Skip to Content

الثالوث .. كما في السماء كذلك على الأرض - الأب بسّام آشجي - كنيسة القديسة تريزيا


الثالوث.. كما في السماء كذلك على الأرض

 الأب بسّام آشجي


انقر هنا للتكبير

 

مقدمة

تتميّز المسيحية بأنها تؤمن بوحدانية الله من جهة، وتؤمن بأنه "ثالوث" من جهة أخرى .

فهل هناك من تناقض في هذه العقيدة؟!.. والسؤال الأهم الذي نطرحه في بداية هذه الإجابة: هل الإيمان بالله الثالوث الواحد الأحد يمنح حياتنا واقعاً يختلف عن عدم الإيمان به؟

وبمعنى آخر، وكما يسأل اللاهوتي الشهير الأب فرنسوا فاريون: "لو قالت لكم الكنيسة، بفرض المستحيل، أن الله أقنوم واحد، لا ثالوث، أيّ تغيير يُحدث هذا القول في حياتكم؟".

إن تعايشنا مع الأديان التوحيدية الأخرى يُعمّق فينا طرح التساؤلات السابقة، ليس فقط لجهة استعدادنا على الإجابة عن "الرجاء الذي فينا"، كما يدعونا بطرس الرسول (1بط3/15)، بل أيضاً لجهة اختبارنا لإيماننا بشكل شخصي. فالإيمان المسيحي، كما يقول فاريون:

"ليس فلسفة، بل هو اختبار حياتي. لذلك لا يستطيع رسل يسوع أن يكون دعاة نظام فكري. ولن يستطيعوا أن يرددوا كلامه، ما لم يشهدوا لاختبار علاقة معينة مع الله". وأود أن أطرح سؤالاً آخر في مقدّمة هذا الحديث: ألا تكفي حياة الإيمان وحسب؟.. هل هناك ضرورة للتفكير؟ أو هل هناك جدوى من التفكير في حقائق تتطلب أصلاً التسليم بها؟..

سوف نحاول في هذه المقالة أن ندخل شيئاً فشيئاً في الإجابة عن التساؤلات السابقة.

وكما اعتدنا، في فهمنا المسيحية واختبارنا لها، ألا ننتهي من التساؤل مهما كانت الإجابات عميقة، فالمسيحي الحق دائم التساؤل!..

القبول بالتعددية واختبار الحب هو المدخل الأساسي للإيمان بالثالوث الواحد:

في يوم من الأيام، لفت انتباهي عنوان محاضرة: "الثالوث.. تعدديّة ووحدة"، وكان المتحدّث من اللاهوتيين الأكثر شهرة وعلماً، فسارعت لمتابعتها.

بدأ المحاضر كلامه عن الحب بين الرجل والمرأة، واستفاض في الأمثلة مؤكداً على ضرورة "الانسجام بين الحب والحفاظ على الآخر.. وحدةٌ من ناحية، وتعددية من ناحية أخرى"، ثم تحدّث عن تعدديّة الأقطاب إن في العائلة أو في أيّ من مظاهر المجتمعات المتماسكة وعن ضرورة الحوار فيها، وعن عدم الذوبان أو الهيمنة في هذه الوحدة والتعدديّة .

واستنتج أن "الحوار الحقيقي والصحيح هو الذي يضمن هذا الانسجام". وانتظرنا، وكنا كُثُر، أن يتكلّم عن الثالوث، وإذا الوقت ينهمر ونحن ننتظر. فسارع أحد المستمعين، وقد نفد صبره بعد نصف ساعة ونيّف من الإصغاء لحديث الحب والحوار، والتعدديّة والوحدة، وعدم الذوبان وعدم الهيمنة، سارع إلى دسِّ قصاصة ورق صغيرة بين يدي المحاضر:

"يا أستاذ، يبدو أنك، وأنت تُخرج ملف محاضرة "الثالوث" من الحقيبة قد أخطأت، فأخرجت درساً عن الزواج والحب والعلائق الصحيحة بين البشر ولكننا ننظر كلاماً عن الله لا عن البشر!..

فابتسم المحاضر، وكأنه وصل إلى مأربه، وقال: "لقد رأينا الصورة وتعرفنا على المثال، فهلموا الآن نشاهد الأصل". وبدأ الكلام عن الثالوث.. حقاً ما كنا لنفهم الكلام عن الله لو لم يبدأ بالكلام عن البشر!..

الإيمان بالله، الثالوث الواحد، حقيقة من نوع "السرّ":

يقال أن القديس أُغسطينوس بينما يفكّر بحقيقة الله، الثالوث الأقدس، الواحد في الجوهر، وقد أراد القبض عليها كاملةً، رأى طفلاً ينقل في كفّه الصغير مياه البحر إلى حفرة صغيرة، فاستهجن ذلك.

والطفل بدوره، استهجن رغبة اُغسطينوس القبض على حقيقة الله كاملة. وما يفيد في هذه المقاربة هو أنَّ الحفرة تستوعب مياه البحر بقدر اتساعها، لن تستوعب البحر كاملاً. ولكن كلَّما اتسعت استوعبت مياهه أكثر.

كذلك محاولة الفهم في الإيمان تتسع يوماً بعد يوم، دون أن تصل إلى نهاية، كحقيقة العلوم والمعارف، فالحقيقة لا تحدّ، وكما تقول القديسة تيريزيا الأفيليّة، "إنَّ الله لا يحدّ". فالمعرفة الحقيقيّة لا تلغي من العقل التأمل والتساؤل، بل تمنح الإنسان، كما يقول اللاهوتي المعاصر بلتسار،

أن "ينتقل من نطاق حياته الضيق المستكين إلى رحاب إمكانية دخول حياة الله، أشبه بمن تنفتح أمامه مساحات شاسعة لا يحدها النظر بل تقطع على المرء أنفاسه. وإنها لمساحات على أكمل ما تكون الحرية، وهذه المسافات نفسها هي حريات تجذب حبنا وتستقبله وتستجيب له. أما في هذه الدنيا فمن يستطيع أن يدخل أعماق حرية أخرى؟

إنه لأمر مستحيل! وهكذا تتكدس، بشركة القديسين في الله، وإلى أبعد ما يمكن إحصاؤه، مغامرات الحب الخلاّق المبدع، فتصبح الحياة أعجوبة مطلقة، ولن يُعطى أيُّ شيء يقضي على إمكانية القبول، وعملية العطاء تنتشر لا تحدّها حدود".

الله الواحد الثالوث لن يفهم إلا بمنهجيّة السرّ. ولا يكون السرّ ضد العقل بل يفوقه، أي يستغرق العقل دائماً في فهمه.

الإيمان بيسوع هو إيمان بالله الثالوث:

الإيمان بالثالوث الواحد ليس تعقيداً للإيمان، إنما هو محاولة إلهية لفهم علاقة الله بالإنسان. فالله، في المسيحية، يخصُّ الإنسان.

وإيماننا بالثالوث هو إيماننا بأن الله يقترب من الإنسان، إنه الـ"عمانوئيل". كيف؟!..

لا بد لنا لفهم هذه الحقيقة من الاستعانة بالأمثال، وحسبنا في ذلك التشبه بالسيد المسيح الذي لم يتوانى أبداً في شرح سر الله وملكوته بالاستعانة بالأمثال.

ومثلنا في شرح سر الثالوث نقتبسه من تقليد الكنيسة، وهو: الشمس. يشبّه الله بالشمس، كيان وضياء وفعالية: ذات ومبادرة وفعالية. كيان الله في ذاته، كالشمس في ذاتها، أي ذلك القرص الملتهب، لا يُقترب منه، ولا يُدنى إليه، "لا يُدرك، ولا يُعقل، كائن هُوَ هُوَ".

والمثال على ذلك قصة موسى في العهد القديم، الذي يصعد إلى جبل تجليات الله، ويطلب إلى الله أن يشاهد وجهه لكي يخبر الشعب بمصداقية مشاهداته، فيتمنّع الله مفسِّراً:

"أما وجهي فلا تستطيع أن تراه، لأنه لا يراني الإنسان ويحيا".

ويريه في نهاية الحوار "ظهره"، وعندما ينزل موسى من الجبل يضطر أن يضع على وجهه "حجاباً"، لأن الناس لم يستطيعوا أن ينظروا إليه لشدة النور الصادر منه، لأنه رأى ظهر الله!! (خروج 33/18-23 و29-35). الله كذات يشبه قرص الشمس، ولكنّه محبة فهو مبادرةٌ أيضاً، كأشعة الشمس الصادرة عن القرص الملتهب. بكل بساطة يكشف يسوع عن وجه أبيه فيقول:

"أنا والآب واحد.. فمن رآني فقد رأى الآب" (يو14/9). إن يسوع، كما تقول الليتورجيا، هو "ضياء الآب"، هو مبادرة الله المحبّة، لا بطريقة كلام، أو علامة، أو وحي، بل بطريقة شخص. وكما للشمس فعالية، حيث نرى الأشياء والأشخاص بواسطة نورها، وهي مصدر التركيب الضوئي الضروري لتكوين الغذاء، وهي أيضاً باعث الطاقة والدفء، لله فعاليته هي روحه. الروح القدس هو فعالية الله فينا.

فهو الذي يمنحنا التجاوب مع مبادرة الله المتجسّدة في شخص المسيح، إنه باعث إيماننا، ومصدر مواهبنا، ومنطلق التزاماتنا. وكما تصل فعالية الشمس عبر الأشعة، تصل إلينا فعالية الله، إي الروح القدس، عبر يسوع المسيح "ضياء الآب" (إقرأ: غلا4/4-6 ورو8/15). لنصبح بدورنا أبناء على غراره. فنحيا الله المحبة، حيث تتوسّع دائرة الحب الإلهي بين الآب والابن والروح القدس نحو جميع البشر لتشركهم في ذلك الحب. هناك جهة فارغة تنتظرنا على مائدة الثالوث كما صوّرها القديس أندريه روبليف في أيقونته الشهيرة.

خاتمة

أظن أن مصدر تخبّط العالم المعاصر هو الرغبة في فرض ثقافة ما سميّ "أحاديّة القطب" على كافة المستويات ابتداءً من العائلة وانتهاء بالعالم الذي أصبح قرية كبيرة. ليت الإنسان يتشبّه بالله ويقبل نهج التعددّيّة والوحدة، نهج الواحد الثالوث. وحدها الصداقة مع الله تفتح هذا الأفق ليكون على الأرض كما في السماء.


***********************************

**

**

********

********

**

**

**

**

**



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +