Skip to Content

كتاب : المسيح في رسائل القديس أثناسيوس - المركز الارثوذكسى للدراسات الابائية



المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس الكبير

رسالة القديس أثناسيوس إلى سرابيون

رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس

رسالة القديس أثناسيوس إلى أبكتيتوس

 

ملاحظة: هذه الترجمة من أعمال الكنيسة القبطية

الترجمة :

تُرجمت هذه الرسائل الثلاث عن اللغة اليونانية وهى اللغة الأصلية التى كتب بها القديس أثناسيوس، وقد قام بترجمها عن اليونانية الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد أستاذ اللغة اليونانية، والدكتور نصحى عبد الشهيد .

وقام كل من الدكتور وليم سليمان، والدكتور جورج حبيب بمراجعة الترجمة العربية قبل الطبع وإبداء ملاحظات مفيدة عليها .

مصدر الترجمة :

          تمت ترجمة هذه الرسائل عن " مجموعة الآباء باليونانية " المجلد رقم 33، والتى نشرتها هيئة " أبو ستوليكيس دياكونياس ـ الخدمة الرسولية " التابعة للكنيسة اليونانية، أثينا سنة 1963م. كما تمت مراجعة ترجمة الرسالتين إلى أدلفيوس وإلى أبكتيتوس على الترجمة الإنجليزية للرسالتين الموجودة بالمجلد 4 من المجموعة الثانية لآباء نيقية وما بعد نيقية، أما الرسالة إلى سرابيون فلم تُراجع على ترجمة أخرى إنجليزية لها .

فليعوض الرب كل من له تعب فى المحبة بكل بركة سمائية بحسب غناه فى المجد، ببركة صلوات القديس أثناسيوس الرسولى ..

ولإلهنا كل مجد وسجود وتسبيح الآن وإلى الأبد . آمين ،،


 
 

 




المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى سرابيون

 مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس عدة رسائل إلى الأسقف سرابيون أسقف تيميس (شمال الدلتا) الذى كان معاصراً للقديس أثناسيوس وصديقاً له . ومعظم رسائله المشهورة إلى سرابيون كانت عن الروح القدس . أما هذه الرسالة فهى خاصة بالدفاع عن ألوهية المسيح ضد القائلين إن الابن مخلوق، أى الآريوسيين .

          ويظهر من بداية هذه الرسالة أنها كانت جزءً من إحدى الرسائل المرسلة إلى سرابيون عن الروح القدس، ثم فُصلت بمفردها لتكون رسالة مستقلة . ففى بعض المخطوطات الأصلية باليونانية وُجدت هذه الرسالة كجزء من رسالة أثناسيوس الثانية عن الروح القدس للأسقف سرابيون، وفى مخطوطات أخرى وُجدت الرسالة مستقلة بذاتها .

          ويرجع تاريخ كتابة هذه الرسالة إلى سنة 359 أو 360م.

          ويبين القديس أثناسيوس فى هذه الرسالة ببراهين متعددة استحالة أن يكون الابن مخلوق، بل هو من " نفس جوهر الآب، أو " واحد مع الآب فى الجوهر " Homoousios، وهى الكلمة التى استعملها قانون إيمان مجمع نيقية سنة 325 لتأكيد ألوهية المسيح ابن الله المتجسد .

 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس

إلى الأسقف سرابيون

ضد القائلين بخلقة الابن

          1 ـ كنت أظن أن ما سبق أن كتبته ليس إلاّ كلمات قليلة، وهذا سَبّب لى إحساساً بالوهن الشديد لكونى عاجزاً عن الكتابة بمثل ما يليق بالإنسان أن يقوله عن الروح القدس وضد الذين يكفرون بالروح القدس. وبما أن ـ بعض الاخوة ـ كما تقول استحقوا أن يقوموا أيضاً باجتثاث هذه الأمور، لهذ، فقد قمت بالكتابة لكى يكون عندهم الاستعداد أيضاً أن يجاوبوا ـ بواسطة هذه الكلمات القليلة، أولئك الذين يسألون عن الإيمان الذى فينا وأن يدحضوا الكافرين (عديمى التقوى) بجراءة . ولقد قمت بالكتابة إليك، وأثق أنه إذا كان فيها أى نقص فإنك ستكمله .

          إن الآريوسيين تحولوا هم أنفسهم، وفكروا بنفس طريقة تفكير الصدوقيين، بأنه ليس شئ أعظم منهم أو خارجاً عنهم ـ إنهم أخذوا كتابات الوحى الإلهى وفهموها بمفاهيم وظنون بشرية (جسدية). وحينما يسمعون (الكتب المقدسة تقول) إن ابن الآب هو الحكمة والبهاء والكلمة، فإنهم اعتادوا أن يقولوا : كيف يمكن أن يكون هذا ؟ كأنه يمكن أن يكون غير ذلك، وهذا هو الأمر الذى لا يستطيعون أن يفهموه . فهل حان الوقت لكى يفهموا هذا الأمر فيما يخص وجود كل الأشياء .

          فكيف تستطيع الخليقة ـ وهى غير كائنة البتة ـ أن تكون (وتوجد) ؟، أو كيف يتسنى لتراب الأرض أن يصيغ إنساناً عاقلاً ؟ أو كيف يستطيع الفانى أن يكون غير فانٍ ؟، أو كيف وضع الله أساسات الأرض على البحار، وثبتها على مجارى الأنهار)أنظر مز2:24) ؟ . وكذلك ينطبق عليهم القول القائل " لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت " (1كو32:15) ـ لكى يهلك معهم أيضاً جنون آريوسيتهم عندما يهلكون .

          2 ـ إن تفكير الآريوسيين فانٍ وفاسدٍ، وأما كلمة الحق التى كان يليق أن تكون فى فكرهم فهى هكذا : إن كان المصدر (المنبع) والنور، والآب هو الله، فليس من العدل أن يُقل إن المصدر (الينبوع) بلا ماء ولا أن يكون النور بلا إشراق، ولا الله بغير كلمة، حتى لا يكون الله غير حكيم أو غير ناطق أو بغير نور. ولهذا السبب نفسه، فكما أن الآب أزلى يلزم أيضاً أن يكون الابن أزلياً كذلك . لأن كل ما نفكر به من جهة الآب فهو بلا شك للابن أيض، كما يقول الرب نفسه " كل ما هو للآب فهو لى " (يو15:16) وكل ما هو لى فهو للآب. لذلك فإن الآب أزلى، والابن أزلى أيض، لأنه بواسطته قد تكونت الدهور( قارن عبرانيين 2:1) فكما أن الآب كائن كذلك فمن الضرورى أن يكون الابن أيضاً كائن، " الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين "(رو5:9) كما قال الرسول بولس. وكما أنه لم يجرِ العرف على أن يُقال عن الآب إنه جاء إلى الوجود على اعتبار أنه لم يكن موجود، هكذا ليس من اللائق أن يُقال عن الابن إنه جاء إلى الوجود لأنه لم يكن موجوداً ـ فالآب قادر على كل شئ، والابن قادر على كل شئ، كما يقول يوحنا " الكائن والذى كان والذى سيكون القادر على كل شئ "( رؤ8:1). الآب نور، والابن شعاع ونور حقيقى . الآب إله حقيقى والابن إله حقيقى. لأنه هكذا كتب يوحنا " ونحن فى الحق، فى ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية "(1يو20:5) فليس هناك شئ على الإطلاق يخص الآب دون أن يخص الابن أيضاً . ولأجل ذلك فإن الابن هو فى الاب، والآب هو فى الابن . وحيث إن أمور الآب هذه هى فى الابن، فإن هذه الأمور نفسها أيضاً تُدرك فى الآب وهكذا يُفهم القول " أنا والآب واحد "( يو9:14) حيث إنه ليس فيه (فى الآب) أشياء وفى الابن أشياء غيره، بل إن ما فى الآب هو فى الابن . وحيث إنك ترى فى الابن ما تراه فى الآب، لذلك فلتفكر جيداً فى قول الرب " من رآنى فقد رأى الآب " (يو9:14).

          3 ـ وهكذا إذ قد برهنا على هذه الأشياء، فإنه من عدم التقوى أن يُقال إن الابن مخلوق . لأنه فى تلك الحالة سيكون هناك اضطرار للقول بأن الينبوع المتدفق مخلوق، وأن الحكمة مخلوقة، وأن الكلمة مخلوق فى حين أن كل الأشياء هى خاصة بالآب . ومن هذه الأشياء يمكن للواحد منا أن يتبين عدم صحة ما فهمه مجانين الآريوسية. ولو كنا نحن متشابهين، ولنا شخصيتن، ونحن من جوهر واحد، لذا فالبشر متشابهون إذ لهم شخصيتهم، ولنا جوهر واحد بعضنا مع بعض. إذ للجميع نفس الجوهر، المائت الفاسد، المتغير، المخلوق من العدم . والملائكة أيضاً لهم نفس الطبيعة فيما بينهم وبين انفسهم وكذلك أيضاً جميع الخلائق الأخرى بالمثل. وإذا صح هذا الأمر فكيف يبحث المتشككون إن كان هناك أى تشابه بين الابن والمخلوقات، أو كانت الأشياء التى تخص الابن يمكن أن توجد بين الأشياء المخلوقة، فكيف تجرؤ الخليقة أن تنطق كلمة الله. ولكن ليت الساقطين والضالين لا يمسون إطلاقاً ما يخص التقوى ـ فإنه ليس بين المخلوقات من هو ضابط للكل، وليس هناك (ضابط للكل) يضبط ويحفظ ضد ضابط آخر، لأن كل واحد منهما يكون خاصاً بالله. لأن " السموات تتحدث بمجد الله " (مز2:18) أما " الأرض وملؤها فهى للرب " (مز1:23) و " البحر رآه فهرب " (مز3:113) وكل خدامه المختصون بالعمل : "عاملون كلمته " (قارن مز20:102)، وطائعون أمره. فالابن ضابط الكل، مثل الآب . وهذا هو ما كُتب وأُثبت. ومرة أخرى أيض، فإنه لا يوجد بين المخلوقات ما هو غير متغير بطبيعته. لأن بعض الملائكة لم يحفظوا رتبتهم الخاصة بهم، فحتى "الكواكب غير طاهرة أمامه "( أيوب 5:25) . وقد سقط الشيطان من السماء، وحذا آدم حذوه، وكذلك أيضاً كل الذين يعصون الله . أما الابن فهو غير متغير وغير قابل للتحول كالآب تماماً . وها هو بولس يرجع بذاكرته إلى ما جاء فى المزمور 101 فيقول " وأنت يارب فى البدء أسست الأرض، والسموات هى عمل يديك. هى تزول وأنت تدوم، وكلها كثوب ستبلى . وكرداء تطويها فتتغير أما أنت فكما أنت وسنوك لن تفنى " (عب10:1ـ12). ومرة أخرى يقول " يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد " (عب8:13).

          4 ـ وأيضاً فإن الأشياء التى وُجدت، لم تكن موجودة ثم بعد ذلك وُجدت . لأنه صنع الأرض من العدم . وهو " الذى يدعو الأشياء غير الكائنة كأنها كائنة " (رو17:4) وهى مصنوعة ومخلوقة ولذلك كانت هناك بداية لوجود هذه الأشياء . لأنه " فى البدء خلق الله السموات والأرض "   (تك1:1) وكل ما فيها . إذ يقول أيضاً " يدى صنعت هذه الأشياء " (إش2:66) والابن أيضاً هو إله كائن على الدوام كالآب أيضاً . وهكذا فإن هذا هو التعليم الذى قبلناه وتسلمناه، فإنه ليس مخلوقاً بل خالقاً . وهو ليس البيت المبنى بل هو بانيه، وصانع أعمال الآب . لأنه به صارت الدهور (العالمين) (عب2:1) وبغيره لم يتكون أى شئ (يوحنا3:1). كما علّم الرسول بما جاء فى المزمور، لإنه " من البدء أسس الأرض والسموات هى عمل يديه " (10:1، مز26:101). وأيضاً فليس شئ من المخلوقات هو بالطبيعة إله. بل إن كل الأشياء المخلوقة تكونت، وهذه الأشياء سُميت : الواحدة سماء، والأخرى أرضاً والبعض أنوار فى السماء وأخرى نجوماً، والبعض بحراً وأغواراً عميقة ودواباً وأخيراً الإنسان.

وقبل كل هذه المخلوقات، خلق ملائكة ورؤساء ملائكة، وشاروبيم، وقوات، ورئاسات وسلاطين، وأرباب، وفردوساً . وهكذا ظل كل واحد من المخلوقات موجوداً. فحتى إذ دُعيت آلهة فهى ليست آلهة بالطبيعة، بل عن طريق اشتراكها فى الابن. لأنه هكذا قال أيضاً " إن كان قد قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله" (يو35:10) وعلى هذا الأساس فلكونهم ليسوا آلهة بالطبيعة، فإنهم عندما يلتقون، يسمعونه قائلاً " أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العلى كلكم، ولكنكم كأناس تموتون " (مز6،7:81). بعد أن استمع لقولهم " أنت إنسان ولت إلهاً " . أما الابن فهو إله حقيقى كالآب لأنه كائن فى الآب والآب كائن فيه . وهذا ماكتبه يوحنا بحسب ما قد أُعلن له . كما يرتل داود " كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، صولجان استقامة، صولجان ملكك " (مز7:44) وإشعياء النبى يصرخ قائلاً : " تعب مصر وتجارة الأثيوبيين، والسبئيون ـ الرجال ذوو القامة ـ إليك سيعبرون ويسيرون خلفك وهم مقيدون بالأغلال، وسيسجدون لك لأن الله فيك . لأنك أنت هو إله إسرائيل ولم نكن نعرف " (إش15،14:45) فمن هو إذن الإله الذى يكون الله فيه إن لم يكن هو الابن القائل " أنا فى الاب والآب  فىّ " (يو10:14).

          5 ـ فبما أن هذه الأشياء قد حدثت وكُتبت، فمن يجهل أن كل ما هو للآب فهو للابن، حيث إن الابن ليس شبيه بين المخلوقات، لأن الابن هو من نفس جوهر الآب ؟ . فإنه إن كان هناك شبه بين مخلوق وآخر فإنه يكون بينهما قرابة أيضاً إذ هما من نفس الجوهر، هكذا يكون الغريب أيضاً بالنسبة لجوهر الأشياء المخلوقة . وبالمثل أيضاً فإن كلمة الآب لا يكون مختلفاً عن الآب . وطالما أن له كل ما هو للآب فمن المعقول أن يكون من نفس جوهر الآب، لأن الجوهر المخلوق لا يستطيع أبداً أن يقول " كل ما للآب هو لى" (يو15:16). لأن الجوهر المخلوق إذ له بداية تكوين، ليس كائناً بذاته، أما الله فهو كائن منذ الأزل . ولهذا فحيث إن الابن له كل هذه الصفات، وكل ما قيل عن الآب قبل ذلك، هو عن الابن أيضاً فمن الضرورى أن يكون جوهر الابن غير مخلوق، بل هو واحد مع الآب فى الجوهر . وبالإضافة إلى ذلك فإنه بحسب هذا الأمر لا يجوز أن تُنسب لأى جوهر مخلوق الخصائص الخاصة بالله . فمن بين تلك الخصائص المتعلقة به، والتى يُعرّف بها الله : أنه ضابط الكل، وأنه الكائن، وأنه غير المتغير، والصفات الأخرى التى سبق أن أخبرنا به، حتى لا يبدو الله ذاته من نفس جوهر المخلوقات، كما يقول الجهلاء أنه يمتلك ما يستطيع أن يحصل عليه مثله مثل المخلوقات .

          6 ـ وهكذا يمكن للإنسان أن يكشف ويفضح ويدحض تجديف الذين يقولون بأن كلمة الله مخلوق . إن إيماننا بالآب والابن والروح القدس، نابع من قول الابن نفسه للرسل : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " (مت19:28) لقد تكلم هكذا حتى نعرف وندرك، تلك الأمور التى سبق الإخبار بها. لذا فمثلما قلنا إن الآباء هم مصدر الأبناء، ومع ذلك فهم والدون ولم يقل أحد إننا نحن أنفسنا خِلقة آبائنا بل أبناء لهم بالطبيعة، ومن نفس جوهر آبائنا . وهكذا فإن كان الله أب، فمما لا شك فيه أنه أب لابن بالطبيعة وهذا الابن الابن هو من نفس جوهره . فإبراهيم إذن لم يخلق اسحق بل وَلَده، أما بصلئيل وأليآب فلم يَلِدَا كل الأعمال التى فى الخيمة بل صنعاها (خر1:36). وصانع السفن، والبنّاء لا يلدان ما يصنعان بل كل واحد منهما يعمل : فالأول منهما يصنع السفينة والثانى يبنى المنزل . ومع ذلك فإن اسحق لم يصنع يعقوب بل وَلَده بالطبيعة ومن جوهره. وهكذا كان يعقوب أباً ليهوذا واخوته. فكما أن أى شخص يُعتبر مجنوناً إذا قال إن المنزل من نفس جوهر البانى الذى بناه، وإن السفينة هكذا أيضاً بالنسبة لصانعه، فإنه يكون من اللائق والمناسب أن يُقال إن كل ابن هو من نفس جوهر أبيه نفسه . فلو كان الآب هكذا مع الابن أيضاً، فمن الضرورى أن يكون الابن، ابناً بالطبيعة، وبالحقيقة، وهذا هو الجوهر الواحد مع الآب كما يتضح من أمور كثيرة . ففيما يختص بالمخلوقات يقول " لأنه تكلم فصارو، لأنه أمر فخُلقوا " (مز5:148) أما عن الابن فيقول " فاض قلبى بكلام صالح " (مز1:45). ودانيال عرف ابن الله، وعرف أعمال الله، ورأى الابن يُطفئ الأتون، وقال عن هذه الأعمال " باركى الرب يا جميع أعمال الرب" [1]  وقد أحصى جميع المخلوقات ولكنه لم يحصِ الابن بينه، عارفاً أنه (أي الابن) ليس من بين أعمال الرب بل أن هذه الأعمال قد صارت بواسطته، وهو فى الاب مُمجد ومُعظم ومُكرّم غاية التكريم . إذن كما أن الله ظهر وأُعلن بواسطته للعارفين، هكذا أيضاً فإن البركة والتسبيح والمجد والقدرة يُعترف بها للآب بواسطته وفيه، كى يصير مثل هذا الاعتراف مقبولاً أيض، كما تقول الكتب . إذاً يتضح ويتبين من هذا كله أن من يقول إن كلمة الله مخلوق، فهو مُجدف وعديم التقوى .

          7 ـ ولكن بما أنهم يتعللون بالمكتوب فى الأمثال " الرب خلقنى بداية طرقه لأجل أعماله " (أم22:8) ويرددون مع أنفسهم قائلين ها قد خلق، وها هو المخلوق . لذلك فمن الضرورى أيضاً أن نوضح من هذا أنهم يضلون كثيراً غير عالمين هدف الكتاب الإلهى . إذن فإن كان هو الابن فحاشا أن يُقال إنه مخلوق . وإن كان مخلوقاً فحاشا أن يُقال إنه ابن . لأننا قد برهنا فيما سبق على أنه يوجد اختلاف كبير بين المخلوق والابن . وحيث إن معنى الكمال لا يشمل الخالق والمخلوق بل الآب والابن، فالضرورة تمنع أن يُقال إنه مخلوق، بل بالحرى أن يُقال إن الرب ابن . وقد يقول البعض، ألم يكن هذا مكتوباً إذن ؟ . نعم قد كُتب، ولكن من الضرورى أن يُقال إن الهراطقة، يفكرون تفكيراً سيئاً فى الأقوال الحسنة. لأنهم لو فهموا وعرفوا خاصية المسيحية  لَما قالوا إن رب المجد مخلوق، ولَما تعثروا فى الكلام الصالح المكتوب. لذلك فأولئك " لم يعرفوا ولم يفهموا " (مز5:81) كما هو مكتوب " يسيرون فى الظلام " (يو35:12) ومع ذلك فمن الضرورى أن نتكلم لكى يظهر أن أولئك أغبياء فى هذ، ولا نسكت عن إقامة الدليل ضد كفرهم حتى وإن تراجعوا عنه. فالخاصية التى تميز الإيمان بالمسيح هى هذه : أن ابن الله هو كلمة الله لأن " فى البدء كان الكلمة .. وكان الكلمة الله " (يو1:1) وهو حكمة الآب وقوته " لأن المسيح هو قوة الله وحكمة الله "(1كو24:1) هذا الذى صار إنساناً فى آخر الدهور لأجل خلاصن، لأن يوحنا نفسه الذى قال " فى البدء كان الكلمة " ما لبث بعد قليل أن قال " والكلمة صار جسداً " (يو14:1)، هذا القول يعنى أنه قد صار إنساناً . والرب أيضاً يقول عن نفسه " لماذا تطلبون أن تقتلونى وأنا الإنسان الذى قد كلمكم بالحق " (يو40:8) وبولس الذى تعلم منه اعتاد أن يقول " إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان المسيح يسوع " (1تيمو5:2) فالإنسان الذى كوّنَ الأجناس البشرية ودبره، وطرد الموت وأبطله عن، يجلس الآن عن يمين الآب وهو كائن فى الآب والآب كائن فيه، كما كان دائماً وسيكون إلى الأبد .

          8 ـ إن هذه الخاصية قد وصلتنا من الرسل بواسطة الآباء، لذلك يجب أن نختبر ونميز ما جاء بالكتاب، فإنه أحياناً يتكلم عن ألوهية الكلمة وأحياناً أخرى عن إنسانيته، لدرجة أن الإنسان يمكن أن يضل إذا لم يفهم الخاصيتين (ألوهيته وإنسانيته)، مثلما حدث للآريوسيين. ومن أجل ذلك، كما أننا نعرف الكلمة نفسه، ونعرف أن " به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ واحد مما كان " (يو2:1) وأيضاً " بكلمة الرب تأسست السموات " (مز6:32) وأيضاً "أرسل كلمته وشفى الكل " (أنظر مز20:106) ولأننا نعرف أنه هو الحكمة، نعلم أن الله "أسس الأرض بالحكمة " (أم19:3) وصنع الآب كل شئ بحكمته (مز24:103). ولأننا نعرف أنه إله قد آمنا أنه هو المسيح، لأن " عرشك، يا الله " كما يرتل داود، "إلى دهر الدهور، صولجان استقامة صولجان ملكك أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابنتهاج أكثر من شركائك " (مز8،7:44). وفى إشعياء يقول عن نفسه " روح الرب علىَّ لأنه مسحنى " (إش1:61) أما بطرس فقد اعترف قائلاً : " أنت هو المسيح ابن الله الحى " (مت16:16). وهكذا لأننا نعرف أنه صار إنسان، فإننا لا ننكر الأقوال المتعلقة بإنسانيته ألاّ وهى الجوع والعطش والضرب والبكاء والنوم وفى النهاية قبول الموت من أجلنا على الصليب . لأن كل هذه الأشياء قد كُتبت عنه .

          وهكذا أيضاً فإن الكتاب لم يُخفِ، بل قال إن كلمة " خُلِقَ " تناسب البشر (ما هو بشرى) لأننا نحن البشر مخلوقون ومصنوعون. ورغم أننا سمعنا أنه جاع ونام وضًرب إلاّ أننا لا ننكر ألوهيته، نحن الذين نسمع كلمة " خُلِقَ "، بل نتبع ما يتفق مع تذكرنا لله لأن الله كائن أما الإنسان فقد خُلِقَ . لأن الخلقة تخص الناس مثلما قيل من قبل عن الجوع وما شابهه .

          9 ـ ولأن ذلك الذى يُقال عنه إنه صالح وجميل يعتبر لديهم قبيحاً ورديئ، أقول بالتأكيد إنه حسن أنه أخذ فى اعتباره عندما قال " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة ولا الابن " (مر32:13) لأن أولئك الذين يفكرون فى القول " ولا الابن "، يعنون به أن الابن مخلوق . وحاشا أن يكون هكذا . لأنه عندما يقول " خلقنى " فإنه يتكلم بشري، وعندما يقول " ولا الابن " فإنه يتكلم عن المعرفة البشرية . وهناك سبب معقول يجعله يقول مثل هذا القول، إذ بما أنه قد صار إنسان، كما هو مكتوب، فإنه يكون مشابهاً للبشرية تماماً فى عدم المعرفة، كما فى الجوع وغيره من الصفات (البشرية) (لأنهم لا يعرفون إن لم يسمعوا ويتعلموا).

          من أجل هذا أيضاً، فإنه إذ قد صار إنساناً فقد أظهر جهل البشر فى نفسه، أولاً لكى يُظهر أن له جسداً بشرياً حقاً، وثاني، لكى ـ عندما يكون له فى جسده جهل البشر، يقدم للآب جنساً بشرياً مُفتدى من بين الجميع، وطاهراً وكاملاً ومقدساً .

          فهل لا يزال يوجد لدى الآريوسيين أى إدعاء يدّعون به . فلماذا إذن يتهامسون ويدمدمون عندما يفكرون فى هذا الأمر. لقد أُدينوا لأنهم لا يعرفون " الرب خلقنى .. لأجل أعماله " وظهروا بأنهم لا يفهمون " أما ذلك اليوم فلا يعلم به أحد ولا الملائكة ولا الابن " .

          لأن ذلك مثل من يقول إن " خلق " الإنسان تعنى، أن الإنسان قد تكوّنَ وخُلِقَ . أما ذلك الذى يقول " أنا والآب واحد " (يو30:10) وأيضاً " من رآنى فقد رأى الآب " (يو9:14) و " أنا فى الآب والآب فىّ " (يو10:14) فهذه الأقوال تعنى الأزلية والوحدة مع الآب فى الجوهر .

          ولذلك فإن من يقول " لا أحد يعرف ولا الابن " فإنه يقول هذا كإنسان صار مشابهاً للبشر تماماً فى عدم المعرفة . أما من يقول " لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ولا أحد يعرف الابن إلاّ الآب " (مت27:11) فإنه بالأحرى يعرف الأشياء المخلوقة أكثر بكثير، فإن التلاميذ قالوا للرب فى إنجيل يوحنا "الآن نعرف أنك تعلم كل الأشياء " (يو30:16) إذن فمن الواضح أنه لا يوجد شئ لا يعرفه ذلك الذى هو الكلمة الذى به صار كل شئ . وذلك اليوم " هو حتماً من بين تلك الأشياء التى تصير به، وهكذا فإن الآريوسيين يتمزقون أرباً ربوات المرات بسبب جهالتهم .

 

 



33  دانيال (تسبحة الثلاث فتية) .


 

 

 

 


المسيح في رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس

 

مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس هذه الرسالة إلى أدلفيوس المعترف أسقف أونوفيس سنة 370م . وأدلفيوس أسقف مصرى كان الآريوسيون قد نفوه قبل ذلك إلى صعيد مصر ولذلك يُسمى المعترف . ورسالة أثناسيوس هذه إلى أدلفيوس هى رد على خطاب أرسله أدلفيوس إلى أثناسيوس يذكر فيه اتهام الآريوسيين للمستقيمى الرأى الذين يعترفون بإيمان مجمع نقية، بعبادة المخلوق.

          ويقرر القديس أثناسيوس إننا في عبادتنا للمسيح، لا نعبد مخلوق، ولكننا نعبد كلمة الله المتجسد، وأنه لا يمكن الفصل بين إنسانية المسيح وبين ألوهيته.

          كما يوضح القديس أثناسيوس الهدف من التجسد قائلاً " وإن كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فإن هذا الأمر لا يسبب لنا عاراً بل على العكس مجداً ونعمة عظمى . لأنه قد صار إنساناً لكى يؤلهنا في ذاته، ووُلد من عذراء كى ينقل إلى نفسه جنسنا (نحن البشر) الذين ضُلِّلن، ولكى نصبح بذلك جنساً مقدسا ونصير شركاء الطبيعة الإلهية ـ كما كتب بطرس المُطوب ".



 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس

إلى

أدلفيوس المعترف

ضد الآريوسيين

          1 ـ لقد قرانا ما قد كتبته قدسك، ونوافق حقاً على تقواك من نحو المسيح . وقبل كل شئ مجدّنا الله الذى اعطاك هذه النعمة، حتى يكون لك أيضاً فكر مستقيم، وحتى لا تجهل حيل الشيطان، بقدر المستطاع .

          إننا ندهش لسوء نية الهراطقة، ونحن نرى كيف قد سقطوا إلى هوة الكفر (عدم التقوى) حتى هذه الدرجة حتى أنهم لم يعودوا بعد يحفظون بصائرهم، بل قد فسد ذهنهم من كل ناحية .

          ولكن هذه المحاولة إنما هى من إيحاء الشيطان، ومحاكاة لليهود المخالفين للشريعة . وكما أن هؤلاء (اليهود) حينما نالوا التوبيخ من كل ناحية، ظلوا يخترعون ذرائعاً لضرر أنفسهم، لكى ينكروا الرب ويجلبوا على أنفسهم ما سبق أن تنبأ به الأنبياء، فبنفس الطريقة فإن هؤلاء الناس، إذ يرون أنفسهم محرومين من كل ناحية، ولأنهم رأوا أن هرطقتهم قد صارت كريهة جداً لدى الجميع فقد صاروا " مخترعين شروراً " لكى يظلوا بالحقيقة أعداء للمسيح، إذ أنهم لا يكفون في محاربتهم ضد الحق .

          فمن أين نبع لهم إذن هذا الشر أيضاً ؟ وكيف تجاسروا على أن ينطقوا بهذا التجديف الجديد ضد المخلص بمثل هذه الجسارة الكلية ؟. ولكن كما يبدو، فإن الرجل المجدف هو شرير، ومرفوض حقاً من جهة الإيمان    (2تيمو8:3).

          لأنهم قبل ذلك بينما هم ينكرون ألوهية ابن الله الوحيد الجنس، تظاهروا بأنهم يعترفون بمجيئه في الجسد . أما الآن، فإنهم تراجعوا تدريجي، وسقطوا في فكرهم الوهمى، وصاروا كافرين من جميع النواحى، حتى أنهم لا يعترفون به بأنه إله، ولا يؤمنون بأنه قد صار إنساناً . لأنهم لو كانوا يؤمنون بهذ، لَما نطقوا بمثل تلك الأقوال التى كتبتَ قدسك ضدهم بخصوصها .

          2 ـ لذلك فأنت أيها الحبيب، والمشتاق إليه جداً بالحق، قد صنعت ما هو موافق لتقليد الكنيسة، ومناسب للتقوى نحو الرب، بتوبيخك ونصحك وتعنيفك لمثل هؤلاء . ولكن حيث إنهم مُحرَّكون من أبيهم الشيطان، فإنهم " لا يعرفون ولا يفهمون " كما هو مكتوب بل " في الظلمة يتمشون " (مز5:81).

          فليتعلموا من قدسك أن ضلال فكرهم هذا إنما هو خاص بفالنتينوس وماركيون ومانى [1] فالبعض من هؤلاء استبدلوا (في الشرح) المظهر بالحقيقة، والبعض الآخر قسموا ما لا ينقسم . وأنكروا حقيقة أن " الكلمة صار جسداً  وسكن فينا (يو14:1).

          وحيث إنهم يفكرون بأفكار هؤلاء الناس، فلماذا إذاً لا يكونون ورثة لأسمائهم أيضاً ؟ فماداموا يعتنقون آراءهم الخاطئة، فمن المعقول أن يتخذوا أسماءهم أيض، لكى يُطلق عليهم من الآن فصاعداً : فالنتينيون، وماركيونيون ومانويون . وربما إذا كان الأمر كذلك، فبسبب إحساسهم بالعار من نتانة أسماء (هؤلاء)، فربما يستطيعون أن يدركوا مدى الكفر (عدم التقوى) الذى سقطوا فيه . ويكون من حقنا ألاّ نرد عليهم إطلاقاً بحسب التحذير الرسولى " الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرة ثانية، أعرض عنه، عالماً أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوماً عليه من نفسه " (تى11،10:3) وبنوعٍ خاص ما يقوله النبى عن مثل هؤلاء " لأن الغبى (اللئيم) يتحدث تفاهات، وقلبه يتفكر في أمور باطلة " (إش6:32).

          ولكن بما أنهم مثل زعيمهم (آريوس)، يجولون كأسود ملتمسين من يبتلعونه (قارن 1بط8:5) من بين المستقيمى القلوب ـ لأجل ذلك صار لزاماً علين، أن نكتب لقدسك ثانية، حتى أن الاخوة بعد أن يتعلموا ثانية من نصائحك، يستطيعون أن يدينوا أكثر، تعاليم هؤلاء الناس الباطلة .

          3 ـ نحن لا نعبد مخلوق، حاشا ! لأن مثل هذا الضلال إنما هو خاص بالوثنيين والآريوسيين . ولكننا نعبد رب الخليقة كلمة الله المتجسد . لأنه إن كان الجسد نفسه، في حد ذاته هو جزء من عالم المخلوقات، إلاّ أنه صار جسد الله . فنحن من ناحية، لا نفصل الجسد عن الكلمة، ونعبد مثل هذا الجسد في حد ذاته، ومن ناحية أخرى، عندما نريد أن نعبد الكلمة، فإننا لا نفصل الكلمة عن الجسد، ولكننا ـ كما سبق أن قلنا ـ إذ نعرف أن "الكلمة صار جسداً " فإننا نعرفه كإله أيض، بعد أن صار في الجسد. وتبعاً لذلك، فمن هو أحمق إلى هذه الدرجة حتى يقول للرب " انفصل عن الجسد لكى أعبدك ؟" . أو من هو عديم التقوى لدرجة أن يقول له مع اليهود الحمقى " لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً " (يو33:10). ولكن الأبرص لم يكن من هذا النوع، فإنه عَبَدَ الله في الجسد، وعرف أنه الله قائلاً "يارب، إن أردت تقدر أن تطهرنى "  (مت3:8)، فهو من ناحية لم يظن أن كلمة الله مخلوق، بسبب الجسد، ومن الناحية الأخرى لم يحتقر الجسد الذى كان يلبسه (الكلمة) بسبب أن الكلمة هو خالق الخليقة . ولكنه عَبَدَ خالق الكون كما في هيكل مخلوق، وهكذا تطهر. وهكذا أيضا المرأة نازفة الدم لأنها آمنت، فقد اكتفت بلمس هدب ثوبه وشفيت (مت20:9ـ22). والبحر المضطرب بأمواجه، سمع الكلمة المتجسد، فكفت العاصفة (مت11:8). والأعمى منذ ولادته قد شُفي بتفلة الجسد من الكلمة (يو6:9). وما هو أعظم وأكثر غرابة (لأن هذا ربما يكون قد أعثر أكثر الناس كفراً) فإنه حينما عُلق الرب على الصليب فعلاً (لأن الجسد كان جسده، وكان الكلمة في الجسد)، فقد أظلمت الشمس والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وانشق حجاب الهيكل (لو45:23)، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين (مت52،51:27).

          4 ـ إن هذه الأشياء قد حدثت، ولم يجادل أحد من أولئك ـ مثلما يتجاسر الآريوسيون الآن أن يجادلوا فيما إذا كان يجب على الإنسان أن يؤمن بالكلمة المتجسد . بل عند رؤيتهم إياه إنساناً عرفوا أنه هو الذى خلقهم . وحينما سمعوا صوتاً بشري، لم يكونوا يقولون إن الكلمة مخلوق بسبب بشريته . بل بالعكس كانوا يرتعدون، ولم يعرفوا شيئاً أقل من أنه كان ينطق به من هيكل مقدس. فكيف إذن لا يخاف عديمو التقوى، لئلا كما أنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، ربما يسلمهم إلى ذهن مرفوض ليفعلوا تلك الأشياء التى لا تليق (أنظر رو28:1) لأن الخليقة لا تعبد المخلوق، وأيضاً هى لم ترفض أن تعبد ربها بسبب الجسد . ولكنها كانت ترى خالقها في الجسد، " وانحنت كل ركبة " باسم يسوع، حق، "وستنحنى (كل ركبة) ممن في السموات ومن على الأرض ومن تحت الأرض وسيعترف كل لسان ـ حتى لو كان هذا لا يروق للآريوسيين ـ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (في11،10:2)، لأن الجسد لم يقلّل من مجد الكلمة، حاشا : بل بالأحرى فإن الجسد نفسه قد تمّجد بالكلمة.

          والابن الكائن في صورة الله، أخذ صورة عبد، وهذا لم يُنقص من ألوهيته، بل هو بالأحرى قد صار بذلك مخلصاً لكل جسد ولكل خليقة .

          وإن كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فإن هذا الأمر لا يسبب لنا عاراً بل على العكس مجداً ونعمة عظمى. لأنه قد صار إنساناً لكى يؤلهنا في ذاته . وقد صار (جسداً) من امرأة ووُلد من عذراء كى ينقل إلى نفسه جنسنا (نحن البشر) الذين ضُلِّلنا، ولكى نصبح بذلك جنساً مقدس، ونصير شركاء الطبيعة الإلهية (2بط4:1) كما كتب بطرس المُطوب . وما " كان الناموس عاجزاً عنه إذ أنه كان (الناموس) ضعيفاً بواسطة الجسد، فإن الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد " (رو3:8).

          5 ـ إذن، فالكلمة أخذ جسد، لأجل تحرير كل البشر، ولإقامة الجميع من بين الأموات، ولكى يصنع فداءً من الخطايا . فأولئك الذين يستخفون بهذا الأمر (الجسد)، أو الذين بسبب الجسد يتهمون ابن الله بأنه مصنوع أو مخلوق، كيف لا يظهر أنهم جاحدون للنعمة ومستحقون لكل اشئمزاز ونفور؟ فكأنهم بذلك يصرخون قائلين لله : لا ترسل ابنك الوحيد الجنس في الجسد، ولا تجعله يتخذ جسداً من عذراء لكى لا يفتدينا من الموت ومن الخطيئة، ولا نريده أن يصير في الجسد لكى لا يقاسى الموت من أجلن، ولا نرغب في أن يصير في الجسد لئلا يصير بهذا الجسد وسيطاً لنا للدخول إليك فنسكن في المنازل التى في السموات. فلتغلق أبواب السموات، لكيلا يكرّس لنا كلمتك الطريق في السموات بواسطة الحجاب الذى هو جسده. هذه هى الأقوال التى يتفوه بها أولئك الناس بجرأة شيطانية، وهى إدعاءات اخترعوها لأنفسهم نابعة من حقدهم. لأن الذين يرفضون أن يعبدوا الكلمة الصائر جسد، هم جاحدون لنعمة صيرورته إنساناً .

          والذين يفصلون الكلمة عن الجسد، لا يحسبون أنه قد حدث فداء واحد من الخطيئة، ولا يحسبون أنه قد تم اندحار للموت .

          ولكن على وجه العموم، أين سيجد الكافرون، الجسد الذى اتخذه المخلص، منفصلاً عنه، حتى يتجاسروا أن يقولوا أيضاً : إننا لا نعبد الرب متحداً بالجسد بل نفصل الجسد ونعبد الكلمة وحده ؟

          لقد رأى اسطفانوس المغبوط، الرب واقفاً في السموات، عن يمين (الله) (أع55:7)، والملائكة قالوا للتلاميذ " سيأتى هكذا بنفس الطريقة التى رأيتموه بها منطلقاً إلى السماء " (أع11:1) والرب نفسه يقول مخاطباً الآب " أريد أن يكونوا هم أيضاً معى على الدوام حيث أكون أنا " (قارن يو24:17) وفي الواقع، إن كان الجسد غير منفصل عن الكلمة ألاّ يكون من اللازم، أن يتخلى هؤلاء الناس عن ضلالهم، ومن ثم يعبدون الآب باسم ربنا يسوع المسيح، أو، إن كانوا لا يعبدون ويخدمون الكلمة الذى جاء في الجسد، فينبغى أن يُطرحوا خارجاً من كل ناحية، وأن لا يُحسبوا فيما بعد مسيحيين، بل بالأحرى يُعدوا بين اليهود .

          6 ـ هذا هو إذن، كما شرحنا قبل، هَوْس (جنون) أو جسارة أولئك الناس . أما إيماننا فمستقيم وهو نابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء ويؤكده كل من العهد الجديد والعهد القديم، حيث يقول الأنبياء "أرسل كلمتك وحقك" (مز3:42) " هوذا العذراء ستحبل وتلد ابناً وسيدعون اسمه عمانوئيل " (إش14:7) " الذى تفسيره الله معنا " (مت23:19 ولكن ماذايعنى هذا إن لم يكن أن الله قد جاء في الجسد ؟ .

          فإن التقليد الرسولى يعلّم في قول المغبوط بطرس " إذا قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد " (1بط1:4) بينما يكتب بولس " متوقعين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح . الذى بذل نفسه لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة " (تى14،13:2) فكيف إذن قد بذل نفسه لأجلن، لكى، بقبوله الموت في هذا الجسد، يبيد ذلك الذى له سلطان الموت أى إبليس (عب14:2). ولذلك فإننا نقدم الشكر على الدوام باسم يسوع المسيح، ولا نبطل النعمة التى صارت إلينا بواسطته . فإن مجئ المخلص متجسداً قد صار فدية للموت وخلاصاً لكل الخليقة .

          لذا أيها الحبيب والمشتاق إليه جد، فليضع محبو الرب هذه الأقوال في عقولهم، أما أولئك الذين يتمثلون بسلوك يهوذ، ويتخلون عن الرب ليكونوا مع قياف، فليتهم يتعلمون من هذه الأقوال، إن أرادو، وإن كانوا يستحون ؛ وليعلمو، أنه بعبادة الرب في الجسد، فإننا لا نعبد مخلوق، بل كما قلنا قبل، فإننا نعبد الخالق الذى لبس الجسد المخلوق .

          7 ـ ولكننا نود من قدسك أن تستقصى منهم عن هذا الأمر . فإن إسرائيل حينما كان يصدر إليه الأمر أن يصعد إلى أورشليم لكى يسجد في هيكل الرب، حيث يوجد التابوت، وفوقه كاروبا المجد مظللين الغطاء، فهل كانوا يتصرفون حسناً أم العكس ؟ فإن كانوا يفعلون خط، في عقاب كان يتعرض له الذين يزدرون بهذا الناموس ؟ لأنه مكتوب إن الذى استهان بالأمر ولم يصعد " يُقطع ذلك الإنسان من الشعب " (قارن لا9:17) وإن كانوا يصنعون صواب، وكانوا بهذا مقبولين لدى الله، أليس الآريوسيين وهم أنجس وأبشع من كل هرطقة ـ مستحقين ـ للهلاك عدة مرات، لأنهم بينما يقبلون الشعب القديم ويوافقونه في الكرامة التى كان يقدمها للهيكل، فإنهم لا يريدون أن يعبدوا الرب الذى هو في الجسد كما في هيكل . وبالرغم من ذلك فإن الهيكل القديم الذى كان مشيداً من حجارة ومن ذهب، لم يكن إلاّ مجرد ظل . ولكن عندما جاءت الحقيقة، بطل المثال منذ ذلك الحين، ولم يبق فيه حجر على حجر لم يُنقض، حسب النطق الربانى .

          فلما رأى (الشعب القديم) الهيكل من حجارة لم يظنوا أن الرب ـ الذى تحدث في نفس الهيكل ـ مخلوق، ولم يزدروا بالهيكل ولم يعتزلوا بعيداً للعبادة . ولكنهم جاءوا إلى الهيكل ـ بحسب الشريعة، وخدموا الله الذى نطق بوحيه من الهيكل . وإن كان الأمر هكذا فكيف لا ينبغى أن يُعبد جسد الرب، الكلى القداسة والكلى الوقار حق، والذى بشر به رئيس الملائكة جبرائيل، لكى يتم تشكيل الجسد من الروح القدس ويصير رداءً للكلمة .

            فالكلمة بمد يده الجسدية أقام (حماة سمعان) التى أخذتها الحمى الشديدة (لو39:4) وبصراخه بصوت بشرى أقام لعازر من بين الأموات (يو43:11)، ومرة أخرى حينما بسط ذراعيه على الصليب، فقد قهر رئيس سلطان الهواء، الذى يعمل الآن في أبناء المعصية (أف2:2)، وجعل لنا الطريق إلى السموات نقياً (ومفتوحاً) .

          8 ـ إذن، فالذى يهين الهيكل، فإنما يهين الرب في الهيكل، والذى يفصل الكلمة عن الجسد، إنما يبطل النعمة المعطاة لنا في جسده. أما المتهوسون بالآريوسية، الشديدو الكفر، فلا تدعهم يحسبون أنه، بما أن الجسد مخلوق، يكون الكلمة مخلوقاً أيض، وكذلك لا تدعهم أيضاً يحتقرون جسد الكلمة، بسبب أن الكلمة ليس مخلوق، لأن شرهم (حقدهم) يثير الدهشة، إذ أنهم يبلبلون الأفكار ويخلطون كل شئ ويخترعون إدعاءات وذلك كله فقط لكة يَعدّوا الخالق بين المخلوقات .

          ولكن فليسمعو، لأنه لو أن الكلمة كان مخلوق، لما اتخذ جسداً مخلوقاً لكى يهبه الحياة، لأنه أية معونة تحصل عليها المخلوقات من مخلوق هو نفسه يحتاج إلى الخلاص ؟ . ولكن حيث إن الكلمة خالق، فقد تمم خلقة المخلوقات .

          لذلك فإنه عند اكتمال الدهور أيضاً فقد لبس هو نفسه ما هو مخلوق (أى الجسد) لكى يجدده بنفسه مرة أخرى كخالق ؛ ولكى يستطيع أن يقيمه.

          لا يستطيع مخلوق أن يخلص مخلوقاً على الإطلاق، كما أن المخلوقات لم تُخلق بواسطة مخلوق، وذلك إن لم يكن الكلمة هو الخالق (كما يدّعى الآريوسيون) . ولذلك دعهم لا يفترون على الكتب الإلهية ولا تدعهم يسيئون إلى المستقيمين من الاخوة . ولكن إن كانوا يرغبون، فليغيروا فكرهم هم أيضاً ولا يعودوا يعبدون المخلوق دون الله خالق كل الأشياء (أنظر رو25:1).

          أما إن كانوا يريدون أن يتشبثوا بتجديفاتهم فليشبعوا بها وحدهم، وليصرّوا على أسنانهم مثل أبيهم الشيطان، لأن إيمان الكنيسة الجامعة يقر بأن كلمة الله هو خالق كل الأشياء، ومبدعه، ونحن نعرف أنه " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله " (يو1:1) فإننا نعبد ذلك الذى صار هو نفسه أيضاً إنساناً لأجل خلاصن، لا كما لو كان هذا الذى صار جسداً هو مساوٍ للجسد بالمثل، بل (نعبده) كسيد آخذاً صورة عبد، كصانع وخالق صائراً في مخلوق أى (الجسد) لكى بعد أن يحرر به كل الأشياء، يقرّب العالم إلى الآب، ويصنع سلاماً لكل المخلوقات سواء التى في السموات أو التى على الأرض .

          ولذلك فنحن نعترف أيضاً بألوهيته التى من الآب .

          ونعبد حضوره المتجسد، حتى ولو مزق الآريوسيون المجانين أنفسهم.

          سلّم على كل من يحبون ربنا يسوع المسيح .. ونرجو أن تكون بصحة جيدة، وأن تذكرنا أمام الرب، أيها المحبوب والمشتاق إليه جداً بالحق . وإن احتاج الأمر، فلتقرأ هذه الرسالة لهيراكاس القسيس .

 



 



1  فالنتينوس مبتدع من الغنوسيين (أصحاب مذهب الخلاص بالمعرفة) ظهر في القرن الثانى الميلادى، وكان يعلم بوجود عدة كائنات سماوية وسيطة بين الله وبين يسوع، يسميها أيونات أى عصور ـ يبلغ عددها ثلاثون كائناً ـ وأن الكلمة هو رابع هذه الأيونات، وأحد هذه الأيونات هو المسيح السماوى وهو غير الكلمة، وغير المسيح الذى ظهر من شعب إسرائيل، وأن المسيح هو شخص آخر غير يسوع، وأن جسد يسوع ليس جسداً طبيعياً حقيقياً بل جسم خيالى أو ظاهرى .

            وقد حاول فالنتينوس نشر تعاليمه في روما حوالى سنة 140م ولكنه لم ينجح وقد حرمته الكنيسة .

            وواضح من تعليمه أنه ينكر حقيقة أن " الكلمة صار جسداً ويسكن فينا " كما يقول القديس أثناسيوس .

            ماركيون : مبتدع ظهر حوالى منتصف القرن الثانى في روما، وأصله من البنطس في آسيا وكان يُعلّم أن إله العهد القديم ليس هو إله العهد الجديد ـ وإله العهد القديم إله العدل وإله العهد الجديد هو إله الصلاح والنعمة، وأن المسيحية لا علاقة لها بإعلان العهد القديم، بل هبطت فجأة من السماء، وأن المسيح لم يُولد من العذراء ولم يُولد بالمرة بل نزل فجاة من السماء في مدينة كفر ناحوم في السنة 15 من سلطنة طبياريوس قيصر، وظهر كمعلن للإله الصالح الذى أرسله . وأن المسيح ليس هو الماسيا الذى تنبأ عنه العهد القديم . وأن جسد المسيح ليس جسداً حقيقياً طبيعياً بل هو مجرد مظهر، وأن المسيح لم يمت حقيقة. وكان يعتقد أن المادة شريرة، وكان يحرّم الزواج، ورفض وحى أسفار العهد القديم وعمل له قانوناً خاصاً لأسفار الكتاب يحوى 11 سفراً فقط من العهد الجديد : عبارة عن إنجيل لوقا بعد أن شوهه و10 من رسائل بولس الرسول .

            وقد حرمته الكنيسة وحرمت تعاليمه وقاومتها بشدة منذ البداية .

            مانى : مبتدع ظهر في القرن الثالث، من بلاد فارس، أدعى الوحى وقال إنه " رسول يسوع المسيح " وأنه هو الروح القدس " الباراقليط " الذى وعد به المسيح . وكان يعلّم أن المادة شريرة وأن الإنسان مخلوق على صورة الشيطان، وأن الجسد شرير في جوهره والزواج نجس . وأنكر أن جسد المسيح حقيقى، وقال إن آلام المسيح على الصليب وهمية وليست آلام حقيقية، وأن المسيح ليس له دم . وكان لا يؤمن بالكتاب المقدس بعهديه كمصدر للتعليم بل ببعض الأناجيل المزورة وبعض الكتب الأخرى من تأليفه هو .

            وقد حرمت الكنيسة بدعة مانى وأتباعه في عدة مجامع منذ القرن الرابع فصاعداً .


 

 

 



المسيح في رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى أبكتيتوس

 

مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس هذه الرسالة إلى أبكتيتوس أسقف كورنثوس سنة 369م، وذلك رداً على مذكرات كان أبكتيتوس قد أرسلها إلى أثناسيوس تحوى عدة أسئلة أثيرت في إيبارشيته من مجموعات آريوسية وغيرها لها آراء خيالية (دوسيتية) من جهة التجسد، وعلاقة جسد المسيح بلاهوته الأزلى من جوهر الآب.

          ويرد القديس أثناسيوس على هذه التصورات والآراء الخيالية، ويوضح الإيمان السليم فيما يخص علاقة لاهوت المسيح بناسوته. وهذه الرسالة صارت لها شهرة كبيرة عند آباء الكنيسة في القرنين الرابع والخامس ويستند إليها القديس إبيفانيوس في الرد على بدعة أبوليناريوس، كما كانت مرجعاً يُستند إليه في مواجهة بدعة نسطور في القرن الخامس، ولما حاول النساطرة أن يزيفوا نص هذه الرسالة بحيث يؤدى إلى خدمة بدعتهم، فإن القديس كيرلس الأسكندرى كشف تزيفيهم (في رسالة 40)[1] وأظهر النص السليم لها .

 

 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس الرسولى

إلى أبكتيتوس

ضد الهراطقة

          إلى سيدى وأخى المحبوب، المشتاق إليه جد، وشريكى في الخدمة أبكتيتوس، أثناسيوس يرسل تحياته في الرب .

          1 ـ كنت أظن أن كل كلام بطاّل لجميع الهراطقة، مهما كان عددهم، قد توقف، منذ المجمع الذي انعقد في نيقية . لأن الإيمان المعترف به في هذا المجمع من الآباء، بحسب الكتب الإلهية، كافٍ لطرد كل كفر خارجاً، ولتوطيد إيمان التقوى في المسيح .

          ولذلك فقد أقيمت في هذه الأونة، مجامع مختلفة في كل من الغال (فرنسا) وأسبانيا وروما العظمى، وجميع المجتمعين ـ كما لو كان يحركهم روح واحد ـ حرموا بالإجماع، أولئك الذين كانوا لا يزالون، وهم مستترون، يعتقدون بآراء آريوس وأولئك الأشخاص هم : أوكسنتيوس من ميلانو، وأورساكيوس وفالنس وغاريوس من بانونيا .

          وجميع هؤلاء المجتمعين كتبوا في كل مكان (إذ لأن مثل هؤلاء الرجال يخترعون أسماء مجامع لمساندتهم)، ألاّ يُذكر أى مجمع في الكنيسة الجامعة سوى ذلك المجمع وحده الذي عُقِدَ في نيقية الذي كان انتصاراً عظيماً على كل هرطقة، ولا سيما الهرطقة الاريوسية ـ والتى بسببها ـ في الحقيقة اجتمع ذلك المجمع وقتئذٍ .

          فكيف إذن بعد هذه الأمور، لا يزال البعض يحاول أن يثير مجادلات أو تساؤلات ؟ فلو كانوا ينتمون إلى الآريوسيين فلا يكون هناك غرابة في الأمر، إذن كانوا يذمون ما كُتب ضدهم، مثلهم مثل اليونانيين الذين حينما يسمعون القول " أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدى الناس" (مز4:115)، فإنهم يعتبرون التعليم الخاص بالصليب الإلهى جهالة .

          أما الذين يريدون أن يبحثوا كل شئ عن طريق إثارة الأسئلة، فإن كانوا من الذين يظنون أنهم مؤمنون، وأنهم يحبون ما جاهر به الآباء، فإنهم لا يعملون شيئاً آخر سوى ما جاء في الكتاب " إنهم يسقون صاحبهم حثالة الخمر " (حب15:2) وينازعون حول ما هو غير نافع، أو ما يؤدى إلى هدم المستقيمين .

          2 ـ إننى أكتب هذ، بعد اطلاعى على المذكرات التى كتبتها قدسك، التى ما كان يجب أن تُكتب كى لا يكون هناك ذِكر لهذه الأمور لمن يأتون بعدنا. لأن من سمع بمثل هذه الأمور قط ؟ من هو الذي علَّم هذا أو تعلّمه؟ " لأنه من صهيون ستخرج شريعة الله، ومن أورشليم كلمة الرب " (إش3:2) ولكن من أين خرجت هذه الأمور . وأى عالم سفلى تقيأ القول بأن الجسد الذي من مريم هو من نفس جوهر لاهوت الكلمة ؟ أو بأن الكلمة قد تحوّل إلى لحم وعظام وشعر وكل الجسد، وتغيّر عن طبيعته الخاصة ؟ أو من سمع في الكنيسة أو بين المسيحيين على العموم، بأن الرب لبس جسداً خيالياً وليس طبيعياً ؟ أو من كفر إلى مثل هذه الدرجة حتى يقول، وهو في نفس الوقت يعتقد أيضاً بأن اللاهوت ذاته الذي من نفس جوهر الآب، قد صار ناقصاً خارجاً من كامل، والذي سُمِرَ على الخشبة لم يكن هو الجسد بل هو جوهر الحكمة الخالق ذاته ؟ أو من سمع بأن الكلمة حوّل لنفسه جسداً قابلاً للتألم، (هذا الجسد) ليس من مريم بل من جوهره الذاتى. فهل يمكن أن يُدّعى مسيحياً من يقول هذا ؟ أو من الذي اخترع هذا الكفر الشنيع، حتى يدور في مخيلته أن من يُعلِّم بأن جسد الرب هو من مريم إنما يعتقد أنه لا يوجد في اللاهوت ثالوث فقط بل رابوع . لذلك فالذين يكفرون هكذ، يقولون إن الجسد الذي لبسه المخلص من مريم إنما هو من جوهر الثالوث . ومرة أخرى، فمن أين تقيأ البعض ذلك الكفر المساوى للكفر السابق ذكره، حتى يقولون بأن الجسد ليس أحدث من لاهوت الكلمة، بل هو مساوٍ له في الأزلية وهو معه على الدوام، حيث إنه قد تكوّن من جوهر الحكمة ؟

          أو كيف يتجاسر أولئك الذين يُدعون مسيحيين، أن يَشُكوا فيما إذا كان الرب المولود من مريم، بينما هو ابن الله بالجوهر والطبيعة، فإنه من نسل داود من جهة الجسد ومن جسد القديسة مريم ؟

          أو من هم إذن هؤلاء الذين تجاسروا هكذا حتى يقولو، بأن المسيح المتألم بالجسد والمصلوب، ليس هو الرب والمخلص والإله وابن الآب .

          أو كيف يريدون أن يُدعوا هؤلاء الذين يقولون بأن الكلمة قد حلّ على إنسان قديس كما كان يحلّ على أى واحد من الأنبياء، ولم يصر هو نفسه (الكلمة) إنساناً باتخاذه الجسد من مريم، (ويقولون) إن المسيح هو شخص وأن كلمة الله الموجود قبل مريم، وهو ابن الآب من قبل الدهور، هو شخص آخر ؟ .

          3 ـ هذه هى التساؤلات المُشار إليها في المذكرات، وهى رغم تباينها، لكنها تحوى فكراً واحداً يهدف بفاعليته نحو عدم التقوى . ولأجل هذه الأمور، كان الذين يتفاخرون باعتراف الآباء في المجمع المنعقد في نيقيا، يتجادلون ويتطاحنون بعضهم مع بعض.

          ولكنى تعجبت لمعناة واحتمال تقواكم، وأن قدسكم لم يوقف هؤلاء الذين يقولون هذه الأشياء، بل شرحت لهم الإيمان المستقيم، حتى إذا سمعوا يهدأون، أما إذا قاوموا فإنهم يُعتبرون هراطقة . لأن ما قالوه لا يمكن أن يُقال أو يُسمع من مسيحيين، بل هى أقوال غريبة من كل ناحية عن التعليم الرسولى . لذلك، وكما سبق ان قلت، قد أدرجت في رسالتى، ما قاله هؤلاء، وذلك فقط لكى يدرك كل من يسمع، ما تحويه من عار وكفر، رغم أنه كان من اللازم أن نتهم ونفضح بشدة حماقة أولئك الذين اعتقدوا مثل تلك الأفكار . ولقد كان من المستصوب أن يكتفي خطابى بهذه الكلمات فلا أكتب أكثر من ذلك لأنه ليس من الواجب ممارسة واختبار مثل تلك الأمور التى من الواضح أنها شريرة هكذا جهار، لئلا تبدو بالنسبة للمتنازعين كأنها أمور محتملة . فإنه يكفي أن أقول مجيباً على مثل تلك الأقوال بما يلى :

          يكفي أن هذا ليس تعليم الكنيسة الجامعة، ولا اعتقد الآباء بهذه الأمور. ولكن لئلا يجد " المبتدعون شروراً " حجة لصفاقتهم بسبب صمتنا التام، فإنه حسن أن نذكر بعض الأقوال من الكتب الإلهية، وبالتأكيد، بعد أن يخجلو، فإنهم يكّفون عن هذه الحيل النجسة .

          4 ـ من أين طرأ عليكم يا هؤلاء، أن تقولوا إن الجسد واحد في الجوهر مع لاهوت الكلمة . (لأنه من الحسن أن نبدا بهذه النقطة لكى عندما يظهر أن هذا الرأى غير سليم، فإن جميع الآراء الأخرى أيضاً تتضح أنها غير سليمة كذلك) . كما أن ما يقولونه لا يوجد منه شئ في الكتب الإلهية .

          وهم يقولون إن الله قد صار في جسد بشرى . أما الآباء الذين اجتمعوا في نيقية فقد قالوا أيضاً إن الابن نفسه ـ وليس الجسد ـ هو من نفس جوهر الآب (أو واحد مع الآب في الجوهر)، وإنه بينما هو (الابن) من جوهر الآب، فإنهم اعترفوا أيضاً بحسب الكتب، بأن الجسد هو من مريم.

          فإمّا أن تنكروا إذن، المجمع المنعقد في نيقي، وكهراطقة يجلبون تعليماً بالإضافة إلى (ما قرره المجمع)، وإمّ، إن أردتم أن تكونوا أبناء الآباء، فلا تعتقدوا بغير ما كتبه هؤلاء الآباء.

          ومن هذا أيضاً تستطيعون أن تروا كم هو سخيف هذا الرأى : فإنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد الذي هو من طبيعة أرضية، في حين أن الكلمة هو من نفس جوهر الآب، بحسب اعتراف الآباء، فإن الآب نفسه أيضاً يكون من نفس جوهر الجسد الصائر من الأرض . فلماذا تلومون الآريوسيين الذين يقولون إن الابن مخلوق، وأنتم أنفسكم تزعمون أيضاً أن الآب من نفس جوهر المخلوقات، فأنتم تذهبون بعيداً إلى كفر آخر، مدّعين أن الكلمة تحول إلى لحم وعظام، وشعر وأعصاب والجسد كله، وأنه تحول عن طبيعته الخاصة . لقد حان الوقت لكم، لكى تقولوا علانية، إنه قد صار من الأرض، لأن طبيعة العظام بل والجسد كله من الأرض . إذن ماذا يكون هذا الهذيان حتى تتشاجروا فيما بينكم أيضاً ؟ لأن الذين يقولون إن الكلمة هو من نفس جوهر الجسد، إنما " يقصدون الواحد عندما يشيرون للآخر " .

          أما الذين يحوّلون الكلمة إلى جسد فإنهم يتخيلون تغيير الكلمة ذاته . ومن سيظل يحتملكم إذن، وأنت تتشدقون بهذه الأقوال . فأنتم انحرفتم إلى الكفر أكثر من كل هرطقة .

          لأنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد، فإن ذكر مريم وضرورتها يكونان أمرين لا لزوم لهم، إذ أنه كان من المستطاع أن يكون موجوداً أزلياً قبل مريم، كما أن الكلمة ذاته أزلى أيضاً . فلو كان الكلمة حقاً من نفس جوهر الجسد حسبما تقولون، فأية حاجة كانت هناك لكى يقيم الكلمة بيننا، لكى يلبس ما هو من نفس جوهره الخاص، أو أن يتحول عن طبيعته الذاتية فيصير جسداً؟ لأن اللاهوت لم يأتِ لمساعدة نفسه حتى يلبس ما هو من نفس جوهره، كما أن الكلمة لم يخطئ في شئ وهو يفتدى خطايا الآخرين، حتى يصير جسداً ويقدم ذاته ذبيحة لأجل نفسه وفتدى نفسه .

5 ـ لكن حاشا له أن يكون هكذا. لأنه كما قال الرسول جاء لمساعدة[2] نسل إبراهيم، من ثمّ كان ينبغى أن "يشبه اخوته في كل شئ"(عب17،16:2) ويتخذ جسداً مشابهاً لنا. ولهذا السبب أيضاً كانت مريم في الحقيقة مفترضة من قبل[3]. ليأخذ الكلمة منها (جسداً) خاصاً به ويقدمه من أجلنا .

          وقد أوضح إشعياء هذا متنبئاً فقال: "هاهى العذراء" (إش14:7) وأرسل الله جبرائيل إليها، ليس إلى مجرد عذراء، بل "إلى عذراء مخطوبة لرجل" (لو27:1) لكى يتبين من كونها مخطوبة، أن مريم كائن بشرى بالحقيقة. ولهذا السبب ذكر الكتاب أيضاً أنها ولدته، وأنها " قمطته " (لو7:2) ولذلك فإن الثديين اللذين رضعهما، يُعتبران مباركين (قارن لو27:11). وقد قدم ذبيحة، لأنه بولادته فتح الرحم (أنظر لو23:2) وهذه كلها براهين على أن العذراء هى التى ولدته .

          وجبرائيل حمل إليها البشارة بيقين كامل ولم يقل مجرد "المولود فيك"، حتى لا يُظن أن الجسد غريب عنها ومجلوب إليها من الخارج، بل قال "المولود منك " لكى يعتقد الجميع أن المولود خارجاً منه، إذ أن الطبيعة تبين هذا بوضوح، فمن المستحيل على عذراء أن تدر لبناً إن لم تكن قد ولدت. ومن المستحيل أن الجسد يتغذى باللبن ويُقمط إن لم يكن قد وُلد بصورة طبيعية قبل ذلك .

          وهذا هو المقصود بالختان في اليوم الثامن بعد ولادته: إن سمعان تلقاه في أحضانه وهذا يدل على أنه قد صار طفل، وأنه نما حتى صار له من العمر اثنتا عشر سنة (أنظر لو21:2ـ42) إلى أن بلغ الثلاثين عاماً (أنظر لو23:3). وليس كما يظن البعض أن جوهر الكلمة نفسه قد خُتِنَ بعد أن تحوّل. لأنه لا يقبل التحوّل ولا التغيّر . لأن المخلص نفسه يقول " أنظروا، أنظرو، لأنى أنا هو، وأنا ما تغيرت " (ملاخى6:3س).

          أما بولس فيكتب قائلاً : " يسوع المسيح هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد " (عب8:13) ولكن كلمة الله غير المتألم والذي بلا جسد، كان في الجسد الذي خُتِنَ وحُمِلَ، والذي أكل وشرب، والذي تعب، والذي سُمِرّ على الخشبة وتألم .

          هذا الجسد هو الذي وُضِعَ في قبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك " ليكرز للأرواح التى في السجن " كما يقول بطرس (1بط19:3).

          6 ـ وهذا يبين بالأكثر، هوس الذين يقولون إن الكلمة قد تحوّل إلى عظام ولحم ـ فلو كان الأمر كذلك، لَما كانت هناك حاجة إلى قبر، ولكان الجسد ذاته قد مضى بنفسه ليكرز للأرواح التى في الهاوية . أما الآن فإنه مضى هو بنفسه ليكرز، أما الجسد فبعد أن كفنه يوسف بالكتان (قارن مر46:15)، وضعه في الجلجثة . وهكذا اتضح أن الجسد لم يكن الكلمة، وإنما هو جسد الكلمة. وإنه عندما قام الجسد من بين الأموات لمسه توما ورأى فيه آثار المسامير (قارن يو25:20) التى احتملها الكلمة ذاته، والتى رآها (توما) مخترقة جسد (الكلمة) ذاته، والتى كان في استطاعته أن يمنعها ولكنه لم يمنعها، بل بالعكس فإن الكلمة الذي بلا جسد خصص لنفسه خصائص الجسد باعتباره جسده ذاته . فلماذا حينما ضرب العبد، الجسد، تألم الكلمة نفسه وقال " لماذا تضربنى " (يو23:18) ورغم أن الكلمة بطبيعته لا يمكن لمسه، إلاّ أنه قال "أسلمت ظهرى للسياط، وخدى للطمات، ولم أرد وجهى عن خزى البصقات " (إش6:50).

          لأن تلك الأشياء التى كان يتألم منه، جسد الكلمة، البشرى، كان الكلمة الذي سكن في الجسد ينسبها لنفسه، لكى نستطيع نحن أن نشترك في لاهوت الكلمة .

          ومن الغريب، أن الكلمة نفسه كان متألماً وغير متألم، فمن ناحية، كان (الكلمة) يتألم لأن جسده هو الذي كان يتألم وكان هو المتألم فيه، ومن الناحية الأخرى، لم يكن الكلمة يتألم، لأن الكلمة ـ إذ هو إله بالطبيعة ـ فهو لا يقبل التألم. وكان الكلمة غير الجسدى موجوداً في الجسد الذي يتألم، وكان الجسد يحوى فيه الكلمة غير المتألم الذي كان يبيد العلل التى قبلها في جسده. وكان يصنع هذ، وهكذا كان يصير، كى، بعد أن يأخذ ما لنا (أى الجسد) ويقدمه كذبيحة، يقضى على (العلل والضعفات) كلها. وهكذا يلبسنا ما له، وهذا ما يجعل الرسول يقول : " لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت " (1كو53:15).

          7 ـ وهذه الأشياء لم تحدث بالظن، حاشا ! كما يفترض البعض، أيضاً : بل في الواقع فإنه بصيرورة المخلص إنساناً بالحقيقة، صار الخلاص للإنسان كله .

          فلو كان الكلمة في الجسد بمجرد الظن، كما يقول أولئك، فإن هذا الظن يكون ضرباً من الخيال، وبناء على ذلك فإن خلاص الإنسان وقيامته يعتبران مجرد إدعاء غير حقيقى، بحسب ما يقول مانى أشد الكافرين .

          إلاّ أن خلاصن، في واقع الأمر، لا يُعتبر خيال، فليس الجسد وحده هو الذي حصل على الخلاص، بل الإنسان كله من نفس وجسد حق، قد صلار له الخلاص في الكلمة ذاته .

          وهكذا فإن المولود من مريم هو بشرى بالطبيعة، بحسب الكتب الإلهية. وأن جسده هو جسد حقيقى، وهو حقيقى لأنه هو نفس جسدنا، حيث إن مريم هى أختنا، لأننا نحن جميعاً (هى ونحن) أيضاً من آدم .

          ولا يجب أن يرتاب في هذا، حينما يتذكر ما كتبه لوقا. لأنه بعد القيامة من بين الأموات، ظن البعض أنهم لن يشاهدوا الرب في الجسد المأخوذ من مريم، بل ظنوا بدلاً من هذا، أنهم نظروا روحاً، فكتب لوقا يقول : "أنظروايدى ورجلى " ومواضع المسامير، إنى أنا هو، جسونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى، وعندما قال هذا، آراهم يديه ورجليه" (لو40،39:24) ومن هذا الكلام نستطيع أن نفند كلام الذين يتجاسرون مرة أخرى أن يقولوا إن الرب قد تغير إلى لحم وعظام، لأنه لم يقل كما تشاهدوننى وأنا لحم وعظام، بل قال "كما ترون إنه لى" لكى لا يعتقد أحد بأن الكلمة نفسه قد تحول إلى هذه الأشياء قبل الموت، وبعد القيامة.

          8 ـ وإذ قد تم إثبات هذه الأشياء هكذا، فإنه يكون من نافلة القول أن نتعرض للموضوعات الأخرى، وندخل في جدل حوله، إذ أن الجسد الذي كان فيه الكلمة لم يكن من نفس جوهر اللاهوت، بل هو حقاً مولود من مريم. والكلمة نفسه لم يتحول إلى عظام ولحم بل قد صار في الجسد . لأن ما قيل في إنجيل يوحنا " الكلمة صار جسداً " (يو14:1) له هذا المعنى، كما يمكن أن نجد هذا في موضع مشابه، فقد كتب بولس " المسيح صار لعنة لأجلنا " (غلا13:3). وكما أنه لم يصر هو نفسه لعنة، بل قيل إنه قد صار لعنة لأنه احتمل اللعنة من أجلنا، هكذا أيض، فإنه قد صار جسداً لا بتحوله إلى جسد، بل باتخاذه لنفسه جسداً حياً من أجلنا، وصار إنساناً . لأن القول " الكلمة صار جسداً " هو مساوٍ أيضاً للقول "الكلمة صار إنساناً". حسب ما قيل في يوئيل "إنى سأسكب من روحى على كل جسد" (يو28:2) لأن الوعد لم يكن ممتداً إلى الحيوانات غير الناطقة، بل هو للبشر الذين من أجلهم قد صار الرب إنساناً .

          وبما أن هذا هو معنى النص المُشار إليه، فإنهم يدينون أنفسهم أولئك الذين يظنون أن الجسد المولود من (مريم) كان موجوداً قبل مريم، وأن الكلمة كانت له نفس بشرية قبلها (قبل مريم)، وأن هذه النفس كانت فيه دائماً حتى قبل مجيئه . وهكذا سيكف أيضاً الذين يقولون إن الجسد لم يكن قابلاً للموت، وإنه كان من طبيعة غير مائتة. لأنه لو لم يكن قد مات، فكيف إذن سلّم بولس إلى الكورنثيين ما قبله هو أيضاً : " أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب " (1كو3:15)، وكيف قام مطلقاً إن لم يكن قد مات أيضاً ؟ وسيحمّر بالخجل العظيم كل من يدور في مخيلته عموماً أى احتمال لأن يكون هناك رابوع بدلاً من ثالوث، وذلك في حالة القول إن الجسد إنما هو من مريم .

          فهم يزعمون إننا نقول، إن الجسد من نفس جوهر الكلمة، وهكذا يبقى الثالوث ثالوثاً . لأنه لا يكون هناك شئ غريب قد أُضيف إلى الكلمة، ولكن إن قلنا إن الجسد المأخوذ من مريم إنما هو بشرى، فمن الضرورى حيث إن الجسد غريب في جوهره عن الكلمة، والكلمة كائن فيه، فإن إضافة الجسد تجعل هناك رابوعاً بدلاً من ثالوث (حسب ظنهم).

          9 ـ إن الذين يتناولون هذه الأمور بهذه الطريقة، لا يدركون أنهم يقعون في تناقض مع أنفسهم، لأنهم حتى وإن قالوا إن الجسد ليس من مريم بل إنه من نفس جوهر الكلمة، (وهذا ما يتظاهرون أنهم يفكرون به، وذلك لكى لا يظهر حقيقة ما يفكرون به)، فإنه بحسب تفسيرهم هذا، يمكننا ان نوضح أنهم يقولون برابوع . لأنه كما أن الابن، بحسب الآباء، هو من نفس جوهر الآب، وليس هو الآب نفسه، بل يُقال إنه ابن من نفس جوهر الآب، هكذا جسد الكلمة (الذي يقولون) إنه من نفس جوهر الكلمة لا يكون هو الكلمة ذاته بل هو آخر بالنسبة للكلمة .. ولكونه آخر (غير الكلمة)، فإنه بحسب رأيهم يكون ثالوثهم رابوعاً .

          لأن الثالوث الحق، والكامل بالحقيقة، وغير المنفصل لا يقبل إضافة، بل إن فكرة (الإضافة) قد اختلقها هؤلاء الأشخاص .

          وكيف يمكن أن يظلوا مسيحيين أولئك الذين يخترعون إلهاً آخر مختلفاً عن الإله الكائن . ومرة أخرى فإنه في الإمكان أن نرى في سفسطتهم الأخرى منتهى الحماقة .

          لأنهم يظنون أنه بسبب ما هو موجود في الكتب وما قيل فيها من أن جسد المخلص هو من مريم وأنه بشرى، فإنهم يعتبرون بذلك أن هناك رابوعاً بدلاً من ثالوث، كما لو كانت قد حدثت إضافة بسبب الجسد، وهكذا فإن الذين يساوون الخالق بالخليقة يضلون كثير، إذ أنهم يتوهمون بأنه من الممكن أن يقبل اللاهوت إضافة . وعجزوا عن أن يدركو، أن الكلمة صار جسد، ليس لأجل إضافة (شئ ما) إلى اللاهوت، بل من أجل أن ينال الجسد قيامة. ولم يأتى الكلمة من مريم لكى يرتقى هو، بل لكى يفدى الجنس البشرى. فكيف إذن يفكرون أن الجسد وهو الذي افتداه الكلمة وأحياه، يقوم بإضافة شئ ما من ناحية اللاهوت إلى الكلمة الذي أحياه ؟ بل بالعكس فإن الجسد البشرى ذاته هو الذي حدثت له زيادة كبيرة، بسبب شركة الكلمة معه واتحاده به، لأنه (الجسد) صار غير مائت بعد أن كان مائت، ورغم أن الجسد كان حيوانياً (نفسانياً) فقد صار روحاني، ورغم أنه من تراب الأرض فقد اجتاز الأبواب السماوية .

          إذن فالثالوث هو ثالوث، رغم أن الكلمة حصل على جسد من مريم، والثالوث كامل لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا نعرف إلاّ لاهوتاً واحداً في الثالوث، وهكذا يكرز في الكنيسة بإله واحد هو أب الكلمة .

          10 ـ ومن أجل هذا فسيصمت أولئك الذين سبق أن قالوا إن الذي جاء من مريم ليس هو المسيح والرب الإله. لأنه لو لم يكن إلهاً في الجسد، فكيف بمجرد ولادته من مريم دُعىَ " عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا " (مت23:1) وأيضاً لو لم يكن هو الكلمة في الجسد، فكيف كتب بولس إلى أهل رومية : " ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين " (رو5:9). وأولئك الذين سبق لهم أن أنكروا أن المصلوب هو إله، فليعترفوا بأنهم قد أخطأوا، لأن الكتب الإلهية تحضهم ـ وبنوعٍ خاص ـ توم، الذي بعد أن رأى فيه آثار المسامير، صرخ قائلاً " ربى وإلهى " (يو28:20). لأن الابن إذ هو الله ورب المجد، كان في الجسد الذي سُمِرَ وأُهين بخزى، أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه (المطعون) دم وماء. ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءاً من اللاهوت . ولهذا السبب إذن عندما رأت الشمس خالقها وهو يتألم في الجسد المُهان، سحبت أشعته، وأظلمت الأرض ولكن الجسد نفسه، وهو من طبيعة مائتة، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذي فيه، وتوقف فساده (إضمحلاله) الطبيعى، وإذ قد لبس الكلمة الذي هو فوق الإنسان هذا الجسد، فقد صار (الجسد) غير فاسد (غير مضمحل).

          11 ـ أما بخصوص ما يتخيله بعض (الناس) الذين يقولون إنه كما صار الكلمة إلى كل واحد من الأنبياء، هكذا جاء (الكلمة) إلى إنسان واحد معين هو الذي وُلِدَ من مريم، فمن العبث أن نجادل هذا القول، حيث إن جنونهم يحوى في طياته دنيونته الواضحة . لأنه لو كان قد جاء بهذه الطريقة، فلماذا جاء هذا الإنسان من عذراء ولم يُولد هو أيضاً من رجل وامرأة ؟ فإن جميع (الأنبياء) القديسين وُلدوا هكذا (من رجل وامرأة) أما وقد جاء الكلمة هكذا (من عذراء)، فلماذا لا يُقال إن موت كل واحد (من الأنبياء) قد حدث لأجلنا، بل (يُقال هذا فقط) على موت هذا الإنسان وحده؟ وإن كان الكلمة قد سكن بيننا لفترة قصيرة، والأنبياء مثله قد أقاموا أيضاً فترة على الأرض، فلماذا يُقال عن المولود من مريم إنه استوطن بيننا "مرة واحدة عند إنقضاء الدهور " (عب26:9) وإن كان قد جاء هو، كما سبق أن جاء في القديسين (الذين قبله)، فلماذا مات جميع هؤلاء القديسين الآخرين ولم يقوموا بعد، في حين أن المولود من مريم وحده، قام في خلال فترة الثلاثة أيام ؟ .

          وإن كان الكلمة قد جاء بطريقة مماثلة لتلك التى (سبق) أن جاء بها في الآخرين، فلماذا يُدعى المولود من مريم وحده، عمانوئيل، أى الذي وُلِدَ منها جسداً مملوءاً بالألوهية ؟ لأن عمانوئيل تفسيره " الله معنا " .

          وإن كان قد جاء هكذا (أى بنفس الطريقة التى جاء بها في الأنبياء) فلماذا لا يُقال عن كل واحد من (الأنبياء) القديسين، عندما كان يأكل ويشرب ويتعب ويموت، إن (الكلمة) نفسه أكل وشرب وتعاب ومات، بل يُقال هذا فقط عن المولود من مريم وحده ؟ لأن ما تألم به هذا الجسد (جسد الكلمة) يُعتبر أن الكلمة قد تألم به .

          وبينما يُقال عن الآخرين إنهم فقط وُلدوا متناسلين يُقال في حالة المولود من مريم وحده إن " الكلمة صار جسداً " (يو14:1).

          12 ـ من كل هذا تبين أن الكلمة جاء إلى جميع الآخرين (الأنبياء) لكى يتنبأو، أما الكلمة نفسه الذي وًلد من مريم فقد اتخذ منها جسداً وصار إنسان، إذ هو بطبعه وجوهره كلمة الله، أما من جهة الجسد فهو إنسان من نسل داود ومن جسد مريم كما قال بولس (أنظر رو3:1).

          وقد أظهره الآب في الأردن وعلى الجبل قائلاً " هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت " (مت13:3). والآريوسيون أنكروه، أما نحن فنعترف به ونعبده ولا نفصل الابن عن الكلمة، بل نعرف أن الابن هو نفسه الكلمة، الذي به قد كان كل شئ، والذي به افتُدينا نحن .

          ولهذا السبب دُهشنا حقاً أن يحدث بينكم نزاع على الإطلاق حول هذه الأمور الواضحة جداً. ولكن شكراً للرب، إنه بقدر حزننا عند قراءة مذكراتكم، بقدر ما فرحنا بما انتهت إليه (هذه المذكرات). لأنهم مضوا بعد اتفاق وتصالح على الاعتراف بالإيمان الأرثوذكسى الحسن العبادة .

          وهذا في الواقع ما دفعنى أيضاً أن أكتب هذه الكلمات القليلة بعد أن أمعنت الفكر كثيراً أول، خوفاً من أن يسبب صمتى ألماً بدلاً من الفرح لأولئك الذين سببوا لنا فرحاً باتفاقهم معاً. لذلك أرجو أولاً من قدسكم وثانياً من المستمعين لهذه الرسالة أن تتقبلوا ما فيها من كلمات بضمير نقى، وإن كان فيها أى عجز من جهة التقوى فأرجو أن تصوبوه وتفيدونى. أما إن كنت قد كتبت كإنسان عامى في الكلام (2كو6:11)، أو إن كان الحديث غير جدير أو غير كامل، فاستميحكم جميعاً عذراً بسبب ضعفي في التعبير .

          سلّم على جميع الاخوة الذين معك . وكل الذين معى يسلمون عليك، ولتكن حياتك في الرب في تمام الصحة، أيها المحبوب والمشتاق إليه جداً.



 



1 تُرجمت هذه الرسالة عن اليونانية ضمن الجزء الثالث لرسائل القديس كيرلس (ترجمة الدكتور موريس تاوضروس والدكتور نصحى عبد الشهيد)، ونشرها مركز دراسات الآباء بالقاهرة سنة 1995م .

1  أى يمسك نسل إبراهيم (أنظر عب17،16:2).

2  كانت مضمنة في خطة الخلاص في قصد الله ليأخذ منها الكلمة جسداً .


 

 

 

 



المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس الكبير

رسالة القديس أثناسيوس إلى سرابيون

رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس

رسالة القديس أثناسيوس إلى أبكتيتوس

ملاحظة: هذه الترجمة من أعمال الكنيسة القبطية

الترجمة :

تُرجمت هذه الرسائل الثلاث عن اللغة اليونانية وهى اللغة الأصلية التى كتب بها القديس أثناسيوس، وقد قام بترجمها عن اليونانية الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد أستاذ اللغة اليونانية، والدكتور نصحى عبد الشهيد .

وقام كل من الدكتور وليم سليمان، والدكتور جورج حبيب بمراجعة الترجمة العربية قبل الطبع وإبداء ملاحظات مفيدة عليها .

مصدر الترجمة :

          تمت ترجمة هذه الرسائل عن " مجموعة الآباء باليونانية " المجلد رقم 33، والتى نشرتها هيئة " أبو ستوليكيس دياكونياس ـ الخدمة الرسولية " التابعة للكنيسة اليونانية، أثينا سنة 1963م. كما تمت مراجعة ترجمة الرسالتين إلى أدلفيوس وإلى أبكتيتوس على الترجمة الإنجليزية للرسالتين الموجودة بالمجلد 4 من المجموعة الثانية لآباء نيقية وما بعد نيقية، أما الرسالة إلى سرابيون فلم تُراجع على ترجمة أخرى إنجليزية لها .

فليعوض الرب كل من له تعب فى المحبة بكل بركة سمائية بحسب غناه فى المجد، ببركة صلوات القديس أثناسيوس الرسولى ..

ولإلهنا كل مجد وسجود وتسبيح الآن وإلى الأبد . آمين ،،


 
 

 




المسيح فى رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى سرابيون

 مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس عدة رسائل إلى الأسقف سرابيون أسقف تيميس (شمال الدلتا) الذى كان معاصراً للقديس أثناسيوس وصديقاً له . ومعظم رسائله المشهورة إلى سرابيون كانت عن الروح القدس . أما هذه الرسالة فهى خاصة بالدفاع عن ألوهية المسيح ضد القائلين إن الابن مخلوق، أى الآريوسيين .

          ويظهر من بداية هذه الرسالة أنها كانت جزءً من إحدى الرسائل المرسلة إلى سرابيون عن الروح القدس، ثم فُصلت بمفردها لتكون رسالة مستقلة . ففى بعض المخطوطات الأصلية باليونانية وُجدت هذه الرسالة كجزء من رسالة أثناسيوس الثانية عن الروح القدس للأسقف سرابيون، وفى مخطوطات أخرى وُجدت الرسالة مستقلة بذاتها .

          ويرجع تاريخ كتابة هذه الرسالة إلى سنة 359 أو 360م.

          ويبين القديس أثناسيوس فى هذه الرسالة ببراهين متعددة استحالة أن يكون الابن مخلوق، بل هو من " نفس جوهر الآب، أو " واحد مع الآب فى الجوهر " Homoousios، وهى الكلمة التى استعملها قانون إيمان مجمع نيقية سنة 325 لتأكيد ألوهية المسيح ابن الله المتجسد .

 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس

إلى الأسقف سرابيون

ضد القائلين بخلقة الابن

          1 ـ كنت أظن أن ما سبق أن كتبته ليس إلاّ كلمات قليلة، وهذا سَبّب لى إحساساً بالوهن الشديد لكونى عاجزاً عن الكتابة بمثل ما يليق بالإنسان أن يقوله عن الروح القدس وضد الذين يكفرون بالروح القدس. وبما أن ـ بعض الاخوة ـ كما تقول استحقوا أن يقوموا أيضاً باجتثاث هذه الأمور، لهذ، فقد قمت بالكتابة لكى يكون عندهم الاستعداد أيضاً أن يجاوبوا ـ بواسطة هذه الكلمات القليلة، أولئك الذين يسألون عن الإيمان الذى فينا وأن يدحضوا الكافرين (عديمى التقوى) بجراءة . ولقد قمت بالكتابة إليك، وأثق أنه إذا كان فيها أى نقص فإنك ستكمله .

          إن الآريوسيين تحولوا هم أنفسهم، وفكروا بنفس طريقة تفكير الصدوقيين، بأنه ليس شئ أعظم منهم أو خارجاً عنهم ـ إنهم أخذوا كتابات الوحى الإلهى وفهموها بمفاهيم وظنون بشرية (جسدية). وحينما يسمعون (الكتب المقدسة تقول) إن ابن الآب هو الحكمة والبهاء والكلمة، فإنهم اعتادوا أن يقولوا : كيف يمكن أن يكون هذا ؟ كأنه يمكن أن يكون غير ذلك، وهذا هو الأمر الذى لا يستطيعون أن يفهموه . فهل حان الوقت لكى يفهموا هذا الأمر فيما يخص وجود كل الأشياء .

          فكيف تستطيع الخليقة ـ وهى غير كائنة البتة ـ أن تكون (وتوجد) ؟، أو كيف يتسنى لتراب الأرض أن يصيغ إنساناً عاقلاً ؟ أو كيف يستطيع الفانى أن يكون غير فانٍ ؟، أو كيف وضع الله أساسات الأرض على البحار، وثبتها على مجارى الأنهار)أنظر مز2:24) ؟ . وكذلك ينطبق عليهم القول القائل " لنأكل ونشرب لأننا غداً نموت " (1كو32:15) ـ لكى يهلك معهم أيضاً جنون آريوسيتهم عندما يهلكون .

          2 ـ إن تفكير الآريوسيين فانٍ وفاسدٍ، وأما كلمة الحق التى كان يليق أن تكون فى فكرهم فهى هكذا : إن كان المصدر (المنبع) والنور، والآب هو الله، فليس من العدل أن يُقل إن المصدر (الينبوع) بلا ماء ولا أن يكون النور بلا إشراق، ولا الله بغير كلمة، حتى لا يكون الله غير حكيم أو غير ناطق أو بغير نور. ولهذا السبب نفسه، فكما أن الآب أزلى يلزم أيضاً أن يكون الابن أزلياً كذلك . لأن كل ما نفكر به من جهة الآب فهو بلا شك للابن أيض، كما يقول الرب نفسه " كل ما هو للآب فهو لى " (يو15:16) وكل ما هو لى فهو للآب. لذلك فإن الآب أزلى، والابن أزلى أيض، لأنه بواسطته قد تكونت الدهور( قارن عبرانيين 2:1) فكما أن الآب كائن كذلك فمن الضرورى أن يكون الابن أيضاً كائن، " الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين "(رو5:9) كما قال الرسول بولس. وكما أنه لم يجرِ العرف على أن يُقال عن الآب إنه جاء إلى الوجود على اعتبار أنه لم يكن موجود، هكذا ليس من اللائق أن يُقال عن الابن إنه جاء إلى الوجود لأنه لم يكن موجوداً ـ فالآب قادر على كل شئ، والابن قادر على كل شئ، كما يقول يوحنا " الكائن والذى كان والذى سيكون القادر على كل شئ "( رؤ8:1). الآب نور، والابن شعاع ونور حقيقى . الآب إله حقيقى والابن إله حقيقى. لأنه هكذا كتب يوحنا " ونحن فى الحق، فى ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية "(1يو20:5) فليس هناك شئ على الإطلاق يخص الآب دون أن يخص الابن أيضاً . ولأجل ذلك فإن الابن هو فى الاب، والآب هو فى الابن . وحيث إن أمور الآب هذه هى فى الابن، فإن هذه الأمور نفسها أيضاً تُدرك فى الآب وهكذا يُفهم القول " أنا والآب واحد "( يو9:14) حيث إنه ليس فيه (فى الآب) أشياء وفى الابن أشياء غيره، بل إن ما فى الآب هو فى الابن . وحيث إنك ترى فى الابن ما تراه فى الآب، لذلك فلتفكر جيداً فى قول الرب " من رآنى فقد رأى الآب " (يو9:14).

          3 ـ وهكذا إذ قد برهنا على هذه الأشياء، فإنه من عدم التقوى أن يُقال إن الابن مخلوق . لأنه فى تلك الحالة سيكون هناك اضطرار للقول بأن الينبوع المتدفق مخلوق، وأن الحكمة مخلوقة، وأن الكلمة مخلوق فى حين أن كل الأشياء هى خاصة بالآب . ومن هذه الأشياء يمكن للواحد منا أن يتبين عدم صحة ما فهمه مجانين الآريوسية. ولو كنا نحن متشابهين، ولنا شخصيتن، ونحن من جوهر واحد، لذا فالبشر متشابهون إذ لهم شخصيتهم، ولنا جوهر واحد بعضنا مع بعض. إذ للجميع نفس الجوهر، المائت الفاسد، المتغير، المخلوق من العدم . والملائكة أيضاً لهم نفس الطبيعة فيما بينهم وبين انفسهم وكذلك أيضاً جميع الخلائق الأخرى بالمثل. وإذا صح هذا الأمر فكيف يبحث المتشككون إن كان هناك أى تشابه بين الابن والمخلوقات، أو كانت الأشياء التى تخص الابن يمكن أن توجد بين الأشياء المخلوقة، فكيف تجرؤ الخليقة أن تنطق كلمة الله. ولكن ليت الساقطين والضالين لا يمسون إطلاقاً ما يخص التقوى ـ فإنه ليس بين المخلوقات من هو ضابط للكل، وليس هناك (ضابط للكل) يضبط ويحفظ ضد ضابط آخر، لأن كل واحد منهما يكون خاصاً بالله. لأن " السموات تتحدث بمجد الله " (مز2:18) أما " الأرض وملؤها فهى للرب " (مز1:23) و " البحر رآه فهرب " (مز3:113) وكل خدامه المختصون بالعمل : "عاملون كلمته " (قارن مز20:102)، وطائعون أمره. فالابن ضابط الكل، مثل الآب . وهذا هو ما كُتب وأُثبت. ومرة أخرى أيض، فإنه لا يوجد بين المخلوقات ما هو غير متغير بطبيعته. لأن بعض الملائكة لم يحفظوا رتبتهم الخاصة بهم، فحتى "الكواكب غير طاهرة أمامه "( أيوب 5:25) . وقد سقط الشيطان من السماء، وحذا آدم حذوه، وكذلك أيضاً كل الذين يعصون الله . أما الابن فهو غير متغير وغير قابل للتحول كالآب تماماً . وها هو بولس يرجع بذاكرته إلى ما جاء فى المزمور 101 فيقول " وأنت يارب فى البدء أسست الأرض، والسموات هى عمل يديك. هى تزول وأنت تدوم، وكلها كثوب ستبلى . وكرداء تطويها فتتغير أما أنت فكما أنت وسنوك لن تفنى " (عب10:1ـ12). ومرة أخرى يقول " يسوع المسيح هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد " (عب8:13).

          4 ـ وأيضاً فإن الأشياء التى وُجدت، لم تكن موجودة ثم بعد ذلك وُجدت . لأنه صنع الأرض من العدم . وهو " الذى يدعو الأشياء غير الكائنة كأنها كائنة " (رو17:4) وهى مصنوعة ومخلوقة ولذلك كانت هناك بداية لوجود هذه الأشياء . لأنه " فى البدء خلق الله السموات والأرض "   (تك1:1) وكل ما فيها . إذ يقول أيضاً " يدى صنعت هذه الأشياء " (إش2:66) والابن أيضاً هو إله كائن على الدوام كالآب أيضاً . وهكذا فإن هذا هو التعليم الذى قبلناه وتسلمناه، فإنه ليس مخلوقاً بل خالقاً . وهو ليس البيت المبنى بل هو بانيه، وصانع أعمال الآب . لأنه به صارت الدهور (العالمين) (عب2:1) وبغيره لم يتكون أى شئ (يوحنا3:1). كما علّم الرسول بما جاء فى المزمور، لإنه " من البدء أسس الأرض والسموات هى عمل يديه " (10:1، مز26:101). وأيضاً فليس شئ من المخلوقات هو بالطبيعة إله. بل إن كل الأشياء المخلوقة تكونت، وهذه الأشياء سُميت : الواحدة سماء، والأخرى أرضاً والبعض أنوار فى السماء وأخرى نجوماً، والبعض بحراً وأغواراً عميقة ودواباً وأخيراً الإنسان. وقبل كل هذه المخلوقات، خلق ملائكة ورؤساء ملائكة، وشاروبيم، وقوات، ورئاسات وسلاطين، وأرباب، وفردوساً . وهكذا ظل كل واحد من المخلوقات موجوداً. فحتى إذ دُعيت آلهة فهى ليست آلهة بالطبيعة، بل عن طريق اشتراكها فى الابن. لأنه هكذا قال أيضاً " إن كان قد قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله" (يو35:10) وعلى هذا الأساس فلكونهم ليسوا آلهة بالطبيعة، فإنهم عندما يلتقون، يسمعونه قائلاً " أنا قلت أنكم آلهة، وبنو العلى كلكم، ولكنكم كأناس تموتون " (مز6،7:81). بعد أن استمع لقولهم " أنت إنسان ولت إلهاً " . أما الابن فهو إله حقيقى كالآب لأنه كائن فى الآب والآب كائن فيه . وهذا ماكتبه يوحنا بحسب ما قد أُعلن له . كما يرتل داود " كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، صولجان استقامة، صولجان ملكك " (مز7:44) وإشعياء النبى يصرخ قائلاً : " تعب مصر وتجارة الأثيوبيين، والسبئيون ـ الرجال ذوو القامة ـ إليك سيعبرون ويسيرون خلفك وهم مقيدون بالأغلال، وسيسجدون لك لأن الله فيك . لأنك أنت هو إله إسرائيل ولم نكن نعرف " (إش15،14:45) فمن هو إذن الإله الذى يكون الله فيه إن لم يكن هو الابن القائل " أنا فى الاب والآب  فىّ " (يو10:14).

          5 ـ فبما أن هذه الأشياء قد حدثت وكُتبت، فمن يجهل أن كل ما هو للآب فهو للابن، حيث إن الابن ليس شبيه بين المخلوقات، لأن الابن هو من نفس جوهر الآب ؟ . فإنه إن كان هناك شبه بين مخلوق وآخر فإنه يكون بينهما قرابة أيضاً إذ هما من نفس الجوهر، هكذا يكون الغريب أيضاً بالنسبة لجوهر الأشياء المخلوقة . وبالمثل أيضاً فإن كلمة الآب لا يكون مختلفاً عن الآب . وطالما أن له كل ما هو للآب فمن المعقول أن يكون من نفس جوهر الآب، لأن الجوهر المخلوق لا يستطيع أبداً أن يقول " كل ما للآب هو لى" (يو15:16). لأن الجوهر المخلوق إذ له بداية تكوين، ليس كائناً بذاته، أما الله فهو كائن منذ الأزل . ولهذا فحيث إن الابن له كل هذه الصفات، وكل ما قيل عن الآب قبل ذلك، هو عن الابن أيضاً فمن الضرورى أن يكون جوهر الابن غير مخلوق، بل هو واحد مع الآب فى الجوهر . وبالإضافة إلى ذلك فإنه بحسب هذا الأمر لا يجوز أن تُنسب لأى جوهر مخلوق الخصائص الخاصة بالله . فمن بين تلك الخصائص المتعلقة به، والتى يُعرّف بها الله : أنه ضابط الكل، وأنه الكائن، وأنه غير المتغير، والصفات الأخرى التى سبق أن أخبرنا به، حتى لا يبدو الله ذاته من نفس جوهر المخلوقات، كما يقول الجهلاء أنه يمتلك ما يستطيع أن يحصل عليه مثله مثل المخلوقات .

          6 ـ وهكذا يمكن للإنسان أن يكشف ويفضح ويدحض تجديف الذين يقولون بأن كلمة الله مخلوق . إن إيماننا بالآب والابن والروح القدس، نابع من قول الابن نفسه للرسل : " اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس " (مت19:28) لقد تكلم هكذا حتى نعرف وندرك، تلك الأمور التى سبق الإخبار بها. لذا فمثلما قلنا إن الآباء هم مصدر الأبناء، ومع ذلك فهم والدون ولم يقل أحد إننا نحن أنفسنا خِلقة آبائنا بل أبناء لهم بالطبيعة، ومن نفس جوهر آبائنا . وهكذا فإن كان الله أب، فمما لا شك فيه أنه أب لابن بالطبيعة وهذا الابن الابن هو من نفس جوهره . فإبراهيم إذن لم يخلق اسحق بل وَلَده، أما بصلئيل وأليآب فلم يَلِدَا كل الأعمال التى فى الخيمة بل صنعاها (خر1:36). وصانع السفن، والبنّاء لا يلدان ما يصنعان بل كل واحد منهما يعمل : فالأول منهما يصنع السفينة والثانى يبنى المنزل . ومع ذلك فإن اسحق لم يصنع يعقوب بل وَلَده بالطبيعة ومن جوهره. وهكذا كان يعقوب أباً ليهوذا واخوته. فكما أن أى شخص يُعتبر مجنوناً إذا قال إن المنزل من نفس جوهر البانى الذى بناه، وإن السفينة هكذا أيضاً بالنسبة لصانعه، فإنه يكون من اللائق والمناسب أن يُقال إن كل ابن هو من نفس جوهر أبيه نفسه . فلو كان الآب هكذا مع الابن أيضاً، فمن الضرورى أن يكون الابن، ابناً بالطبيعة، وبالحقيقة، وهذا هو الجوهر الواحد مع الآب كما يتضح من أمور كثيرة . ففيما يختص بالمخلوقات يقول " لأنه تكلم فصارو، لأنه أمر فخُلقوا " (مز5:148) أما عن الابن فيقول " فاض قلبى بكلام صالح " (مز1:45). ودانيال عرف ابن الله، وعرف أعمال الله، ورأى الابن يُطفئ الأتون، وقال عن هذه الأعمال " باركى الرب يا جميع أعمال الرب" [1]  وقد أحصى جميع المخلوقات ولكنه لم يحصِ الابن بينه، عارفاً أنه (أي الابن) ليس من بين أعمال الرب بل أن هذه الأعمال قد صارت بواسطته، وهو فى الاب مُمجد ومُعظم ومُكرّم غاية التكريم . إذن كما أن الله ظهر وأُعلن بواسطته للعارفين، هكذا أيضاً فإن البركة والتسبيح والمجد والقدرة يُعترف بها للآب بواسطته وفيه، كى يصير مثل هذا الاعتراف مقبولاً أيض، كما تقول الكتب . إذاً يتضح ويتبين من هذا كله أن من يقول إن كلمة الله مخلوق، فهو مُجدف وعديم التقوى .

          7 ـ ولكن بما أنهم يتعللون بالمكتوب فى الأمثال " الرب خلقنى بداية طرقه لأجل أعماله " (أم22:8) ويرددون مع أنفسهم قائلين ها قد خلق، وها هو المخلوق . لذلك فمن الضرورى أيضاً أن نوضح من هذا أنهم يضلون كثيراً غير عالمين هدف الكتاب الإلهى . إذن فإن كان هو الابن فحاشا أن يُقال إنه مخلوق . وإن كان مخلوقاً فحاشا أن يُقال إنه ابن . لأننا قد برهنا فيما سبق على أنه يوجد اختلاف كبير بين المخلوق والابن . وحيث إن معنى الكمال لا يشمل الخالق والمخلوق بل الآب والابن، فالضرورة تمنع أن يُقال إنه مخلوق، بل بالحرى أن يُقال إن الرب ابن . وقد يقول البعض، ألم يكن هذا مكتوباً إذن ؟ . نعم قد كُتب، ولكن من الضرورى أن يُقال إن الهراطقة، يفكرون تفكيراً سيئاً فى الأقوال الحسنة. لأنهم لو فهموا وعرفوا خاصية المسيحية  لَما قالوا إن رب المجد مخلوق، ولَما تعثروا فى الكلام الصالح المكتوب. لذلك فأولئك " لم يعرفوا ولم يفهموا " (مز5:81) كما هو مكتوب " يسيرون فى الظلام " (يو35:12) ومع ذلك فمن الضرورى أن نتكلم لكى يظهر أن أولئك أغبياء فى هذ، ولا نسكت عن إقامة الدليل ضد كفرهم حتى وإن تراجعوا عنه. فالخاصية التى تميز الإيمان بالمسيح هى هذه : أن ابن الله هو كلمة الله لأن " فى البدء كان الكلمة .. وكان الكلمة الله " (يو1:1) وهو حكمة الآب وقوته " لأن المسيح هو قوة الله وحكمة الله "(1كو24:1) هذا الذى صار إنساناً فى آخر الدهور لأجل خلاصن، لأن يوحنا نفسه الذى قال " فى البدء كان الكلمة " ما لبث بعد قليل أن قال " والكلمة صار جسداً " (يو14:1)، هذا القول يعنى أنه قد صار إنساناً . والرب أيضاً يقول عن نفسه " لماذا تطلبون أن تقتلونى وأنا الإنسان الذى قد كلمكم بالحق " (يو40:8) وبولس الذى تعلم منه اعتاد أن يقول " إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الإنسان المسيح يسوع " (1تيمو5:2) فالإنسان الذى كوّنَ الأجناس البشرية ودبره، وطرد الموت وأبطله عن، يجلس الآن عن يمين الآب وهو كائن فى الآب والآب كائن فيه، كما كان دائماً وسيكون إلى الأبد .

          8 ـ إن هذه الخاصية قد وصلتنا من الرسل بواسطة الآباء، لذلك يجب أن نختبر ونميز ما جاء بالكتاب، فإنه أحياناً يتكلم عن ألوهية الكلمة وأحياناً أخرى عن إنسانيته، لدرجة أن الإنسان يمكن أن يضل إذا لم يفهم الخاصيتين (ألوهيته وإنسانيته)، مثلما حدث للآريوسيين. ومن أجل ذلك، كما أننا نعرف الكلمة نفسه، ونعرف أن " به كان كل شئ وبغيره لم يكن شئ واحد مما كان " (يو2:1) وأيضاً " بكلمة الرب تأسست السموات " (مز6:32) وأيضاً "أرسل كلمته وشفى الكل " (أنظر مز20:106) ولأننا نعرف أنه هو الحكمة، نعلم أن الله "أسس الأرض بالحكمة " (أم19:3) وصنع الآب كل شئ بحكمته (مز24:103). ولأننا نعرف أنه إله قد آمنا أنه هو المسيح، لأن " عرشك، يا الله " كما يرتل داود، "إلى دهر الدهور، صولجان استقامة صولجان ملكك أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابنتهاج أكثر من شركائك " (مز8،7:44). وفى إشعياء يقول عن نفسه " روح الرب علىَّ لأنه مسحنى " (إش1:61) أما بطرس فقد اعترف قائلاً : " أنت هو المسيح ابن الله الحى " (مت16:16). وهكذا لأننا نعرف أنه صار إنسان، فإننا لا ننكر الأقوال المتعلقة بإنسانيته ألاّ وهى الجوع والعطش والضرب والبكاء والنوم وفى النهاية قبول الموت من أجلنا على الصليب . لأن كل هذه الأشياء قد كُتبت عنه .

          وهكذا أيضاً فإن الكتاب لم يُخفِ، بل قال إن كلمة " خُلِقَ " تناسب البشر (ما هو بشرى) لأننا نحن البشر مخلوقون ومصنوعون. ورغم أننا سمعنا أنه جاع ونام وضًرب إلاّ أننا لا ننكر ألوهيته، نحن الذين نسمع كلمة " خُلِقَ "، بل نتبع ما يتفق مع تذكرنا لله لأن الله كائن أما الإنسان فقد خُلِقَ . لأن الخلقة تخص الناس مثلما قيل من قبل عن الجوع وما شابهه .

          9 ـ ولأن ذلك الذى يُقال عنه إنه صالح وجميل يعتبر لديهم قبيحاً ورديئ، أقول بالتأكيد إنه حسن أنه أخذ فى اعتباره عندما قال " أما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد، ولا الملائكة ولا الابن " (مر32:13) لأن أولئك الذين يفكرون فى القول " ولا الابن "، يعنون به أن الابن مخلوق . وحاشا أن يكون هكذا . لأنه عندما يقول " خلقنى " فإنه يتكلم بشري، وعندما يقول " ولا الابن " فإنه يتكلم عن المعرفة البشرية . وهناك سبب معقول يجعله يقول مثل هذا القول، إذ بما أنه قد صار إنسان، كما هو مكتوب، فإنه يكون مشابهاً للبشرية تماماً فى عدم المعرفة، كما فى الجوع وغيره من الصفات (البشرية) (لأنهم لا يعرفون إن لم يسمعوا ويتعلموا).

          من أجل هذا أيضاً، فإنه إذ قد صار إنساناً فقد أظهر جهل البشر فى نفسه، أولاً لكى يُظهر أن له جسداً بشرياً حقاً، وثاني، لكى ـ عندما يكون له فى جسده جهل البشر، يقدم للآب جنساً بشرياً مُفتدى من بين الجميع، وطاهراً وكاملاً ومقدساً .

          فهل لا يزال يوجد لدى الآريوسيين أى إدعاء يدّعون به . فلماذا إذن يتهامسون ويدمدمون عندما يفكرون فى هذا الأمر. لقد أُدينوا لأنهم لا يعرفون " الرب خلقنى .. لأجل أعماله " وظهروا بأنهم لا يفهمون " أما ذلك اليوم فلا يعلم به أحد ولا الملائكة ولا الابن " .

          لأن ذلك مثل من يقول إن " خلق " الإنسان تعنى، أن الإنسان قد تكوّنَ وخُلِقَ . أما ذلك الذى يقول " أنا والآب واحد " (يو30:10) وأيضاً " من رآنى فقد رأى الآب " (يو9:14) و " أنا فى الآب والآب فىّ " (يو10:14) فهذه الأقوال تعنى الأزلية والوحدة مع الآب فى الجوهر .

          ولذلك فإن من يقول " لا أحد يعرف ولا الابن " فإنه يقول هذا كإنسان صار مشابهاً للبشر تماماً فى عدم المعرفة . أما من يقول " لا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ولا أحد يعرف الابن إلاّ الآب " (مت27:11) فإنه بالأحرى يعرف الأشياء المخلوقة أكثر بكثير، فإن التلاميذ قالوا للرب فى إنجيل يوحنا "الآن نعرف أنك تعلم كل الأشياء " (يو30:16) إذن فمن الواضح أنه لا يوجد شئ لا يعرفه ذلك الذى هو الكلمة الذى به صار كل شئ . وذلك اليوم " هو حتماً من بين تلك الأشياء التى تصير به، وهكذا فإن الآريوسيين يتمزقون أرباً ربوات المرات بسبب جهالتهم .

 

 



33  دانيال (تسبحة الثلاث فتية) .


 

 

 

 


المسيح في رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى أدلفيوس

 

مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس هذه الرسالة إلى أدلفيوس المعترف أسقف أونوفيس سنة 370م . وأدلفيوس أسقف مصرى كان الآريوسيون قد نفوه قبل ذلك إلى صعيد مصر ولذلك يُسمى المعترف . ورسالة أثناسيوس هذه إلى أدلفيوس هى رد على خطاب أرسله أدلفيوس إلى أثناسيوس يذكر فيه اتهام الآريوسيين للمستقيمى الرأى الذين يعترفون بإيمان مجمع نقية، بعبادة المخلوق.

          ويقرر القديس أثناسيوس إننا في عبادتنا للمسيح، لا نعبد مخلوق، ولكننا نعبد كلمة الله المتجسد، وأنه لا يمكن الفصل بين إنسانية المسيح وبين ألوهيته.

          كما يوضح القديس أثناسيوس الهدف من التجسد قائلاً " وإن كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فإن هذا الأمر لا يسبب لنا عاراً بل على العكس مجداً ونعمة عظمى . لأنه قد صار إنساناً لكى يؤلهنا في ذاته، ووُلد من عذراء كى ينقل إلى نفسه جنسنا (نحن البشر) الذين ضُلِّلن، ولكى نصبح بذلك جنساً مقدسا ونصير شركاء الطبيعة الإلهية ـ كما كتب بطرس المُطوب ".



 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس

إلى

أدلفيوس المعترف

ضد الآريوسيين

          1 ـ لقد قرانا ما قد كتبته قدسك، ونوافق حقاً على تقواك من نحو المسيح . وقبل كل شئ مجدّنا الله الذى اعطاك هذه النعمة، حتى يكون لك أيضاً فكر مستقيم، وحتى لا تجهل حيل الشيطان، بقدر المستطاع .

          إننا ندهش لسوء نية الهراطقة، ونحن نرى كيف قد سقطوا إلى هوة الكفر (عدم التقوى) حتى هذه الدرجة حتى أنهم لم يعودوا بعد يحفظون بصائرهم، بل قد فسد ذهنهم من كل ناحية .

          ولكن هذه المحاولة إنما هى من إيحاء الشيطان، ومحاكاة لليهود المخالفين للشريعة . وكما أن هؤلاء (اليهود) حينما نالوا التوبيخ من كل ناحية، ظلوا يخترعون ذرائعاً لضرر أنفسهم، لكى ينكروا الرب ويجلبوا على أنفسهم ما سبق أن تنبأ به الأنبياء، فبنفس الطريقة فإن هؤلاء الناس، إذ يرون أنفسهم محرومين من كل ناحية، ولأنهم رأوا أن هرطقتهم قد صارت كريهة جداً لدى الجميع فقد صاروا " مخترعين شروراً " لكى يظلوا بالحقيقة أعداء للمسيح، إذ أنهم لا يكفون في محاربتهم ضد الحق .

          فمن أين نبع لهم إذن هذا الشر أيضاً ؟ وكيف تجاسروا على أن ينطقوا بهذا التجديف الجديد ضد المخلص بمثل هذه الجسارة الكلية ؟. ولكن كما يبدو، فإن الرجل المجدف هو شرير، ومرفوض حقاً من جهة الإيمان    (2تيمو8:3).

          لأنهم قبل ذلك بينما هم ينكرون ألوهية ابن الله الوحيد الجنس، تظاهروا بأنهم يعترفون بمجيئه في الجسد . أما الآن، فإنهم تراجعوا تدريجي، وسقطوا في فكرهم الوهمى، وصاروا كافرين من جميع النواحى، حتى أنهم لا يعترفون به بأنه إله، ولا يؤمنون بأنه قد صار إنساناً . لأنهم لو كانوا يؤمنون بهذ، لَما نطقوا بمثل تلك الأقوال التى كتبتَ قدسك ضدهم بخصوصها .

          2 ـ لذلك فأنت أيها الحبيب، والمشتاق إليه جداً بالحق، قد صنعت ما هو موافق لتقليد الكنيسة، ومناسب للتقوى نحو الرب، بتوبيخك ونصحك وتعنيفك لمثل هؤلاء . ولكن حيث إنهم مُحرَّكون من أبيهم الشيطان، فإنهم " لا يعرفون ولا يفهمون " كما هو مكتوب بل " في الظلمة يتمشون " (مز5:81).

          فليتعلموا من قدسك أن ضلال فكرهم هذا إنما هو خاص بفالنتينوس وماركيون ومانى [1] فالبعض من هؤلاء استبدلوا (في الشرح) المظهر بالحقيقة، والبعض الآخر قسموا ما لا ينقسم . وأنكروا حقيقة أن " الكلمة صار جسداً  وسكن فينا (يو14:1).

          وحيث إنهم يفكرون بأفكار هؤلاء الناس، فلماذا إذاً لا يكونون ورثة لأسمائهم أيضاً ؟ فماداموا يعتنقون آراءهم الخاطئة، فمن المعقول أن يتخذوا أسماءهم أيض، لكى يُطلق عليهم من الآن فصاعداً : فالنتينيون، وماركيونيون ومانويون . وربما إذا كان الأمر كذلك، فبسبب إحساسهم بالعار من نتانة أسماء (هؤلاء)، فربما يستطيعون أن يدركوا مدى الكفر (عدم التقوى) الذى سقطوا فيه . ويكون من حقنا ألاّ نرد عليهم إطلاقاً بحسب التحذير الرسولى " الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرة ثانية، أعرض عنه، عالماً أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوماً عليه من نفسه " (تى11،10:3) وبنوعٍ خاص ما يقوله النبى عن مثل هؤلاء " لأن الغبى (اللئيم) يتحدث تفاهات، وقلبه يتفكر في أمور باطلة " (إش6:32).

          ولكن بما أنهم مثل زعيمهم (آريوس)، يجولون كأسود ملتمسين من يبتلعونه (قارن 1بط8:5) من بين المستقيمى القلوب ـ لأجل ذلك صار لزاماً علين، أن نكتب لقدسك ثانية، حتى أن الاخوة بعد أن يتعلموا ثانية من نصائحك، يستطيعون أن يدينوا أكثر، تعاليم هؤلاء الناس الباطلة .

          3 ـ نحن لا نعبد مخلوق، حاشا ! لأن مثل هذا الضلال إنما هو خاص بالوثنيين والآريوسيين . ولكننا نعبد رب الخليقة كلمة الله المتجسد . لأنه إن كان الجسد نفسه، في حد ذاته هو جزء من عالم المخلوقات، إلاّ أنه صار جسد الله . فنحن من ناحية، لا نفصل الجسد عن الكلمة، ونعبد مثل هذا الجسد في حد ذاته، ومن ناحية أخرى، عندما نريد أن نعبد الكلمة، فإننا لا نفصل الكلمة عن الجسد، ولكننا ـ كما سبق أن قلنا ـ إذ نعرف أن "الكلمة صار جسداً " فإننا نعرفه كإله أيض، بعد أن صار في الجسد. وتبعاً لذلك، فمن هو أحمق إلى هذه الدرجة حتى يقول للرب " انفصل عن الجسد لكى أعبدك ؟" . أو من هو عديم التقوى لدرجة أن يقول له مع اليهود الحمقى " لماذا وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً " (يو33:10). ولكن الأبرص لم يكن من هذا النوع، فإنه عَبَدَ الله في الجسد، وعرف أنه الله قائلاً "يارب، إن أردت تقدر أن تطهرنى "  (مت3:8)، فهو من ناحية لم يظن أن كلمة الله مخلوق، بسبب الجسد، ومن الناحية الأخرى لم يحتقر الجسد الذى كان يلبسه (الكلمة) بسبب أن الكلمة هو خالق الخليقة . ولكنه عَبَدَ خالق الكون كما في هيكل مخلوق، وهكذا تطهر. وهكذا أيضا المرأة نازفة الدم لأنها آمنت، فقد اكتفت بلمس هدب ثوبه وشفيت (مت20:9ـ22). والبحر المضطرب بأمواجه، سمع الكلمة المتجسد، فكفت العاصفة (مت11:8). والأعمى منذ ولادته قد شُفي بتفلة الجسد من الكلمة (يو6:9). وما هو أعظم وأكثر غرابة (لأن هذا ربما يكون قد أعثر أكثر الناس كفراً) فإنه حينما عُلق الرب على الصليب فعلاً (لأن الجسد كان جسده، وكان الكلمة في الجسد)، فقد أظلمت الشمس والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، وانشق حجاب الهيكل (لو45:23)، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين (مت52،51:27).

          4 ـ إن هذه الأشياء قد حدثت، ولم يجادل أحد من أولئك ـ مثلما يتجاسر الآريوسيون الآن أن يجادلوا فيما إذا كان يجب على الإنسان أن يؤمن بالكلمة المتجسد . بل عند رؤيتهم إياه إنساناً عرفوا أنه هو الذى خلقهم . وحينما سمعوا صوتاً بشري، لم يكونوا يقولون إن الكلمة مخلوق بسبب بشريته . بل بالعكس كانوا يرتعدون، ولم يعرفوا شيئاً أقل من أنه كان ينطق به من هيكل مقدس. فكيف إذن لا يخاف عديمو التقوى، لئلا كما أنهم لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، ربما يسلمهم إلى ذهن مرفوض ليفعلوا تلك الأشياء التى لا تليق (أنظر رو28:1) لأن الخليقة لا تعبد المخلوق، وأيضاً هى لم ترفض أن تعبد ربها بسبب الجسد . ولكنها كانت ترى خالقها في الجسد، " وانحنت كل ركبة " باسم يسوع، حق، "وستنحنى (كل ركبة) ممن في السموات ومن على الأرض ومن تحت الأرض وسيعترف كل لسان ـ حتى لو كان هذا لا يروق للآريوسيين ـ أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب (في11،10:2)، لأن الجسد لم يقلّل من مجد الكلمة، حاشا : بل بالأحرى فإن الجسد نفسه قد تمّجد بالكلمة.

          والابن الكائن في صورة الله، أخذ صورة عبد، وهذا لم يُنقص من ألوهيته، بل هو بالأحرى قد صار بذلك مخلصاً لكل جسد ولكل خليقة .

          وإن كان الله قد أرسل ابنه مولوداً من امرأة، فإن هذا الأمر لا يسبب لنا عاراً بل على العكس مجداً ونعمة عظمى. لأنه قد صار إنساناً لكى يؤلهنا في ذاته . وقد صار (جسداً) من امرأة ووُلد من عذراء كى ينقل إلى نفسه جنسنا (نحن البشر) الذين ضُلِّلنا، ولكى نصبح بذلك جنساً مقدس، ونصير شركاء الطبيعة الإلهية (2بط4:1) كما كتب بطرس المُطوب . وما " كان الناموس عاجزاً عنه إذ أنه كان (الناموس) ضعيفاً بواسطة الجسد، فإن الله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية، ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد " (رو3:8).

          5 ـ إذن، فالكلمة أخذ جسد، لأجل تحرير كل البشر، ولإقامة الجميع من بين الأموات، ولكى يصنع فداءً من الخطايا . فأولئك الذين يستخفون بهذا الأمر (الجسد)، أو الذين بسبب الجسد يتهمون ابن الله بأنه مصنوع أو مخلوق، كيف لا يظهر أنهم جاحدون للنعمة ومستحقون لكل اشئمزاز ونفور؟ فكأنهم بذلك يصرخون قائلين لله : لا ترسل ابنك الوحيد الجنس في الجسد، ولا تجعله يتخذ جسداً من عذراء لكى لا يفتدينا من الموت ومن الخطيئة، ولا نريده أن يصير في الجسد لكى لا يقاسى الموت من أجلن، ولا نرغب في أن يصير في الجسد لئلا يصير بهذا الجسد وسيطاً لنا للدخول إليك فنسكن في المنازل التى في السموات. فلتغلق أبواب السموات، لكيلا يكرّس لنا كلمتك الطريق في السموات بواسطة الحجاب الذى هو جسده. هذه هى الأقوال التى يتفوه بها أولئك الناس بجرأة شيطانية، وهى إدعاءات اخترعوها لأنفسهم نابعة من حقدهم. لأن الذين يرفضون أن يعبدوا الكلمة الصائر جسد، هم جاحدون لنعمة صيرورته إنساناً .

          والذين يفصلون الكلمة عن الجسد، لا يحسبون أنه قد حدث فداء واحد من الخطيئة، ولا يحسبون أنه قد تم اندحار للموت .

          ولكن على وجه العموم، أين سيجد الكافرون، الجسد الذى اتخذه المخلص، منفصلاً عنه، حتى يتجاسروا أن يقولوا أيضاً : إننا لا نعبد الرب متحداً بالجسد بل نفصل الجسد ونعبد الكلمة وحده ؟

          لقد رأى اسطفانوس المغبوط، الرب واقفاً في السموات، عن يمين (الله) (أع55:7)، والملائكة قالوا للتلاميذ " سيأتى هكذا بنفس الطريقة التى رأيتموه بها منطلقاً إلى السماء " (أع11:1) والرب نفسه يقول مخاطباً الآب " أريد أن يكونوا هم أيضاً معى على الدوام حيث أكون أنا " (قارن يو24:17) وفي الواقع، إن كان الجسد غير منفصل عن الكلمة ألاّ يكون من اللازم، أن يتخلى هؤلاء الناس عن ضلالهم، ومن ثم يعبدون الآب باسم ربنا يسوع المسيح، أو، إن كانوا لا يعبدون ويخدمون الكلمة الذى جاء في الجسد، فينبغى أن يُطرحوا خارجاً من كل ناحية، وأن لا يُحسبوا فيما بعد مسيحيين، بل بالأحرى يُعدوا بين اليهود .

          6 ـ هذا هو إذن، كما شرحنا قبل، هَوْس (جنون) أو جسارة أولئك الناس . أما إيماننا فمستقيم وهو نابع من تعليم الرسل وتقليد الآباء ويؤكده كل من العهد الجديد والعهد القديم، حيث يقول الأنبياء "أرسل كلمتك وحقك" (مز3:42) " هوذا العذراء ستحبل وتلد ابناً وسيدعون اسمه عمانوئيل " (إش14:7) " الذى تفسيره الله معنا " (مت23:19 ولكن ماذايعنى هذا إن لم يكن أن الله قد جاء في الجسد ؟ .

          فإن التقليد الرسولى يعلّم في قول المغبوط بطرس " إذا قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد " (1بط1:4) بينما يكتب بولس " متوقعين الرجاء المبارك وظهور مجد الله العظيم ومخلصنا يسوع المسيح . الذى بذل نفسه لأجلنا لكى يفدينا من كل إثم ويطهر لنفسه شعباً خاصاً غيوراً في أعمال حسنة " (تى14،13:2) فكيف إذن قد بذل نفسه لأجلن، لكى، بقبوله الموت في هذا الجسد، يبيد ذلك الذى له سلطان الموت أى إبليس (عب14:2). ولذلك فإننا نقدم الشكر على الدوام باسم يسوع المسيح، ولا نبطل النعمة التى صارت إلينا بواسطته . فإن مجئ المخلص متجسداً قد صار فدية للموت وخلاصاً لكل الخليقة .

          لذا أيها الحبيب والمشتاق إليه جد، فليضع محبو الرب هذه الأقوال في عقولهم، أما أولئك الذين يتمثلون بسلوك يهوذ، ويتخلون عن الرب ليكونوا مع قياف، فليتهم يتعلمون من هذه الأقوال، إن أرادو، وإن كانوا يستحون ؛ وليعلمو، أنه بعبادة الرب في الجسد، فإننا لا نعبد مخلوق، بل كما قلنا قبل، فإننا نعبد الخالق الذى لبس الجسد المخلوق .

          7 ـ ولكننا نود من قدسك أن تستقصى منهم عن هذا الأمر . فإن إسرائيل حينما كان يصدر إليه الأمر أن يصعد إلى أورشليم لكى يسجد في هيكل الرب، حيث يوجد التابوت، وفوقه كاروبا المجد مظللين الغطاء، فهل كانوا يتصرفون حسناً أم العكس ؟ فإن كانوا يفعلون خط، في عقاب كان يتعرض له الذين يزدرون بهذا الناموس ؟ لأنه مكتوب إن الذى استهان بالأمر ولم يصعد " يُقطع ذلك الإنسان من الشعب " (قارن لا9:17) وإن كانوا يصنعون صواب، وكانوا بهذا مقبولين لدى الله، أليس الآريوسيين وهم أنجس وأبشع من كل هرطقة ـ مستحقين ـ للهلاك عدة مرات، لأنهم بينما يقبلون الشعب القديم ويوافقونه في الكرامة التى كان يقدمها للهيكل، فإنهم لا يريدون أن يعبدوا الرب الذى هو في الجسد كما في هيكل . وبالرغم من ذلك فإن الهيكل القديم الذى كان مشيداً من حجارة ومن ذهب، لم يكن إلاّ مجرد ظل . ولكن عندما جاءت الحقيقة، بطل المثال منذ ذلك الحين، ولم يبق فيه حجر على حجر لم يُنقض، حسب النطق الربانى .

          فلما رأى (الشعب القديم) الهيكل من حجارة لم يظنوا أن الرب ـ الذى تحدث في نفس الهيكل ـ مخلوق، ولم يزدروا بالهيكل ولم يعتزلوا بعيداً للعبادة . ولكنهم جاءوا إلى الهيكل ـ بحسب الشريعة، وخدموا الله الذى نطق بوحيه من الهيكل . وإن كان الأمر هكذا فكيف لا ينبغى أن يُعبد جسد الرب، الكلى القداسة والكلى الوقار حق، والذى بشر به رئيس الملائكة جبرائيل، لكى يتم تشكيل الجسد من الروح القدس ويصير رداءً للكلمة .

            فالكلمة بمد يده الجسدية أقام (حماة سمعان) التى أخذتها الحمى الشديدة (لو39:4) وبصراخه بصوت بشرى أقام لعازر من بين الأموات (يو43:11)، ومرة أخرى حينما بسط ذراعيه على الصليب، فقد قهر رئيس سلطان الهواء، الذى يعمل الآن في أبناء المعصية (أف2:2)، وجعل لنا الطريق إلى السموات نقياً (ومفتوحاً) .

          8 ـ إذن، فالذى يهين الهيكل، فإنما يهين الرب في الهيكل، والذى يفصل الكلمة عن الجسد، إنما يبطل النعمة المعطاة لنا في جسده. أما المتهوسون بالآريوسية، الشديدو الكفر، فلا تدعهم يحسبون أنه، بما أن الجسد مخلوق، يكون الكلمة مخلوقاً أيض، وكذلك لا تدعهم أيضاً يحتقرون جسد الكلمة، بسبب أن الكلمة ليس مخلوق، لأن شرهم (حقدهم) يثير الدهشة، إذ أنهم يبلبلون الأفكار ويخلطون كل شئ ويخترعون إدعاءات وذلك كله فقط لكة يَعدّوا الخالق بين المخلوقات .

          ولكن فليسمعو، لأنه لو أن الكلمة كان مخلوق، لما اتخذ جسداً مخلوقاً لكى يهبه الحياة، لأنه أية معونة تحصل عليها المخلوقات من مخلوق هو نفسه يحتاج إلى الخلاص ؟ . ولكن حيث إن الكلمة خالق، فقد تمم خلقة المخلوقات .

          لذلك فإنه عند اكتمال الدهور أيضاً فقد لبس هو نفسه ما هو مخلوق (أى الجسد) لكى يجدده بنفسه مرة أخرى كخالق ؛ ولكى يستطيع أن يقيمه.

          لا يستطيع مخلوق أن يخلص مخلوقاً على الإطلاق، كما أن المخلوقات لم تُخلق بواسطة مخلوق، وذلك إن لم يكن الكلمة هو الخالق (كما يدّعى الآريوسيون) . ولذلك دعهم لا يفترون على الكتب الإلهية ولا تدعهم يسيئون إلى المستقيمين من الاخوة . ولكن إن كانوا يرغبون، فليغيروا فكرهم هم أيضاً ولا يعودوا يعبدون المخلوق دون الله خالق كل الأشياء (أنظر رو25:1).

          أما إن كانوا يريدون أن يتشبثوا بتجديفاتهم فليشبعوا بها وحدهم، وليصرّوا على أسنانهم مثل أبيهم الشيطان، لأن إيمان الكنيسة الجامعة يقر بأن كلمة الله هو خالق كل الأشياء، ومبدعه، ونحن نعرف أنه " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله " (يو1:1) فإننا نعبد ذلك الذى صار هو نفسه أيضاً إنساناً لأجل خلاصن، لا كما لو كان هذا الذى صار جسداً هو مساوٍ للجسد بالمثل، بل (نعبده) كسيد آخذاً صورة عبد، كصانع وخالق صائراً في مخلوق أى (الجسد) لكى بعد أن يحرر به كل الأشياء، يقرّب العالم إلى الآب، ويصنع سلاماً لكل المخلوقات سواء التى في السموات أو التى على الأرض .

          ولذلك فنحن نعترف أيضاً بألوهيته التى من الآب .

          ونعبد حضوره المتجسد، حتى ولو مزق الآريوسيون المجانين أنفسهم.

          سلّم على كل من يحبون ربنا يسوع المسيح .. ونرجو أن تكون بصحة جيدة، وأن تذكرنا أمام الرب، أيها المحبوب والمشتاق إليه جداً بالحق . وإن احتاج الأمر، فلتقرأ هذه الرسالة لهيراكاس القسيس .

 



 



1  فالنتينوس مبتدع من الغنوسيين (أصحاب مذهب الخلاص بالمعرفة) ظهر في القرن الثانى الميلادى، وكان يعلم بوجود عدة كائنات سماوية وسيطة بين الله وبين يسوع، يسميها أيونات أى عصور ـ يبلغ عددها ثلاثون كائناً ـ وأن الكلمة هو رابع هذه الأيونات، وأحد هذه الأيونات هو المسيح السماوى وهو غير الكلمة، وغير المسيح الذى ظهر من شعب إسرائيل، وأن المسيح هو شخص آخر غير يسوع، وأن جسد يسوع ليس جسداً طبيعياً حقيقياً بل جسم خيالى أو ظاهرى .

            وقد حاول فالنتينوس نشر تعاليمه في روما حوالى سنة 140م ولكنه لم ينجح وقد حرمته الكنيسة .

            وواضح من تعليمه أنه ينكر حقيقة أن " الكلمة صار جسداً ويسكن فينا " كما يقول القديس أثناسيوس .

            ماركيون : مبتدع ظهر حوالى منتصف القرن الثانى في روما، وأصله من البنطس في آسيا وكان يُعلّم أن إله العهد القديم ليس هو إله العهد الجديد ـ وإله العهد القديم إله العدل وإله العهد الجديد هو إله الصلاح والنعمة، وأن المسيحية لا علاقة لها بإعلان العهد القديم، بل هبطت فجأة من السماء، وأن المسيح لم يُولد من العذراء ولم يُولد بالمرة بل نزل فجاة من السماء في مدينة كفر ناحوم في السنة 15 من سلطنة طبياريوس قيصر، وظهر كمعلن للإله الصالح الذى أرسله . وأن المسيح ليس هو الماسيا الذى تنبأ عنه العهد القديم . وأن جسد المسيح ليس جسداً حقيقياً طبيعياً بل هو مجرد مظهر، وأن المسيح لم يمت حقيقة. وكان يعتقد أن المادة شريرة، وكان يحرّم الزواج، ورفض وحى أسفار العهد القديم وعمل له قانوناً خاصاً لأسفار الكتاب يحوى 11 سفراً فقط من العهد الجديد : عبارة عن إنجيل لوقا بعد أن شوهه و10 من رسائل بولس الرسول .

            وقد حرمته الكنيسة وحرمت تعاليمه وقاومتها بشدة منذ البداية .

            مانى : مبتدع ظهر في القرن الثالث، من بلاد فارس، أدعى الوحى وقال إنه " رسول يسوع المسيح " وأنه هو الروح القدس " الباراقليط " الذى وعد به المسيح . وكان يعلّم أن المادة شريرة وأن الإنسان مخلوق على صورة الشيطان، وأن الجسد شرير في جوهره والزواج نجس . وأنكر أن جسد المسيح حقيقى، وقال إن آلام المسيح على الصليب وهمية وليست آلام حقيقية، وأن المسيح ليس له دم . وكان لا يؤمن بالكتاب المقدس بعهديه كمصدر للتعليم بل ببعض الأناجيل المزورة وبعض الكتب الأخرى من تأليفه هو .

            وقد حرمت الكنيسة بدعة مانى وأتباعه في عدة مجامع منذ القرن الرابع فصاعداً .


 

 

 



المسيح في رسائل القديس أثناسيوس الكبير

 


رسالة القديس أثناسيوس إلى أبكتيتوس

 

مقدمة

 

          كتب القديس أثناسيوس هذه الرسالة إلى أبكتيتوس أسقف كورنثوس سنة 369م، وذلك رداً على مذكرات كان أبكتيتوس قد أرسلها إلى أثناسيوس تحوى عدة أسئلة أثيرت في إيبارشيته من مجموعات آريوسية وغيرها لها آراء خيالية (دوسيتية) من جهة التجسد، وعلاقة جسد المسيح بلاهوته الأزلى من جوهر الآب.

          ويرد القديس أثناسيوس على هذه التصورات والآراء الخيالية، ويوضح الإيمان السليم فيما يخص علاقة لاهوت المسيح بناسوته. وهذه الرسالة صارت لها شهرة كبيرة عند آباء الكنيسة في القرنين الرابع والخامس ويستند إليها القديس إبيفانيوس في الرد على بدعة أبوليناريوس، كما كانت مرجعاً يُستند إليه في مواجهة بدعة نسطور في القرن الخامس، ولما حاول النساطرة أن يزيفوا نص هذه الرسالة بحيث يؤدى إلى خدمة بدعتهم، فإن القديس كيرلس الأسكندرى كشف تزيفيهم (في رسالة 40)[1] وأظهر النص السليم لها .

 

 

رسالة أبينا القديس أثناسيوس الرسولى

إلى أبكتيتوس

ضد الهراطقة

          إلى سيدى وأخى المحبوب، المشتاق إليه جد، وشريكى في الخدمة أبكتيتوس، أثناسيوس يرسل تحياته في الرب .

          1 ـ كنت أظن أن كل كلام بطاّل لجميع الهراطقة، مهما كان عددهم، قد توقف، منذ المجمع الذي انعقد في نيقية . لأن الإيمان المعترف به في هذا المجمع من الآباء، بحسب الكتب الإلهية، كافٍ لطرد كل كفر خارجاً، ولتوطيد إيمان التقوى في المسيح .

          ولذلك فقد أقيمت في هذه الأونة، مجامع مختلفة في كل من الغال (فرنسا) وأسبانيا وروما العظمى، وجميع المجتمعين ـ كما لو كان يحركهم روح واحد ـ حرموا بالإجماع، أولئك الذين كانوا لا يزالون، وهم مستترون، يعتقدون بآراء آريوس وأولئك الأشخاص هم : أوكسنتيوس من ميلانو، وأورساكيوس وفالنس وغاريوس من بانونيا .

          وجميع هؤلاء المجتمعين كتبوا في كل مكان (إذ لأن مثل هؤلاء الرجال يخترعون أسماء مجامع لمساندتهم)، ألاّ يُذكر أى مجمع في الكنيسة الجامعة سوى ذلك المجمع وحده الذي عُقِدَ في نيقية الذي كان انتصاراً عظيماً على كل هرطقة، ولا سيما الهرطقة الاريوسية ـ والتى بسببها ـ في الحقيقة اجتمع ذلك المجمع وقتئذٍ .

          فكيف إذن بعد هذه الأمور، لا يزال البعض يحاول أن يثير مجادلات أو تساؤلات ؟ فلو كانوا ينتمون إلى الآريوسيين فلا يكون هناك غرابة في الأمر، إذن كانوا يذمون ما كُتب ضدهم، مثلهم مثل اليونانيين الذين حينما يسمعون القول " أصنام الأمم فضة وذهب عمل أيدى الناس" (مز4:115)، فإنهم يعتبرون التعليم الخاص بالصليب الإلهى جهالة .

          أما الذين يريدون أن يبحثوا كل شئ عن طريق إثارة الأسئلة، فإن كانوا من الذين يظنون أنهم مؤمنون، وأنهم يحبون ما جاهر به الآباء، فإنهم لا يعملون شيئاً آخر سوى ما جاء في الكتاب " إنهم يسقون صاحبهم حثالة الخمر " (حب15:2) وينازعون حول ما هو غير نافع، أو ما يؤدى إلى هدم المستقيمين .

          2 ـ إننى أكتب هذ، بعد اطلاعى على المذكرات التى كتبتها قدسك، التى ما كان يجب أن تُكتب كى لا يكون هناك ذِكر لهذه الأمور لمن يأتون بعدنا. لأن من سمع بمثل هذه الأمور قط ؟ من هو الذي علَّم هذا أو تعلّمه؟ " لأنه من صهيون ستخرج شريعة الله، ومن أورشليم كلمة الرب " (إش3:2) ولكن من أين خرجت هذه الأمور . وأى عالم سفلى تقيأ القول بأن الجسد الذي من مريم هو من نفس جوهر لاهوت الكلمة ؟ أو بأن الكلمة قد تحوّل إلى لحم وعظام وشعر وكل الجسد، وتغيّر عن طبيعته الخاصة ؟ أو من سمع في الكنيسة أو بين المسيحيين على العموم، بأن الرب لبس جسداً خيالياً وليس طبيعياً ؟ أو من كفر إلى مثل هذه الدرجة حتى يقول، وهو في نفس الوقت يعتقد أيضاً بأن اللاهوت ذاته الذي من نفس جوهر الآب، قد صار ناقصاً خارجاً من كامل، والذي سُمِرَ على الخشبة لم يكن هو الجسد بل هو جوهر الحكمة الخالق ذاته ؟ أو من سمع بأن الكلمة حوّل لنفسه جسداً قابلاً للتألم، (هذا الجسد) ليس من مريم بل من جوهره الذاتى. فهل يمكن أن يُدّعى مسيحياً من يقول هذا ؟ أو من الذي اخترع هذا الكفر الشنيع، حتى يدور في مخيلته أن من يُعلِّم بأن جسد الرب هو من مريم إنما يعتقد أنه لا يوجد في اللاهوت ثالوث فقط بل رابوع . لذلك فالذين يكفرون هكذ، يقولون إن الجسد الذي لبسه المخلص من مريم إنما هو من جوهر الثالوث . ومرة أخرى، فمن أين تقيأ البعض ذلك الكفر المساوى للكفر السابق ذكره، حتى يقولون بأن الجسد ليس أحدث من لاهوت الكلمة، بل هو مساوٍ له في الأزلية وهو معه على الدوام، حيث إنه قد تكوّن من جوهر الحكمة ؟

          أو كيف يتجاسر أولئك الذين يُدعون مسيحيين، أن يَشُكوا فيما إذا كان الرب المولود من مريم، بينما هو ابن الله بالجوهر والطبيعة، فإنه من نسل داود من جهة الجسد ومن جسد القديسة مريم ؟

          أو من هم إذن هؤلاء الذين تجاسروا هكذا حتى يقولو، بأن المسيح المتألم بالجسد والمصلوب، ليس هو الرب والمخلص والإله وابن الآب .

          أو كيف يريدون أن يُدعوا هؤلاء الذين يقولون بأن الكلمة قد حلّ على إنسان قديس كما كان يحلّ على أى واحد من الأنبياء، ولم يصر هو نفسه (الكلمة) إنساناً باتخاذه الجسد من مريم، (ويقولون) إن المسيح هو شخص وأن كلمة الله الموجود قبل مريم، وهو ابن الآب من قبل الدهور، هو شخص آخر ؟ .

          3 ـ هذه هى التساؤلات المُشار إليها في المذكرات، وهى رغم تباينها، لكنها تحوى فكراً واحداً يهدف بفاعليته نحو عدم التقوى . ولأجل هذه الأمور، كان الذين يتفاخرون باعتراف الآباء في المجمع المنعقد في نيقيا، يتجادلون ويتطاحنون بعضهم مع بعض.

          ولكنى تعجبت لمعناة واحتمال تقواكم، وأن قدسكم لم يوقف هؤلاء الذين يقولون هذه الأشياء، بل شرحت لهم الإيمان المستقيم، حتى إذا سمعوا يهدأون، أما إذا قاوموا فإنهم يُعتبرون هراطقة . لأن ما قالوه لا يمكن أن يُقال أو يُسمع من مسيحيين، بل هى أقوال غريبة من كل ناحية عن التعليم الرسولى . لذلك، وكما سبق ان قلت، قد أدرجت في رسالتى، ما قاله هؤلاء، وذلك فقط لكى يدرك كل من يسمع، ما تحويه من عار وكفر، رغم أنه كان من اللازم أن نتهم ونفضح بشدة حماقة أولئك الذين اعتقدوا مثل تلك الأفكار . ولقد كان من المستصوب أن يكتفي خطابى بهذه الكلمات فلا أكتب أكثر من ذلك لأنه ليس من الواجب ممارسة واختبار مثل تلك الأمور التى من الواضح أنها شريرة هكذا جهار، لئلا تبدو بالنسبة للمتنازعين كأنها أمور محتملة . فإنه يكفي أن أقول مجيباً على مثل تلك الأقوال بما يلى :

          يكفي أن هذا ليس تعليم الكنيسة الجامعة، ولا اعتقد الآباء بهذه الأمور. ولكن لئلا يجد " المبتدعون شروراً " حجة لصفاقتهم بسبب صمتنا التام، فإنه حسن أن نذكر بعض الأقوال من الكتب الإلهية، وبالتأكيد، بعد أن يخجلو، فإنهم يكّفون عن هذه الحيل النجسة .

          4 ـ من أين طرأ عليكم يا هؤلاء، أن تقولوا إن الجسد واحد في الجوهر مع لاهوت الكلمة . (لأنه من الحسن أن نبدا بهذه النقطة لكى عندما يظهر أن هذا الرأى غير سليم، فإن جميع الآراء الأخرى أيضاً تتضح أنها غير سليمة كذلك) . كما أن ما يقولونه لا يوجد منه شئ في الكتب الإلهية .

          وهم يقولون إن الله قد صار في جسد بشرى . أما الآباء الذين اجتمعوا في نيقية فقد قالوا أيضاً إن الابن نفسه ـ وليس الجسد ـ هو من نفس جوهر الآب (أو واحد مع الآب في الجوهر)، وإنه بينما هو (الابن) من جوهر الآب، فإنهم اعترفوا أيضاً بحسب الكتب، بأن الجسد هو من مريم.

          فإمّا أن تنكروا إذن، المجمع المنعقد في نيقي، وكهراطقة يجلبون تعليماً بالإضافة إلى (ما قرره المجمع)، وإمّ، إن أردتم أن تكونوا أبناء الآباء، فلا تعتقدوا بغير ما كتبه هؤلاء الآباء.

          ومن هذا أيضاً تستطيعون أن تروا كم هو سخيف هذا الرأى : فإنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد الذي هو من طبيعة أرضية، في حين أن الكلمة هو من نفس جوهر الآب، بحسب اعتراف الآباء، فإن الآب نفسه أيضاً يكون من نفس جوهر الجسد الصائر من الأرض . فلماذا تلومون الآريوسيين الذين يقولون إن الابن مخلوق، وأنتم أنفسكم تزعمون أيضاً أن الآب من نفس جوهر المخلوقات، فأنتم تذهبون بعيداً إلى كفر آخر، مدّعين أن الكلمة تحول إلى لحم وعظام، وشعر وأعصاب والجسد كله، وأنه تحول عن طبيعته الخاصة . لقد حان الوقت لكم، لكى تقولوا علانية، إنه قد صار من الأرض، لأن طبيعة العظام بل والجسد كله من الأرض . إذن ماذا يكون هذا الهذيان حتى تتشاجروا فيما بينكم أيضاً ؟ لأن الذين يقولون إن الكلمة هو من نفس جوهر الجسد، إنما " يقصدون الواحد عندما يشيرون للآخر " .

          أما الذين يحوّلون الكلمة إلى جسد فإنهم يتخيلون تغيير الكلمة ذاته . ومن سيظل يحتملكم إذن، وأنت تتشدقون بهذه الأقوال . فأنتم انحرفتم إلى الكفر أكثر من كل هرطقة .

          لأنه لو كان الكلمة من نفس جوهر الجسد، فإن ذكر مريم وضرورتها يكونان أمرين لا لزوم لهم، إذ أنه كان من المستطاع أن يكون موجوداً أزلياً قبل مريم، كما أن الكلمة ذاته أزلى أيضاً . فلو كان الكلمة حقاً من نفس جوهر الجسد حسبما تقولون، فأية حاجة كانت هناك لكى يقيم الكلمة بيننا، لكى يلبس ما هو من نفس جوهره الخاص، أو أن يتحول عن طبيعته الذاتية فيصير جسداً؟ لأن اللاهوت لم يأتِ لمساعدة نفسه حتى يلبس ما هو من نفس جوهره، كما أن الكلمة لم يخطئ في شئ وهو يفتدى خطايا الآخرين، حتى يصير جسداً ويقدم ذاته ذبيحة لأجل نفسه وفتدى نفسه .

5 ـ لكن حاشا له أن يكون هكذا. لأنه كما قال الرسول جاء لمساعدة[2] نسل إبراهيم، من ثمّ كان ينبغى أن "يشبه اخوته في كل شئ"(عب17،16:2) ويتخذ جسداً مشابهاً لنا. ولهذا السبب أيضاً كانت مريم في الحقيقة مفترضة من قبل[3]. ليأخذ الكلمة منها (جسداً) خاصاً به ويقدمه من أجلنا .

          وقد أوضح إشعياء هذا متنبئاً فقال: "هاهى العذراء" (إش14:7) وأرسل الله جبرائيل إليها، ليس إلى مجرد عذراء، بل "إلى عذراء مخطوبة لرجل" (لو27:1) لكى يتبين من كونها مخطوبة، أن مريم كائن بشرى بالحقيقة. ولهذا السبب ذكر الكتاب أيضاً أنها ولدته، وأنها " قمطته " (لو7:2) ولذلك فإن الثديين اللذين رضعهما، يُعتبران مباركين (قارن لو27:11). وقد قدم ذبيحة، لأنه بولادته فتح الرحم (أنظر لو23:2) وهذه كلها براهين على أن العذراء هى التى ولدته .

          وجبرائيل حمل إليها البشارة بيقين كامل ولم يقل مجرد "المولود فيك"، حتى لا يُظن أن الجسد غريب عنها ومجلوب إليها من الخارج، بل قال "المولود منك " لكى يعتقد الجميع أن المولود خارجاً منه، إذ أن الطبيعة تبين هذا بوضوح، فمن المستحيل على عذراء أن تدر لبناً إن لم تكن قد ولدت. ومن المستحيل أن الجسد يتغذى باللبن ويُقمط إن لم يكن قد وُلد بصورة طبيعية قبل ذلك .

          وهذا هو المقصود بالختان في اليوم الثامن بعد ولادته: إن سمعان تلقاه في أحضانه وهذا يدل على أنه قد صار طفل، وأنه نما حتى صار له من العمر اثنتا عشر سنة (أنظر لو21:2ـ42) إلى أن بلغ الثلاثين عاماً (أنظر لو23:3). وليس كما يظن البعض أن جوهر الكلمة نفسه قد خُتِنَ بعد أن تحوّل. لأنه لا يقبل التحوّل ولا التغيّر . لأن المخلص نفسه يقول " أنظروا، أنظرو، لأنى أنا هو، وأنا ما تغيرت " (ملاخى6:3س).

          أما بولس فيكتب قائلاً : " يسوع المسيح هو هو بالأمس واليوم وإلى الأبد " (عب8:13) ولكن كلمة الله غير المتألم والذي بلا جسد، كان في الجسد الذي خُتِنَ وحُمِلَ، والذي أكل وشرب، والذي تعب، والذي سُمِرّ على الخشبة وتألم .

          هذا الجسد هو الذي وُضِعَ في قبر ـ عندما تخلى عنه الكلمة ـ ولكنه لم ينفصل عنه ـ وذلك " ليكرز للأرواح التى في السجن " كما يقول بطرس (1بط19:3).

          6 ـ وهذا يبين بالأكثر، هوس الذين يقولون إن الكلمة قد تحوّل إلى عظام ولحم ـ فلو كان الأمر كذلك، لَما كانت هناك حاجة إلى قبر، ولكان الجسد ذاته قد مضى بنفسه ليكرز للأرواح التى في الهاوية . أما الآن فإنه مضى هو بنفسه ليكرز، أما الجسد فبعد أن كفنه يوسف بالكتان (قارن مر46:15)، وضعه في الجلجثة . وهكذا اتضح أن الجسد لم يكن الكلمة، وإنما هو جسد الكلمة. وإنه عندما قام الجسد من بين الأموات لمسه توما ورأى فيه آثار المسامير (قارن يو25:20) التى احتملها الكلمة ذاته، والتى رآها (توما) مخترقة جسد (الكلمة) ذاته، والتى كان في استطاعته أن يمنعها ولكنه لم يمنعها، بل بالعكس فإن الكلمة الذي بلا جسد خصص لنفسه خصائص الجسد باعتباره جسده ذاته . فلماذا حينما ضرب العبد، الجسد، تألم الكلمة نفسه وقال " لماذا تضربنى " (يو23:18) ورغم أن الكلمة بطبيعته لا يمكن لمسه، إلاّ أنه قال "أسلمت ظهرى للسياط، وخدى للطمات، ولم أرد وجهى عن خزى البصقات " (إش6:50).

          لأن تلك الأشياء التى كان يتألم منه، جسد الكلمة، البشرى، كان الكلمة الذي سكن في الجسد ينسبها لنفسه، لكى نستطيع نحن أن نشترك في لاهوت الكلمة .

          ومن الغريب، أن الكلمة نفسه كان متألماً وغير متألم، فمن ناحية، كان (الكلمة) يتألم لأن جسده هو الذي كان يتألم وكان هو المتألم فيه، ومن الناحية الأخرى، لم يكن الكلمة يتألم، لأن الكلمة ـ إذ هو إله بالطبيعة ـ فهو لا يقبل التألم. وكان الكلمة غير الجسدى موجوداً في الجسد الذي يتألم، وكان الجسد يحوى فيه الكلمة غير المتألم الذي كان يبيد العلل التى قبلها في جسده. وكان يصنع هذ، وهكذا كان يصير، كى، بعد أن يأخذ ما لنا (أى الجسد) ويقدمه كذبيحة، يقضى على (العلل والضعفات) كلها. وهكذا يلبسنا ما له، وهذا ما يجعل الرسول يقول : " لأن هذا الفاسد لابد أن يلبس عدم فساد، وهذا المائت يلبس عدم موت " (1كو53:15).

          7 ـ وهذه الأشياء لم تحدث بالظن، حاشا ! كما يفترض البعض، أيضاً : بل في الواقع فإنه بصيرورة المخلص إنساناً بالحقيقة، صار الخلاص للإنسان كله .

          فلو كان الكلمة في الجسد بمجرد الظن، كما يقول أولئك، فإن هذا الظن يكون ضرباً من الخيال، وبناء على ذلك فإن خلاص الإنسان وقيامته يعتبران مجرد إدعاء غير حقيقى، بحسب ما يقول مانى أشد الكافرين .

          إلاّ أن خلاصن، في واقع الأمر، لا يُعتبر خيال، فليس الجسد وحده هو الذي حصل على الخلاص، بل الإنسان كله من نفس وجسد حق، قد صلار له الخلاص في الكلمة ذاته .

          وهكذا فإن المولود من مريم هو بشرى بالطبيعة، بحسب الكتب الإلهية. وأن جسده هو جسد حقيقى، وهو حقيقى لأنه هو نفس جسدنا، حيث إن مريم هى أختنا، لأننا نحن جميعاً (هى ونحن) أيضاً من آدم .

          ولا يجب أن يرتاب في هذا، حينما يتذكر ما كتبه لوقا. لأنه بعد القيامة من بين الأموات، ظن البعض أنهم لن يشاهدوا الرب في الجسد المأخوذ من مريم، بل ظنوا بدلاً من هذا، أنهم نظروا روحاً، فكتب لوقا يقول : "أنظروايدى ورجلى " ومواضع المسامير، إنى أنا هو، جسونى وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لى، وعندما قال هذا، آراهم يديه ورجليه" (لو40،39:24) ومن هذا الكلام نستطيع أن نفند كلام الذين يتجاسرون مرة أخرى أن يقولوا إن الرب قد تغير إلى لحم وعظام، لأنه لم يقل كما تشاهدوننى وأنا لحم وعظام، بل قال "كما ترون إنه لى" لكى لا يعتقد أحد بأن الكلمة نفسه قد تحول إلى هذه الأشياء قبل الموت، وبعد القيامة.

          8 ـ وإذ قد تم إثبات هذه الأشياء هكذا، فإنه يكون من نافلة القول أن نتعرض للموضوعات الأخرى، وندخل في جدل حوله، إذ أن الجسد الذي كان فيه الكلمة لم يكن من نفس جوهر اللاهوت، بل هو حقاً مولود من مريم. والكلمة نفسه لم يتحول إلى عظام ولحم بل قد صار في الجسد . لأن ما قيل في إنجيل يوحنا " الكلمة صار جسداً " (يو14:1) له هذا المعنى، كما يمكن أن نجد هذا في موضع مشابه، فقد كتب بولس " المسيح صار لعنة لأجلنا " (غلا13:3). وكما أنه لم يصر هو نفسه لعنة، بل قيل إنه قد صار لعنة لأنه احتمل اللعنة من أجلنا، هكذا أيض، فإنه قد صار جسداً لا بتحوله إلى جسد، بل باتخاذه لنفسه جسداً حياً من أجلنا، وصار إنساناً . لأن القول " الكلمة صار جسداً " هو مساوٍ أيضاً للقول "الكلمة صار إنساناً". حسب ما قيل في يوئيل "إنى سأسكب من روحى على كل جسد" (يو28:2) لأن الوعد لم يكن ممتداً إلى الحيوانات غير الناطقة، بل هو للبشر الذين من أجلهم قد صار الرب إنساناً .

          وبما أن هذا هو معنى النص المُشار إليه، فإنهم يدينون أنفسهم أولئك الذين يظنون أن الجسد المولود من (مريم) كان موجوداً قبل مريم، وأن الكلمة كانت له نفس بشرية قبلها (قبل مريم)، وأن هذه النفس كانت فيه دائماً حتى قبل مجيئه . وهكذا سيكف أيضاً الذين يقولون إن الجسد لم يكن قابلاً للموت، وإنه كان من طبيعة غير مائتة. لأنه لو لم يكن قد مات، فكيف إذن سلّم بولس إلى الكورنثيين ما قبله هو أيضاً : " أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب " (1كو3:15)، وكيف قام مطلقاً إن لم يكن قد مات أيضاً ؟ وسيحمّر بالخجل العظيم كل من يدور في مخيلته عموماً أى احتمال لأن يكون هناك رابوع بدلاً من ثالوث، وذلك في حالة القول إن الجسد إنما هو من مريم .

          فهم يزعمون إننا نقول، إن الجسد من نفس جوهر الكلمة، وهكذا يبقى الثالوث ثالوثاً . لأنه لا يكون هناك شئ غريب قد أُضيف إلى الكلمة، ولكن إن قلنا إن الجسد المأخوذ من مريم إنما هو بشرى، فمن الضرورى حيث إن الجسد غريب في جوهره عن الكلمة، والكلمة كائن فيه، فإن إضافة الجسد تجعل هناك رابوعاً بدلاً من ثالوث (حسب ظنهم).

          9 ـ إن الذين يتناولون هذه الأمور بهذه الطريقة، لا يدركون أنهم يقعون في تناقض مع أنفسهم، لأنهم حتى وإن قالوا إن الجسد ليس من مريم بل إنه من نفس جوهر الكلمة، (وهذا ما يتظاهرون أنهم يفكرون به، وذلك لكى لا يظهر حقيقة ما يفكرون به)، فإنه بحسب تفسيرهم هذا، يمكننا ان نوضح أنهم يقولون برابوع . لأنه كما أن الابن، بحسب الآباء، هو من نفس جوهر الآب، وليس هو الآب نفسه، بل يُقال إنه ابن من نفس جوهر الآب، هكذا جسد الكلمة (الذي يقولون) إنه من نفس جوهر الكلمة لا يكون هو الكلمة ذاته بل هو آخر بالنسبة للكلمة .. ولكونه آخر (غير الكلمة)، فإنه بحسب رأيهم يكون ثالوثهم رابوعاً .

          لأن الثالوث الحق، والكامل بالحقيقة، وغير المنفصل لا يقبل إضافة، بل إن فكرة (الإضافة) قد اختلقها هؤلاء الأشخاص .

          وكيف يمكن أن يظلوا مسيحيين أولئك الذين يخترعون إلهاً آخر مختلفاً عن الإله الكائن . ومرة أخرى فإنه في الإمكان أن نرى في سفسطتهم الأخرى منتهى الحماقة .

          لأنهم يظنون أنه بسبب ما هو موجود في الكتب وما قيل فيها من أن جسد المخلص هو من مريم وأنه بشرى، فإنهم يعتبرون بذلك أن هناك رابوعاً بدلاً من ثالوث، كما لو كانت قد حدثت إضافة بسبب الجسد، وهكذا فإن الذين يساوون الخالق بالخليقة يضلون كثير، إذ أنهم يتوهمون بأنه من الممكن أن يقبل اللاهوت إضافة . وعجزوا عن أن يدركو، أن الكلمة صار جسد، ليس لأجل إضافة (شئ ما) إلى اللاهوت، بل من أجل أن ينال الجسد قيامة. ولم يأتى الكلمة من مريم لكى يرتقى هو، بل لكى يفدى الجنس البشرى. فكيف إذن يفكرون أن الجسد وهو الذي افتداه الكلمة وأحياه، يقوم بإضافة شئ ما من ناحية اللاهوت إلى الكلمة الذي أحياه ؟ بل بالعكس فإن الجسد البشرى ذاته هو الذي حدثت له زيادة كبيرة، بسبب شركة الكلمة معه واتحاده به، لأنه (الجسد) صار غير مائت بعد أن كان مائت، ورغم أن الجسد كان حيوانياً (نفسانياً) فقد صار روحاني، ورغم أنه من تراب الأرض فقد اجتاز الأبواب السماوية .

          إذن فالثالوث هو ثالوث، رغم أن الكلمة حصل على جسد من مريم، والثالوث كامل لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا نعرف إلاّ لاهوتاً واحداً في الثالوث، وهكذا يكرز في الكنيسة بإله واحد هو أب الكلمة .

          10 ـ ومن أجل هذا فسيصمت أولئك الذين سبق أن قالوا إن الذي جاء من مريم ليس هو المسيح والرب الإله. لأنه لو لم يكن إلهاً في الجسد، فكيف بمجرد ولادته من مريم دُعىَ " عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا " (مت23:1) وأيضاً لو لم يكن هو الكلمة في الجسد، فكيف كتب بولس إلى أهل رومية : " ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين " (رو5:9). وأولئك الذين سبق لهم أن أنكروا أن المصلوب هو إله، فليعترفوا بأنهم قد أخطأوا، لأن الكتب الإلهية تحضهم ـ وبنوعٍ خاص ـ توم، الذي بعد أن رأى فيه آثار المسامير، صرخ قائلاً " ربى وإلهى " (يو28:20). لأن الابن إذ هو الله ورب المجد، كان في الجسد الذي سُمِرَ وأُهين بخزى، أما الجسد فكان يتألم وهو على الخشبة، وكان يسيل من جنبه (المطعون) دم وماء. ولكن بسبب أنه كان هيكل الكلمة بالحقيقة، فقد كان مملوءاً من اللاهوت . ولهذا السبب إذن عندما رأت الشمس خالقها وهو يتألم في الجسد المُهان، سحبت أشعته، وأظلمت الأرض ولكن الجسد نفسه، وهو من طبيعة مائتة، قام بطبيعة تفوق طبيعته بسبب الكلمة الذي فيه، وتوقف فساده (إضمحلاله) الطبيعى، وإذ قد لبس الكلمة الذي هو فوق الإنسان هذا الجسد، فقد صار (الجسد) غير فاسد (غير مضمحل).

          11 ـ أما بخصوص ما يتخيله بعض (الناس) الذين يقولون إنه كما صار الكلمة إلى كل واحد من الأنبياء، هكذا جاء (الكلمة) إلى إنسان واحد معين هو الذي وُلِدَ من مريم، فمن العبث أن نجادل هذا القول، حيث إن جنونهم يحوى في طياته دنيونته الواضحة . لأنه لو كان قد جاء بهذه الطريقة، فلماذا جاء هذا الإنسان من عذراء ولم يُولد هو أيضاً من رجل وامرأة ؟ فإن جميع (الأنبياء) القديسين وُلدوا هكذا (من رجل وامرأة) أما وقد جاء الكلمة هكذا (من عذراء)، فلماذا لا يُقال إن موت كل واحد (من الأنبياء) قد حدث لأجلنا، بل (يُقال هذا فقط) على موت هذا الإنسان وحده؟ وإن كان الكلمة قد سكن بيننا لفترة قصيرة، والأنبياء مثله قد أقاموا أيضاً فترة على الأرض، فلماذا يُقال عن المولود من مريم إنه استوطن بيننا "مرة واحدة عند إنقضاء الدهور " (عب26:9) وإن كان قد جاء هو، كما سبق أن جاء في القديسين (الذين قبله)، فلماذا مات جميع هؤلاء القديسين الآخرين ولم يقوموا بعد، في حين أن المولود من مريم وحده، قام في خلال فترة الثلاثة أيام ؟ .

          وإن كان الكلمة قد جاء بطريقة مماثلة لتلك التى (سبق) أن جاء بها في الآخرين، فلماذا يُدعى المولود من مريم وحده، عمانوئيل، أى الذي وُلِدَ منها جسداً مملوءاً بالألوهية ؟ لأن عمانوئيل تفسيره " الله معنا " .

          وإن كان قد جاء هكذا (أى بنفس الطريقة التى جاء بها في الأنبياء) فلماذا لا يُقال عن كل واحد من (الأنبياء) القديسين، عندما كان يأكل ويشرب ويتعب ويموت، إن (الكلمة) نفسه أكل وشرب وتعاب ومات، بل يُقال هذا فقط عن المولود من مريم وحده ؟ لأن ما تألم به هذا الجسد (جسد الكلمة) يُعتبر أن الكلمة قد تألم به .

          وبينما يُقال عن الآخرين إنهم فقط وُلدوا متناسلين يُقال في حالة المولود من مريم وحده إن " الكلمة صار جسداً " (يو14:1).

          12 ـ من كل هذا تبين أن الكلمة جاء إلى جميع الآخرين (الأنبياء) لكى يتنبأو، أما الكلمة نفسه الذي وًلد من مريم فقد اتخذ منها جسداً وصار إنسان، إذ هو بطبعه وجوهره كلمة الله، أما من جهة الجسد فهو إنسان من نسل داود ومن جسد مريم كما قال بولس (أنظر رو3:1).

          وقد أظهره الآب في الأردن وعلى الجبل قائلاً " هذا هو ابنى الحبيب الذي به سررت " (مت13:3). والآريوسيون أنكروه، أما نحن فنعترف به ونعبده ولا نفصل الابن عن الكلمة، بل نعرف أن الابن هو نفسه الكلمة، الذي به قد كان كل شئ، والذي به افتُدينا نحن .

          ولهذا السبب دُهشنا حقاً أن يحدث بينكم نزاع على الإطلاق حول هذه الأمور الواضحة جداً. ولكن شكراً للرب، إنه بقدر حزننا عند قراءة مذكراتكم، بقدر ما فرحنا بما انتهت إليه (هذه المذكرات). لأنهم مضوا بعد اتفاق وتصالح على الاعتراف بالإيمان الأرثوذكسى الحسن العبادة .

          وهذا في الواقع ما دفعنى أيضاً أن أكتب هذه الكلمات القليلة بعد أن أمعنت الفكر كثيراً أول، خوفاً من أن يسبب صمتى ألماً بدلاً من الفرح لأولئك الذين سببوا لنا فرحاً باتفاقهم معاً. لذلك أرجو أولاً من قدسكم وثانياً من المستمعين لهذه الرسالة أن تتقبلوا ما فيها من كلمات بضمير نقى، وإن كان فيها أى عجز من جهة التقوى فأرجو أن تصوبوه وتفيدونى. أما إن كنت قد كتبت كإنسان عامى في الكلام (2كو6:11)، أو إن كان الحديث غير جدير أو غير كامل، فاستميحكم جميعاً عذراً بسبب ضعفي في التعبير .

          سلّم على جميع الاخوة الذين معك . وكل الذين معى يسلمون عليك، ولتكن حياتك في الرب في تمام الصحة، أيها المحبوب والمشتاق إليه جداً.



 



1 تُرجمت هذه الرسالة عن اليونانية ضمن الجزء الثالث لرسائل القديس كيرلس (ترجمة الدكتور موريس تاوضروس والدكتور نصحى عبد الشهيد)، ونشرها مركز دراسات الآباء بالقاهرة سنة 1995م .

1  أى يمسك نسل إبراهيم (أنظر عب17،16:2).

2  كانت مضمنة في خطة الخلاص في قصد الله ليأخذ منها الكلمة جسداً .


 

 


لإلهنا كل مجد + كرامة + عزة + سجود إلى الأبد آمين

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +