Skip to Content

السلام في الارض - 1963 - البابا يوحنا الثالث والعشرون

 

الرسَالة العـَامّة

لقداسَة البابا يوحنا الثالث والعشرين

في السّلام في الأرض

Pacem in Terris

سَلام أساسه الحقيقة والعدل والمحبّة والحريّة

 

إلى إخواننا الأجلاء البطاركة والمقدمين ورؤساء الأساقفة والأساقفة وجميع الرؤساء الكنسيين القائمين على السلام والشركة مع الكرسي الرسولي وإلى جميع الإكليروس والمؤمنين في العالم كله وإلى الناس ذوي الإرادة الحسنة جميعاً

 

أيها الإخوة الأجلاء والأبناء الأعزاء

السلام والبركة الرسولية

 

توطئـة

 

النظام في الكون

1- إن السلام على الأرض، موضوع الرغبة العميقة التي تختلج في قلب البشرية عبر الأزمنة كلها، لا يمكن أن يتأسس ويتوطد إلا على الاحترام المطلق للنظام الذي وضعه الله.

ولنا في تطورات العلوم واكتشافات التكنيك ما يقنعنا: فالكائنات الحية والقوى الكونية يسودها نظام عجيب. وإنما عظمة الإنسان في قدرته على تبين هذا النظام وصنع الآلات التي تستقطب طاقات الطبيعة وتخضعها لخدمته.

2- إلا أن أول ما تعلنه تطورات العلوم واكتشافات التكنيك، عظمة الله اللامحدودة، خالق الكون والإنسان نفسه. لقد خلق الكون ونشر فيه غنى حكمته ومحبته. ذلك ما يعبر عنه صاحب المزامير، بقوله "أيها الرب سيدنا، ما أعظم اسمك في الأرض. ما أعظم أعمالك يا رب. لقد صنعت جميعها بالحكمة".

وخلق الإنسان عاقلاً وحراً على صورته ومثاله، ونصبّه سيداًَ على الكون: "سلطته على أعمال يديك. وأخضعت كل شيء تحت قدميه".

 

النظام في الكائنات البشرية

3- وإنا لنرى في ألم ذلك التناقض القائم بين نظام بلغ هذا الحد من الكمال وفوضى تلقي في ميدان التطاحن الأفراد والشعوب، كأن القوة وحدها هي القادرة على تنظيم علاقاتهم المتبادلة.

مع أن خالق العالم قد خط النظام في أعمق أعماق الإنسان، وهو نظام يعلنه الضمير ويرغم على احترامه: "يظهرون أن ما يفرضه الناموس مكتوب في قلوبهم وضميرهم يشهد".

كيف لا ومصنوعات الله كلها تعكس حكمته اللامحدودة، انعكاساً يتزايد فيها وضوحاً بقدر ما ترتقي في سلم الكائنات.

4- إلا أن الفكر البشري كثيراً ما يعتقد في خطأ أن علاقات الأفراد بالمجتمع السياسي الذي إليه ينتمون يمكن أن تنظم وفقاً للنواميس التي تخضع لها القوى والعناصر غير العاقلة في الكون. والحال أن قواعد المسلك البشري تختلف طبيعة عن النواميس التي تسيّر هذه القوى والعناصر ولابد من التفتيش عنها حيث خطها الله أي في طبيعة الإنسان.

هذه القواعد هي التي توجه في وضوح مسلك الناس، سواء أكان على صعيد علاقات الأفراد بالأفراد في الحياة الاجتماعية، أم على صعيد علاقات المواطنين بالسلطات العامة في نطاق المجتمع السياسي، أم على صعيد العلاقات بين مختلف المجتمعات السياسية، أم أخيراً على صعيد علاقات هذه المجتمعات السياسية بالمجتمع العالمي الذي تستلزم قيامة اليوم، في أي إحراج، مقتضيات خير البشرية العام.

 

النظام بين الكائنات البشرية

 

لكل كائن بشري شخصية هي مرتكز حقوق وواجبات

5- إن المبدأ الذي يستند إليه أي مجتمع منظم وخصيب هو أن أي كائن بشري له شخصية أي أنه طبيعة وهبت العقل والإرادة الحرة. وبالتالي فهو موضوع حقوق وواجبات، تنحدر مباشرة وفي مجموعها من طبيعته: فهي إذن حقوق وواجبات تتميز بشمولها وحرمتها وعدم قابليتها لأن يتنازل عنها (2).

وإذا نظرنا إلى الكرامة الإنسانية على نور الحقائق التي أوحاها الله، فلابد من أن يزيد قدرنا لها. فالناس قد افتدوا بدم المسيح يسوع، وصيّرتهم النعمة أبناء الله وأصدقاء ونصبوا ورثة المجد الأبدي.

 

الحقـوق

 

الحق في الوجود وفي مستوى حياتي لائق

6- أي كائن بشري له حق في الحياة وفي السلامة الجسدية وفي الوسائل الضرورية والكافية لعيش لائق، لاسيما من حيث الغذاء والكسوة والسكن والراحة والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية. وبالتالي، فللإنسان حق في الضمان في حال المرض والعطب والإرمال والشيخوخة والعطل عن العمل وكل مرة يحرم وسائل العيش من جراء ظروف لا يسأل عنها (3).

 

الحق في القيم الأدبية والثقافية

7- أي كائن بشري له الحق أن يحترم شخصه وصيته وحريته في سعيه إلى الحقيقة والتعبير عن الفكر ونشره وفي الخلق الفني، شرط أن تصان مقتضيات النظام الأخلاقي والخير العام. كما أن له الحق أيضاً في إعلام موضوعي.

والطبيعة تطلب أيضاً الحق للإنسان في الثروة الثقافية؛ إذن، في الحصول على تعليم أساسي وتكنيكي ومهني يتناسب ومستوى التطور في الجماعة السياسية التي إليها ينتمي. وينبغي العمل على أن يبلغ كل واحد، بالطاقة التي له، الدرجات الثقافية العالية، وفي المجتمع، المراكز والمسؤوليات التي تتلاءم، قدر الإمكان، وما له من مواهب ومقدرة (4).

 

الحق في عبادة الله وفقاً لما يقتضيه عدلاً الضمير المستقيم

8- لكل أحد الحق في أن يعبد الله وفقاً للقاعدة العادلة التي يمليها الضمير وفي أن يمارس ديانته في الحياة الفردية والعامة. ذلك ما يعلنه في صراحة لاكتانسيوس: "إننا نُمنح الوجود لنقدم لله الذي يمنحناه العبادة التي تجب له عدلاً، ولنعرفه هو وحده ونتبعه دون سواه. إن واجب البر البنوي هذا يربطنا بالله ويصلنا به" (5).

وفي هذا الموضوع، أعلن سلفنا الخالد الذكر لاون الثالث عشر: "هذه الحرية الحقيقية اللائقة حقاً بأبناء الله والتي تصون كما ينبغي نبالة الشخصية الإنسانية إنها لتعلو على أي عنف وأي محاولة لا عادلة. والكنيسة ما فتئت تطالب بها وما أحبت عليها شيئاً. هذه الحرية، ناضل الرسل في سبيلها، والمحامون عن الدين المسيحي أثبتوها في كتاباتهم، والشهداء، جماعات، ختموها بدمائهم" (6).

 

الحق في حرية اختيار حالة في الحياة

9- كل إنسان له الحق أن يختار حراً حالته في الحياة. فله الحق، إذن، في أن يؤسس أسرة يتساوى فيها الزوجان حقوقاً وواجبات، أو أن يلبي الدعوة إلى الكهنوت أو إلى الحياة الرهبانية (7).

إن الأسرة المتأسسة على زواج يعقد في حرية، ومن خصائصه الوحدة واللإنحلال، هي، وينبغي أن تعتبر، خلية المجتمع الأولى والطبيعية. وهذا يفرض واجب اتخاذ ما يلزم من تدابير، سواء أكان على الصعيد الاقتصادي أم الاجتماعي والثقافي والأخلاقي، لتوطيد ثباتها وتسهيل المهمة المنوطة بها.

وإلى الوالدين، أولاً، يعود الحق في تأمين العيش والتربية لأولادهم (8).

 

الحقوق المتعلقة بعالم الاقتصاد

10- لكل إنسان حق في العمل وفي المبادرة في الميدان الاقتصادي (9).

وهذان الحقان، لا يمكن أن يُفصلَ عنهما الحق في أن يمارس العمل في ظروف لا تضر بالصحة أو بالأخلاق، ولا تعيق النمو الطبيعي في الشبيبة، وتتناسب، في عمل المرأة، ومقتضيات جنسها وواجباتها من حيث هي زوجة وأم (10).

والكرامة البشرية هي الأساس أيضاً لحق القيام بالنشاط الاقتصادي في ظروف طبيعية من حيث المسؤولية الشخصية (11).

وتجدر الإشارة إلى أنه يستخلص من هذا. أن للعامل الحق في أجرة تحدد وفقاً لنواميس العدل. ومع اعتبار إمكانيات رب العمل، لا بد من أن تكون هذه الأجرة على قدر يمكّن العامل وأسرته من العيش على مستوى يليق بالكرامة الإنسانية. وفي هذا المعنى قال سلفنا بيوس الثاني عشر: "إن شريعة العمل المخطوطة في الطبيعة يقابلها الحق، وهو حق طبيعي كالأول، في أن يدرّ هذا العمل على القائم به ما يمكنه من العيش هو وأولاده. فالسيادة على الطبيعة تهدف في صميمها إلى ضمان البقاء للإنسان" (12).

كذلك يستخلص من طبيعة الإنسان حقه في ملكية فردية للخيرات، بما في ذلك وسائل الإنتاج. وكما سبق وعلمنا في غير مناسبة، أن هذا الحق يشكل ضمانة كفوءاً لكرامة الشخصية الإنسانية وعوناً لها في التمرس الحر بالمسؤولية في شتى الميادين؛ و هو، في الوقت نفسه، عنصر استقرار وطمأنينة للأسرة تفيد منه الحياة العامة في تحقيق سلامها وتنميتها (13).

ومن جهة أخرى، يجدر التذكير أن للملكية الفردية، من طبعها، وظيفة اجتماعية (14).

 

الحق في الاجتماع والتشارك

11- من جراء أن الكائن البشري اجتماعي من طبعه، ينجم حق الاجتماع والتشارك، وحق إعطاء هذه التكتلات الأنظمة التي يعتبر أنها تؤمن خدمة أهدافها؛ وحق الاضطلاع في حرية ببعض المسؤوليات سعياً إلى هذه الأهداف (15).

إن الرسالة العامة "الكنيسة أم ومربية" تقول في صواب أن إقامة عدد كبير من المنظمات أو الهيئات التي تتوسط بين الدولة والأفراد، القادرة على بلوغ أهداف لا يمكن الأفراد أن يبلغوها ما لم يتكتلوا، يبدو وكأنها الوسيلة التي لابد منها لتمرس الشخصية الإنسانية بالحرية والمسؤولية (16).

 

الحق في الهجرة والاستيطان

12- كل إنسان له الحق في حرية التنقل والاستقرار داخل جماعة السياسية التي هو مواطن فيها. وله الحق أيضاً، عندما تدعو إلى ذلك أسباب عادلة، أن يذهب إلى الخارج ويستقر فيه (17). فإن الإنتماء إلى هذه أو تلك من الجماعات السياسية لا يمكن إطلاقاً أن يمنع أياً كان من أن يكون عضواً في الأسرة البشرية، ومواطناً في هذه الجماعة الشاملة التي تضم الناس جميعاً بروابط مشتركة.

 

الحقوق على الصعيد المدني

13- إن كرامة الشخصية البشرية يلازمها الحق في العمل الفعلي في الحياة العامة والإسهام الشخصي في تحقيق الخير العام. إن الإنسان من حيث هو إنسان، ليس هو موضوع الحياة الاجتماعية وعنصر انفعال فيها، بل هو، ويجب أن يظل كذلك، الأساس والغاية منها (18).

وهنا حق أساسي آخر للشخصية الإنسانية: حماية القانون لحقوقه الشخصية، حماية فعالة، يتساوى فيها الجميع وفقاً لنواميس العدل الموضوعية. "إن النظام الحقوقي الذي أراده الله، يستخلص منه لجميع ا لناس هذا الحق الذي لا يمكن التنازل عنه والذي يضمن لكل واحد حماية القانون ونطاقاً واقعياً من الحقوق تؤمّن حرمته ضد كل تعد اعتباطي" (19).

 

الواجبـات

 

التلازم بين الحقوق والواجبات في الشخص الواحد

14- لقد ذكّرنا حتى الآن بسلسلة من الحقوق الطبيعية. وهي حقوق يلازمها في الإنسان موضوعها سلسلة مماثلة من الواجبات. والشريعة الطبيعية تمنح تلك وتفرض هذه. وكلها تستمد من هذه الشريعة الطبيعية نفسها أصلها ودوامها وقوتها التي لا تقهر.

فهكذا، مثلاً، يلازم الحق في الحياة واجب الحفاظ عليها؛ والحق في عيش لائق يلازمه واجب السلوك في كرامة؛ والحق في السعي الحر إلى الحقيقة يلازمه واجب توسيع هذا السعي وتعميقه.

 

تبادل الحقوق والواجبات بين الأشخاص المختلفين

15- في الحياة الاجتماعية، كل حق تمنحه الطبيعة شخصاً يخلق في السوي واجباً هو الاعتراف بهذا الحق واحترامه. لأن أي حق أساسي في الإنسان يستمد قوته الإلزامية من الناموس الطبيعي الذي يمنحه ويفرض الواجب الذي يلازمه. وإن الذين ينسون، في مطالبتهم بحقوقهم، واجباتهم، أو يتهاونون في القيام بها، إنما يتعرضون لأن يهدموا بيد ما يبنونه بالأخرى.

 

في التعاون

16- بحكم طبيعتهم الاجتماعية يتحتم على الناس أن يعيشوا بعضهم مع بعض وأن يعملوا لخير بعضهم بعضاً. وبالتالي فالإنسجام في مجتمع يستلزم الاعتراف والقيام بالحقوق والواجبات. وعلاوة على ذلك فكل واحد مدعو لأن يسهم في سخاء في تشييد نظام اجتماعي يؤمّن في ازدياد مطرد الحقوق والواجبات.

فلا يكفي أن يُعترف بحق الإنسان في وسائل العيش وأن يُحترم هذا الحق، بل يجب أن يُعمل، وكل بنسبة قواه، على تأمين هذه الوسائل بكفاية.

إن الحياة الاجتماعية لا يكفيها أن تؤمن النظام فحسب، بل يجب أن تأتي الأعضاء بفوائد. مما يقتضي الاعتراف بالحقوق والواجبات واحترامها، ولكنه يقتضي أيضاً إسهام الجميع بحسب الأشكال المتعددة التي جعلها التطور العصري ممكنة ومشتهاة وضرورية.

 

مع وعي المسؤوليات

17- إن كرامة الشخصية الإنسانية تقتضي أن يعمل كل واحد وفقاً لقرار واع وحر. وفي الحياة الاجتماعية ينتظر خصوصاً من القرارات الشخصية احترام الحقوق والقيام بالواجبات والإسهام في شتى الأعمال. ولابد للفرد من أن يدفعه اقتناعه الشخصي ومبادرته الخاصة ووعيه مسؤولياته وليس تأثير الارغام والضغط يأتيه من الخارج.

إن مجتمعاً يرتكز على علاقات القوة فحسب ليس بالمجتمع البشري: فهو يقلص حتماً حرية الناس، بدل أن يكون لها العون والحافز لتتطور وتتكامل.

 

العيش المشترك في الحقيقة والعدل والمحبة والحرية

18- لذلك، فلا ينتظم مجتمع ولا تحترم فيه الشخصية الإنسانية، ولا يكون مصدر خير، ما لم يرتكز على الحقيقة، حسب قول الرسول: "فانبذوا، إذن، الكذب، وكلّموا كل واحد قريبه بالحق، إذ أنا أعضاء بعضنا لبعض". وهذا يفرض أن الحقوق والواجبات المتبادلة يُعترف بها في إخلاص. وهذا المجتمع ينبغي أيضاً أن يتأسس على العدل، أي على الاحترام الفعلي لهذه الحقوق وعلى القيام المخلص بهذه الواجبات. كما أنه يجب أن يحيا بالمحبة، أي بهذه العاطفة التي تجعل كل واحد يحس حاجات القريب وكأنها حاجاته هو، ويشركه بخيراته، وتدفع إلى تبادل يتزايد مع الزمن في ميدان القيم الروحية. هذا المجتمع أخيراً يجب أن يتحقق في الحرية، أي بالطريقة التي تليق بكائنات عاقلة خلقت لتتحمل مسؤوليات أعمالها.

19- إن الحياة الاجتماعية، أيها الإخوة المحترمون والأبناء الأعزاء، يجب أن ينظر إليها أولاً من حيث هي واقع روحي. لأنها تبادل معرفة في ضوء الحقيقة، وتمرس بحق وقيام بواجب، وتنافس في السعي إلى الخير الأدبي، واشتراك في التنعم النبيل بالجمال في كل مظاهره المشروعة، واستعداد دائم لأن نشرك السوى بأحسن ما فينا، ونزعة مشتركة إلى اغتناء روحي ثابت. تلك هي القيم التي يجب أن تحيي وتوجه كل شيء: في الحياة الثقافية والاقتصادية والتنظيم الاجتماعي، والحركات والأنظمة السياسية والتشريع وأي مظهر آخر من مظاهر الحياة الاجتماعية في تطورها الدائم.

 

الله، الأساس الموضوعي للنظام الأدبي

20- إن النظام الخاص بالجماعات البشرية هو من عنصر أدبي. لأنه نظام يتأسس على الحقيقة ويتحقق بالعدل ويقتضي أن تحييه المحبة ويجد في الحرية توازناً لا يفتأ يتجدد ويزداد إنسانية.

هذا النظام الأدبي، الشامل والمطلق وغير المتحوّل من حيث مبادئه له أساس الموضوعي في الإله الحقيقي المتعالي والشخصي، الحقيقة الأولى والخير الأسمى والمعين الأكثر غزارة للحيوية في مجتمع منتظم خصيب يتلاءم وكرامة البشر الأعضاء فيه (20). والقديس توما الأكويني يعبر في صراحة عن هذه الحقيقة: "إن إرادة الإنسان لها قاعدتها ومقياس درجة الصلاح فيها في عقل الإنسان. وهذا يستمد سلطته من الناموس الأبدي الذي ليس هو سوى العقل الإلهي. وبالتالي، والأمر جلّي، فالصلاح في الإرادة البشرية يتعلق أكثر بكثير بالناموس الأبدي منه بالعقل البشري" (21).

 

علامات الأزمنة

21- ثلاث ميزات تعطي عصرنا طابعه الخاص. الميزة الأولى، رقي الطبقات الكادحة اقتصادياً واجتماعياً. فلقد وجهت هذه الطبقات جهودها أولاً صوب المطالبة بحقوقها، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية منها. ثم اتسعت هذه الجهود وشملت الميدان السياسي، وتناولت أخيراً حقها في الحصول، وفقاً لأوضاع خاصة بها، على ما يصيبها من الثروة الثقافية. واليوم، نرى لدى العمال في جميع البلدان حساسية عميقة حيال مطلب فحواه أن ينظر إليهم ويعاملوا ليس ككائنات لا حق لها ولا حرية، تستخدم وفقاً لهوى أسيادها، بل كأشخاص بشريين، وذلك في قطاعات الحياة الاجتماعية كلها: القطاع الاقتصادي الاجتماعي والثقافي والسياسي.

22- والميزة  الثانية التي تفرض وجودها على كل مطّلع: دخول المرأة الحياة العامة، دخولاً ربما أسرعت إليه الشعوب ذات الحضارة المسيحية، أكثر من تلك التي لها تقاليد وحضارات أخرى، غير أنه يبقى في هذه الأخيرة في نمو مطّرد. وإذ تزايد يوماً بعد يوم وعي المرأة كرامتها الإنسانية، لم تعد تقبل أن تعتبر آلة. إنها لتقضي أن تعتبر شخصاً إنسانياً سواء أكان في البيت أم في الحياة العامة.

23- أخيراً، وبالنسبة إلى ماض قريب، نرى البشرية على نظام اجتماعي وسياسي يختلف اختلافاً عميقاً عما كان عليه. أي أنه لم يعد هناك شعوب سائدة وشعوب مسودة: فالشعوب كلها أسست، أو تؤسس اليوم، جماعات سياسية مستقلة.

24- فالناس في جميع البلدان والقارات هم اليوم مواطنو دول تنعم بالحكم الذاتي والاستقلال، أو هم في طريقهم إلى هذا الحكم الذاتي والاستقلال. وليس من يريد لذاته أن يكون خاضعاً لسلطات سياسية غريبة عن جماعته أو كتلته العنصرية. وإنا لنشهد لدى الكثيرين اضمحلال مركب الدونيّة الذي ساد طوال مئات وآلاف السنين، بينما أخذ يتقلص لدى الآخرين بل هو في طريقه إلى الزوال، مركب التفوق المنبثق من امتيازات اقتصادية واجتماعية أو من الجنس أو من المركز السياسي.

فقد انتشرت الآن على وسيع مدى فكرة المساواة الطبيعية بين البشر جميعاً. ولذا فلم يعد هناك، أقلّه نظرياً، أي مبرر للتمييز العنصري. وهذا ما يشكل خطوة هامة في السبيل المؤدية إلى مجتمع إنساني يتوطد على المبادئ التي ذكّرنا بها. والآن بقدر ما يعي الإنسان حقوقه، بقدر ذلك ينشأ فيه، وكأنه ضرورة، وعي الالتزامات التي تلازم هذه الحقوق: إن حقوقه الشخصية هي أولاً تعابير عن كرامته التي يطالب بها، وعلى الغير الاعتراف بهذه الحقوق واحترامها.

25- وإذ يعبّر عن نواميس الحياة المشتركة بكلمات حقوق وواجبات، ينفتح الناس على القيم الروحية ويفقهون معنى الحقيقة والعدل والمحبة والحرية، ويعرفون أنهم إنما ينتمون إلى مجتمع من مستوى هذه القيم، بل إن هذا يحملهم على أن يعرفوا أكثر الإله الحقيقي المتعالي والشخصي. وإذ ذاك فعلائقهم بالله تبدو لهم وكأنها مرتكز الحياة، الحياة التي يعيشها الإنسان في صميم ذاته وتلك التي يعيشها جماعياً مع سواه.

 

العلاقات بين الأفراد والسّلطات العامّة

في نطاق كل جماعة سياسيّة

 

ضرورة السلطة وأصلها الإلهي

26- لكان ينقص الحياة الاجتماعية النظام و الخصب لو لم يوجد أناس يضطلعون بالسلطة شرعاً ويصونون حرمة الأنظمة ويعملون  بقدر كاف على تحقيق الخير العام. إن سلطتهم تأتيهم من الله كما يعلم القديس بولس: "لا سلطة إلا من الله". وتعليم الرسول هذا يشرحه القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله: "أي شيء تعني؟ أيكون أن كل حاكم نصبّه الله في وظيفته؟ ليس هذا ما أقول، يجيب الرسول؛ لست أعني الأفراد أصحاب السلطة، بل الوكالة التي أؤتمنوا عليها إياها أعني. أن يوجد سلطات عامة، أي أن يكون هناك أناس يأمرون وآخرون يطيعون، وأن لا يناط كل شيء بالصدف، ذلك عمل الحكمة الإلهية" (22). وبعبارة أخرى: لما كان الله قد وهب الطبيعة البشرية الصفة الاجتماعية، وبما أن أي مجتمع لا يقوم بغير رئيس يعبيء الأعضاء جميعهم بعمله الفعال والموحّد في خدمة الأهداف المشتركة، فكل مجتمع بشري لا بد له من سلطة تسوسه. ولذلك، فهذه السلطة، على غرار المجتمع، يعود أصلها إلى الطبيعة وبالتالي إلى الله نفسه (23).

27- ولا يعني هذا أن السلطة لا تطالها أي شريعة. لأنها تقوم على صلاحية إصدار الأوامر وفقاً للعقل السليم. من هنا إن القوة الإلزامية التي لها تأتيها من النظام الأدبي الذي يرتكز بدوره على الله مبدأه وغايته. "إن النظام المطلق الذي للكائنات الحية، وغاية الإنسان نفسها – أقول الإنسان الحر موضوع واجبات وحقوق لا يمكن أن تثلم حرمتها، الإنسان أصل المجتمع وغايته – يتعلقان أيضاً بالمجتمع من حيث هو جماعة ضرورية تسودها سلطة. وبدون هذه لا كيان للمجتمع ولاحياة له. إن العقل السليم والإيمان المسيحي خصوصاً يعلنان أن هذا النظام الشامل يعود أصله ضرورة إلى الله الكائن الشخصي وخالقنا جميعاً. وبالتالي، فصلاحيات السلطة العامة إن هي في الإنسان إلا اشتراك بالسلطة الإلهية نفسها" (24).

28- فالسلطة التي ترتكز فقط أو خصوصاً على التهديد والخوف من الملاحقات الجزائية أو على الوعود بالمكافآت، لا ينجح عملها أصلاً في الحث على السعي إلى الخير العام. وهبه استطاع فبطريقة غريبة عن كرامة الإنسان، الكائن الحر والعاقل. إن السلطة أولاً قوة معنوية. ولابد للمضطلعين بها من أن يستندوا أولاً إلى الضمير وإلى الواجب الذي يفرض على الجميع الإسراع في خدمة المصالح العامة. ولكن البشر إذ يتساوون جميعاً كرامة طبيعية، فليس لأحد أن يقتضي سواه الرضوخ النفسي الصميم.

29- لأن هذا السلطان محصور في الله الذي يمحص وحده قرارات الإنسان في داخله ويقضي فيها (25). وبالتالي، فالسلطة البشرية لا تستطيع أن تربط الضمائر إلا بقدر ما ترتبط هي نفسها بسلطة الله وتشكل اشتراكاً بها.

بهذا تصان كرامة المواطنين نفسها لأن الطاعة التي يؤدونها لذوي السلطة ليست موجهة لبشر من حيث هم بشر، إنما هي عاطفة إكرام تقدم لله خالق الكون وعنايته الذي أخضع العلائق البشرية للنظام الذي وضعه هو نفسه. ولسنا ننحط إذا قدمنا لله الاحترام الواجب له، بل، بالعكس، فإننا بذلك نرتقي سمواً ونبلاً، إذ لخدمة لله سيادة (26).

30- إن السلطة التي يقتضيها النظام الأدبي، تنبثق من الله. فإذا ما حدث للحكام أن يسنوا قوانين أو يتخذوا قرارات تتنافى وهذا النظام الأدبي أي تضاد إرادة الله، فليس لهذه التدابير أي إلزام في الضمائر لأن الله أحق من الناس بأن يطاع. بل إن السلطة في مثل هذه الأحوال لا تعدو سلطة ولكنها تتحول إلى استبداد (27).

31- إن أصل السلطة الإلهي لا ينتزع من الناس حق انتخاب حكامهم وتشكيل الدولة أو فرض قواعد وحدود لممارسة السلطة. ولذا فالعقيدة التي بسطناها تتلاءم وكل شكل من أشكال الحكم الديمقراطي الصحيح (28).

 

تحقيق الخير العام، علة وجود السلطات العامة

32- إن على الأفراد والهيئات المتوسطة جميعاً واجب الإسهام، كل في نطاقه، في خير المجموع. وانسجاماً مع هذا الخير يجب أن يسعوا إلى مصالحهم الخاصة ويسترشدوا، في ما يعود إليهم من إسهام في خير المجموع وخدمته، التوجيهات التي تحددها السلطات العامة وفقاً لنواميس العدل وضمن حدود صلاحيتها وأشكال ممارستها. فالأعمال التي تأمر بها السلطة لابدّ لها من أن تكون قويمة في ذاتها وذات مضمون أخلاقي صالح أو أقله قابلاً لأن يوجه صوب الخير.

غير أن الوظيفة الحكومية إذ لا معنى لها إلا بالنظر إلى الخير العام، فالتدابير التي يتخذها المقلدون هذه الوظيفة يجب، في الوقت نفسه، أن تحترم طبيعة هذا الخير الحقيقية وتعتبر الأوضاع الراهنة (29).

 

النواحي الأساسية في الخير العام

33- إن الخصائص العنصرية التي تميز مختلف الفئات البشرية تدخل في نطاق الخير العام غير أنها لا تكفي وحدها، من جراء ذلك، لأن يحدّد بموجبها هذا الخير العام تحديداً كاملاً (30). فإن هذا الخير العام لا يمكن أن يحدد عقائدياً، في وجوهه الأساسية والأكثر عمقاً، ولا تاريخياً إلا بالرجوع إلى الإنسان، إذ هو عنصر يتعلق جوهرياً بالطبيعة الإنسانية (31).

34- ثم إن طبيعة هذا الخير العام تفرض أن يسهم جميع المواطنين فيه، وفقاً لأشكال تختلف باختلاف ما لكل واحد من عمل وقدرة ووضع. ولذا، فمجهود السلطات العامة يجب أن يسعى لخدمة مصالح الجميع دون تفضيل فرد على آخر أو طبقة على أخرى. إن سلفنا لاون الثالث عشر عبر عن هذه الحقيقة بقوله: "لا يمكن أصلاً أن يسمح أن توجّه السلطة المدنية لفائدة فرد أو عدد ضئيل من الأفراد، لأنها وضعت لخير الجميع" (32). إلا أن اعتبارات عدل وإنصاف تملي أحياناً على المسؤولين في الدولة عطفاً خاصاً على الأعضاء الأكثر ضعفاً في الجسم الاجتماعي، لضآلة امكانياتها في الدفاع عن حقوقها ومصالحها المشروعة" (33).

35- وهنا لابد لنا من أن نلفت النظر إلى أن الخير العام يتناول الإنسان في كليته، في حاجاته الروحية والمادية. وإذ ننظر إلى الخير العام هذا النظرة، نراه يقتضي الحكومات سياسة مدروسة، تحترم تسلسل القيم وتقيم توازناً عادلاً بين ما تقدمه للجسد وللروح من مقومات حياة تتناسب كلا منهما (34).

إن هذه المبادئ في غاية الإنسجام مع ما سبق وفصّلناه في رسالتنا العامة "الكنيسة أم ومربية": إن الخير العام يتناول مجموع أوضاع الحياة الاجتماعية التي تمكن الإنسان من بلوغ كماله الخاص بطريقة أكثر كمالاً وسهولة (35).

فالإنسان إذ هو مركب من جسد ونفس خالدة، لا يستطيع في حياته الزائلة على الأرض أن يلبي رغبات طبيعته كلها ولا أن يبلغ السعادة الكاملة. ولذا فالوسائل المستعملة سعياً إلى الخير العام لا يمكن أن تحول دون خلاص الناس الأبدي، بل يجب أيضاً أن يكون لها فيه اسهام إيجابي (36).

 

دور السلطات العامة حيال حقوق الشخصية الإنسانية وواجباتها

36- إن الفكر المعاصر يضع الخير العام خصوصاً في الحفاظ على حقوق الشخصية الإنسانية وواجباتها. وبالتالي، فدور الحكام يقوم خصوصاً على ضمانة الاعتراف بهذه الحقوق واحترامها وإنسجامها المتبادل والدفاع عنها وتنميتها، وفي النتيجة على أن يسهل لكل مواطن قيامه بواجباته. لأن رسالة كل سلطة سياسية هي، جوهرياً، حماية ما للكائن البشري من حقوق لا تثلم والعمل على أن يقوم كل واحد بوظيفته الخاصة في سهولة (37).

ولذلك، فإذا ما أقدمت السلطات العامة على تجاهل حقوق الإنسان أو ثلمها، فلا تكون قد أخلت بواجبها فحسب، بل أن تدابيرها تخلو إذ ذاك من أي قيمة قانونية (38).

 

التوافق المنسجم بين حقوق الشخصية الإنسانية وواجباتها والدفاع الفعال عنها

37- فنحن إذن بإزاء واجب أساسي ملقى على عاتق السلطات العامة، واجب تنظيم العلاقات الحقوقية بين المواطنين، حتى أن تمرس البعض بحقوقهم لا يحول دون تمرس البعض الآخر بحقوقهم أو لا يؤثر فيه، وإن يلازم التمرس بهذه الحقوق القيام بالواجبات المناسبة. وأخيراً واجب الحفاظ على كامل حقوق الجميع وإعادتها إلى أصحابها في حال التعدي (39).

 

إفساح المجال أمام التمرس بالحقوق

38- ويتوجب أيضاً على السلطات العامة الإسهام في خلق أوضاع تسهل لكل واحد الدفاع عن حقوقه والقيام بواجباته. لأن الخبرة تعلمنا أن السلطة إذا لم تعمل كما ينبغي في الميدان الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، زاد التفاوت بين المواطنين، لاسيما في عصرنا الحاضر، إلى حد أن حقوق الشخصية الإنسانية الأساسية تظل بدون مرمى فعال ويتعذر القيام بالواجبات  المناسبة.

39- فلابد إذن للسلطات العامة من أن تهتم لتجيء التنمية الاجتماعية محاذية للتنمية الاقتصادية. فتسهر على أن تتطور، بنسبة الانتاج القومي، الخدمات الأساسية أمثال شبكة الطرقات ووسائل النقل والاتصال وتوزيع مياه الشفة والسكن والمعونة الصحية والتعليم والأوضاع الملائمة للقيام بالواجبات الدينية والترفيه. وتعكف على تنظيم أساليب التأمين في حال وقوع أحداث مؤلمة أو ازدياد الأعباء العيلية، حتى تتوفر للجميع المرافق التي لابد منها لحياة لائقة. وتعنى بأن يجد العمال القادرون على الشغل العمل الذي يتناسب وإمكاناتهم، وأن ينال كل منهم الأجرة التي يقتضيها العدل والانصاف، وأن يحس العمال أن لهم مسؤولية حيث يعملون. وأن تقوم حيث وكما يجب أن تقوم هيئات متوسطة تزيد العلائق الاجتماعية سهولة وخصباً؛ وأخيراً أن تكون الثقافة في متناول الجميع وفقاً لأشكال ومستويات مناسبة.

 

التوازن بين شكلي عمل السلطات العامة

40- إن المصلحة العامة تقتضي أن تقوم السلطات العامة بعمل مضاعف في ميدان حقوق الشخصية الإنسانية: الأول عمل توفيق ودفاع، والثاني عمل تقييم، مع السهر في عناية على إقامة توازن رشيد بينهما. فمن جهة يجب السهر على ألاّ يخلق التفوق الذي يُمنَحه أفراد أو هيئات أوضاعاً لها امتيازاتها؛ ومن جهة أخرى، حذار من أن العكف على صيانة حقوق الجميع يؤول، بردة معاكسة، إلى سياسة تضعف كثيراً هذه الحقوق أو تحول دون التمرّس بها على وجه كامل.

"هناك واقع لابد من التمسك به: إن عمل الدولة في الميدان الاقتصادي، أياً كان مداه ولو بلغ في العمق نوابض المجتمع، لا يمكن أن يقضي على حرية عمل الأفردا. بل على الدولة بالعكس أن تنمي عمل الأفراد هذا، شرط أن تصان الحقوق الأساسية لكل شخص بشري" (40).

إلى هذا التوازن يجب أن تهدف مختلف الجهود التي تقوم بها السلطات العامة لكي تسهل للمواطنين التمتع بحقوقهم وتخفف من صعوبة قيامهم بواجباتهم في جميع مرافق الحياة الاجتماعية.

 

السلطات العامة من حيث الشكل وطريقة العمل

41- إن ليستحيل أن نضع تحديداً واحداً نهائياً لأكمل شكل تتخذه السلطات العامة، وللطرائق التي تؤمن على الوجه الأكمل الاضطلاع بالسلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية.

ذلك أن الأوضاع الخاصة والظروف التاريخية التي لكل شعب لها أثرها البعيد في تحديد شكل الحكم وطرائق الاضطلاع به. والحال، إن هذه الأوضاع والظروف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. مع ذلك، فإنّا نرى أن تنظيم الجماعات البشرية السياسي المؤسس على فصل السلطات التي ترجع إلى الوظائف الأساسية الثلاث في السلطة العامة فصلاً ملائماً، يتناسب أكثر ومعطيات الطبيعة الإنسانية. ذلك إنه في هذا النظام تحدد بعبارات قانونية ليس صلاحيات السلطات العامة وسيرها فحسب، بل أيضاً العلائق بين ممثلي السلطة والمواطنين مما يشكل لهؤلاء ضمانة في التمرس بحقوقهم والقيام بواجباتهم.

42- مع ذلك، فلكي يأتي نظام حقوقي وسياسي من هذا النوع بالنتائج المتوخاة، لابد للسلطات العامة من أن تعي في عملها والأساليب التي تتخذها، طبيعة وملابسات المعضلات التي يُطلب منها حلها وفقاً لأوضاع البلاد. ولابد أيضاً من أن تضطلع كل سلطة بوظيفتها بالطريقة المثلى. أي أن هذا يقتضي أن تمارس السلطة التشريعية وظيفتها ضمن نطاق النظام الأدبي والدستوري وتفسر تفسيراً موضوعياً مستلزمات الخير العام في تطور الأوضاع الدائم. وأن تعكف السلطة التنفيذية على أن يكون الحق شامل السيادة في ضوء معرفة كاملة للتشريع وتقدير ضميري للظروف. وأن توزع السلطة القضائية العدل في حياد مشبع روحاً إنسانياً وألا تلين حيال ما توقعه مصالح الفرقاء المعنيين من ضغط. أخيراً يقضي الانتظام أن ينعم المواطنون والهيئات المتوسطة في التمرس بحقوقهم والقيام بمسؤولياتهم، بحماية قانونية فعالة سواء أكان في علاقاتهم المتبادلة أم في علاقاتهم مع ممثلي الدولة (41).

 

النظام القانوني والضمير الأدبي

43- إن نظاماً قانونياً ينسجم مع النظام الأدبي ويتجاوب مع درجة النضوج السياسي التي يعبر عنها، يشكل دون ريب عنصراً أساسياً لتحقيق الخير العام.

غير أن الحياة الاجتماعية أضحت اليوم متعددة الوجوه متشعبة ووثابة الانطلاق إلى حد أن التدابير القانونية، حتى تلك التي هي ثمرة الخبرة الكاملة والاستدراك الحكيم، تبدو دوماً غير كافية. وعلاوة على ذلك، فعلائق الأفراد في ما بينهم، وعلائقهم وعلائق الهيئات المتوسطة، بالسلطات العامة، وكذلك العلائق التي تربط مختلف أجزاء السلطة في نطاق الدولة الواحدة، تخلق أحياناً معضلات دقيقة وكثيرة التشابك إلى حد تعذر وجود حل لها في نطاقات قانونية محددة. ففي مثل هذه الأحوال، لابد للحكام، لكي يكونوا في الوقت نفسه أمناء للنظام الحقوقي القائم في عناصره وفي عميق مفاهيمه، ومنفتحين على النداءات الصاعدة من الحياة الاجتماعية، ولكي يعرفوا أن يطبقوا الإطار القانوني على تطور الأوضاع ويحلوا على أحسن وجه معضلات لا تفتأ جديدة، لابد لهم من التوازن والاستقامة الأدبية والتبصر العميق والحدس العملي الذي يمكنهم من تفسير الوقائع في عجلة وموضوعية، ومن إرادة حازمة وقوية للعمل في سرعة وفعالية.

 

اشتراك المواطنين بالحياة العامة

44- أن يستطيع المواطنون الاشتراك العملي بالحياة العامة، ذلك حق ملازم لكرامتهم الإنسانية، مع الإشارة إلى أن طرائق هذا الاشتراك منوطة بدرجة النضوج التي بلغتها الجماعة السياسية التي هم أعضاء فيها والتي فيها يعملون.

إن إمكانية التدخل هذه تفتح أمام الكائنات البشرية آفاقاً جديدة ووسيعة في عالم الخدمة. وإذ يدعى القادة إلى الاحتكاك المتواتر بمرؤوسيهم وتبادل الرأي معهم، فإنهم بذلك يتفهمون أكثر مستلزمات الخير العام الموضوعية. ومن جهة أخرى فالتجديد الدوري الذي يتناول الوظائف العامة يصون السلطة من الشيخوخة ويأتيها بدفقات من الحيوية تنسجم وتطور الحياة الاجتماعية.

 

علامات الأزمنة

45- في التنظيم الحقوقي الذي للجماعات السياسية اليوم يلاحظ أولاً ميل إلى خط  شرعة لحقوق الإنسان الأساسية بتعابير واضحة ومقتضبة، وهي شرعة غالباً ما تدخل في صلب الدساتير أو تؤلف قسماً منها مكملاً. ويلاحظ ثانياً أن هناك ميلاً إلى النص بتعابير قانونية في هذه الدساتير عن طريقة تعيين ذوي السلطات العامة، وعلاقاتهم المتبادلة ومدى صلاحياتهم وأخيراً الوسائل والطرائق التي يرغمون على اتباعها في إدارتهم.

وأخيراً تحدد بشكل حقوق وواجبات علائق المواطنين بالسلطات العامة. ويطلب إلى السلطة، كدور أدبي تقوم به، أن تقر وتحترم حقوق المواطنين وواجباتهم، وتؤمن إنسجامهم المتبادل والدفاع عنها وتنميتها.

أجل، لا يمكن الأخذ بنظرية القائلين أن إرادة الناس، سواء أكانوا أفراداً أو فئات اجتماعية، هي المصدر الوحيد والأول لحقوق المواطنين وواجباتهم ولقوة الدساتير الإلزامية ولسلطة الحاكمين (42).

46- مع ذلك، فالميول التي أشرنا إليها تبرهن بكفاية أن البشر يعون اليوم وعياً حاداً كرامتهم، مما يحملهم على الاشتراك الفعلي بالقضايا العامة وعلى المطالبة بأن تضمن تدابير القانون الوضعي في الدول حرمة حقوقهم الشخصية. وإنهم يقتضون، علاوة على ذلك، أن الحكام لا يتسلمون الحكم إلا وفقاً لأصول محددة في الشرائع ولا يمارسوا سلطتهم إلا في نطاقها.

 

العلاقات بين الجماعات السياسية

 

حقوق وواجبات

47- أنا لنؤكد مجدداً التعليم الذي طالما ردده سلفاؤنا: إن الجماعات السياسية لها في ما بينها حقوق وواجبات متبادلة. فلابد لها إذن من الانسجام في علاقاتها وفقاً للحقيقة والعدل، بروح تضامن فعلي وفي حرية. والشريعة الأدبية نفسها التي تنظم حياة الناس هي التي يجب أن تنظم العلاقات بين الدول.

إن هذا المبدأ يفرض ذاته في وضوح عندما نعتبر أن الحكام، إذ يعملون باسم جماعتهم ولصالحها، لا يمكنهم اطلاقاً أن يتخلوا عن كرامتهم الإنسانية. وبالتالي فلا يجوز لهم أصلاً أن يخونوا شريعة طبيعتهم التي هي الشريعة الأدبية.

ومن جهة أخرى فإنه لمن غير المنطق أن الرقي إلى الإدارة العامة يرغم الناس على التخلي عن كرامتهم الإنسانية، أليس أنهم لم يتبواؤا مراكزهم العالية هذه إلا لأنهم، نظراً لصفاتهم الخاصة الفريدة، ظهروا وكأنهم أبرز أعضاء هذا الجسم الاجتماعي.

وفضلاً عن ذلك فإن النظام الأدبي يفرض في كل مجتمع وجود سلطة. وإذ أنها تأسست على هذا النظام فلا يمكن للسلطة أن تستخدم ضده بدون أن تتحطم هي والروح القدس ينبّهنا إلى ذلك: "انتم أيها الملوك اسمعوا وتعقلوا؛ ويا قضاة أقاصي الأرض اتعظوا، اصغوا أيها المتسلطون على الجماهير، المفتخرون بجموع الأمم. فإن سلطانكم من الرب وقدرتكم من العلي الذي سيفحص أعمالكم يستقصي نياتكم".

48- هل من ضرورة أخيراً للتذكير، في ما يتعلق بالعلاقات الدولية، إن السلطة يجب الاضطلاع بها لتحقيق الخير العام. تلك هي علة وجودها الأدبي. والحال فإنه من المبادئ الأولى والعظمى في تحقيق الخير العام الاعتراف بالنظام الأدبي واحترامه. "إن النظام الصحيح في الدول يجد أساسه على الصخرة غير المتزعزعة واللامتحولة التي هي النظام الأدبي الذي أعلنه خالق النظام الطبيعي نفسه وخطه في قلوب الناس بأحرف لا تمحى. وعلى غرار المنارة المشعة فإنه ينير بمبادئه الطريق التي يجب أن يسلكها الأفراد والشعوب. فليسددوا خطاهم وفقاً للعلامات والإنذارات الأمينة التي يبعث بها إليهم إذا لم يشاؤا أن يسلموا للعاصفة والغرق كل ما اقتضاه قيام النظام الجديد من تعب ودقة" (43).

 

في الحقيقة

49- لابد من أن تشرف الحقيقة على العلاقات بين الجماعات السياسية. هذه الحقيقة تقضي خصوصاً على أي أثر للعنصرية، إذ أن المساواة الطبيعية بين الجماعات السياسية كلها في الكرامة الإنسانية يجب ألا يطالها أي ريب. فكل منها، إذن، لها حق في الوجود والتنمية وامتلاك الوسائل اللازمة لتحقيق التنمية والمسؤولية الأولى في وضع هذه الوسائل بالعمل. ولكل منها أن تطالب شرعاً بحقها في أن تحترم ويراعى جانبها.

إن الخبرة ترينا تفاوتاً، وغالباً ما يكون شاسعاً، في العلم والفضيلة والإمكانات العقلية والخيرات المادية، بين البشر، يميزهم بعضهم من بعض. إلا أن هذا الواقع لا يولي العائشين في نعمة أي حق على استغلال الضعفاء، بل أنه يضع عليهم، أفراداً وجماعة، واجباً محرجاً، واجب الإسهام في الرقي المتبادل.

كما أن بعض الجماعات السياسية يمكن أن توجد بالنسبة إلى سواها في تقدم في ميدان العلوم والثقافة والتنمية الاقتصادية. فواقع السبق هذا لا يجيز أصلاً سيطرة لا عادلة على الشعوب الضعيفة بل أنه يشكل واجباً يرغم على الإسهام في التطور العام.

50- أجل لا يمكن أن توجد كائنات بشرية متفوقة على سواها من حيث الطبيعة، إذ هي جميعاً، من حيث طبيعتها، على مستوى واحد من النبالة. كذلك الجماعات السياسية لا تعرف التفاوت في ما بينها من حيث الكرامة الطبيعية. إذ أن كلا منها جسم أعضاؤه بشر. والتاريخ يبين لنا أن الشعوب أكثر ما تكون حساسية حيال ما يمس من بعيد أو قريب شرفها. وهذه الحساسية مشروعة.

والحقيقة تقضي أيضاً بأن نلازم في هدوء جانب الموضوعية في اللجوء إلى الوسائل التي كثرتها الاكتشافات التكنية الأخيرة والتي تساعد على نشر وسيع للتعارف بين الشعوب المختلفة. أجل، لكل جماعة أن تسلط على ما لديها من غنى أنوار دعاوتها، إلا أنه لابد من القضاء على طرائق في الإعلام تنتهك حرمة الحقيقة وتسيء في غير عدل إلى صيت هذا أو ذاك من الشعوب (44).

 

في العدل

51- لابد أيضاً للعلاقات بين الجماعات السياسية من أن ترتكز على قواعد العدل. وهذا يقتضي الاعتراف بالحقوق المتبادلة والقيام بالواجبات المحاذية لهذه الحقوق. وبما أن الجماعات السياسية لها حق في الوجود والتطور والسعي للحصول على ما يلزم للتنمية والمركز الأول في المشاريع التي تتناولها والدفاع عن صيتها وكرامتها، فيجب أن نستخلص أن عليها بالتساوي واجب صيانة كل من هذه الحقوق والامتناع عن أي عمل يشكل انتهاكاً لها. وكما أن الناس في علاقاتهم الفردية لا يمكنهم أن يسعوا إلى مصالحهم الخاصة إذا كان ثمن ذلك اجحافاً بحقوق الغير، كذلك الجماعات السياسية لا يمكن أن تكون تنميتها شرعية إذا تسببت في ضرر لسواها أو ضغطت عليها بطريقة لا عادلة. ويجدر بنا هنا أن نذكر عبارة القديس أوغسطينوس: "يوم ينحى العدل تمسي الامبراطوريات غزوات على نطاق وسيع" (45).

أجل، يمكن أن يحدث، ويحدث في الواقع، إن الجماعات السياسية تدخل في تنازع مصالح. مع ذلك فهذه النزاعات لا يمكن أن تسوى لا بقوة السلاح ولا بالغش أو الخداع. ولكن كما يليق ببشر بفضل التفاهم والتقدير الموضوعي للمعطيات والصلح المرتكز على الإنصاف.

 

مصبر الأقليات

52- منذ القرن التاسع عشر أخذ الميل إلى إحلال التناسق بين الجماعات السياسية والجماعات القومية يزيد وينتشر في كل مكان. إلا أن أسباباً عديدة تحول دون أن تتوافق دوماً الحدود الجغرافية والعنصرية. من هنا نشأت ظاهرة الأقليات والمعضلات الصعبة التي تنبثق منها.

وبهذه المناسبة لابد لنا من أن نعلن بالطريقة الأكثر وضوحاً أن أي سياسة تحاول الوقوف في وجه حيوية الأقليات وانتشارها تشكل خطأ فادحاً ضد العدل؛ ويزيد الخطأ فداحة عندما ترمي هذه المحاولات إلى القضاء عليها.

وبالعكس، فلا أعدل من عمل السلطات العامة سعياً إلى تحسين أوضاع الأقليات العنصرية في حياتها لاسيما في ما له علاقة باللغة والثقافة والعادات والثروات والنشاطات الاقتصادية (46).

53- مع الإشارة إلى أن هذه الأقليات كثيراً ما تميل إلى التطرف في التشديد على خصائصها، سواء أكان ذلك كردة فعل تجاه الأوضاع الصعبة التي تفرض عليها أم بفعل رواسب الماضي المؤلم، تطرّف يبلغ حد تفضيل هذه الخصائص على القيم الإنسانية العامة كأن خير الأسرة البشرية العام ثانوي بالنسبة إلى مصالح الأمة المعنية. ولكان بالعكس طبيعياً أكثر أن يعي أيضاً أصحاب العلاقة الفوائد الناجمة عن وضعهم: فالاحتكاك اليومي بأشخاص يختلفون عنهم ثقافة وحضارة يغنيهم روحاً وعقلاً ويفسح أمامهم المجال لأن يستوعبوا في أطراد القيم الخاصة بالمحيط الذي يعيشون فيه. وهذا يتحقق عندما يجعلون من ذواتهم جسراً يسهل سريان الحياة في مختلف مظاهرها بين التقاليد والحضارات المتباينة، وليس نقطة احتكاك تتسبب في مضار لا تحصى وتحول دون أي تقدم وتطور.

 

تضامن فعال

54- فلتسد الحقيقة والعدالة، إذن، علاقات الجماعات السياسية في ما بينها، فتعيش إذ ذاك في تضامن فعال يظهر في أشكال التعاون المتعددة الميادين كالاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي والصحي الرياضي، وكلها أشكال تعاون ممكنة وذات خصب في العصر الذي نعيش. وبهذه المناسبة لا يغربنّ عن فكرنا أن رسالة السلطة السياسية الطبيعية ليس في الحد من آفاق المواطنين فلا تتعدى حدود البلد، بل في صيانة الصالح العام القومي أولاً. ولكنّ هذا الصالح العام القومي لا يمكن أن يفصل عن الصالح العام البشري.

فلا يكفي أن الجماعات السياسية تحذر من الأضرار بعضها ببعض في السعي إلى مصالحها، بل لابد لها من أن تتشارك في المشاريع والموارد لبلوغ أهداف لا يمكن بلوغها بغير هذا التشارك. مع ذلك، ففي هذه الأحوال، فليتنبّه المسؤولون أولاً لئلا تكون لهذه الاتفاقات، المفيدة لهذه أو تلك من الفئات السياسية، حصيلة ضرر لسواها، بل بالحري فوائد إيجابية.

ثم إن الصالح العام البشري يقتضي أيضاً أن كل جماعة سياسية تنشط في داخلها شتى المبادلات سواء أكان بين أفرادها أم بين هيئاتها المتوسطة.

55- ففي مناطق كثيرة من العالم تتعايش فئات تباعد بينها بكثير أم بقليل فوارق عنصرية. فيجب الحؤول دون أن تشكل العناصر الخاصة بفئة جداراً يقطع بينها وبين الفئات الأخرى. والأمر كلي الغرابة في عصر كعصرنا أضمحلت فيه المسافات حتى بين بلد وبلد. وإذا كانت لكل أسرة عنصرية خصائص تؤلف تراثها المميز، فحذار أن ننسى أن البشر جميعاً لهم تراث من العناصر الأساسية مشترك في ما بينهم، وإن فيهم ميلاً طبيعياً يدفعهم إلى التلاقي في عالم القيم الروحية التي يمكنهم استيعابها المطرد من التطور أكثر فأكثر يوماً بعد يوم. فلابد إذن من أن نعترف بحقهم في التشارك والتمازج.

 

التوازن بين السكان والأراضي والرساميل

56- ليس من يجهل اللاتوازن السائد في بعض المناطق بين الأراضي التي يمكن زراعتها والمجموعة البشرية التي تعيش عليها، أو بين خيرات الأرض ومسلتزمات استغلالها. إن هذا الواقع يقتضي الشعوب تعاوناً يسهل تنقل الخيرات والرساميل والأشخاص (47).

وفي رأينا أنه من المناسب أن ينتقل رأس المال ليلاقي اليد العاملة وليس العكس. وهكذا نمكن جموعاً من العمال من تحسين أوضاعهم دون أن يرغموا على الهجرة التي ينجم عنها دوماً جروح في القلوب ويتبعها مراحل صعبة هي مراحل التكيف بالمحيط الجديد والامتزاج به.

 

معضلة اللاجئين السياسيين

57- إن المحبة الأبوية الشاملة جميع الناس التي وضعها الله في قلبنا، تحملنا على أن ننظر في ألم إلى معضلة اللاجئين السياسيين، فإن هذه الظاهرة قد اتسعت كثيراً وتخفي دوماً في صميمها آلاماً مبرحة لا تحصى.

وهذا الواقع يعود إلى أن بعض الحكومات تضيّق أكثر مما ينبغي نطاق الحرية التي هي حق لكل مواطن وهي حاجة فيه ليعيش إنساناً. بل إن هذه العهود تبلغ أحياناً حد التعرض للحق في الحرية نفسه، هذا إذا لم تقض عليه جذرياً.

إن تعدياً كهذا يشكل دون ريب انقلاباً في النظام الاجتماعي. كيف لا وغاية السلطات العامة تحقيق الخير العام. وأحد العناصر الأساسية في هذا الخير العام يقوم بالاعتراف بالحرية في نطاقها الشرعي والدفاع عن حقوقها.

لسنا بغير حاجة إلى التذكير بأن اللاجيء السياسي شخص إنساني بما لهذه الصفة من كرامة وبكل ما لها من حقوق. وهذه الحقوق يجب أن يعترف له بها، لأنها لم تسقط من جراء أن اللاجئ صاحبها قد انتزعت عنه في بلاده حقوقه المدنية أو السياسية.

وبالتالي، فإنه لمن الحقوق الملازمة للشخصية الإنسانية إمكانية الانتقال إلى هذا أو ذاك م البلدان على أمل إيجاد ظروف معاشية أكثر ملائمة لنا ولأسرتنا. فعلى الحكومات إذن أن تقبل المهاجر، وبقدر ما يتفق ذلك وخير شعوبها الحقيقي، إن تشجع من يشاء الاندماج في الجماعة القومية.

58- وإنّا لننتهز الفرصة لنعبر رسمياً عن تحبيذنا وامتداحنا المبادرات التي تسعى، وفقاً لمبادئ التضامن الأخوي والمحبة المسيحية، إلى تخفيف وطأة الألم في من يرغمون على هجرة أوطانهم. وإنّا لنلفت انتباه أي إنسان مخلص إلى الأعمال الكثيرة التي تقوم بها في ميدان دقيق كهذا المؤسسات الدولية المختصة وندعوه إلى قدر جميلها حق قدره.

 

نزع السلاح

59- وكم يؤلمنا من جهة أخرى أن نرى في بلاد نامية الاقتصاد تتكدس الأسلحة المخيفة بانتظار أسلحة أخرى لا تني تعكف على صنعها، باذلة في سبيل ذلك جهوداً إنسانية جبارة وأموالاً طائلة. مما يتسبب في تكاليف ثقيلة يرهق بها مواطنو هذه البلاد، بينما تفتقر بلاد أخرى إلى العون الضروري لتنميتها الاقتصادية والاجتماعية.

هناك عادة اللجوء في تبرير التسلح إلى الترديد أن الأوضاع الحاضرة تجعل صيانة السلام منوطة بتوازن القوى المسلحة، فكل زيادة في الطاقة العسكرية في مكان ما يثير في الدول الأخرى جهوداً في الاتجاه نفسه. وإذا تجهزت جماعة سياسية بالأسلحة الذرية، تأخذ الجماعات السياسية الأخرى في السعي للحصول على وسائل تخريب توازيها قوة.

60- وهكذا تعيش الشعوب في خوف متصل وكأنها مهددة بإعصار هائل يمكنه في كل دقيقة أن يجتاحها. وهي في ذلك على حق طالما السلاح على استعداد دائم. وأن يكون في العالم بشر يحملون مسؤولية المذابح والخرائب التي لا تحصى الناجمة عن حرب، ذلك ما يبدو وكأنه لا يصدق، مع أن الواقع يرغمنا على الإقرار به. إذ تكفي مفاجئة أو حادث لاندلاع الشرارة المفجرة. وإذا سلمنا أن هول النتائج المرتقبة من استعمال السلاح العصري يحوّل الجميع عن الدخول في الحرب، غير أنه إذا لم يوضع حد للتجارب النووية ذات الأهداف العسكرية، فهذه التجارب يمكن أن يخشى منها ذيول تقضي على الحياة على الأرض.

إن العدالة والحكمة والروح الإنسانية تطالب بالتالي بإيقاف سباق التسلح هذا، وبتخفيض الأسلحة الجاهزة اليوم، تخفيضاً متوازياً وفي ذات الوقت في مختلف البلدان، وحظر السلاح الذري، وأخيراً نزع السلاح نزعاً يصار إليه في اتفاق جماعي وتحت مراقبة فعالة. ألم يعلن بيوس الثاني عشر: "لابد من أن نحول، أياً كا ن الثمن، دون أن تعود حرب عالمية، بما تجر من خراب اقتصادي واجتماعي وويلات واضطرابات أخلاقية، فتجتاح البشرية للمرة الثالثة" (48).

61- ولكن فليتأكد الجميع جيداً أن الحد من تطوير الطاقة العسكرية وتخفيض السلاح تخفيضاً فعلياً وما هو أكثر من ذلك القضاء على السلاح جذرياً، هذه الخطوات كلها غير ممكنة أو تكاد تكون غير ممكنة إذا لم يرافقها نزع سلاح كامل يتناول النفوس أيضاً: ولابد من العمل في إجماع وإخلاص على اقتصاء الخوف ومركب الحرب من نفوس الناس. وهذا يقتضي أن يستعاض عن المبدأ القائل بأن السلام نتيجة توازن في القوى المسلحة، بمبدأ آخر قوامه أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يشاد في غير جو من الثقة المتبادلة. وأنّا لنرى أن ذلك هدف يمكن تحقيقه لأنه في الوقت نفسه من متطلبات العقل وهو أشهى مبتغى وليس ما يفوقه فائدة.

62- نحن أولاً بإزاء هدف يتطلبه العقل. والشيء بديهي للجميع أو أقلّه يجب أن يكون كذلك: فالعلاقات الدولية، على غرار العلاقات بين الأفراد، لا يمكن أن تسوى بقوة السلاح، بل إنما قاعدتها ناموس الحكمة أو بعبارة أخرى ناموس الحقيقة والعدل والتضامن الودي.

ثم أنه هدف هو أشهى مبتغى. وهل من لا يريد أن يرى أخطار الحرب وقد زالت، والسلم مصوناً ومضموناً أكثر فأكثر يوماً بعد يوم.

أخيراً لا شيء أخصب من هدف كهذا. فالسلم يخدم الجميع: أفراداً وأسراً وشعوباً والبشرية جمعاء. وأن الانذار الذي وجهه بيوس الثاني عشر لا يزال يرن في آذاننا: "ليس ما نخسره بالسلم، غير أننا بالحرب يمكن أن نخسر كل شيء" (49).

63- ونحن بوصفنا نائب المسيح يسوع، مخلّص العالم ورب السلام، إذ نعبر عن الأمنيات الأكثر تأججاً في قلب العيلة البشرية كلها، نرى من واجبنا، يدفعنا إلى ذلك قلبنا الذي يهمه خير الجميع، أن نستحلف الناس جميعاً، لاسيما الحكام، ألا يحجموا عن أي مجهود يوجه الأحداث وفقاً للتعقل والإنسانية.

فلتعكف المجالس العالية والمختصة على دراسة عميقة تتناول معضلة توازن دولي يجيء إنسانياً حقاً، ويرتكز على الثقة المتبادلة والإخلاص في الدبلوماسية والأمانة في حفظ المواثيق. هذه الدراسة العميقة والشاملة تضع في النور النقطة التي يمكن أن تنطلق منها مفاوضات تسعى إلى اتفاقات ودية ثابتة ومفيدة.

وإنّا من جهتنا نستمطر على هذه الأعمال بركات الله لتؤدي إلى نتائج إيجابية.

 

في الحرية

64- واجب المنظمة الدولية أن تحترم الحرية. وهذا المبدأ يحظر على الشعوب أي تدخل في أمور الغير الداخلية وأي ضغط. بل على كل أمة، بالعكس، أن تعمل في سواها على تفتح روح المسؤولية وتنشيط المبادرات الحسنة، وأن تقدم لها يد المساعدة لتقوم هي نفسها بتنميتها في جميع مرافق حياتها.

 

رقي البلدان التي في طور التنمية الاقتصادية

65- وحدة في الأصل والفداء والمصير تضم البشر جميعاً وتدعوهم إلى أن يؤلفوا معاً أسرة مسيحية واحدة. هذا ما حملنا في رسالتنا العامة "الكنيسة أم ومربية" على أن نسأل البلدان النامية عوناً توزعه على اختلاف أشكاله على الشعوب التي لا تزال في طور التنمية (50).

وإنه ليسرنا كثيراً أن نتحقق التجاوب الطيب الذي لقيه نداؤنا هذا. وأملنا أن يتسع مدى هذا التجاوب في المستقبل وأن تبلغ الشعوب الفقيرة، بتحسين وضعها المادي في أسرع ما يستطاع، درجة في التنمية، تمكّن كل أحد من العيش على مستوى أكثر إنسانية.

66- غير أننا نتشدد في القول أن العون الذي يقدم لهذه الشعوب لا يمكن أن يرافقه أي ضغط على استقلالها. ولابد لهذه الشعوب من أن تحس ذاتها العامل الأساسي والمسؤول الأول في تنميتها الاقتصادية والاجتماعية.

ذلك هو التعليم الحكيم الذي نادى به سلفنا بيوس الثاني عشر: "إن التنظيم الجديد المرتكز على المبادئ الأولية يتنافى وأي مس للحرية وحرمة الحدود والسلامة في الشعوب الأخرى، أية كانت مساحة أرضها أو طاقتها الدفاعية".

أجل، أنه لمن الطبيعي أن الدول الكبرى، من جراء تفوقها موارد ونفوذاً، تنعم عادة بالأولوية في تحديد أوضاع الاتفاقات الاقتصادية التي تبرمها مع الأمم التي دونها حجماً وقوة. إلا أن هذه الأمم أيضاً، وبالتساوي مع تلك، يجب أن يترك لها في نطاق المصلحة العامة استقلالها السياسي ومجال حقيقي لتظلّ على الحياد في النزاعات الدولية، وفقاً لحقها في الدفاع عن تنميتها الاقتصادية الخاصة. وإنها لتستطيع بهذه الشروط أن تسهم في خير البشرية العام وتؤمن لشعوبها التطور المادي والروحي" (51).

إن واجب الجماعات السياسية النامية في عملها المتعدد الأشكال لمعونة البلدان المتخلفة أن تعترف بالقيم الأدبية والخصائص العنصرية التي لهذه البلدان وتحترمها، ولا تسمح لذاتها بأي تفكير موضوعه السيادة عليها. وهي تؤدي بذلك قسطها قيماً في قيام مجتمع عالمي يعي أفراده واجباتهم وحقوقهم ويعملون في مساواة على تحقيق خير البشرية العام (52).

 

علامات الأزمنة

67- هناك اقتناع يسود العقول أكثر فأكثر في عصرنا الحاضر، فحواه أن النزاعات التي يمكن أن تنشأ بين الشعوب يجب أن يعمل على تسويتها ليس عن طريق اللجوء إلى السلاح بل عن طريق التفاوض.

لا شك أن مصدر هذا الاقتناع هو عادة ما تحمل الأسلحة العصرية من طاقة هائلة في التهديم، والخوف مما ينجم عن استعمالها من كوارث وخرائب مرعبة. ولذا فقد أضحى غير ممكن إنسانياً التفكير بأن الحرب هي في عصرنا الذري الوسيلة الناجعة لاحقاق الحق في حال انتهاك حرمته.

مع ذلك فهناك واقع لا نزال، ويا للأسف، نلمسه، هو سيطرة شريعة الرعب غالباً على الشعوب مما يدفعها إلى تخصيص أموال طائلة للنفقات العسكرية. وهي تؤكد، وليس ما يجعلنا نرتاب في إخلاصها، أنها إنما تلجأ إلى ذلك ليس تنفيذاً لمخطط عدوانين بل لكي تجعل الغير يقلع عن فكرة التعدي عليها.

مع ذلك فيمكنّا أن نعقد الأمل أن الشعوب إذ تزيد ما بينها من علاقات ومبادلات تكتشف أكثر فأكثر روابط الوحدة المنبثقة من الطبيعة المشتركة في ما بينها. وتتفهم في كمال أكثر أن تركيز علاقات البشر، أفراداً أو جماعات، على المحبة وليس على الخوف من الواجبات الأساسية الناجمة عن الوحدة في الطبيعة. لأن من خصائص المحبة حمل البشر على التعاون في إخلاص، تعاوناً متعدد الأشكال وذا منافع لا تحصى.

 

علاقات الأفراد والجماعات السياسيّة

بالمجتمع العالميّ

 

حاجة الجماعات السياسية بعضها إلى بعض

68- إن التطورات الأخيرة في العلم والتكنيك أثرّت إلى حد بعيد في البشر وخلقت فيهم تياراً يلف سطح الأرض كلها يدفعهم إلى زيادة تعاونهم ودعم اتحادهم. ولقد نما كثيراً في عالمنا اليوم تبادل الخيرات والأفكار وكذلك تنقل السكان. فنرى العلاقات بين المواطنين والأسر والهيئات المتوسطة في مختلف البلدان تتكاثر، وكذلك الاتصالات بين رجال الحكم في مختلف الدول. كما أن الوضع الاقتصادي في بلد ما منوط أكثر فأكثر بالأوضاع الاقتصادية التي في البلدان الأخرى. والاقتصاديات القومية نراها ترتبط معاً شيئاً فشيئاً إلى حد أن كلاً منها تؤلف في النهاية جزءاً من اقتصاد عالمي موحد. أخيراً، إن التطور الاجتماعي والنظام والسلامة والطمأنينة في كل جماعة سياسية تتعلق ضرورة بما في سواها من ذلك.

وإنّما لنتبين من هذا الواقع أن أي بلد لم يعد في استطاعته اطلاقاً أن يقوم منفرداً بحاجاته على وجه لائق ولا أن يبلغ نمواً طبيعياً. إن التطور والازدهار في كل أمة هما في الوقت نفسه سبب ونتيجة للازدهار والتطور في سائر الأمم.

 

عدم كفاية التنظيم الحالي للسلطات العامة لتحقيق الخير البشري العام

69- لقد وجدت وحدة الأسرة البشرية في كل زمن، لأنها تجمع كائنات تتساوى كرامة طبيعية. فالضرورة التي تقضي، إذن، أن نعمل بكفاية لخير البشرية العام أي ذاك الذي يهم الأسرة البشرية جمعاء، هي ضرورة مصدرها الطبيعة نفسها.

لقد كانت الحكومات قديماً تعتبر وكأنها قادرة على تحقيق الخير البشري العام. وكانت تسعى إلى ذلك عن طريق العلاقات الدبلوماسية العادية أو المفاوضات على صعيد أعلى، مستخدمة هذه الوسائل القانونية التي هي الاتفاقات والمعاهدات: وسائل وطرائق يوفرها الحق الطبيعي والحق الدولي الخاص والعام.

70- أما اليوم فقد طرأت على العلاقات بين الدول تبديلات عميقة. فمن جهة يثير الخير البشري العام معضلات في غاية الخطورة وصعبة، تقتضي حلاً سريعاً، لاسيما عندما يكون موضوعها العالم في الدفاع عنه وسلامته وسلمه. ومن جهة أخرى، ففي نظر القانون، إن السلطات العامة التي لمختلف الجماعات السياسية تتساوى في ما بينها؛ وهي مهما أكثرت من المؤتمرات والأبحاث سعياً إلى تحسين هذه الوسائل القانونية، فلم يعد في استطاعتها أن تجابه هذه المعضلات وتوليها الحل الفعال. ذلك ليس أن ذويها لا تتوفر لديهم الإرادة الطيبة والمبادرة، بل إن السلطة التي قُلدوها هي نفسها لا تكفي لذلك.

فلا بد من الإقرار أن تنظيم الدول وسيرها، وكذلك السلطة التي بيد الحكومات كلها لا تمكّن في الأوضاع الحاضرة التي يعيشها المجتمع الإنساني من السعي كما ينبغي لتحقيق الخير البشري العام.

 

علاقة الخير العام في تطوره التاريخي وسير السلطات العامة

71- وإذا أمعنا النظر، نلمس علاقة جوهرية تربط الخير العام بتكوين السلطات العامة وسيرها. فالنظام الأدبي الذي يقتضي سلطة تخدم الخير العام في المجتمع المدنين يقتضي في الوقت نفسه أن تعطى هذه السلطة عينها الوسائل الضرورية للمهمة التي تضطلع بها. وينتج من هاذ أن هيئات الدولة، أي تلك التي تتجسم فيها السلطة وتمارس وتبلغ غايتها، يجب أن تكون لها أشكال وفعالية تمكنها من إيجاد الطرق والوسائل الجديدة المكيفة وفقاً لتطور المجتمع لتحقيق هذا الخير العام.

ففي أيامنا يخلق هذا الخير البشري العام معضلات هي على مستوى العالم. فلا يمكن أن تحلها غير سلطة عامة ذات صلاحية وتكوين ووسائل عمل هي أيضاً على مستوى العالم، وتستطيع أن تضطلع بمهمتها في الأرض قاطبة. فالنظام الأدبي نفسه هو الذي يستلزم إقامة سلطة عامة ذات صلاحية شاملة.

 

سلطات عامة تقوم بالاتفاق ولا تفرض بالقوة

72- هذه المنظمة ذات الطابع العام والسلطة على الصعيد العالمي والتي بين يديها الوسائل الفعالة لتحقيق خير البشرية جمعاء، يجب أن تستمد كيانها من اتفاق جامع وليس أن تفرضها القوة فرضاً. وسبب ذلك أن السلطة المعنية يجب أن تتمكن من التمرس بمهمتها بصورة فعالة، وأن تلزم الحياد حيال جميع الفرقاء وتبتعد كل البعد عن أي تحيز ساهرة على ما يستلزمه موضوعياً خير البشرية العام.

فإذا فرضت هذه السلطة العالمية التي تتجاوز القوميات الفردية الأمم الأقوى فرضاً جبرياً، يمكن أن يخشى إذ ذاك أن تستغلها مصالح خاصة أو تنحاز إلى هذه أو تلك من الأمم، مما يسيء إلى قيمة عملها وفعاليته. ذلك أنه بالرغم من التفاوت القائم بين الجماعات السياسية من جراء تطورها الاقتصادي والعسكري، فإنها جميعاً شديدة الحساسية على صعيد المساواة الحقوقية والكرامة الأدبية. ذلك هو السبب الذي يجعل الجماعات القومية تقبل في ضيم سلطة تفرض عليها جبراً أو تشكل بمعزل عنها أو تنتمي إليها غير حرة.

 

خير البشرية العام وحقوق الأشخاص

73- إن خير البشرية العام، على غرار الخير العام في أمة ما، لا يمكن أن يحدد بمعزل عن الشخصية الإنسانية. ولذا فالسلطات العامة في المجتمع العالمي يجب أن ترى في الاعتراف بحقوق الشخصية الإنسانية واحترامها والذود عنها وتطويرها غايتها الأساسية؛ فتسعى إلى تحقيقها سواء أكان بالتدخل المباشر إذا اقتضى الأمر ذلك، أو بخلقها على الصعيد العالمي الأوضاع التي تمكّن الحكومات القومية من الاضطلاع برسالتها على وجه أكمل.

 

مبدأ الاستطراد

74- إن مبدأ الاستطراد هو القاعدة والميزان في علاقات السلطات العامة بالمواطنين والأسر والهيئات المتوسطة داخل كل بلد. وإنه لمن الطبيعي أن يكون هذا المبدأ نفسه القاعدة في العلاقات التي تربط السلطة الدولية بحكومات الدول. فمهمة هذه السلطة الدولية أن تدرس وتحل القضايا المتعلقة بالخير البشري العام في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. ذلك أن ما لهذه القضايا من وساعة وتشعب وإحراج هو السبب في أن الحكومات القومية لا تستطيع حلها كما ينبغي.

وليس  للسلطة التي تشرف على المجتمع العالمي أن تحد من العمل الذي تقوم به الدول ضمن نطاقها الخاص ولا أن تحل محلها. عليها، بالعكس، أن تسعى إلى أن توجد في بلدان العالم كلها أوضاعاً تمكن لا الحكومات فحسب، بل والأفراد والهيئات المتوسطة أيضاً، من القيام بالمهمات والواجبات ومن التمتع بالحقوق في طمأنينة أكثر (53).

 

علامات الأزمنة

75- يعلم الجميع أنه في 2 من حزيران سنة 1945 تأسست منظمة الأمم المتحدة وقد انضمت إليها في ما بعد هيئات دولية، منحت صلاحيات وسيعة على الصعيد الدولي في الميادين الاقتصادية والثقافية والتربوية والصحية. وإن الغاية الأساسية من منظمة الأمم المتحدة هي أن تصون وتدعم السلم بين الشعوب، وتنشئ في ما بينها وتنمي علاقات ودية ترتكز على مبدأ المساواة والاحترام المتبادل والتعاون على أوسع مدى في قطاعات الحياة الإنسانية كلها.

من الأعمال الأكثر أهمية التي قامت بها منظمة الأمم المتحدة كانت الشرعة العامة لحقوق الإنسان التي أقرّتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 من كانون الأول 1948. وهي تعلن في المقدمة أن الهدف العام الذي يجب أن تسعى إليه الشعوب والأمم كلها هو الاعتراف بالحقوق والحريات كلها المذكورة في الشرعة واحترامها الفعّال.

إنّا لا نجهل أن بعض النقاط في هذه الشرعة قد أثارت اعتراضات وكانت موضوع تحفّظات مصيبة. مع ذلك فإنّا نرى في هذه الشرعة خطوة صوب قيام منظمة حقوقية سياسية للمجتمع العالمي. فهذه الشرعة تعترف رسمياً لجميع البشر بدون استثناء بكرامة شخصيتهم الإنسانية، وتؤكد لكل فرد حقوقه في البحث حراً عن الحقيقة وفي اتباع النواميس الأخلاقية وممارسة واجبات العدل وفي أن يقتضي أوضاعاًَ حياتية تليق بكرامته الإنسانية وحقوقاً أخرى مرتبطة بهذه.

وإنّا بالتالي لنرغب في حرارة أن تتمكن منظمة الأمم المتحدة أكثر فأكثر من أن تكيف أنظمتها ووسائل عملها بوساعة رسالتها وسموّ قيمتها. وليحن وشيكاً ذلك الوقت الذي فيه تضمن هذه المنظمة بطريقة فعّالة حقوق الشخصية الإنسانية، هذه الحقوق التي تنبثق مباشرة من كرامتنا الطبيعية والتي هي من جراء ذلك حقوق شاملة ذات حرمة لا يمكن أن تنتهك ولا يمكن التنازل عنها. أن هذه الرغبة تزيد حرارة بقدر ما أن البشر يشتركون اليوم أكثر من قبل بالقضايا العامة في بلادهم، ويبدون اهتماماً متزايداً بتلك التي تهمّ العالم أجمع، ويعون عياً أكمل عضويتهم العامة في الأسرة البشرية الشاملة.

 

توجيهات راعويّـة

 

واجب الاشتراك في الحياة العامة

76- إنّا لنجدد مرة أخرى دعوتنا إلى أبنائنا ليشتركوا فعلاً في إدارة الأمور العامة ونطلب منهم أ، يسهموا في تحقيق الخير العام للأسرة البشرية جمعاء كما ولبلادهم الخاصة. وإذ ينيرهم إيمانهم وتدفعهم المحبة، فليعملوا أيضاً على ألاّ تشّكل المؤسسات المتعلقة بالحياة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية عائقاً دون سعي البشر إلى الكمال سواء أكان على الصعيد الطبيعي أم الفائق الطبيعة، بل بالعكس تكون عوناً له.

 

كفاءة علمية وتكنية ومهنية

77- وتوصلاً إلى ادخال مبادئ قويمة في حضارة ما وإتراعها روحاً مسيحياً، فلا يكتفي أبناؤنا بأنوار إيمانهم وإرادتهم الطيبة المندفعة صوب تحقيق الخير. لا بد لهم أيضاً من الوجود في مؤسسات المجتمع والتأثير من الداخل في أنظمتها.

والحال إن الحضارة العصرية تتميز خصوصاً بما أحرزه العلم والتكنيك. فلا مجال إذن للتأثير في المؤسسات بدون الكفاءة العلمية والتكنية والمهنية.

 

مركب العناصر العلمية والتكنية والمهنية والقيم الروحية في العمل

78- ولكن لا بد من التنبّه إلى أن هذه الخصال وحدها لا تكفي لتطبع علاقات الحياة اليومية بطابع إنساني كامل، لأن هذا الطابع يقتضي لهذه العلاقات أساساً هو الحقيقة، وقاعدة هي العدالة، ومحركاً هو المحبة المتبادلة، وجواً هو الحرية.

وليس في استطاعة البشر أن يدركوا هذا الهدف ما لم يحرصوا على النقاط التالية: أولاً التقيد في أعمالهم الزمنية بالنواميس الخاصة بكل من الفروع والتكيّف بالطرائق التي له. ثم تطبيق مسلكهم الشخصي على القواعد الأخلاقية، وبالتالي السير في حياتهم كأشخاص يتمرسون بحقوقهم ويقومون بواجباتهم ويتمّون الخدمة المنوطة بهم. أخيراً يجب أن يكون العمل في نظرنا تلبية أمينة لوصية الله واشتراكاً في عمله الخّلاق واسهاماً في تحقيق المخطط الذي رسمته عنايته في التاريخ. و هذا كله يقتضي البشر أن يعيشوا عملهم وكأنه مركّب النشاطات العلمية والتكنية والمهنية مضمومة إلى أسمى القيم الروحية.

 

الإنسجام في المؤمن بين معتقده الديني وأعماله الزمنية

79- هناك واقع يلمسه الجميع في البلاد التي أترعتها من زمن عريق التقاليد المسيحية. فالعلوم والتكنيك بلغت اليوم شأواً من الازدهار والتطور بعيداً، والوسائل لادراك ما يشتهيه الناس متوفرة؛ إلاّ أن الروح والخميرة المسيحية قد تضاءلتا فيها.

ومن حقنا أن نتساءل عن أسباب هذا النقص. ذلك أن واقع الازدهار هذا مدين إلى حد بعيد في أصله ووجوده اليوم لرجال يؤمنون بالمسيحية ويطبّقون حياتهم أقلّه جزئياً على ما يأمر به الإنجيل. وإنما الخطأ في كون عملهم على الصعيد الزمني لا ينسجم وإيمانهم. وبالتالي، فلابدّ من أن يعيدوا في داخلهم الوحدة في التفكير والاستعدادات. فيضحي نشاطهم كله مغموراً بنور الإيمان ومحركاً بنوابض المحبة.

 

التنمية الكاملة في تربية الشبيبة

80-  إذا كان المعتقد الديني في المؤمنين كثيراً ما يتنافى ومسلكهم فذلك يعود أيضاً في نظرنا إلى أن ثقافتهم المسيحية، سواء أكانت العقائدية أم الأدبية، ظلّت غير كافية. فغالباً ما نجد اللاتوازن في أوساط كثيرة بين الدراستين الدينية والزمنية، إذ يذهب الطالب في هذه إلى أبعد مدى بينما تبقى تلك على الصعيد الابتدائي. فلا بدّ إذن للشبيبة من تربية كاملة ومتتابعة، يعنى فيها بنوع أن الثقافة الدينية وتهذيب الضمير يسيران والثقافة العلمية والتكنية المتطورة دوماً جنباً إلى جنب في خطى متحازية، ويجب أخيراً أن نعدّ الشبان لأن يقوموا في كرامة بالمهمات التي تنتظر كلاً منهم (54).

 

ضرورة الثبات في الجهود

81- وإنا لنشير هنا إلى صعوبة الحكم في صواب في علاقة واقع الأحداث البشرية بمستلزمات العدالة، أو بعبارة أخرى صعوبة أن نحدّد في دقة كيف وإلى أي مدى يجب أن تطبّق المبادئ العقائدية والتوجيهات على الوضع الحاضر في المجتمع.

وما يزيد الصعوبة حدة أن كل واحد إذ عليه اليوم أن يضع نشاطه في خدمة خير البشرية العام، فكل شيء أضحى خاضعاً لسرعة تتزايد في إطراد. ولابدّ من التبّصر يوماً بعد يوم في كيفية إخضاع الأوضاع الاجتماعية لمقتضيات العدالة، مما يحظر على أبنائنا أن يتخيّلوا أنهم يستطيعون التوقّف فينعموا بما قطعوه من مراحل الطريق.

هذا والبشر عموماً، يكونون على حق إذ يعتبرون غير كاف ما عملوا حتى الآن. إذ عليهم أن يقوموا بتحقيقات تزيد يوماً بعد يوم خطورة وتكييفاً في شتى الميادين: مؤسسات الإنتاج، تكتلات نقابية، اتحادات مهنية، خدمات الضمان الاجتماعي، مشاريع ثقافية، هيئات حقوقية وسياسية، اسعاف صحي نشاطات رياضية وسواها من أمثالها. ذلك ما تصبو إليه الأجيال الحاضرة التي فتحت أمامها، بفضل الاكتشاف الذري والخطوات الأولى في الفضاء، طرقاً جديدة كلياً ذات آفاق تكاد لا تحدّ.

 

العلاقات بين الكاثوليك وغير الكاثوليك في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية

82- إن المبادئ التي شرحناها هنا لتجد أساسها في مستلزمات الطبيعة البشرية نفسها، وهي في أغلب الأحيان من نطاق الحق الطبيعي. والكاثوليك كثيراً ما يتعاونون بشتى الطرق في تطبيق هذه المبادئ سواء أكان ذلك مع مسيحيين منفصلين عن هذا الكرسي الرسولي أم مع أناس يعيشون بعيدين عن الإيمان المسيحي، إلا أنهم إذ يسيرون على نور العقل فهم أمناء للشريعة الأدبية الطبيعية.

"فليعنَ الكاثوليك إذ ذاك ليظلوا منطقيين مع ذواتهم، ويحذروا من أي تساهل يسيء إلى سلامة العقيدة الدينية أو الآداب. ولكن فليتحاشوا أيضاً أن يحصروا نظرهم في مصالحهم وحدها، وليتعاونوا في إخلاص بكل وسيلة حسنة في ذاتها أو يمكن أن تقود إلى الخير" (55).

83- فإنه لمن العدل أن نفصل دوماً بين الضلال في ذاته والأشخاص المتلبسين به، حتى ولو تناول هذا الضلال إيجاباً أو سلباً أو الآداب. فالإنسان الذي ضلّ يبقى دوماً كائناً إنسانياً ويحفظ كرامته الإنسانية الجديرة دوماً بالاعتبار، والكائن البشري لا يفقد أبداً إمكانية التحرّر من ضلاله وشقَ سبيله إلى الحقيقة، ولا يفوته في ذلك عون العناية الإلهية. فمن الممكن إذن أن فلاناً المحروم اليوم أضواء الإيمان أو المتسكع في الضلال، يوجد في الغد قادراً، بفضل النور الإلهي، على اعتناق الحقيقة. وإذ تشكل المهمات الزمنية فرصة للمؤمنين للتعامل مع أناس تحجب عنهم وتضعف فيهم مفاهيم خاطئة أنوار الإيمان، فهذه العلاقات يمكن أن تكون منطلقاً أو دافعاً لتيار يقود هؤلاء الناس إلى الحقيقة.

84- كذلك ليست النظريات الفلسفية الخاطئة في طبيعة الإنسان والعالم وأصلهما وغايتهما الحركات التاريخية التي إنما أنشئت لهدف اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو سياسي، حتى ولو استندت في انطلاقها إلى هذه النظريات ولا تزال اليوم تستوحيها. فالعقيدة إذ توضع وتصاغ لها تعابير لا تعود فتتغير، بينما الحركات التي موضوعها أوضاع الحياة في كيانها الملموس والمتّطور لا يمكن أن تعيش في معزل عن تأثير بعيد المدى لهذا التطوّر فيها. وعلى كل حال، فبقدر ما تتجاوب هذه الحركات وما تصبو إليه الشخصية الإنسانية وتتفق ومبادئ العقل القويمة، من يرفض أن يرى فيها عناصر إيجابية حرّية بالقبول؟

85- فمن الممكن، إذن، أن يحدث أن بعض اللقاءات على صعيد التحقيق العملي، التي بدت حتى الآن غير مناسبة وعقيمة النتائج، تحمل اليوم فوائد حقيقية أو تعد بها للغد. أما الحكم في واقع ذلك، وتحديد أشكال ومدى تضافر الجهود في الميادين الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو السياسية لأهداف مفيدة لخير المجتمع الحقيقي، فتلك مسائل تعتمد في حلّها وتحديد مداها الفطنة التي تسوس الفضائل المنظّمة الحياة الفردية والاجتماعية كلها. وعندما يعني الأمر الكاثوليك، فالقرار يعود أولاً للأعضاء إلا بعد أثراً في الجسم الاجتماعي والأكثر اطلاعاً على المادة موضوع البحث، شرط أن يتقيدوا بتعليم الكنيسة الاجتماعي في أمانة لمبادئ الحق الطبيعي، ويخضعوا لتوجيه السلطات الكنسية. إذ لا يغربّن عن الفكر أن حقوق الكنيسة وواجباتها غير محصورة بصيانة كمال العقيدة الإيمانية والأخلاقية، بل إن سلطتها بالنسبة إلى أبنائها تشمل أيضاً الميدان الزمني، كل مرة يدور البحث في تطبيق هذه العقيدة على الوقائع (56).

 

العمل على مراحل

86- هناك رجال ينبض فيهم قلب سخي في التضحية، تدفعهم الغيرة المتفجرة فيهم حيال أوضاع تتنافى والعدالة أو تبعد عنها، إلى محاولة إصلاح كامل، فينطلقون في قوة ويتجاوزون مراحل الطبيعية، وتتخّذ حركتهم مظاهر تكاد تكون ثورية.

فليسمح لنا هؤلاء أن نذكّرهم بأن التطوّر هو ناموس كل حياة وبأن المؤسسات البشرية هي أيضاً، لا يمكن إصلاحها إلا بشرط أن يعمل فيها من الداخل وبشكل تطويري. ذلك ما نبّه إليه سلفنا بيوس الثاني عشر في قوله: "الخلاص والعدالة ليسا حصيلة الثورة، بل التطوّر المنسجم. ما كان العنف يوماً إلا تحطيماً وإثارة نزعات وليس بناء ولا تهدئة. فالثورة تولّد الأحقاد والكوارث بدل أن تضمّ في عاطفة الأخوّة؛ والثورة تلقي بالناس والأحزاب في ضرورة قاسية هي إعادة البناء في بطء، وفي أثر المصائب المؤلمة، على الأنقاض التي كدّستها النزاعات" (57).

 

مهمات عظام

87- مهمة عظمى منوطة اليوم بالناس ذوي الإرادة الحسنة، هي إعادة توطيد العلائق في الحياة الاجتماعية على أسس الحقيقة العدالة والمحبة والحرية: علائق الأفراد في ما بينهم، وعلائق المواطنين بالدولة، علائق الدول في ما بينها، وأخيراً علائق الأفراد والأسر والهيئات المتوسطة والدول من جهة، بالمجتمع العالمي من جهة أخرى. مهمة نبيل بين النبيلات، لأنها تقوم على السعي لأن يسود السلام الحقيقي في نطاق النظام الذي وضعه الله.

88- أجل، إنهم لقليلون جداً المجنّدون لهذه المهمة. إلا أنهم قد استحقوا، إيما استحقاق، شكر المجتمع البشري. وإنه لمن العدل أن نمتدحهم علناً. وفي الوقت نفسه ندعوهم إلى أن يزيدوا طاقة عملهم هذا الجزيل الفائدة. ونتجرأ ونأمل أن يلحق بهم آخرون كثيرونن لاسيما من المؤمنين، تدفعهم المحبة ووعي الواجب. فعلى كل مؤمن أن يكون في عالم اليوم شعلة نيرة، ومنطلق محبة وخميرة في قلب الجماهير. وسيكون كذلك بقدر اتحاده بالله.

وفي الواقع، فالسلام لا يسود بين الناس ما لم يسد أولاً في كل منهم، أي ما لم يتقيّد كل منهم بالنظام الذي وضعه الله. أفلا يقول القديس أوغسطينوس: "هل تريد نفسك أن تقهر الميول التي فيها؟ فلتخضع لذاك الذي في العلاء وحينئذ تقهر ما هو أسفل، يحلّ فيك السلام: السلام الحقيقي، السلام الصافي، السلام المرتكز على النظام. وما هو النظام الخاص بهذا السلام؟ الله يسود النفس والنفس تسود الجسد ليس ما يفوق هذا النظام" (58).

 

ملك السلام

89- إن التعليم الذي عالجنا فيه القضايا التي تشغل اليم البشرية كثيراً، وتهمّ مباشرة تطور المجتمع الإنساني، قد أملاه علينا صبونا العميق، الذي يشترك فيه كل إنسان ذي إرادة حسنة، إلى أن نرى العالم يسوده سلام أكثر مناعة.

وإذ نضطلع على غير جدارة بوظيفة نائب ذاك الذي سبق النبي فدعاه ملك السلام، فإنا نرى من واجبنا أن نصرف اهتماماتنا وقوانا في السعي لتحقيق خير البشرية العام. غير أن السلام يظلّ كلمة جوفاء ما لم يرتكز على النظام الذي ضعنا خطوطه الأساسية، في حرارة أمل، في هذه الرسالة العامة. نظام يستند إلى الحقيقة، ويبنى على العدالة، وتمدّه المحبة بالحياة والكمال، وأخيراً يعبّر عنه فعلياً في الحرية.

90- عمل فيه من العظمة والسمو ما يجعل تحقيقه يتعدّى مقدرة الإنسان إذا ترك لقواه الذاتية، أياً كان مبلغ حسن الإرادة فيه. ولكي يجيء المجتمع البشري صورة أكثر ما تكون أمانة لملكوت الله، لابدّ من عون يأتيه من فوق.

ذلك ما يدعونا في هذه الأيام المقدسة إلى رفع صلواتنا في حرارة أكثر إلى الذي غلب بآلامه وموته الخطيئة، العلة الأولى للنزاعات والفوارق والآلام، والذي صالح بدمه الجنس البشري مع أبيه السماوي.

"لأنه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحداً... فلقد جاء وبشر بالسلام، لكم أنتم البعيدين، وبالسلام للذين كانوا قريبين".

هذه البشارة نفسها تسمعناها الليتورجيا في هذه الأيام المقدسة: "يسوع ربنا الناهض من الموت، وقف في وسط تلاميذه وقال لهم: السلام لكم، الليلويا. والتلاميذ إذ رأوا الرب امتلأوا فرحاً". لقد جاءنا المسيح بالسلام، وأبقى لنا السلام: "السلام استودعكم، سلامي أعطيكم. لست أعطيكموه كما يعطيه العالم".

هذا السلام الذي جاء به الفادي، نسأله ملّحين في صلواتنا أن يمنحناه.

91- فليقصِ من النفوس ما يمكن أن يضع السلام في خطر، وليحوّل الناس جميعاً إلى شهود للحقيقة والعدالة والمحبة الأخوية. فليضيء نوره الذين بيدهم مقدرات الشعوب فيضمنوا، مع اهتمامهم لرفاه مواطنيهم المشروع، بقاء هذا الخير الذي لا يوازيه ثمن، السلام، وليلهب المسيح أخيراً قلوب البشر جميعاً، فيهدموا الحواجز التي تفرّق، ويّوطدوا الربط التي تجمع بالمحبة المتبادلة، ويتفهموا الغير، ويصفحوا عمن أساؤا إليهم. وهكذا يقوم بفضله بين شعوب الأرض كلها مجتمع أخوي حقيقي، يسوده دوماً ويزهر فيه السلام المشتهى.

ولكي يشمل هذا السلام القطيع كله المسلّم إلى عنايتكم، وعلى الأخص لخير الطبقات الأكثر وضاعة، تلك التي تتلهف إلى عون وحماية خاصيّن، نمنحكم من أعماق القلب، في المسيح، البركة الرسولية، لكم أيها الأخوة المحترمون، وللكهنة من الاكليروسين العلماني والقانوني، وللرهبان والراهبات، وللمؤمنين جميعاً، ولاسيما للذين سيلبّون في تضحية سخية نداءنا هذا. وللناس ذوي الإرادة الحسنة جميعاً الذين نوّجه إليهم أيضاً رسالتنا هذه، نسأل الله تعالى السعادة والازدهار.

 

أعطي في روما، بالقرب من القديس بطرس، يوم خميس الأسرار في 11 من نيسان سنة 1963، وهي الخامسة لحبريتنا

 

يوحنا الثالث والعشرون

 

الحواشي:

1) IOANNES PP. XXIII, Litt. Enc. Pacem in terris de pace omnium gentium in veritate, iustitia, caritate, libertate constituenda, [Venerabilibus fratribus Patriarchis, Primatibus, Archiepiscopis, Episcopis aliisque locorum Ordinariis pacem et communionem cum Apostolica Sede habentibus, clero et christifidelibus totius orbis itemque universis bonae voluntatis hominibus], 11 aprilis 1963: AAS 55(1963), pp. 257-304. Versione italiana: L’Osservatore romano, 11 aprile 1963; La Civiltà cattolica, 114(1963), II, 105ss.

2)  راجع الرسالة الإذاعية لبيوس الثاني عشر، 1942.

3) راجع الرسالة العامة "الفادي الإلهي" لبيوس الحادي عشر.

4) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1942.

5) المؤسسة الإلهية، الكتاب الرابع، ج. 28، 2 الآباء اللاتين، 6، 535.

6) الرسالة العامة "الحرية" للاون الثالث عشر.

7) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1942.

8) راجع الرسالة العامة "الإتحاد العفيف" لبيوس الحادي عشر.

9) راجع الرسالة الإذاعية في العنصرة لبيوس الثاني عشر، 10.

10) راجع الرسالة العامة "الشؤون الحديثة" للاون الثالث عشر.

11) راجع الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

12) راجع الرسالة الإذاعية في العنصرة لبيوس الثاني عشر.

13) نفس المرجع.

14) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

15) راجع الرسالة العامة "الشؤون الحديثة" للاون الثالث عشر.

16) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

17) راجع الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1952.

18) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1944.

19) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1942.

20) راجع الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1942.

21) الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني، أولاً- ثانياً، المسألة 19، أ. 4؛ راجع أ. 9.

22) عظة يوحنا الثالث والعشرون في رو 13: 1-2.

23) الرسالة العامة "الله الخالد" للاون الثالث عشر.

24) راجع الرسالة الإذاعية لبيوس الثاني عشر، 1944.

25) راجع الرسالة العامة "الحرب الطويلة" للاون الثالث عشر.

26) راجع نفس المرجع والرسالة العامة "الله الخالد" للاون الثالث عشر.

27) الخلاصة اللاهوتية لتوما الأكويني، أولاً - ثانياً، المسألة 93، أ. 3 حتى 2.

28) راجع الرسالة العامة "الحرب الطويلة" للاون الثالث عشر.

29) راجع الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1942.

30) راجع الرسالة العامة "الحبرية العُظمى" لبيوس الثاني عشر.

31) راجع الرسالة العامة "بقلقٍ شديد" لبيوس الحادي عشر.

32) الرسالة العامة "الله الخالد" للاون الثالث عشر.

33) راجع الرسالة العامة "الشؤون الحديثة" للاون الثالث عشر.

34) راجع الرسالة العامة "الحبرية العُظمى" لبيوس الثاني عشر.

35) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

36) راجع الرسالة العامة "السنة الأربعون" لبيوس الحادي عشر.

37) راجع الرسالة الإذاعية في العنصرة.

38) راجع الرسالة العامة "بقلقٍ شديد" لبيوس الحادي عشر.

39) راجع الرسالة العامة "الفادي الإلهي" لبيوس الحادي عشر.

40) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

41) راجع الرسالة الإذاعية لبيوس الثاني عشر، 1942.

42) راجع الرسالة الرسولية "العام القادم" للاون الثالث عشر.

43) راجع الرسالة الإذاعية في العنصرة، 1941.

44) راجع الرسالة الإذاعية لبيوس الثاني عشر، 1940.

45) "مدينة الله" للقديس أغسطينوس، الكتاب الرابع، ج 4: الآباء اللاتين، 41، 115. والرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1939.

46) راجع الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1941

47) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

48) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1941

49) راجع الرسالة الإذاعية لبيوس الثاني عشر، 24 آب 1939.

50) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

51) الرسالة الإذاعية في عيد الميلاد لبيوس الثاني عشر، 1941.

52) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

53) راجع "حديث لشباب" الحركة الكاثوليكية، لبيوس الثاني عشر، 12.

54) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

55) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون.

56) الرسالة العامة "أم ومعلمة" ليوحنا الثالث والعشرون؛ الرسالة العامة "الله الخالد" للاون الثالث عشر؛ الرسالة العامة "حسب خطة الله" لبيوس الحادي عشر، 1922.

57) راجع الخطاب للعمال الإيطاليين لبيوس الثاني عشر.

58) Miscellanea Augustiniana...

      

                                                                                                                  الموسوعة العربية المسيحية



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +