Skip to Content

الابن الشاطر 2006 - البطريرك بشارة الراعي

الابن الشاطر

انجيل القديس لوقا 15 /11-32

خطيئة الانسان وغفران الله

 Click to view full size image

       نحن في منتصف زمن الصوم، بل في قمته وهي المصالحة وترمم العلاقة مع الله والذات والاخوة. كانت الاسابيع السابقة تحضيراً لهذا التغيير العميق في القلوب، من خلال آيات ثلاث تأملنا فيها : تحويل الماء الى خمر في عرس قانا الجليل، تطهير الابرص، وشفاء المرأة النازفة.واليوم، ننبسط مع الاحاد الثلاثة المقبلة نحو مستقبل تحرّر في كل من المسلك بعودة المشي الى المخلع، والرؤية بانفتاح عيني الاعمى، والموقف باستقبال السيد المسيح ملكاً جديداً وابدياًً يوم الشعانين في مدينة اورشليم، رمز كل مدينة وبلد.

       انجيل الابن الضال يتناول رحمة الله، وخطيئة الانسان، والتوبة  والمصالحة، وثمار غفران الله.

اولاً، مضمون المثل الانجيلي

 

1.  انجيل الرحمة الالهية

 

       الابن "الشاطر" هو الذي شطر حصته من الارث العائد له ولآخيه من ابيه: " اعطني حصتي من ميراثك، فشطر الاب ماله بين ابنيه ". وهو الذي انشطر عن بيت ابيه ليعيش في التبذير المادي والخلقي: " جمع ما اصابه وسافر الى بلد بعيد ، وهناك بدّد ماله، مبذراً ". المثل الانجيلي يوضح جلياً جوهر الرحمة الالهية، التي هي محبة الآب الامينة رغم تبذير الابن. لفظتان في العبرية تعبّران عن رحمة الله: "حِسِد"، تعني امانة الله لمحبته التي يحب بها شعبه، والامانة لمواعيده الخلاصية؛ و" رحاميم"، وهي المحبة من الاحشاء مثل محبة الأم، بما فيها من مشاعر حنان وعطف. تتجلى رحمة الله هذه في موقفه تجاه الابن الاصغر: الآلم لغيابه وضياعه ، ترقب عودته، الاسراع الى مسامحته، والوليمة على شرفه، لانه  "كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد". الله امين لابوته، امين لمحبته الدائمة.

       الابن الاصغر هو انسان كل زمان، رجلاً كان او امرأة، تعلّق قلبه بعطايا الله ونسيه، ابتعد عنه وتعبّد لعطاياه، فأضاع ميراث النعمة والبرارة الاصلية. لقد تسلّم من ابيه خيوراً مادية، لكنه بتصرفه خسر كرامته كأبن. هذا هو جوهر خطيئة الانسان ( في الرحمة الالهية،5).

       الخطيئة هي انحراف في الحرّية ، وفي سوء فهمها واستعمالها. الحرية هبة من الله تزين الانسان في عقله وارادته، فيتخذ خيارات ومواقف في خدمة الحقيقة التي يدركها بعقله السليم والمستنير، وفي محبة الخير الذي يحققه ويسعى في اثره بارادته الواعية. ففي عمق اعماق الانسان ، تنفتح الحرية على الحقيقة والحب او تنغلق.

       الخطيئة انغلاق عن الحقيقة والخير والحب النقي، وخروج عن اطار الحرية التي تحرر، وعيش في الاستعباد لنزوات دنيئة ومصالح رخيصة وعادات قبيحة، تصبح  اصناماً تسيطر عليه وتذل انسانيته: "من يعمل الخطيئة هو عبد للخطيئة " (لو8/34). هذه حال الابن الشاطر والكثيرين من الناس، وبخاصة بعض الشبان والشابات، بل العديد من المسؤولين السياسيين والاداريين والعسكريين، ورجال القضاء المؤتمنين على اشرف كنزين: الحقيقة والعدالة. هؤلاء يعيشون باسم الحرية الذين باسم الحرية في عبودية الخطيئة والذل الانساني والانحطاط الخلقي، مبتعدين عن الله والكنيسة. فلا ممارسة دينية عندهم  ولا ثقافة مسيحية، بل اسقاط الدين والاخلاق من حياتهم، معتقدين ان ذلك حداثة وحضارة. وكأن الله غريب عن هذا العالم، فلا انزل شرائع ولا وضع وصايا ولا حقق خلاصاً. بعضهم ينصب العداء للكنيسة ورعاتها، ويتنكر للانجيل وتعليمه.  ان الكنيسة تعاني الاضطهاد اليوم من ابنائها وبناتها. هذه الحالة تحتاج الى توبة شاملة وصادقة.

الخطيئة هي في الاساس عمل ضد الله: " لك وحدك خطئت والشر قدامك صنعت" (مز 50/6)، وبالتالي ضد الاخوة وضد الذات. وتصبح مخالفة لشريعة الهية او لقاعدة خلقية. انها تنبع من ارادة الانسان الحرة: " اعطني نصيبي فجمع ماله، وسافر بعيداً، وبدّد ماله بالبذخ ". كلها افعال لارادة حرة، لكنها ادّت الى شر الابن، وقد وعاه ساعة عاد الى نفسه وقال: " كم اجير في بيت ابي يفضل الخبز عنهم وانا اموت جوعاً. لقد رجع الى نقطة الانطلاق: " من الباطن، من قلوب الناس تصدر افكار الشر: الفجور، الزنى، السرقة، القتل ، الطمع، الخبث ، الغش ، الفسق ، الحسد، التجديف، الكبرياء، ألسّفه. كل هذه الشرور تصدر من الباطن وتجعل الانسان نجساً" (مرقس7/20-23). الذين يعيشون مستعبدين لهذه الشرور، انما ينتهكون الحب الحقيقي، ويجرحون كرامة الانسان جرحاً بليغاً، ويلحقون وصمة كبيرة بالتضامن البشري، ويعكسون بتصرفاتهم واقوالهم واعمالهم انانية استعبادية (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 1849-1850).

       الابن الشاطر هو كل انسان تراوده تجربة الابتعاد عن الله ليعيش على هواه، فيقع في التجربة وينخدع بالاباطيل، ويجد نفسه وحيداً مسلوب الكرامة  ومستغّلاً (المصالحة والتوبة ،5). تبدأ الخطيئة بمقاطعة الله، فيصبح الخاطىء محوراً لذاته، ينزع الى اثبات ذاته واشباع رغبته الى الحرية المطلقة، عن طريق تداول الاشياء: المال، السلطة، اللذة. والكل على حساب الآخرين الذين يسلبهم ظلماً، ويتعامل معهم تعامله مع الاشياء والادوات. هذا الانسان بحاجة الى تحرير من الخطيئة واستعباد الذات لها، ومن تماديه في ادّعاء الالوهية: " تصيران كآلهة" ( تك3/5). كلمة الحية هذه لحواء المرأة الاولى، هي جوهر تجربة الانسان (الحرية المسيحية والتحرر، 37 و42).

 Click to view full size image

       2.التوبة والمصالحة

 

       وعى الابن الشاطر ان كرامته مهدورة وبنوته مفقودة ، عندما عاد الى نفسه . فندم ندامة كبيرة وقرر استعادة هذه الكرامة والبنوة بالرجوع الى نقطة الانطلاق : " اقوم وامضي الى ابي " . هذا الوعي يتوفر لنا بفحص الضمير، بدخول معبد النفس حيث يلتقينا الله ويخاطبنا ويضيء علينا بنور كلامه الحي. ان قرار استعادة الكرامة الانسانية الاصيلة نتخذه بالندامة على الحالة التي بلغنا اليها بخطايانا وشرورنا، وهو قرار داخلي بالخروج من الحالة الراهنة واسبابها, وبعدم الرجوع الى الخطيئة،  وببدء حياة جديدة يقدمها الله بصفحه المجاني وبحبه الذي يفوق خطيئتنا: " اذهبي ولا تعودي تخطئين" (يو8/11)، وبكلام آخر: اذهبي واستعيدي كرامتك المفقودة . بالندامة ننقذ امراً جوهرياً هو انسانيتنا التي تسلم لنا ، بعد ان نكون قد بددنا كل الميراث: " علينا ان ننعم ونفرح لان اخاك هذا كان ميتاً فعاش وضالاً فوجد " (في الرحمة الالهية ،6).

       انسحق قلب الابن بسبب الاساءة لابيه التي جلبت له الاذلال والعار. فعبّر عن انسحاق قلبه بامرين: الاعتراف بخطيئته: " يا ابتِ خطئت الى السماء واليك "، والتكفير عنها: " لا استحق ان اكون لك ابناً، عاملني كأحد اجرائك ". هذا الانسحاق ناتج عن شعوره العميق بكرامته الضائعة ، وعن ادراكه للخسارة الجسيمة : لقد اصبح اجيراً في بيت ابيه، وهذا اذلال وعار كبير  تقتضيه العدالة. لا توبة بدون انسحاق القلب الذي هو فعل تواضع عميق امام رحمة الله. المتكبر لا يعترف بخطاياه ولا يكفرّ عنها. هذا هو نداء الصوم : " تذكر يا انسان انك تراب والى التراب تعود ". دعوة الى انسحاق القلب، اعتراف بالخطايا، وتكفير بالصوم والاماتة والتقشف واعمال الرحمة، ودعوة الى استعادة حالة البنوة لله في يسوع المسيح، مع ما لها من استقرار وخصب وعطاء .

 

       3. غفران الله

 

       " وفيما كان بعيداً رآه ابوه . فتحّنن عليه وأسرع فألقى بنفسه على عنقه وقبّله ".

 كل توبة حقيقية تنبع من نظرة الله الى الخاطىء. كانت عين الاب على ابنه مذ رحل من البيت. ومنذ اللحظة الاولى بدأ الاب يعيش في التململ ، ينتظر ويأمل ويتفحص الافق. انه يحترم حرية ابنه ولكنه يتعذب. وعندما قرر الابن ان يعود، ابصره عن بُعد وبادر اليه وضمّه طويلاً بين ذراعيه. هذه حال الله معنا، مع خاطىء يبتعد عنه ويشقى في انحطاطه وخسارة كرامته وهو أبن له مخلوق على صورته ومثاله. نحن نميل عن الله ، لكن نظرة حبه ورحمته لنا لا تميل ، نظرته رغبة في الصفح والغفران. هذه النظرة ترجمها في ذبيحة الفداء واظهر بها للخاطىء انه لا يزال موضوع تقديره وحبه، وكشف، بأنوار الروح القدس، الحالة السيئة التي سقط فيها، وشجعه على اخذ القرار بتغيير حياته. الانسان الذي يتذوق طعم رحمة الله والغفران، لا يقوى على ان يعيش الاّ في عودة الى الله مستمرة (الرحمة الالهية، 13).

       غفران الله يعيد الى الخاطىء كرامته الانسانية ويرمم بنوته لله: يضع في يده خاتماً رمز عهد البنوة، ويلبسه أفخر حلّة رمز الحياة الجديدة، ويضع في رجليه حذاء رمز الكرامة المستعادة، ويولم له العجل المسّمن رمزمائدة الافخارستيا.

       مثل الابن الشاطر قصة محبة الله الرحومة يقدّم لنا بها المصالحة الكاملة. الابن الاكبر يمثل كل انسان حجّرت الانانية قلبه وأعمته وقطعت عليه مجال العودة الى الآخرين والى الله، فكان لسعادة الاخ العائد طعم مرارة لديه. انه بحاجة الى العودة والاهتداء والمصالحة، وقد " انشطر" بدوره عن الشركة العائلية. لقد تمسّك الاخ الاكبر بالعدالة، لكن اباه دعاه لتلطيفها بالرحمة، وإلاّ انغلقت في دائرة الثأر. العدالة من دون الرحمة تصبح ظلماً وثأراً. معروف القول المأثور: "أقصى العدالة، أقصى الظلم".

 المصالحة مع الله هي المصالحة الاساس التي منها تنبع كل مصالحة عائلية واجتماعية (المصالحة والتوبة،6).

Click to view full size image

**

ثانياً، الخطة الراعوية

 

       سؤ استعمال الحرية، وهذه عطية ثمينة من الله، ادّى الى ضياع الابن الشاطر وتوتر العائلة ونقمة الاخ الاكبر. ينبّه المجمع البطريركي الماروني في النص العاشر حول العائلة، ان هذه الاخيرة " تتعرض الى التباس في المقياس الموضوعي لخياراتها الاخلاقية، فغالباً ما تختار ما يوافقها من حلول، بغض النظر عن ابعادها الروحية والخلقية، بسبب ما يعطي الانسان من مفهوم خاطىء لحريته وذاته وغاية وجوده. فتتزعزع اركان العائلة، خاصة عندما يصرّ كل فرد، باسم الحرية، على استباحة ما يشاء" ( عدد34).

       تقتضي الخطة الراعوية من كهنة الرعايا في لقاءاتهم الانجيلية، ومرشدي المنظمات الرسولية في اجتماعاتها الاسبوعية، والجماعات الديرية، والمجالس واللجان القائمة في الرعايا والمؤسسات والجماعات العائلية، ان ينظروا معاً في الاوضاع الراهنة ويرسموا لها حلولاً، في المجالات التالية:

       1. مفهوم الحرية، تنبع الحرية من الحقيقة والعدالة والمحبة، وتتصف بسيطرة الانسان الداخلية على افعاله الخاصة وتقرير مصيره. ليست الحرية ان تفعل اي شيء كان، بل الحرية حرية في سبيل الخير ( الحرية المسيحية والتحرر، 27 و27). تجري كل جماعة تحليلاً لواقع الحرية في العائلة، ونقداً موضوعياً، لتستنتج ما ينبغي من خلاصة وحلول. يشير النص المجمعي العاشر الى ضرورة التنشئة الصحيحة على الحرية التي تثمر مسؤولية وتضامناً وبنياناَ للذات وللآخر" ( فقرة 34). يقتضي التحليل والنقد ابراز النتائج الوخيمة لمفهوم  الحرية الخاطىء اي ان " الحرّ هو من استطاع ان يفعل فقط ما يريده من دون ان يردعه اكراه خارجي، وتمتع بالتالي باستقلال تام" ( الحرية المسيحية والتحرر، 25).

 

       2. الحب والزواج: ثمة انحراف في مفهوم الحب والزواج والانجاب والتضحية الوالدية، فحُصر الحب في الجنس وتشوهت الحميمية المقدسة التي تربط بين الزوجين بعطاء متبادل منفتح على الحياة، ونشأت علاقات مرفوضة اخلاقياً وكنسياً (النص 10، في العائلة،35). تفكرّ الجماعة معاً في الواقع الراهن، وتلتزم بشهادة الحياة، وتعلن مساهمتها في راعوية الحب والزواج. تجدر الاشارة الى ان الاساس الجوهري لهذا التزعزع في المفهوم هو النقص في معنى الله الذي ادّى الى النقص في معنى الانسان" (البابا يوحنا بولس الثاني).

 

       3. اخلاقيات الحياة: يلفت المجمع البطريركي الماروني الى " ان نسبة لا بأس بها من المستشفيات والاطباء والازواج المسيحيين، تجهل او تتجاهل شريعة وتعاليم الكنيسة في موضوع اخلاقيات الحياة. فالتطور العلمي والتقني، بالرغم من ايجابياته في تعزيز الحياة بمواجهة الامراض والآفات، فانه يقدم حلولاً تتعرض لكرامة الحياة البشرية وقدسيتها ولمفهوم الحب الزوجي ومبدأ ارتباطه بالحياة" ( النص العاشر: في العائلة، 36).

       تقتضي الخطة الراعوية ان تشخص الجماعات المذكورة اعلاه الممارسات المنافية للشريعة الالهية وتعليم الكنيسة، وتشكل خطيئة جسيمة بعضها محفوظ الحلّ منها لمطران الابرشية. ينبغي ان يصار الى كشف ممارسات مثل: الاجهاض، ووسائل منع الحمل الصناعية بما فيها العقاقير المجهضة، والاخصاب في الانبوب، وقتل أجنة في بطون الامهات، وتجميد اجنة، واستعمال بعضها لاختبارات طبية، والتعامل مع الاجنة من اجل الغائها، والتعامل مع الجنس من اجل احداث تغيير فيه، والموت الرحيم، والاستنساخ البشري، وزواج المثليين.

       وتهدف الخطة الراعوية الى انارة الضمائر بنشر تعليم الكنيسة، وتعزيز الابوة والامومة المسؤولة، والتنديد بالاطباء الذين لا يتورعون عن مثل هذه الممارسات.

 

صلاة       

يا رب، اننا في هذا الصوم المبارك، وهو الزمن المقبول، نلتزم بالتكفير عن الخطايا والممارسات المنافية لاخلاقية الحياة والشريعة الالهية وتعليم الكنيسة. نكفر عن الذين يرفضون اتباعك، انت الراعي والقدوة، ممعنين في خيانة وعود معموديتهم. اننا نودّ التعويض، بصومنا وتوبتنا واعمال الرحمة، عن عدم الحشمة في الحياة والمسلك واللباس، وعن الاساءات للابرياء، وعن الاهانات للكنيسة ورعاتها، وعن انتهاك حقوق الشعوب. تقبّل، ايها الرب يسوع، بشفاعة امنا مريم العذرء شريكة الفداء، استعدادنا للتكفير والتعويض. اعطنا الثبات في مقاصدنا، لنبلغ مع المؤمنين المخلصين الى الوطن السعيد حيث تملك مع الآب والروح القدس الى الابد، آمين ( صلاة البابا بيوس الحادي عشر).

 


البطريرك بشارة الراعي
 


عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +