Skip to Content

شفاء المرأة النازفة 2011 - البطريرك بشارة الراعي

شفاء المرأة النازفة

20 آذار 2011

 2 قورنتس 7/4-11

لوقا 8/43-48

العدالة ثمرة البرارة

 

زمن الصوم يمتاز عن سواه في انه الزمن المقبول والمناسب، الذي تظهر فيه نعمة الله الشافية، كما يقول بولس الرسول: " نحثّكم بالاّ تجعلوا نعمة الله المعطاة باطلة. فها هو الآن الزمن الموآتي، وها هو الآن زمن الخلاص" ( 2كور 6: 1-2). المرأة النازفة عرفت ان تدخل زمن الخلاص.

 

اولاً، القراءات المقدسة

من انجيل القديس لوقا 8: 43-48

َكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا.دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: "مَنْ لَمَسَنِي؟". وَأَنْكَرَ الـجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: "يا مُعَلِّم، إِنَّ الـجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!". َقَالَ يَسُوع: "إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!".وَرَأَتِ الـمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: "يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام!. 

يسوع في طريقه الى بيت يائيرس، رئيس المجمع، لكي يشفي ابنه، تلبية لالتماس ابيه. المرأة المصابة بنزيف تغتنم هذه الفرصة، وفيها ايمان وطيد لانها اذا تمكّنت من لمس طرف ثوب يسوع تشفى من نزيفها. وهذا ما حصل. يسوع عرف بايمانها الداخلي العميق، هو الذي "يعرف ما في قلب الانسان" ( يو 2: 25). فلبّى طلب ايمانها الصامت، لكنه الناطق في قلب يسوع. الايمان موقف ومسلك، وكذلك الصلاة، قبل ان يكونا اعلاناً بالكلمات.

حرّمت شريعة العهد القديم المرأة المصابة بنزيف من ان تلمس اي شيء من أمتعة البيت او ان تلمس احداً، لاعتبار نزيف دمها دنساً يدنّس كلَّ شيء وكل شخص. لهذا السبب لم تجرؤ ان تلتمس شفاءها بالكلام امام الجمع، الذي لم يكن يعرف بأمرها وخافت من ان تشككه وتثير غضبه. لكن ايمانها علّمها ما فعلت. الايمان هو لغة القلب لا الشفاه. ولهذا اراد يسوع ان يكشف سرّها، ويمتدح ايمانها، ليعطيها امثولة للجمع الحاضر. واراد بنوع خاص ان يكسر كل حاجز بينه وبين الانسان، اياً كان ضعفه، واياً كانت خطاياه وشروره. يسوع يُسقط كل الحواجز التي يقيمها البشر فيما بينهم.

زمن الصوم المناسب والمقبول هو زمن اسقاط حواجز التفرقة والنزاع والعداوة والخلافات بين الناس، بنعمة المصالحة والغفران. هكذا فعل يسوع ايضاً عندما " تحنّن على ذاك الابرص، ومدّ يده ولمسه، فطهر من برصه". في هاتين الحادثتين، علّمنا الرب يسوع الخروج من موقف عدم الاكتراث بالاخوة المحتاجين، مادّياً وروحياً ومعنوياً وانمائياً وثقافياً. علّمنا ألاّ نعيش في اللامبلاة تجاه اي محتاج أو في تجاهله، بل ان نلتزم بالعدالة الطبيعية التي هي ثمرة حالة البرارة. فلنتذكر الطوباوي الاب يعقوب حداد الكبوشي الذي، بفضل برارته وقداسته، أنجز اكبر افعال ومشاريع ومؤسسات على مستوى هذه العدالة. هذه تعني " اعطاء كل واحد ما هو له". ان " ما هو له" لا يقف عند حدود التصدّق العابر، بل هو توفير حياة كريمة تمكّن الانسان من ان يعيش من هذه المحبة التي يعطيها الله وحده، الى جانب المساعدة المادية الضرورية. " تبقى العدالة التوزيعية ناقصة اذا لم تعطِ الانسان الاله الحق" ( القديس اغسطينوس )[1].

النجاسة الحقيقية لا تأتي من امور خارجية، مثل نزيف الدم، والبرص، بل من داخل قلب الانسان، كما علّم الرب يسوع ذات يوم: " لا شيء من خارج الانسان، اذا دخله، ينجّسه. ان ما يخرج من باطن الانسان هو الذي يدنسّه. فمن الداخل، من قلب البشر تخرج مقاصد السوء" ( مر 7: 14-15؛ 20-21).

ان ما نشهده من فساد على مستوى الاخلاق والعلاقات بين الناس وممارسة السلطة والادارة والمسؤولية، انما ينبع من قلوب لا يسكن فيها الله، قلوب من حجر لا تعرف المشاعر الانسانية، قلوب مملوءة من محبة الذات والانانية، قلوب لا تعرف الصلاة والتوبة، ولا تنفتح لقبول كلام الله ونعمة الاسرار وعطية الروح القدس. وهذا أسوأ نزيف تصاب به مجتمعاتنا ويؤدي الى موت قيمها ومعنى الوجود والتاريخ فيها.

لفظة " صدّيق وصدقة" في الكتاب المقدس تبيّن العلاقة العميقة بين الايمان بالله، فنقول صدّيقاً او باراً، وبين ممارسة العدالة تجاه القريب، ونقول " الصدقة" او " التصدّق". ونقول في الفرنسية Juste و Justice. وهكذا لا تنفصل البرارة عن التصدّق. بل التصدق هو ثمرة البرارة. كما ذكرنا في مثل الطوباوي الاب يعقوب. والتصدق على المحتاج، لاسيما الفقير والغريب واليتيم والارمل ( خروج 20: 12-17)، ليس سوى مبادلة ما اعطاه الله. هذا هو مفهوم فضيلة العدالة. الله يسمع صراخ الفقير واليتيم والغريب والمستعبد، ويطالب باغاثتهم. زمن الصوم هو الزمن المناسب والمقبول للحصول على نعمة البرارة، وممارسة فضيلة العدالة.

يحدّثنا القديس بولس الرسول في رسالته الثانية الى اهل كورنتس 7: 4-11. عن الحزن الذي يؤدي الى التوبة او الشفاء. انها دعوة لنا " لنحزن حزناً مرضياً لله"، اي لنقبل محن الحياة ومصائبها ومصاعبها بصبر وتسليم لارادة الله، ونجعل منها وسيلة لتقديس الذات. كتب المكرم البابا يوحنا بولس الثاني، الذي سنحتفل باعلانه طوباوياً في اوال ايار المقبل، ان على كل واحد منا ان يكتب صفحته الخاصة في انجيل الألم الخلاصي" (الرسالة العامة في الألم الخلاصي).

ان مثل هذا الحزن المرضي لله، يقول بولس الرسول، " يصنع توبة للخلاص لا ندم عليها"، فيما " حزن العالم اي الذي من دون رجاء فيصنع موتاً". ويضيف الرسول ان الخوف المرضي لله " ينشىء فينا الاجتهاد والاعتذار والاستنكار والخوف والشوق والغيرة".

Click to view full size image

***

ثانياً، الارشاد الرسولي: كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها Verbum Domini

 

من هذا الارشاد الرسولي، ومن القسم الاول الذي هو بعنوان: " الله الذي يتكلم"، نتناول موضوع التقليد والكتب المقدسة (الفقرتان 17 - 18).

الرباط العميق بين الروح القدس وكلمة الله يضع الاسس لفهم معنى وقيمة التقليد الحي والكتب المقدسة. ان كلمة الله التي قيلت في الزمن أعطيت وسُلّمت للكنيسة بشكل نهائي، لكي يتمكن اعلان الخلاص من ان يُنقل بفاعلية الى كل الازمنة وفي كل زمان.

نقرأ في الدستور العقائدي Dei Verbum ? كلمة الله حول الوحي الالهي: " يسوع المسيح، من بعد ان تمم هو نفسه وأعلن بفمه الانجيل الموعود سابقاً من الرسل، أمر رسله بكرازته للجميع كينبوع لكل حقيقة خلاصية ولكل قاعدة اخلاقية، ناقلاً اليهم مواهبه الالهية. فتمّ كل ذلك بامانة، تارة على يد الرسل الذين نقلوا، في كرازتهم الشفوية والامثلة والمؤسسات، سواء ما كانوا قد تلقنوه من فم يسوع بالعيش معه وبرؤية افعاله، سواء ما اكتسبوه من الهامات الروح القدس، وتارة على يد هؤلاء الرسل والرجال من محيطهم الذين، بالهام من الروح القدس عينه، سلّموا خطياً رسالة الخلاص" ( عدد 7).

هؤلاء هم كتبوا الاناجيل واعمال الرسل والرسائل والرؤيا. فالاناجيل الاربعة كتبها رسولان مرقس ويوحنا، ورجلان من المحيط متى ولوقا، كاتب اعمال الرسل هو لوقا، ثم رسائل بولس الحامل لقب رسول، ورسائل كلٍ من بطرس الرسول ويوحنا الرسول ويعقوب الرسول ويهوذا اخيه، وكاتب الرؤيا هو يوحنا الرسول. هذا هو التقليد الرسولي.

لكن هذا التقليد من اصل رسولي هو واقع حيّ وديناميكي ، ويتنامى في الكنيسة على هدي الروح القدس، لا بمعى انه يتغيّر في حقيقته التي هي ابدية، بل بمعنى ان فهم الواقعات والكلمات المنقولة يتنامى، من خلال التأمل والدرس والاختبار الروحي وكرازة الذين، عبر الخلاقة في الاسقفية أعطوا موهبة الحقيقة الأكيدة[2]

هذا هو التقليد الحي. انه جوهري واساسي لكي تتمكن الكنيسة من النمو على مدى الزمن في فهم الحقيقة الموحاة في الكتب المقدسة ككلمة الله، لان تقليد الكنيسة الحي هذا، هو الذي حدد قانونية الكتب الاصلية ورذل تلك المنحولة، وبفضل هذا التقليد تكون الكتب مفهومة باكثر عمقاً وفاعلية من دون توقف.

من الضرورة اذن تربية ابناء الكنيسة وبناتها وتنشئتهم بشكل واضح على التقرّب من الكتب المقدسة بالارتباط مع تقليد الكنيسة الحي، من اجل النمو في حياتهم الروحية. فكلمة الله (Logos- Verbum) الذي صار بشراً هو الكلمة التي صارت كتاباً، وجسده هو كل تعاليم الكتب المقدسة.

تعيش الكنيسة في يقين من ان ربها، الذي يتكلم في الماضي، لا يزال يواصل نقل كلمته اليها اليوم، من دون انقطاع، في تقليدها الحي، والكتاب المقدس. وهكذا كلمة الله الموحاة لنا في الكتاب المقدس تشكل مع تقليد الكنيسة الحي القاعدة الاسمى للايمان (الدستور العقائدي في الوحي الالهي، 21).

***

 

ثالثاً، اتباع يسوع في درب صليبه

نسير في كل يوم جمعة وراء يسوع في درب صليبه، مشاركين في آلام الخلاص، وتائبين عن خطايانا وشرورنا.

المرحلة الخامسة، يسوع يساعده سمعان القيريني في حمل صليبه

ادرك الجند ان قوى يسوع قد خارت، فسخّروا سمعان القيريني الذي كان عائداً من حقله، وحمّلوه الصليب وراء يسوع. انه يذكّرنا بقول الرب: " من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني" (متى 16: 24). ما يعني ان كل مرض وحدث مؤلم وموت عزيز قد اصبح في ضوء صليب يسوع وفعلة سمعان القيريني صليباً خلاصياً نحمله وراء يسوع. بعد الصلب، يسوع قام من الموت كأول بين اخوة كثيرين" (روم 8: 29؛ 1 كور 15: 20). لا نستطيع ان نفصل الصليب عن القيامة. فقط بايماننا بالقيامة نستطيع ان نحمل صلبان الحياة، ونتبع يسوع في درب صليبه.

 

المرحلة السادسة، فيرونيكا تمسح وجه يسوع

مسحت فيرونيكا وجه يسوع المشوّه بافعال خطايا البشر، لكنه يبقى وجه ابن الله، فانطبعت صورة هذا الوجه الفادي على المنديل، للدلالة ان الرب متضامن مع كل الذين تتشوّه وجوههم بالمرض والآلم والظلم والاعتداء، وان صورة وجهه المطبوعة على المنديل تتكرر في آلام المتألمين. ان مسيرة درب الصليب لا تأخذ قيمتها ولا تعطي ثمارها، ما لم تفتح قلوبنا الى مبادرات محبة وتضامن مع كل من يتألم من حولنا. ايها الرب يسوع، اطبع في قلوبنا صورة وجهك حامل آلام الفداء، لكي تمتلىء من مشاعر الحنان والرحمة.

***

 

صلاة

ايها الرب يسوع، اعطنا ان نكلمك بلغة القلب المؤمن، مثل المرأة النازفة، وان نلمس نعمة اسرارك بايمان فنشفى من نزيف القيم الروحية والخلقية والانسانية التي تسببها خطايانا. ساعدنا على اسقاط كل الحواجز لننفتح على بعضنا البعض بروح التضامن والترابط، وبروح العدالة الطبيعية، وننصرف الى مساعدة اخوتنا الذين في الحاجة والفاقة. انعش قلوبنا بالمشاعر الانسانية وامنحنا نعمة البرارة وأطلقنا في خدمة العدالة الاجتماعية. ولتكن كلمتك، ايها الرب، الموحاة في الكتب المقدسة والمنقولة الينا بتقليد الكنيسة الحي، هادية لنا الى الحقيقة والحياة. نسألك ان تعيننا في حمل صليبك المتجلي في صلبان حياتنا، واطبع وجهك المعزّي على وجه المتألمين. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن والى الابد، آمين.

 

***

 

[1].هذه الافكار مستوحات من رسالة البابا بندكتوس السادس عشر لصوم 2010 بتاريخ 30 تشرين الاول 2010.

 

[2].الدستور العقائدي في الوحي الالهي، الفقرتان 7 و8.


البطريرك بشارة الراعي



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +