Skip to Content

التوبة و غفران الخطية / القديس كيرلس الأورشليمي

 

التوبة و غفران الخطية – القديس كيرلس الأورشليمي

 


 

“بر البار عليه يكون، وشر الشرير عليه يكون، فإذا رجع الشرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضي، وفعل حقًا وعدلاً، فحياة يحيا لا يموت…” (حز 18: 20-23).

 

1. الخطية لهيب نار متقدة!

الخطية مرعبة للغاية، والعصيان مرض النفس الوبيل، إذ يشل طاقاتها خفية، ويجعلها مستحقة للنار الأبدية.

إن الشر الذي يختاره الإنسان بنفسه هو نتاج الإرادة، وتظهر إرادتنا الحرة في ارتكاب الخطية من قول النبي بوضوح: “وأنا قد غرستك كرمة مثمرة، شجرة كاملة، فكيف تحولتِ إلى شجرةٍ بريةٍ وكرمةٍ غريبةٍ؟!” (راجع إر 2: 21) كان الزرع جيدًا ولكن الثمر جاء رديئا! فالزارع بريء، وأمّا الشجرة فتُحرق بالنار، لأنها زُرعت جيدة وبإرادتها حملت ثمرًا رديئًا. وكما يقول المبشر: “الله صنع الإنسان مستقيمًا، أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة” (جا 7: 29). ويقول الرسول: “لأننا نحن عمله، مخلوقين… لأعمال صالحة وقد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها” (أف 2: 1-2). فالخالق صالح، خلقنا لأعمال صالحة، أما الخليقة فانحرفت إلى الشر بإرادتها الحرة.

إذن الخطية كما قلنا شر مرعب للغاية، لكنها ليست بالمرض المستعصى شفاءه. هي مرعبة لمن يلتصق بها، لكن من يتركها بالتوبة يُشفى منها بسهولة.

تصور إنسانًا يحمل نارًا في يديه، فإنه مادام يحمل الفحم يتأكد احتراقه، وإن ألقاها يلقى اللهيب أيضًا! لكن أن ظن أحد أنه لا يحترق إن أخطأ، فإن الكتاب المقدس يخبره قائلاً: “أيأخذ إنسان نارًا في حضنه ولا تحترق ثيابه؟!” (أم 6: 27)

الخطية تحرق طاقات النفس (تكسر عظام الذهن الروحية، وتظلم نور القلب)[1].

2. اهتم بحياتك الداخلية!

قد يقول قائل: ماذا يمكن أن تكون الخطية؟ هل هي شيء؟ هل هي ملاك؟ هل هي شيطان؟ ما هذه التي تعمل في داخلنا؟ يا إنسان، إنها ليست عدوًا يحاربك من الخارج، بل هي برعم يبزغ في داخلك. (احفظ نفسك[2])، ولا تنشغل بأمر آخر، فستنتهي أعمال اللصوصية[3] (التي للخطية).

تذكر الدينونة، فلا يسيطر عليك الزنا ولا الدعارة ولا القتل ولا عصيان الشريعة، أما إن نسيت الله فالشر يراودك وترتكب المعصية.

3. الشيطان يخدعنا بأفكاره

لست وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف. إنه الشيطان الذي يقترح عليك الشر دون أن تكون له سيادة إلزامية على من يقبله. لذلك يقول المبشر: “إن صعدَت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك”[4].

أغلق بابك واطرده بعيدًا عنك، فلا يصنع بك سوءًا، أما إن قبلت فكر الشهوة بغير مبالاة، فستتغلغل جذوره فيك، ويُفتن ذهنك بحيله، ويهوي بك في هاوية الشرور.

 

قد تقول: أنا مؤمن، لا تقدر الشهوة أن تصعد إليّ حتى وإن فكرت فيها كثيرًا! أما تعلم أن جذع الشجرة بالمقاومة المستمرة يستطيع أن يحطم حتى الصخرة؟! فلا تسمح للبذرة أن توجد فيك حتى لا تمزق إيمانك وتحطمه. اقتلع الشر بجذره قبلما يزهر، لئلا بإهمالك في البداية تحتاج بعد ذلك إلى فؤوس ونار.

عالج عينيك في الوقت المناسب عندما يلتهبان، لئلا تصير أعمى، وتحتاج إلى طبيب!

4. الشيطان يجرف معه البشرية

          الشيطان هو المصدر الأول للخطية وأب الأشرار.

هذا القول ليس من عندي، بل هو قول الرب. “لأن إبليس من البدء يخطئ” (1 يو 3: 8، يو 8: 44)، إذًا لم يخطئ أحد من قبله. لكنه لم يخطئ عن إلزام، كأن فيه نزوع طبيعي للخطية، وإلا ارتدت علة الخطيئة إلى خالقه أيضًا، إنما هو خُلق صالحًا، وبإرادته الحرة صار إبليس، متقبلاً هذا الاسم من عمله.

          كان رئيس ملائكة، لكنه دُعي “إبليس” بسبب أضاليله. كان خادم الله الصالح، وقد صار مدعوًا شيطانًا بحق، لأن كلمة “شيطان” معناها “خصم”.

هذا التعليم ليس من عندي، بل هو تعليم حزقيال النبي الموحى به، إذ رفع مرثاة عليه قائلاً: “كنت خاتم صورة الله، وتاج البهاء، وُلدت في الفردوس” (راجع حز 28: 12-17). يعود فيقول بعد قليل: “عشت بلا عيب في طرقك من يوم خُلقت حتى وُجد فيك إثم”. إنه بحق يقول: “حتى وُجد فيك إثم”، إذ لم يُجلب عليه من الخارج، بل هو جلبه لنفسه.

وللتوّ أشار إلى السبب قائلاً: “قد ارتفع قلبك لجمالك بسبب كثرة خطاياك، طعنت فطرحت على الأرض”. هذا القول يتفق مع قول الرب في الإنجيل: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 10: 18). ها أنت ترى اتفاق العهدين القديم والجديد!

عندما طُرد سحب معه كثيرين، إذ يبث الشهوات فيمن ينصتون إليه. منه تنبع الدعارة والزنا وكل أنواع الشر. خلاله طُرد أبونا بسبب العصيان، وتحول عن الفردوس ذي الثمر العجيب إلى الأرض المنبتة شوكًا.

5. الرب يردنا ويخلصنا

ماذا إذن؟ قد يقول قائل: لقد سُلبنا وفُقدنا، أما من خلاص لنا؟! لقد سقطنا، أما يمكن أن نقوم؟! صرنا عُمى، أما يمكن أن نشفي؟ وفى كلمة، نحن أموات ألا يمكن أن نقوم؟! الذي أقام لعازر بعد موته بأربعة أيام ونتنه، ألا يقدر بالأكثر أن يقيمك يا إنسان وأنت حي؟!

ليتنا لا نستهين بأنفسنا يا إخوة! ليتنا لا نهجر أنفسنا، فنسلك في اليأس. إذ مخيف هو عدم الإيمان برجاء التوبة. لأن من لا يتطلع إلى (يرجو) الخلاص لا يكف عن أن يزيد الشر شرًا، أما من يترجى الشفاء بسهولة يقدر أن يعتني بنفسه.

اللص الذي لا يترجى العفو ييأس، أما من يرجوه فغالبًا ما يأتي إلى التوبة.

 

ماذا إذن؟! هل تنسلخ الأفعى عن جلدها، وأنت لا تخلع خطيتك؟!

إن كانت الأرض المملوءة شوكًا متي فُلحِّت جيدًا تصير خصبة، أفلا نترجّى نحن الخلاص؟

حاشا! بل بالأحرى طبيعتنا تربة صالحة للخلاص، إنما نحتاج إلى الإرادة!

6. الله يحبك!

الله محب البشر، لا يحبهم في مقاييس قليلة. لهذا لا تقل إنني ارتكبت الزنا والدعارة وفعلت خطايا فظيعة، ليس مرة بل مرات، فهل يغفر لي؟ هل يهبني عفوًا؟! اسمع ما يقوله المرتل: “ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك” (مز 31: 19)، فإن معاصيك المتراكمة لن تعلو مراحم الله الكثيرة. جراحاتك لن تغلب مهارة الطبيب الفائقة. سلِّم نفسك له بإيمان. أخبر الطبيب عن مرضك المزمن. قل أيضًا مثل داود: “قلت أعترف للرب بذنبي”، فيحدث معك ما قد حدث معه، فتقول للتو “أنت رفعت آثام خطيتي” (مز 32: 5).

7. أمثلة عن محبة الله لأناس ساقطين

يا من أتيت لسماع التعاليم متأخرًا، أتريد أن ترى محبة الله المترفقة؟ أتريد أن تنظر حنو الله وغنى طول أناته؟! اسمع ما حدث مع آدم.

 آدم – أول خليقة الله البشرية – عصى الله، أما كان يمكن أن يُفرض عليه الموت فورًا؟! لكن أنظر ماذا فعل الله بالإنسان في محبته العظيمة؟ لقد طرده من الفردوس، إذ صار بالخطيئة غير مستحقٍ للعيش هناك، “وأقامه ليسكن مقابل الفردوس”[5] حتى متى تطلع إلى حيث سقط وتأمل ما كان عليه وما بلغ إليه، يخلص بالتوبة.

قايين أول مواليد البشر صار قاتلاً لأخيه، مخترعًا كل الشرور، وأول الحاسدين والقتلة. ومع هذا بماذا حكم الله عليه بعد أن أزال أخيه من الوجود؟ “تكون متنهدًا ومرتعبًا على الأرض” (راجع تك 4: 12). يا لبشاعة الإثم، ويا لخفة الحكم!

8. وفي الطوفان

هذه الأمور تكشف عن محبة الله المترفقة الحقيقية، لكنها قليلة إن قورنت بما يلي ذلك: تأمل ما حدث في أيام نوح فإن الجبابرة أخطأوا، وانتشر على الأرض شر عظيم بسببه حدث الطوفان. بقى الله يهدد خمسمائه عامًا، وفي المئة السادسة جاء بالطوفان على الأرض.

تأمل مدى اتساع محبة الله المترفقة على مدى هذه المئات من السنوات! أما كان يمكنه أن ينفذ في الحال ما قد صنعه بعد انتظار مئات السنين! لكنه أمد في الزمن لكي يهبهم مهلة للتوبة فلو أنهم تابوا لما أخفقوا في التمتع بمحبة الله المترفقة.

9. ترفقه براحاب الزانية الوثنية

تعال معي الآن إلى فئة أخرى خلصت بالتوبة.

قد تقول امرأة ما: لقد ارتكبت الزنا والدعارة ودنست جسدي بكل أنواع الترف والإفراط فهل لي خلاص؟ حولي عينيك إلى راحاب، وتطلعي أيضًا إلى الخلاص. إن كانت زانية عامة تزني علنًا خلصت بالتوبة، أفما تخلص بالتوبة والصوم من سقطت في الزنا قبل قبولها النعمة؟!

اسألي كيف خلصت؟ إنها فقط قالت: “الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت” (يش 2: 1). إنها تقول: “إلهكم” دون أن تجسر لتنسبه لنفسها بسبب حياتها المملوءة ضلالاً. وإن أردتم التأكد من خلاصها بشهادة من الكتاب المقدس فإنك تجد في سفر المزامير: “أذكر راحاب وبابل بين الذين يعرفونني”[6] (مز 87: 4).

يا لعظمة حنو الله المترفق، فإن الكتاب المقدس يشير حتى إلى الزانيات. إنه لا يقول: “اذكر راحاب وبابل” فقط بل يكمل “بين الذين يعرفونني”، فالخلاص نبلغه بالتوبة سواء كنا رجالاً أو نساء على قدم المساواة.

10. أمثلة أخرى

 لا، بل وإن أخطأ الشعب كله. فهذا ليس بكثير على حنو الله المترفق فقد صنع الشعب (القديم) عجلاً، ومع ذلك لم يكف عن محبته[7
]
. هم أنكروا الله، أما هو فلم ينكر نفسه…

ليس فقط الشعب، بل حتى هارون رئيس الكهنة أخطاء، إذ يقول موسى “وعلى هارون غضب الرب جدًا ليبيده فصليت أيضًا من أجل هارون في ذلك الوقت (فسامحه)”. ماذا إذن؟ يصلى موسى من أجل رئيس كهنة مخطئ فيغلب الله (بالمحبة) بينما لا تقبل شفاعة يسوع ابنه الوحيد عند الآب؟! إن كان هرون لم يُمنع من الكهنوت السامي بسبب عصيانه، فهل تمنع من الدخول إلى الخلاص يا من أتيت من بين الأمم؟! فقط تب يا إنسان هكذا، فلا ترفضك النعمة!

عُد بلا خجل إلى طريقك الذي للحياة، فإن الله بحق محب للبشر، ولا تقدر كل الأزمنة[8] أن تخبر عن محبته المترفقة، بل وكل الألسنة إن اجتمعت معًا لا تستطيع أن تخبر بما يليق بها. وإنما نحن نخبركم قليلاً مما ورد بشأن محبته للبشر المتحننة…

11. ترفقه بداود الساقط

…تعال إلى داود الطوباوي واقبله مثالاً للتوبة. فبقدر ما كان عظيمًا سقط. إذ قام من نومه وأخذ يتمشى على السطح في المساء، تاركًا لنفسه أن ينظر بغير حرصٍ، فشعر بشهوة بشرية. لقد أكمل خطيته لكنه لم يمت بسببها، وذلك بسبب صراحته في الاعتراف بها، عندما جاءه ناثان النبي كمتهم مفاجئ له ليشفي جرحه. إنه يقول له بأن الرب غاضب وأنت تخطيء.

لقد عُرض الأمر على الملك الحاكم، فلم يتهاون داود الملك، إذ لم يهتم بمن يكلمه بل بالله الذي أرسله. إنه لم يتعجرف بحشود الجند المحيطين به، لأنه تطلع إلى جنود الرب الملائكية. لقد ارتعب إذ رأى من لا يُرى (عب 11: 7). لهذا قال للرسول بل بالأحري أجاب الرب مرسله قائلاً: “أخطأت إلى الرب” (1 صم 12: 13).

أنظر إلى تواضع الملك! تأمل اعترافه… لقد حدث كل شيء على وجه السرعة، فما أن ظهر النبي كمتهم حتى أعترف الخاطئ بخطيئته، وإذ أسرع بالاعتراف نال الشفاء بأقصى سرعة! فناثان الذي هدد هو بنفسه نطق للحال: “الرب أيضًا قد نقل عنك خطيتك”. يا لعظمة رقة مراحم الله!…

12. هكذا إذن أراحه النبي، لكن الطوباوي داود إذ سمعه يقول: “الرب قد نقل عنك خطيتك”، لم يكف عن التوبة. ومع أنه كان ملكًا، لبس المسموح عوض الأرجوان، وجلس في الرماد عوض التاج الملكي… لا بل جعل الرماد طعامه، قائلاً: “إني قد أكلت الرماد مثل الخبز” (مز 102: 10). لقد غسل عينيه الشهوانيتين بالدموع قائلاً: “أعوِّم كل ليلة سريري، وبدموعي أبل فراشي” (مز 102: 7).

وعندما سأله موظفوه أن يأكل خبزًا لم يسمع لهم، بل بقي صائمًا سبعة أيام كاملة.

إن كان الملك قد اعترف هكذا، أفما يليق بك أيها الشخص العادي أن تعترف؟

أيضًا عند عصيان أبشالوم عليه كان أمامه طرق كثيرة للهروب، أما هو فاختار الهروب خلال جبل الزيتون (2 صم 15: 23)، وكأنه يناشد المخلص إذ من هناك صعد الرب إلى السماوات.

وعندما لعنه شخص بمرارة قال “دعوه” (2 صم 16: 10)، عالما أن من يغفر يُغفر له!

13. رحمته مع سليمان وآخاب ملك السامرة

لقد رأيت نفع الاعتراف. لقد أدركت كيف يوجد خلاص للتائبين.

سليمان أيضًا سقط، لكنه قال: “إني تُبت”[9].

 أيضًا أخآب ملك السامرة، صار أشر عبدة الأوثان. صار إنسانًا وحشيًا قاتلاً للأنبياء[10]، غريبًا عن الصلاح، مغتصبًا حقوق الآخرين وكرومهم (1 مل 21: 19). لكنه عندما قتل نابال مخدوعًا من إيزابيل وجاءه إيليا النبي يهدده خلع ثيابه ولبس المسوح، فماذا قال الله الرحوم لإيليا؟ “هل رأيت كيف أتَّضَع (نُخس في قلبه) أخآب أمامي”؟ (1 مل 21: 29) وكان الله يريد أن يهدئ غيرة إيليا المتقدة من جهة التائب ويلطفها، إذ قال له: “لا أجلب الشر في أيامه”.

ومع تأكده أنه لا يترك شره سامحه، ليس جهلاً بما سيكون عليه في المستقبل، بل كواهبٍ للغفران حسب التوبة المقدمة في ذلك الوقت. فإن عدل الله يقتضيه أن يحكم في كل قضية حسبما هي عليه في حينها.

14. ومع بربعام

وأيضًا يربعام كان قائمًا عند المذبح يقدم ضحايا للأوثان، يده ملطخة بالدماء، هذا عندما قبض علي النبي الذي وبخه، بخبرته أدرك قوة الواقف أمامه، فقال له: “تضرع إلى وجه الرب إلهك” (1 مل 13: 6) وبسبب هذا القول رجعت يده مرة أخرى كما كانت.

إن كان النبي شفي يربعام، أفما يستطيع المسيح أن يشفيك وينقذك من خطاياك؟!

15. ومع منسى

وأيضًا منسى كان شريرًا إلى أبعد حد. لقد نشر إشعياء ومزقه، وتدنس بكل العبادات الوثنية، ولطخ أورشليم بدم الأبرياء، لكنه عندما أُسر استخدم خبرته في محنته مستعينًا بالتوبة كعلاج، إذ يقول الكتاب عنه أنه “تواضع جدًا أمام الرب، وصلى إليه، فاستجاب له، ورده إلي مملكته” (إش 38: 1). فإن كانت التوبة قد أنقذت من نشر النبي ومزقه، أفما تخلصك أنت يا من لم ترتكب مثل هذا الشر العظيم؟!

16. ومع حزقيا

أتريد أن تعرف ما هي قوة التوبة؟

أتريد أن تعلم سلاح الخلاص القوي وتدرك قوة الاعتراف؟

حزقيا بالاعتراف ضرب خمسة وثمانين ألفًا ومائة من أعدائه. يا له من أمر عظيم، لكنه يحسب قليلاً بالنسبة لما أذكره لك. إذ بالتوبة استطاع الملك أن يحصل على تغيير في القول الإلهي الذي نطق به فعلاً. إذ لما مرض قال له إشعياء: “أوصِ بيتك، لأنك تموت ولا تعيش”. هل يمكن أن يقوم استثناء بعد، أو يوجد رجاء شفاء بعدما قال له النبي: “لأنك تموت”؟!

لكن حزقيا لم يكف عن التوبة. وبتذكره ما هو مكتوب: “متي رجعت وبكيت تخلص” (راجع إش 30: 15)، اتجه بوجهه إلى الحائط وهو على سريره، رافعًا ذهنه إلى السماء (حيث لا تعوق الحائط بلوغ الصلوات بورعٍ إلى السماء) وقال: “أذكرني يا رب. يكفي أن تذكرني فأشفي!” (راجع إشعياء 38)

إنك لا تخضع للزمان، بل أنت خالق القانون. أنت واهب قانون الحياة وتدبيرها حسب إرادتك، إذ لا تعتمد حياتنا على يوم ميلادنا، ولا على اقتران النجوم معًا في برجٍ واحد كما يظن البعض في غباوة.

ذاك الذي كان يمكنه إلاّ يرجو الحياة بسبب العبارة النبوية، صار له خمسة عشر عامًا مضافة إلى حياته، وكانت العلامة أن الشمس رجعت إلى خلف عشر درجات.

حسنًا! من أجل حزقيا رجعت، وأمّا من أجل المسيح انكسفت. لم ترجع درجات بل انكسفت معلنة بذلك الفارق بين حزقيا ويسوع!

الأول أبطل قرار الله (بالتوبة)، أفما يقدر يسوع على غفران الخطايا؟!

أرجعوا ونوحوا على أنفسكم! أغلقوا أبوابكم وصلوا لكي يغفر لكم!

صلوا لكي ينزع عنكم النار المحرقة، لأن له السلطان أن يطفئ حتى النار، وله قوة أن يبكم حتى الأسود!

17. مع حنانيا وصاحبيه

لكنك إن كنت لا تؤمن بهذا، فتأمل ما حدث مع حنانيا وصاحبيه، أي عواصف اطفأوها[11]؟!  كم من مياه كانت تحتاج إليها النار لإطفاء لهيبها الذي ارتفع تسعة وأربعين ذراعًا إلى فوق[12]؟! فإذا ارتفع اللهب قليلاً[13] إلى العُلى، تدفق عليها الإيمان، إذ تكلموا ضد كل الشرور[14]. إذن توبتهم أطفأت اللهب[15].

 إن كنت لا تؤمن بقدرة التوبة على إطفاء نار جهنم فلتتعلم هذا من حنانيا.

 لكن قد يقول أحد السامعين الحاذقين: هؤلاء الفتية خلصهم الله بعدل، إذ هم رفضوا الاشتراك في عبادة الأصنام فوهبهم الله هذا السلطان.

إذ يثور هذا الفكر فإنني أقدم مثلاً آخر بخصوص التوبة[16]

18. ماذا تظن في نبوخذ نصر؟

ألم تسمع عنه في الكتاب المقدس كيف كان متعطشًا لسفك الدماء، وحشًا كالأسد[17]؟! ألم تسمع عنه أنه أخرج إلى النور عظام الملوك من قبورهم (إر 8: 1، با 2: 25). ألم تسمع[18] أنه حمل الشعب إلى السبي؟ ألم تسمع أنه خلع عيني الملك بعدما أراه أولاده يذبحون؟! (2 مل 25: 7)

ألم تسمع أنه كسر الشاروبيم إلى أجزاء؟! لست اقصد الشاروبيم غير المنظورين[19] – هذا ما لا يخطر على الفكر قط يا إنسان[20]- بل الصورتين المنحوتتين على غطاء التابوت الذي في وسطه يتكلم الله بصوته[21]، كما داس تحت قدميه حجاب القدس[22]، وأخذ مذبح البخور وحمله إلى مذبح الأوثان؟! (2 أي 26: 7) أخذ كل التقدمات، والهيكل حرقه من أساساته![23]

أية عقوبة شديدة يستحقها هذا من أجل ذبحه الملوك وحرقه القدس وسبيه الناس وحمله الأواني المقدسة إلى بيت الأوثان؟! أما يستحق الموت عشرات الألوف؟!

19. لقد رأيت تفاقم شروره! تعال لترى محبة الله الحانية! لقد تحول إلى وحش بري[24]، وتأدب بالسكنى في البرية لكي يخلص. لقد صارت له مخالب كالأسد[25]، إذ كان زائرًا علي القدس. أكل العشب كالثور، إذ كان بهيمي لا يعرف من الذي أعطاه المملكة. تبلل جسده بالندي، لأنه رأى النار تنطفئ بالندي ولم يؤمن[26].

وماذا حدث؟ يقول[27]: “بعد هذا أنا نبوخذنصر رفعت عيني إلى السماء… وباركت العلي، وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد” (دا 4: 34).

إذ عرف العلي[28] نطق بالحمد لله، وتاب عن فعله. لقد عرف ضعفه فأعاده الله إلى كرامة ملكه.

20. ماذا إذن؟[29] هل عندما اعترف نبوخذنصر الذي فعل كل هذه الأعمال ردّه إلى الملك وغفر له، وأنت عندما تتوب إلاّ يهبك مغفرة الخطايا وملكوت السماوات متي عشت في حياة بلا لوم؟!

الرب محب للبشر، مسرع إلى المغفرة، لكنه يظهر العقوبة (التأديب)! إذن ليته لا ييأس أحد من خلاصه.

فبطرس الرسول[30] أنكر الرب ثلاث مرات، لكنه تاب وبكي بمرارة. بالبكاء تطهر قلبه، فلم ينل فقط المغفرة عن إنكاره، بل وعاد إلى كرامة الرسولية كما كان.

خاتمة

إذ قدمت لكم يا إخوة أمثلة كثيرة لأناس أخطأوا وتابوا وخلصوا، فهل تعترفون أنتم أيضًا من قلوبكم للرب، حتى يجعلكم مستحقين للعطية السمائية وميراث ملكوت السماوات مع كل القديسين في المسيح يسوع الذي له المجد إلى أبد الأبد، آمين[31].

 

 

 


[1] هذه العبارة محذوفة من النسختين البندكتية، وال Milles  لكنها وردت في الطبعات الحديثة الدقيقة.

[2] هذه العبارة حذفت في الطبعات الحديثة الدقيقة.

[3] لعله يقصد إلا ننشغل بالخطية كأمرٍ خارجيٍ، بل نهتم بحياتنا الداخلية فلا تسرق الخطية قلبنا.

[4] جا 10: 4. راجع أيضا أف 2: 7. “ولا تعطوا إبليس مكانا”.

[5] الترجمة السبعينية بدلاً من القول: “وأقامه شرق جنة عدن”.

[6] في الطابعة البيروتية “راحاب وبابل اللتين تعرفانني”.

[7] لقد أطال الله أناته كثيرًا على الشعب اليهودي بالرغم من قسوة قلوبهم حتى انتهي الأمر برفضهم للمسيح وصلبه، فصار دمه عليهم، وترك بيتهم خرابًا، ًونزع عنهم سمة “شعب الله”، وفقدوا في نظر الله اسم “إسرائيل” روحيًا، ولم يعودوا أبناء إبراهيم بالروح.

[8] الطبعة البندكتية: “لا تقدر كل البشرية أن تخبر…”

[9] راجع أم 24: 32. الترجمة السبعينية. يرى القديس هيلاري أسقف بواتييه (مز12)، وأمبروسيوس ( دفاعه 1) وآباء آخرون أن سليمان قد تاب، بينما يقول أغسطينوس إن الكتاب المقدس لم يذكر شيئًا عن توبته (راجع كتابنا عن تفسير سفر الحكمة، ص 7).

[10] 1 مل 21: 4.      Dantè L’ Aradise Canto 10: 109

[11] تضيف طبعة Roe & Casauban عبارة “في أتون النار”.

[12] تسبحة الثلاثة فتية.

 

» زيارات المقال : 199

 

» تــاريخ المقال : 12/6/2010

 

» موقع سلطانة الحبل بلا دنس - www.peregabriel.com - عنوان المقال : التوبة و غفران الخطية – القديس كيرلس الأورشليمي



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +