيراً بذلك الى أن تعزيات القديسين في هذا العالم، ينبغي أن ترافق على الدوام بالصليب، الذي من شأنه أن يتحد الأنفس بالله".

ثم أن الطوباوي أيرونيموس أميليانوس الذي كان قبلاً جندياً مملؤاً من الرذائل. فهذا اذ وقع في أيدي الأعداء وقيد منهم أسيراً في أحد الأبراج، فتحرك من قبل هذه التجربة مستنيراً باطناً بالضياء السماوي الى أن يتوب عن شروره ويصلح سيرته، ومن ثم أخذ بالتضرعات الى والدة الإله الكلية القداسة في أن تعينه. وحينئذٍ بشفاعات هذه السيدة قد أبتدأ بالسير في طريق القداسة، حتى أنه أستحق فيما بعد أن يكشف له الله بالرؤيا المكان السعيد المهيئ له في السماء... وصار بعد ذلك مؤسساً للرهبنة الصوماسكية. وأخيراً رقد بالرب بميتةٍ مقدسةٍ. ومنذ مدةٍ ليست مستطيلة قد أحصي قانونياً من الكنيسة المقدسة في عدد الطوباويين.*

† صلاة †

يا أمي المحزونة أنني أتوسل إليكِ بحق التألم الشديد الذي تكبدتيه عند مشاهدتكِ أبنكِ يسوع الحبيب مساقاٌ الى الموت، بأن تستمدي لي من الله نعمةً، وهي أن أحتمل أنا أيضاً بتسليم الأرادة وبصبرٍ تام، كل الصلبان التي يرسلها لي الباري تعالى. فالطوبى لي أن كنت أنا كذلك أحمل صليبي وأرافقكِ حتى الموت، فأنتِ البارة وأبنكِ المنزه عن كل زلةٍ قد ارتضيتما بأن تحملا صليباً بهذا المقدار ثقيلاً، فهل أني أنا الأثيم الذي مراتٍ عديدةً أستحقيت الجحيم أرفض أن أحمل صليبي. فمنكِ أرجو أيتها البتول البريئة من العيب أن تعينيني لكي أحتمل بصبرٍ الصلبان التي يرسلها لي الله آمين.*

  الفصل السادس

* في الموضوع الخامس لحزن مريم البتول. وهو موت أبنها *

* الحبيب يسوع المسيح أمام عينيها *

فها هوذا نحن الآن نلاحظ بأنذهالٍ نوعاً جديداً من الأستشهاد، وهو أن أماً تلتزم بأن تشاهد بأزاء عينيها يموت بحكمٍ ظالم فيما بين العذابات البربرية الشديدة القساوة أبنها البار المحبوب منها فوق كل شيءٍ. فعن هذا الأستشهاد لا يلزم أن نقول شيئاً آخر سوى الكلمات التي دونها عنه القديس يوحنا الأنجيلي نفسه قائلاً: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: (19ع25) فأنظر يا هذا. البتول المجيدة واقفةً بالقرب من صليب أبنها الحبيب ملاحظةً إياه في حال النزاع مدنفاً على الموت، وبعد ذلك أفتكر أن كان يوجد وجعٌ مثل وجعها. ولهذا فلنتصور ذواتنا حاضرين في جبل الجلجلة، ولنأخذ الآن بالتأمل في سيف الحزن الخامس الذي طعن قلب هذه الأم المحزونة، وهو مشاهدتها موت أبنها يسوع على الصليب.*

فحينما بلغ فادينا يسوع (في الحال التي لاحظناه بها في الفصل السابق) الى جبل الجلجلة، فالجلادون نزعوا عنه ثيابه، وسمروه عارياً على الصليب بيديه ورجليه المقدسة بمسامير لا رأس لها. أي مقطوع حدها الرفيع، كما يقول القديس برنردوس. وذلك لكي تعذبه أشد عذاباً بأنغراسها الأغتصابي في يديه ورجليه. وبهد أن رفعوا الصليب ونصبوه قائماً في الأرض، قد تركوا يسوع معلقاً عليه في تلك الحال ليموت هكذا. فالصالبون قد أهملوه على هذه الصورة وأما والدته البتول فلم تفارقه، بل أنها أقتربت أكثر قرباً من صليبه لتحضر موته. كما أخبرت هي نفسها للقديسة بريجيتا في الوحي قائلةً: أنني ما فارقت أبني يسوع، بل كنت واقفةً بالقرب من صليبه: الا أن القديس بوناونتورا يخاطب هذه السيدة بقوله: ماذا كان يفيدكِ يا سيدتي ذهابكِ الى جبل الجلجلة لتموتي أمام أبنكِ. فقد كان يلزم أن يمنعكِ عن المضي الى هناك الخجل، لأن العار والخزي الملمين بهذا الأبن فهما ملتحقان بكِ أنتِ أيضاً اذ أنكِ أمه. أو قلما يكون تصوركِ أثماً هكذا شنيعاً نفاقياً، وهو أن إلهاً متجسداً يصلب بأيدي خليقته نفسها. كان يلزم أن يمنعكِ عن مشاهدته: غير أن القديس المذكور عينه يرد الجواب عن ذلك قائلاً: أن قلبكِ لم يكن يعتبر هذا الأمر خزياً ومكروهاً، بل مؤلماً: أواه أن قلبكِ حينئذٍ لم يدعكِ أن تفتكري في وجعكِ وتألمكِ بل في أوجاع أبنكِ وآلامه وموته. ولهذا أردت أن تحضري أنتِ نفسكِ تحت صليبه. قلما يكون لكي تتوجعي من أجله: فأنتِ هي الأم الحقيقية والمحبة الصادقة (يقول نحوكِ الأنبا غوليالموس) اذ أنه ولا الخوف من أنكِ تموتين أمكنه أن يفصلكِ عن أبنكِ الحبيب: فيا له من مشهدٍ موعبٍ من الأحزان والأوجاع الباطنة، فيه كان ينظر هذا الأبن الإلهي منازعاً على الصليب، وفي الوقت عينه كانت تشاهد هذه الأم البتول تحت صليبه منازعةً هي أيضاً، لتكبدها في ذاتها الآلام عينها التي كان أبنها يتعذب بها. فقد أخبرت في الوحي للقديسة بريجيتا هذه الأم الإلهية عينها عن الحال التي شاهدت هي بها أبنها في تلك الساعة على الصليب قائلةً هكذا: فقد كان أبني الحبيب على الصليب متعوباً في الغاية مترادف التنفس بأنزعاجٍ، منازعاً مقارباً للموت، وكانت تشاهد مقلتاه غائرتين في جورتيهما، وعيناه نصف مطبوقتين، وشفتاه مرتخيتين، وفمه مفتوحاً، ووجنتاه بلونٍ أصفر. ولحمانهما ملتصقةً بأسنانه، وحنكاه يابسين، وأنفه كفي حال الموت، ووجهه مقطباً كئيباً، ورأسه كان يلاحظ منحنياً نحو صدره، وشعره أسود مصبوغاً بالدم، وبطنه لاصقاً بظهره. وذرعاه وساقاه موترةً بأشدادٍ. وسائر أعضاء جسده مملؤةً جراحاتٍ قاطرةً الدماء.*

فعذابات يسوع هذه كلها قد كانت هي عذابات مريم أيضاً والدته. كقول القديس أيرونيموس: أن جميع الجراحات التي كانت في جسم يسوع فهذه وجدت في قلب مريم: ومن ثم يقول القديس يوحنا فم الذهب: أن من أمكنه أن يكون حاضراً حينئذٍ عند جبل الجلجلة فقد كان يستطيع أن يشاهد هناك مذبحين مقدماً على كل منهما القربان العظيم، فأحدهما في قلب يسوع وثانيهما في قلب مريم والدته: الا أنه يظهر لي أكثر ملائماً ما يعتبره القديس بوناونتورا مذبحاً واحداً مقدماً فوقه القربانان معاً، وهو مذبح الصليب المقدس الذي عليه جملةً مع الذبيحة التي بها قدم فوقه الأبن ذاته ضحيةً كحملٍ لا عيب فيه، قد ضحت ذاتها هذه الأم الإلهية أيضاً، ولذلك يخاطبها القديس المذكور عينه متسائلاً بقوله لها: يا سيدتي مريم أين أنتِ كائنةٌ، أهل تحت الصليب. أواه أنه بأكثر صوابٍ وعدالةٍ ينبغي أن أقول أنكِ كائنةٌ فوق الصليب عينه، لكي تقدمي ذاتكِ ذبيحةً. مصلوبةً جملةً مع أبنكِ يسوع. وهكذا يثبت ذلك القديس أوغوسطينوس بقوله: أن الصليب والمسامير كانت للأبن ولأمه معاً، لأنه اذ صلب المسيح فصلبت أمه أيضاً معه. وهذا لا ريب فيه، لأن القديس برنردوس يبرهن قائلاً: أن الشيء الذي كانت تفعله المسامير في جسد يسوع فهذا نفسه كان يفعله الحب في قلب مريم. بنوع أنه في الوقت عينه الذي فيه كان الأبن يضحي جسده محرقةً على الصليب، ففيه كانت أمه تضحي نفسها محرقةً معه: (كما كتب القديس برنردينوس).*

فالأمهات أعتيادياً يهربن من الأمكنة التي فيها يكون أولادهن منازعين، لكيلا يشاهدن بأعينهن موتهم، ولكن اذا وجدت أمٌ ما مضطرةً لأن تلبث عند أبنها ساعة موته، فتهتم هي بأن تصنع له كل ما يمكنها أن تسعفه به مخففةً عنه آلام النزاع مجتهدةً في أن تصلح له سريره وفراشه ليكون مرتاحاً في أتكائه، مداومةً على أن تسقيه الأشياء المرطبة المبردة، وبهذا النوع يمكنها أن تجد هي تعزيةً ما في هذه الخدمة تسكن عنها أحزانها المرة. أواه أيتها الأم المملؤة أوجاعاً مريم الأشد تألماً وحزناً من الأمهات كلهن. فأي نعم أنه رسم عليكِ أن تحضري عند أبنكِ ساعة موته تحت صليبه، ولكن لم تعط لكِ الأستطاعة على أن تسعفيه بشيءٍ ما من الأشياء مطلقاً. لأنه قد سمعت هذه الأم المحزونة أبنها يسوع قائلاً: أنا عطشان: ولكن لم يسمح لها بأن تقدم له قليلاً من الماء ليطفئ به حرارة عطشه الشديد. بل كما يلاحظ القديس فيجانسوس فراري أنها أجابته قائلةً: ليس يوجد عندي يا ولدي من الماء سوى دموعي. ثم أنها كانت تشاهد حبيبها يسوع فوق فراش الصليب معلقاً بيديه ورجليه بثلاثة مسامير متعوباً جداً. ومن ثم كانت تشتهي أن تعانقه بين يديها ليمكنه أن يجد قليلاً من الراحة، أم أن يعطى لها أن تأخذه في حضنها ليموت على ركبتيها، ولكن لم تكن تحصل على ذلك (كما كتب القديس برنردوس) وكانت تلاحظ جيداً كيف أن يسوع الغائص في بحر الآلام والأحزان كان يطلب تعزيةً ما ولم يجد، حسبما قد كان هو تعالى سبق وقال بفم نبيه أشعيا: دست المعصرة وحدي... كما نظرت حولي ولم يكن معينٌ وطلبت فلم يكن ناصرٌ: (ص63ع3و5) ولكن ترى من كان يريد أن يعزيه من البشر الذين أضحوا كلهم أعداءً له، لأنه وهو على الصليب كان بعضهم يجدف عليه بنوعٍ، وبعضهم بنوعٍ آخر، كما كتب القديس متى الإنجيلي بقوله: وكان المجتازون به يجدفون عليه، ويحركون رؤسهم قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيامٍ خلص نفسك أن كنت أبن الله وأنزل عن الصليب. وهكذا رؤساء الكهنة مع الكتبة والشيوخ كانوا يهزأون به ويقولون، خلص آخرين ولم يقدر أن يخلص نفسه، أن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصلييب: (متى ص27ع39ألخ) بل أن والدة الإله أخبرت القديسة بريجيتا بأكثر من ذلك قائلةً لها في الوحي: أنني سمعت البعض يقولون عن أبني أنه كان لصاً. وغيرهم أنه كان خداعاً، وآخرون قالوا أنه لم يكن أحدٌ مستحقاً للموت نظيره، وهذه الأقوال كلها قد أضحت لدي سيوفاً جديدةً تقطع قلبي:*

الا أن الشيء الذي أحزن قلب هذه الأم الإلهية أشد حزناً، وأوعبها من مرارة التألم والتوجع بأبلغ نوع من كل ما سواه، هو سماعها أبنها الحبيب متشكياً من أن أباه الأزلي عينه قد كان أهمله، بنوع أن: يسوع صرخ بصوتٍ عظيمٍ قائلاً إيلي إيلي لما صافختاني: الذي تأويله إلهي إلهي لماذا تركتني: (متى ص27ع46) فهذه الكلمات قد جرحت فؤاد مريم البتول جرحاً هكذا عظيماً، حتى أنه، حسبما أوحت هي للقديسة بريجيتا لم يكن يبرح من فكرها ذكر تلك الكلمات مدة باقي أيام حياتها. فاذاً قد كانت هذه الأم السابحة في بحر الأحزان تشاهد أبنها من كل الجهات معذباً متألماً متروكاً، وكانت تجتهد في أن تسعفه بشيءٍ ما ولكن لم يكن ممكناً لها. والأبلغ من ذلك هو أنها كانت تلاحظ حسناً أن وجودها أمام عيني أبنها في تلك الحال، كان يسبب له آلاماً خصوصيةً مزادةً على آلامه. فمن ثم كتب القديس برنردوس قائلاً: أن التألم الذي كان يوعب قلب مريم مرارةً، فهذا عينه كان يفجع قلب يسوع ويطعنه بالحزن. ويقول في محلٍ آخر: أن المسيح وهو على الصليب قد تألم من قبل حزنه وتوجعه على والدته أشد تألماً من عذاباته كلها. فهكذا يتكلم هذا القديس عن لسان البتول قائلاً: أنا كنت واقفةً بالقرب من صليب أبني ناظرةً إليه، وهو كان ناظراً إليَّ، ولكنه كان يتألم من أجلي أكثر تألمه من قبل أوجاعه. وقال أيضاً عن هذه السيدة: أن مريم كانت واقفةً قربةً من صليب أبنها يسوع عادمة الصوت من شدة الحزن، وكانت عائشةً في الحياة منازعةً كمدنفةٍ على الموت، ولكنها اذ لم تقدر أن تموت فبقيت حيةً منازعةً. وقد كتب العلامة باسيوس بأن فادينا نفسه ظهر مرةً ما للطوباوية باتيسطا فارانا التي من مدينة كامارينو وقال لها:" أنه بهذا المقدار كان هو يشعر بأنفعالات الحزن والتألم من قبل مشاهدته من على الصليب والدته واقفةً بالقرب منه في تلك الحال المرثى لها، حتى أن تلك المشاهدة جعلته أن يموت فاقد التعزية". فهذه الكلمات أثرت كثيراً في قلب الطوباوية المذكورة المستنيرة من الله لأن تعرف حقيقة آلام يسوع من هذا القبيل، حتى أنها هتفت متوسلةً إليه تعالى بقولها: يا سيدي لا تعد تقول لي شيئاً عن حزنك هذا، لأني لا أستطيع بعد أحتمالاً.*

أما سمعان داكاسيا فيقول:" أن الأنام الذين كانوا يشاهدون حينئذٍ مريم في تلك الحال صامتةً، فكانوا ينذهلون من سكوتها وعدم تشكيها بكلمةٍ ما في أوقات آلامها هذه الفائقة الأحتمال. ولكن اذا كانت هي وقتئذٍ ساكتةً بفمها فلم تكن صامتةً في قلبها. لأنها في تلك الأوقات ما صنعت هي شيئاً آخر سوى تقدمتها بتكرارٍ لدى العدل الإلهي حياة أبنها من أجل خلاصنا". ولهذا نحن نعلم أنها قد أكتسبت هي بأستحقاقات أوجاعها وأحزانها المشار إليها صفة: مشاركة في عمل خلاصنا: أي في أن نولد جديداً في حياة النعمة. وبالتالي نحن هم أولاد أوجاعها. ويقول لاسبارجيوس: أن المسيح اذ قد أراد أن يقيم والدته أماً لنا فجعلها أن تكون مشاركةً في عمل أفتدائنا، لأنه كان يلزمها أن تلدنا بنين لها تحت صليب يسوع. فاذاً يمكنني أن أقول أنه أن كانت هذه الأم الإلهية وهي غائصة في بحر مرائر تلك الأحزان صادفت تعزيةً ما. فهذه التعزية الوحيدة أنما كانت قائمةً في تذكرها بأنها بواسطة أحزانها وآلامها المشار إليها كانت تفيدنا في أمر خلاصنا الأبدي. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة بريجيتا بقوله: أن مريم والدتي أنما صارت أماً لأهل السماء والأرض لأجل توجعها وحبها. وبالحقيقة أن الكلمات الأخيرة التي قالها مخلصنا لوالدته وهو على الصليب مودعاً إياها قبل أن يموت، قد كانت تسليمه إياها أولاداً لها في شخص تلميذه القديس يوحنا، وهذا كان منه بمنزلة وصيته الأخيرة التي بها ترك لأمه تذكرةً وميراثاً أن نكون نحن أولادها وهي أمنا بقوله لها: يا أمرأة ها أبنكِ: (يوحنا ص19ع26) وهكذا منذ تلك الساعة أبتدأت مريم العذراء أن تمارس نحونا وظيفة أمٍ صالحةٍ. على أن القديس بطرس داميانوس يشهد بأن اللص الجيد أنما ندم على خطاياه، وأعترف بلاهوت فادينا قائلاً له: أذكرني يا رب اذا أتيت في ملكوتك: وهكذا فاز بالخلاص الأبدي وذلك من قبل تضرعات هذه الأم الإلهية من أجله، لأنه على موجب رأي بعض الكتبة الكنائسيين أن هذا اللص حين سفر والدة الإله مع طفلها وخطيبها الى مصر، قد كان في الطريق صنع معها معروفاً، بل أن هذه السيدة الرأوفة قد مارست دائماً وظيفة أمٍ نحو الجميع من ذلك الحين فصاعداً بدون أنقطاع، كما تمارس هذا الأمر الآن وفي المستقبل أيضاً.*

* نموذج *

أن شاباً ما من سكان مدينة باروجيا قد كان أتفق مع الشيطان بموجب صكٍ أمضاه بخط يده بقلمٍ مغمسٍ بدمه على أن يسلمه نفسه، أن كان الشيطان يجعله مقتدراً على أن يفعل خطيئةً مميتةً كان هو يرغب أرتكابها ولم يكن قادراً. فلما أكمل هذا الشاب التعيس تلك الخطيئة فالشيطان أراد منه أن يضع بالعمل ما وعده به في ذاك الصك، ولذلك أقتاد هو الشاب الى حافة بئرٍ عميقةٍ، وطلب منه أن يطرح ذاته فيها ليموت مختفياً وهو يأخذ نفسه، متهدداً إياه بأنه ألم يفعل ذلك من تلقاء ذاته فهو كان مزمعاً أن يجذبه الى جهنم بالنفس وبالجسد. فهذا الشاب المنكود الحظ اذ ظن بذاته أنه لا مناص له من يد إبليس، قد صعد على فم البئر ليطرح بنفسه فيها. ولكن خوفه من الموت وقفه ومن ثم قال للشيطان أنه لا شجاعة له على ذلك، بل أنه هو أي الشيطان يدفعه ليسقط في البئر أن كان يريده أن يموت. فقد كان الشاب لابساً ثوب السيدة المحزونة ولهذا قال له الشيطان: أرفع عنك هذا الثوب وأنا حينئذٍ أدفعك لتنطرح في البئر: فلما لاحظ الشاب جيداً أنه بواسطة ذاك الثوب المكرس الخاص بأحزان والدة الإله كان حاصلاً على الحماية من هذه الأم الرأوفة، الى ذاك الوقت، فلم يرد أن ينزعه من عنقه، ولهذا بعد مجادلة ومخاصمة كثيرة صدرت فيما بينه وبين الشيطان ألتزم هذا العدو الجهنمي بأن يترك الشاب ويمضي خازياً. وهكذا ذاك الخاطئ أسرع الى الكنيسة ليقدم الشكر للسيدة المحزونة على النعمة التي فاز بها بشفاعاتها. وقد تاب عن خطاياه ونذر أن يقدم لهيكلها أيقونةً حاويةً أمر نجاته. كما تمم ذلك، والأيقونة هي موجودة في كنيسة السيدة المدعوة الجديدة في مدينة باروجيا عينها تذكرةً لأحسان والدة الإله.*

† صلاة †

أواه أيتها الأم المتألمة أشد آلاماً وأحزاناً وأوجاعاً من الأمهات كلهن. فاذاً قد مات أبنكِ الحبيب الذي بهذا المقدار كنتِ تحبينه ويحبكِ. فأبكي بالصواب عليه لأنه يستحق ذلك، ولكن ترى من يمكنه أن يعزيكِ عن فقده، فشيءٌ واحدٌ يستطيع على تعزيتكِ وهو تفكركِ في أن يسوع بموته قد قهر الجحيم وأنتصر عليه غالباً، وفتح للبشر أبواب الفردوس السماوي الذي كان مغلقاً دونهم، وهكذا قد اكتسب نفوساً غير محصى عددها. وقد ملك وهو على الصليب مستولياً على قلوبٍ لا حد لكثرتها من أولئك الذين غلبوا من مفاعيل حبه إياهم فيخدمونه تعالى بأمانةٍ، فلا تأنفي يا مريم سيدتي من أنكِ تقبليني بالقرب منكِ لأبكي معكِ، لأن الصواب يقضي مني أن أبكي أكثر منكِ، لأجل أني أغظت إلهي مراتٍ عديدةً. فيا أم الرحمة أنا أرجو غفران خطاياي أولاً بأستحقاقات موت مخلصي يسوع المسيح، وبعد ذلك بأستحقاقات أحزانكِ التي قد تكبدتيها حين آلامه. ومعاً أرجو نوال الخلاص الأبدي آمين.*

Click to view full size image

الفصل السابع

* طعن* فيما يلاحظ الموضوع السادس لحزن العذراء والدة الإله، وهو*

 جنب يسوع المسيح بالحربة. وتنزيله من على الصليب.*

يا عابري الطريق أنظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي، (مراثي أرميا ص1ع12) فيا أيتها الأنام المتعبدون للبتول القديسة المحزونة أسمعوا ماذا تقول هي نحوكم اليوم:" يا أبنائي الأعزاء أنا لا أريد منكم أن تهتموا في تعزيتي، كلا، لأن قلبي لم يعد بعد موضوعاً قابلاً لأن يحصل (ما دمت في الأرض) على تعزيةٍ ما، بعد موت أبني الحبيب يسوع. فأن كنتم اذاً تريدون أن ترضوني فأنا لا أريد منكم الا هذا الشيء، وهو أنكم تلتفتون نحوي وتتأملون فيَّ لتنظروا هل يوجد في العالم وجعٌ مثل وجعي، عند مشاهدتي مخطوفاً مني بعذاباتٍ كلية القساوة ذاك الذي كان هو موضوع حبي كله". ولكن أيتها السيدة أن كنتِ لا تريدين أن تتعزي، وما زلتِ متعطشةً لأقتبال أحزانٍ أخرى. فأنا أقول لكِ أنه ولا بموت ابنكِ قد انتهت أحزانكِ. لأن سيفاً آخر مزمعٌ أن يلج في نفسكِ بعد موته، وهو مشاهدتكِ واحداً من الجند يطعن جنب حبيبكِ بحربةٍ طعنةً بربريةً. ثم بعد ذلك تقتبلين بين يديكِ وفي حضنكِ جسد أبنكِ بعد تنزيله من على الصليب. وها نحن نأخذ الآن بالتأمل في الموضوع السادس لأحزان هذه الأم الإلهية. الأمر الموجب التأمل حسناً والدموع الحارة. فإلى هنا يبان أن أوجاع هذه السيدة قد جاءت رويداً رويداً واحداً فواحداً. وأما في هذا الموضوع السادس فكأن الأحزان بأسرها قد داهمتها معاً.*

فأمرٌ خالٍ من الأرتياب هو أنه يكفي القول لأمٍ ما أن أبنها قد مات لأن يلتهب قلبها بنار حبه. ويطعن بسهم فقده. ولهذا قد أعتاد البعض لكي يخففوا نوعاً أحزان الأمهات الفاقدات أولادهن بالموت. أن يأتوا أمامهن بذكر تلك الأشياء التي كان بنوهن سببوا لهن بها (اذ كانوا أحياء) الغيظ أو الأهانة. ولكن اذا أردت أنا أن أتبع نحوكِ أيتها السيدة هذه الطريقة عينها لتخفيف حزنكٍ. فأي حادثٍ يمكنني أن أجده لأذكركِ في أن أبنكِ قد أغاظكِ به كلا، لأن هذا الأبن الإلهي قد أحبكِ دائماً وأطاعكِ مطلقاً وكرمكِ على الدوام. ولذلك من يستطيع أن يصف أحزانكِ وآلامكِ على فقده سواكِ أنتِ التي أختبرتِ مفعولها في ذاتكِ. فيقول أحد الكتبة العباد: أنه بعدما مات فادينا على خشبة الصليب فالعواطف الأولى التي مارستها مريم البتول قد كانت أن ترافق بالروح نفس أبنها الكلية القداسة مقدمةً إياها لدى الآب الأزلي، وكأنها كانت تقول له:" إلهي أنني أقدم لك نفس أبنك وأبني البريئة من العيب التي قد أطاعتك حتى الموت. فأنت أقبلها بين يديك. وها هوذا عدلك الإلهي قد أستوفى ما يحق له. وأرادتك المقدسة قد أكتملت. وقد أنتهت الذبيحة العظيمة المقربة لأجل مجدك الأبدي: ثم ألتفتت نحو جسد أبنها المائت هاتفةً: أيتها الجراحات ذات الحب المضطرم أنني أسجد لكِ وأهنئكِ، لأنه بواسطتكِ قد أعطى الخلاص للعالم، فأنتِ مزمعةٌ أن تبقي مفتوحةً في جسم أبني الحبيب لكي تكوني ملجأً منيعاً لجميع أولئك الذين يبادرون نحوكِ محتمين فيكِ، لأنه كم وكم من البشر هم عتيدون أن يقتبلوا بواسطتكِ غفران خطاياهم. وبكِ تلتهب قلوبهم بمحبة الخير الأعظم".*

أما اليهود فاذ أرادوا الا يكدر فرح ذاك السبت العظيم الواقع في عيد الفصح. قد رغبوا تنزيل جسد يسوع من على الصليب، ولكن لأنهم لم يكونوا يستطيعوا أن ينزلوا أجساد المصلوبين قبل أن تكون أنفصلت عنها الأنفس بالموت. فلهذا جاء الجند ومعهم عصي حادة فكسروا ساقي اللص الأول وساقي اللص الآخر ليموتا سرعةً. وأما مريم البتول فكانت واقفةً هناك تبكي على موت حبيبها يسوع. وحالما شاهدت الجنود جاءوا بالأسلحة وكسروا ساقات اللصين متحهين ضد جسد أبنها أيضاً. ففي الأبتداء أستوعبت منهم خوفاً. ولكن بعد ذلك، يقول القديس بوناونتورا، قد تفوهت نحوهم هكذا قائلةً: واحسرتاه أن أبني قد مات فأعدلوا عن أن تفترئوا عليه أكثر . وتغاضوا عن أنكم تسببون لي أنا أمه المسكينة آلاماً أمر: الا أنه وفيما كانت هي تخاطبهم بهذا الكلام الصوابي. واذا بها شاهدت واحداً من الجند قد دنا من جسد يسوع. وبقوةً شديدةٍ طعنه في جنبه بالحربة التي كانت بيده. وللوقت خرج من ذاك الجنب الأقدس المفتوح على هذه الصورة بطعن الحربة دمٌ وماءٌ (يوحنا ص19ع34) ففي هذه  الطعنة ومن جرائها قد أرتج جسد يسوع مع صليبه. وأنقسم قلبه المقدس. كما أوحى للقديسة بريجيتا. وأنما خرج من جنبه المطعون دمٌ وماءٌ، لأنه لم يكن باقياً في جسده تعالى شيء من دمه كله سوى تلك النقط القليلة التي أستمرت مخزونةً في قلبه. فهو أراد أن تهرق هذه أيضاً من أجلنا ويخرج في أثرها الماء ليشير إلينا بأنه لم يعد عنده دمٌ يقدمه عنا. فيقول لاسبارجيوس العابد: أن الأهانة والأفتراء الصادرين عن هذه الطعنة بالحربة قد ألحقتا بيسوع، وأما الوجع والتألم المختصان بها فألتحقا بقلب مريم. ثم أن الآباء القديسين يرتاءون بأن هذه الطعنة هي حقيقة ذاك السيف الذي قال عنه البار سمعان الشيخ لوالدة الإله متنبئاً بأنه كان عتيداً أن يحوز في نفسها. السيف الذي لم يكن من الحديد بل من مرارة الحزن الذي طعنت به نفسها المباركة الموجودة على الدوام ساكنةً بالحب داخل قلب أبنها المطعون بهذه الحربة. وفيما بين الآخرين الذين فسروا ذلك على هذه الصورة هو القديس برنردوس القائل (في مراثيه على العذراء): أن الحربة التي طعن بها جنب يسوع قد جازت في نفس مريم التي لم تستطع أن تفارق هذا القلب المطعون. كما كان سبق لها الإيعاز بذاك السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها: بل أن العذراء المجيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً: أنه حينما كانت الحربة تجذب خارجاً من  قلب أبني كان يظهر رأسها مغموساً بالدم. ووقتئذٍ كان يبان أن قلبي أنطعن مفتوحاً عند نظري قلب أبني الحبيب مطعوناً بها:.*

حتى أن الملاك أخبر القديسة بريجيتا في الوحي: بأن أوجاع مريم البتول من قبل هذه الطعنة كانت بهذا المقدار شديدةً مؤلمةً، بنوع أنها بأعجوبةٍ إلهيةٍ لم تمت هي وقتئذٍ من مرارة التوجع: ثم أنه كان يوجد لهذه السيدة في حين أوجاعها الأخرى من يخففها عنها نوعاً وهو يسوع حياً متشفقاً عليها. أما في الوجع المذكور فلم يكن معها هذا المعزي الذي قد مات:.*

ومن حيث أن هذه الأم الإلهية كانت تخاف بالصواب من أن أعداء أبنها يمارسون ضد جسده الطاهر أهاناتٍ أخرى ذات أفتراءٍ نفاقي. فقد توسلت الى يوسف الرامي في أن يلتمس من بيلاطس أن ينزل هذا الجسد من على الصليب، حتى يمكنها قلما يكون بعد موت حبيبها أن تحفظ جسمه ناجياً من الأهانة والأفتراء الممكن أن يلتحقا به جديداً. فمن ثم أنطلق يوسف عند بيلاطس، وأعرض لديه حال الأحزان والأوجاع الملمة بقلب هذه الأم المتألمة على ابنها، وكيف كانت هي تشتهي أن تنال تنزيل جسده  عن الصليب. وحسب رأي القديس أنسلموس أن بيلاطس حينئذٍ قد أخذته الشفقة على أمٍ هذه صفتها، ورثي لها، آذناً ليوسف بأن ينزل جسد أبنها عن الصليب. ويدفنه حيثما يشاء. وهذا الأذن قد وضع بالعمل وهكذا أنزلوا جسم المخلص من الخشبة. أواه أيتها البتول الكلية القداسة. هوذا العالم رد إليكِ أبنكِ الذي كنتِ بحبٍ هكذا عظيمٍ أعطيتيه إياه: ولكن واحسرتاه (تقول مريم للعالم) بأية حالٍ أنت ترده لي: أن حبيبي أبيض أشقر منتخب من بين ربواتٍ: (نشيد ص5ع10) فأنا سلمتك أبني كلي البياض أحمر اللون، وأنت ترجعه إليَّ الآن لا بلونه بل مسوداً مصبوغاً بالدماء معدوماً من قبل الجراحات المكتسية بها أعضاء جسده. أنا دفعته إليك قريداً في جماله وحسنه وأنت ترده لي فاقد الصورة وعديم الجمال. فهو كان يجتذب القلوب الى الغرام بحبه بمجرد النظر الى بهاء طلعته. والآن تكره العيون أن ترمقه لسوء حاله. فيقول القديس بوناونتورا: أواه كم من السهام الأليمة قد رشقت قلب هذه الأم المحزونة، وكم من السيوف أجتازت في نفسها، حينما أحضر لديها جسد يسوع منزلاً من على الصليب. فيكفي التأمل في الحزن الذي يلم أعتيادياً بكلٍ من الأمهات عندما تشاهد جسد أبنها ميتاً. فقد أوحى الى القديسة بريجيتا بأنه في حين تنزيل جسد يسوع من الصليب قد أستعملت ثلاثة سلالم. وأن التلاميذ قد صعدوا عليها فأقتلعوا أولاً المسامير من يدي الجسم الطاهر ومن رجليه، وسلموها بيد والدته (كما كتب سمعان ميتافراسته) وبعد ذلك البعض منهم كان ماسكاً الجسد من فوق وبعضهم من أسفل، وهكذا أنزلوه من الخشبة. أما برنردينوس البوسطي فيلاحظ متأملاً كيف أن هذه الأم الموعبة من مرائر الحزن أقبلت نحو التلاميذ لتعانق جسد حبيبها المحمول منهم. رافعةً يديها منتصبةً على رؤوس أصابع رجليها لمساعدتهم، وكيف أنها بعد أخذها إياه في حضنها وسندته على ركبتيها جالسةً تحت صليبه. محدقةً بنظرها في جسمه، متأملةً في فمه المفتوح، وعينيه المعتمتين، ولحمانه الممزقة المملؤة جراحاتٍ، وعظامه المجردة، ثم كيف أنها رفعت أكليل الشوك المغروس في رأسه متأملةً في الثقوبة الموجودة في هامته المقدسة من تلك الأشواك ناظرةً الى يديه ورجليه المثقوبة من المسامير وقائلةً:" واحسرتاه يا أبني ونور عيني الى أية حالٍ أوصلتك محبتك العظيمة للبشر، فترى أي شرٍ صنعت أنت معهم حتى أنهم عاملوك بهذه القساوة. فأنت كنت معي أباً لي وأخاً وعروساً، وأنت حبيبي وتنعمي ومجدي وكل شيءٍ كنت املكه. فأنظر إليَّ يا أبني بما أنا فيه من الأحزان والأوجاع وأرمقني بنظرك معزياً إياي. ولكن أواه أنت ما عدت تشاهدني، فأعطيني كلمةً يا كلمة الله وعزني بلفظةٍ واحدةٍ، وأويلاه أنت ما عدت تفه بكلمةٍ لأنك قد مت". ثم بعد ذلك يلاحظها برنردينوس المذكور ملتفتةً نحو آلات آلامه قائلةً نحوها: أيتها الأشواك القاسية، والمسامير والحربة الجارحة المؤلمة، كيف أمكنكِ أن تعذبي بهذا المقدار خالقكِ. ولكن أنتم يا معشر الخطأة أنتم هم الذين عاملتم أبني هذه المعاملة السيئة المرثى لها.*

أي نعم أن مريم العذراء هكذا كانت تتشكى بالصواب منا حينئذٍ الا أنه لو أمكنها أن تكون هي الآن موضوعاً قابلاً لأن تحزن وتتألم. فترى أي شيء لكانت تتكبد منا عند مشاهدتها إيانا نحن البشر. بعد أن صلب أبنها عنا ومات من أجلنا نجدد ثانيةً صلبه وموته بفعلنا الخطايا والآثام التي هو تألم من جرائها ومات ليفي عنها. فاذاً يليق بنا ويلزمنا الا نحزن بعد قلب هذه الأم الموجوعة. واذا كنا فيما مضى نحن أيضاً سببنا لها التألم بمآثمنا، فلنصنعن الآن ما تقوله هي لنا عن لسان النبي أشعيا هاتفةً نحونا: أرجعوا أيها الفجار الى القلب: (ص46ع8) أي أرجعوا أيها الخطأة الى قلب أبني يسوع المجروح، وعودوا إليه تائبين وهو يقتبلكم محتضناً. فأهربوا منه بحسب كونه قاضياً وأرجعوا إليه بحسب كونه فادياً. أهربوا من المحكمة القضائية الى منبر الصليب: (كما يقول عن لسانها الأنبا غواريكوس) ثم أن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا بأنها حين أقتبالها جسد يسوع من على الصليب في حضنها، قد أغلقت هي بيدها عينيه. ولكنها لم تقدر أن تجمع ذراعيه وتضمهما الى صدره. مريداً مخلصنا أن يشير إلينا بأنه يرغب أن ذراعيه تستمراه مفتوحتين ليعتنق بهما جميع الخطأة التائبين الراجعين إليه تعالى من كل قلوبهم: فيا أيها العالم (تقول هذه السيدة المتألمة مع حزقيال النبي ص16ع8) قد مررت بك واذا حينك حين الأحباء. فهوذا أبني قد مات ليخلصك يا أيها العالم. فليس هو حينك بعد الآن حين الخوف والجزع، بل حين الحب والأنحباب، حين الأنعطاف بالحب الحقيقي نحو من أظهر لك حقائق حبه إياك بأحتماله حباً بك هذا المقدار من الآلام الشديدة: فيا أيها الخطأة، يقول القديس برنردوس، أن قلب المسيح قد جرح جرحاً حسياً ظاهراً، حتى عندما تعاينوا هذا الجرح المنظور تفطنوا بجرح المحبة الغير المنظور التي هو أحبكم بها: وهنا تختتم والدة الإله خطابها الذي عن لسانها يقوله العلامة أيديوطا بهذه الكلمات وهي: ان كان أبني قد أرتضى بأن يفتح جنبه بطعن الحربة لكي يعطيك قلبه أيها الإنسان، فعادلٌ وصوابي هو أنك تعطيه أنت قلبك واهباً إياه له: ويقول أوبارتينوس الذي من كازاله: أن كنتم يا أولاد مريم البتول تريدون أرادةً ثابتةً أن تجدوا مكاناً في قلب يسوع، فأمضوا جملةً مع هذه السيدة وهي تستمد لكم هذه النعمة:*

* نموذج *

قد أخبر التلميذ (في كتابه الملقب برحمة مريم البتول) عن أحد الخطأة الأشقياء الذي فيما بين مآثمه الأخرى الشنيعة كان قتل أباه وأخاه الطبيعيين. فهذا يوماً ما دخل في زمن الصيام الكبير الى أحدى الكنائس وأستمع هناك من الكاروز عظةً مختصةً بسمو المراحم الإلهية. ومن ثم تقدم من تلقاء ذاته الى منبر الأعتراف مقراً بخطاياه، فلما أستمع منه معلم الأعتراف تلك الكبائر المملؤة شناعةً ونفاقاً، قد أرسله الى أمام أحد الهياكل المختصة بوالدة الإله المتألمة، ليتوسل إليها هناك في أن تستمد له من الله تألماً قلبياً وتوجعاً حقيقياً على تلك الخطايا وتنال له نعمة غفرانها. فهذا الخاطئ أطاع الأمر وذهب أمام الهيكل االمشار إليه وأبتدأ أن يتضرع بحرارةٍ لهذه الأم الرأوفة. الا أنه في الحال سقط هو على الأرض مائتاً، ففي الصباح التالي حينما كان الكاهن يطلب من الشعب الحاضر أن يتوسلوا لله من أجل نياح نفس ذاك الإنسان المتوفي بموت الفجأة، واذا بحمامةٍ كلية البياض دخلت الى الكنيسة طائرةً وطرحت عند قدمي الكاهن المومى إليه الورقة التي كانت هي ماسكتها برجليها، فأخذ الكاهن الورقة ففتحها ورأى مكتوبةً فيها هذه الكلمات وهي: أن نفس هذا الراقد حالما خرجت من جسدها قد دخلت من دون مانع الى الملكوت السموي. وأما أنت فواظب على كرزك فيما يختص بعظم المراحم الإلهية. فيا لأقتدار العذراء المتألمة على أكتساب الندامة للخطأة.*

† صلاة †

أيتها البتول المتألمة يا ذات النفس العظيمة في الفضائل والشجاعة في الأوجاع أيضاً. أنه اذ كانت هذه وتلك أي الفضائل والأوجاع أنما تتولد فيكِ عن لهيب نار ذاك الحب الذي به تحبين الله. لأن قلبكِ لا يعرف أن يحب شيئاً  غيره تعالى، فأرحميني يا أمي أنا الذي ما أحببت الله بل أني أغظته مراتٍ هكذا عديدةً، الا أن أحزانكِ تعطيني رجاءً عظيماً في نوال غفران خطاياي، غير أن هذا لا يكفيني. فأنا أريد أن أحب سيدي، فمن هو الذي يمكنه أن يستمد لي منه عز وجل هذه النعمة نظيركِ أنتِ التي هي أم المحبة الجميلة. آهاً لي يا مريم فأنتِ من عادتكِ أن تعزي الجميع بمنح المواهب فعزيني اذاً أنا أيضاً آمين.*

 

Click to view full size image

الفصل الثامن

* في الموضوع السابع والأخير المختص بحزن البتول مريم. وهو دفن*

* جسد أبنها الحبيب يسوع في القبر*

أنه لا ريب ولا شك في أنه حينما تكون أمٌ ما حاضرةً عند أبنها الطبيعي حين نزاعه الأخير وموته، فتشعر هي في ذاتها بتلك الأوجاع عينها التي يتكبدها أبنها. الا أنه بعد أن يكون الأبن المعذب قد مات وأخذ ليدفن، وتوجد أمه المحزونة ملتزمةً بمفارقته، فيا له من ألمٍ شديدٍ يحيق بها حينئذٍ عند تفكرها بأنها ما عادت تقدر أن تشاهد ولدها مرةً اخرى. فهذا هو السيف الأخير من السبعة سهام الحزن التي جازت في نفس والدة الإله الكلية القداسة، الذي الآن نأخذ بالتأمل فيه، وهو ما تألمت به هذه البتول حينما ألتزمت. بعد أن حضرت صلب أبنها، وأحتضنته مائتاً، بأن تتركه أخيراً في القبر. وهكذا ينقطع أملها من أن تشاهده مرةً أخرى على الأرض.*

الا أننا لكي نتأمل جيداً في هذا الموضوع الأخير. فلنرجع بالعقل الى جبل الجلجلة لنشاهد هناك هذه الأم المملؤة أوجاعاً لم تزل محتضنةً على ركبتيها جسد أبنها يسوع المائت. وكأنها تقول نحوه كلمات أيوب البار هاتفةً يا أبني: قد صرت لي قاسياً: (أيوب ص30ع21) أي نعم أن الأمر هو كذلك. لأن أعضاء جسدك الجميلة كلها، وحسنك، ولطافتك، ونعمتك، وفضائلك، وتصرفاتك الجليلة ذات الحب، وسائر علامات المحبة الخصوصية التي أظهرتها نحوي، والنعم والمواهب الفريدة، والأختصاصات الفائقة الشرف التي منحتنيها. فهذه كلها قد استحالت بالنسبة إليَّ سهاماً جارحةً تطعن قلبي مسببةً لي أحزاناً وأوجاعاً لا يمكن وصفها. بنوع أنها بمقدار ما ألهبت فيَّ قبلاً نيران الحب نحوك فبأكثر من ذلك الآن تصيرني أن أشعر بمرارة الحزن على كوني فقدتك. أواه يا أبني الحبيب أنني بخسراني إياك قد خسرت كل شيء: فأنت هو الإله الحقيقي المولود مني ( يقول القديس برنردوس عن لسانها في مراثيه لأحزانها) وأنت لي أبٌ، وفي الوقت عينه أنت لي أبنٌ وعروسٌ معاً. وأنت لي نفسٌ وحيوةٌ، فأنا الآن يتيمةٌ من الأب وأملةٌ من العروس وفاقدة الأبن. واذ أني خسرتك أنت يا أبني فقد خسرت بك كل شيء.*

فهكذا كانت مريم تندب أوجاعها وترثي حبيبها يسوع معانقةً جسده الطاهر. الا أن التلاميذ القديسين لخوفهم الصوابي من أن هذه الأم المطعونة بسهام الحزن المفرط تموت مع أبنها الإلهي من شدة الحزن، قد أجتهدوا في أن يأخذوا  جسده من حضنها بكل أسراعٍ. ويأتوا به ليدفنوه. وهكذا بأغتصابٍ أحتراميٍ أحتالوا بأخذه من بين ذراعيها. واذ حنطوه بالمر ولفوه بالسباني التي أراد تعالى أن تنطبع بها صورته، ليتركها في العالم تذكرةً لدفنه، كما تشاهد الى الآن محفوظةً في مدينة طورين، فهكذا حمل التلاميذ هذا الجسد الكلي القداسة وساروا به نحو القبر، حيث كانت طغمات الملائكة مرافقةً هذا الباعوث جملةً مع النسوة البارات ومع والدة الإله الغائصة في بحر الأحزان. ولما دنوا من المغارة المعد فيها القبر أنزلوه هناك، ولكن لقد كان أمراً محبوباً في الغاية لدى هذه السيدة أن تدفن حيةً هي أيضاً مع جسد أبنها، لو كان ذلك ممكناً لها، حسبما أوحت هي نفسها للقديسة بريجيتا. الا أن العزة الإلهية لم تكن تشاء ذلك. ثم على رأي الكردينال بارونيوس أن هذه الأم المتألمة قد دخلت معهم مغارة القبر. وبعد أن وضعوا هناك جسد المخلص وتركوا معه المسامير وأكليل الشوك، فحينئذٍ هؤلاء التلاميذ ألتفتوا نحو والدة الإله قائلين لها:" أيتها السيدة، أنه يلزمنا أن نغلق القبر، فنرجوكِ بأن يكون عندكِ أحتمالٌ وترتضي بأن تشاهدي جسد أبنكِ هذه المرة الأخيرة وتتنحي". فمن ثم يلزم أن تكون هذه الأم الحزينة تفوهت نحو أبنها قائلةً: فاذاً يا ولدي الحبيب أنا ما عدت أشاهدك مرةً أخرى، فأقبل كلمة الوداع مني أنا أمك. وأقتبل مني قلبي الذي أتركه مدفوناً معك، فقد كتب القديس فولجانسوس قائلاً: أن مريم البتول كانت تشتهي بكل عزمها وأرادتها أن تترك نفسها مدفونةً مع جسد المسيح أبنها. بل أن هذه السيدة عينها قد أوحت للقديسة بريجيتا قائلةً لها: أنه يمكن أن يقال حقاً وصدقاً أن قلبين وجدا مدفونين في قبر أبني وهما قلبه وقلبي معاً.*

فأخيراً التلاميذ دحرجوا حجراً كبيراً به أغلقوا القبر على جسد يسوع الكنز الذي لا يوجد كنزٌ يعادل قيمته. لا في السماء ولا في الأرض. فقبل أن نفارق هذا القبر المقدس يليق بنا أن نكتب على حجره هذه الكلمات وهي: أن مريم تترك في هذا القبر قلبها مدفوناً مع يسوع. لأن يسوع هو كنزها الوجيد. وذلك سنداً على قوله تعالى: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون أيضاً قلبكم: (لوقا ص12ع34) أما نحن فترى أين ندع قلوبنا مدفونةً، ربما في المخلوقات في الوحل. ولكن لماذا لم تكن مدفونةً في يسوع الذي ولئن كان صعد الى السماء فمع ذلك أراد أن يبقى في القربان الأقدس، لا ميتاً بل حياً لهذه الغاية وهي لتكون فيه قلوبنا وهو يملك عليها. فلنعود نحو والدة الإله. اذ يقول القديس بوناونتورا: انها أي مريم البتول لم تشاء أن تفارق حجر القبر قبل أن تباركها قائلةً: أيتها الصخرة السعيدة التي الآن تغلقين مدفوناً داخلكِ ذاك الذي أغلق عليه في مستودعي مدة تسعة أشهرٍ، فأنا أبارككِ وأحسد سعادتكٍ، وأترككِ أن تحرسي لي أبني هذا الذي هو خيري بجملته وحبي الأعظم. ثم ألتفتت نحو الاب الأزلي وقالت: أنني أستودعك أيها الآب القدوس أبنك هذا الذي هو أبني أنا أيضاً. وهكذا ودعت القبر وما ضمنه وأنطلقت راجعةً الى بيتها. فيقول القديس برنردوس:" أن جميع الذين كانوا في الطريق يشاهدون مريم العذراء راجعةً في تلك الحال المرثى لها، فلم يكونوا يقدروا أن يمسكوا ذواتهم عن البكاء بمرارةٍ. وأن النسوة البارات والتلاميذ القديسين قد كان بكاءهم وخزنهم على مريم أشد من بكاهم وحزنهم على يسوع سيدهم".*

ثم أن القديس بوناونتورا يرتأي بأن أخوات مريم العذراء أي قريباتها قد غطينها بأزارٍ أسود ورجعن بها من المقبرة. وأنه في مرورهن كافةً من عند جبل الجلجلة. حيث كان الصليب بعد مغروساً في الأرض مبتلاً بدم يسوع، فوالدته هذه المتألمة قد كانت هي أول من سجد لهذا العود الخلاصي قائلةً نحوه: أنني أقبلك أيها الصليب المقدس وأسجد لك، لأنك الآن لم تعد خشبة اللعنة بل عود الحب ومذبح الرحمة المكرس بدم الحمل الإلهي الذي قدم هو عليك ذبيحةً لأجل خلاص العالم.*

وقد فارقت الصليب وعادت الى منزلها الذي لما بلغت إليه أخذت تجول بنظرها فيه ههنا وهناك من دون أن ترى حبيبها يسوع، بل عوضاً عنه كانت تتصور أمام عينيها أعمال حياته كلها المملؤة محاسن وقداسة، ومعاً أعمال آلامه جميعها التي أحتملها ومات بها. فهناك طفقت تتذكر المعانقات التي كانت تعانقه بها طفلاً في بيت لحم، والمفاوضات التي خاطبها بها وتكلمت هي معه مدة سنين هكذا عديدة في دكان النجارة في مدينة الناصرة وفي أمكنةٍ أخرى، وتتفكر بعواطف الحب المتبادلة منها إليه ومنه نحوها، وبنظراته ذات المحبة، وبكلمات الحياة التي كانت تخرج من فمه الإلهي. ثم بعد ذلك كانت تحضر بأزائها تلك الأشياء كلها التي شاهدتها في النهار عينه مما يختص بآلامه وموته وتنزيله عن الصليب ودفنه. متأملةً في آلات عذاباته من المسامير وأكليل الشوك والحربة وغيرها. وفي جراحات جسده المتخنة. وفي عظامه المجردة وفمه المفتوح وعينيه المعتمتين. أواه كم كانت تلك الليلة موعبةً من الغموم والأحزان الشديدة الملمة بهذه الأم المضنكة من التعب والتألم. وقد كانت حينا بعد حين تلتفت نحو القديس يوحنا الرسول قائلةً بحزنٍ: آهاً لي يا يوحنا أين هو معلمك. وبعده كانت تسأل المجدلية متنهدةً بقولها: أخبريني يا أبنتي مريم أين هو المحبوب منكِ: واحسرتاه من هو الذي خطفه منا. وهكذا كانت تبكي هي وكل الحاضرين بكاءً مراً. وأنتِ يا نفسي أما تبكين، تباً لكِ. فألتفتِ اذاً نحو مريم المتألمة وقولي لها مع القديس بوناونتورا: أنكِ من دون ريبٍ يا سيدتي أنتِ بريئةٌ من الذنب. وأنا هو بالحقيقة الأثيم في ذلك: ثم تضرعي إليها في أنها قلما يكون تجعلكِ أن تبكي معها، فهي تبكي من شدة الحب وأنتِ أبكي توجعاً على خطاياكِ، وأن ما بكيتِ على هذه الصورة فتستطعين أن تفوزي بحظ الآتي عنه القول في النموذج التابع.*

* نموذج *

أخبر الأب أنجالغرافه (في خطبته على وداع عيد الميلاد) عن أحد الرهبان. بأنه كان معذباً من سجس ضميره بقلقٍ عظيمٍ كاد مراتٍ كثيرةً أن يقضي به الى اليأس من الخلاص، ولكن من حيث أنه كان كلي العبادة نحو والدة الإله المتألمة، فلم يكن يغفل عن الألتجاء إليها دائماً في أوقات المنازعات الروحية التي بها كانت نفسه تناهز الموت بقطع الرجاء، وعندما كان يأخذ بالتأمل في أحزان هذه الأم الإلهية فكان يتقوى وينجو من تجربة الوسوسة. فأخيراً مرض هو مرض الموت، وحينئذٍ الشيطان بأبلغ نوع جعل يحاربه بالوسواس مجتذباً إياه الى قطع الرجاء من رحمة الله ومن خلاصه الأبدي. فاذ رأته والدة الإله في حالٍ يرثى لها شفقت عليه وظهرت له وخاطبته مشجعةً إياه بقولها:" يا أبني لماذا أنت تخاف وتحزن بهذا المقدار، أنت الذي مراتٍ كثيرةً قد تأملت في أحزاني وأوجاعي وبذلك عزيتني جداً. فقم مسرعاً لأن أبني الإلهي أرسلني لأعزيك، وأنهض فرحاً وهلم معي الى الفردوس السماوي". فحالما سمع الراهب العابد هذه الكلمات أستوعب فرحاً وسروراً وتعزيةً وثقةً ورجاءً عظيماً، وفي الحال، بكل هدوءٍ وسلامٍ رقد بالرب مائتاً.*

† صلاة †

أنني لا أريد أن أترككِ تبكين وحدكِ يا أمي المتألمة، بل أقصد أن أرافقكِ بدموعي، فأنا أطلب منكِ اليوم هذه النعمة وهي أن تستمدي لي أن أحفظ على الدوام ذكر آلام سيدي يسوع المسيح في عقلي وقلبي. وأن أكون حسن العبادة نحو هذه الآلام المقدسة، لكي أصرف الأيام الباقية من حياتي بالبكاء على أوجاعه تعالى بالجسد وأوجاعكِ! فأنا أرجو أن تكون هذه الآلام عتيدةً أن تمنحني في ساعة موتي طمأنينةً وقوةً، لكيلا اقطع رجائي عند تأملي كثرة الأهانات التي أغظت بها سيدي، وتهبني غفران خطاياي ونعمة الثبات في البر والحياة الأبدية التي أرجو أن أبلغ إليها، وهناك أفرح معكِ وأسبح مراحم إلهي الغير المتناهية.*

فالقديس برنردوس يقول مخاطباً إياكِ يا أمي البتول المجيدة هكذا: أيتها السيدة يا من تختطفين قلوب البشر بعذوبة حلاوتكِ، أما أنكِ أختطفتِ قلبي أنا أيضاً. فمتى تريدينه لي يا خاطفة القلوب، ولهذا أنتِ أهتمي به ودبريه مع قلبكِ، وضعيه في جنب أبنكِ، وحينئذٍ أنا أملك الشيء الذي أبتغيه، لأنكِ أنتِ هي رجاؤنا. آمين.*

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +