Skip to Content

من تأليه الذّات إلى التألّه ! الأرشمندريت توما بيطار

من تأليه الذّات إلى التألّه !

 

الأرشمندريت توما (بيطار)

رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي - دوما 

لماذا إعطاء المجد لله في كلّ تفصيل "المجد لكَ يا إلهنا المجد لك"، "المجد للآب والابن والرّوح القدس"، "المجد لله في العُلى..." ذات يوم، لبس هيرودوس الحلّة الملوكيّة وجلس على كرسيّ المُلك فصرخ الشّعب هذا صوت إله لا صوت إنسان.

 في الحال ضربه ملاك الرّبّ لأنّه لم يُعطِ المجد لله، فصار يأكله الدّود ومات (أعمال الرّسل). لِمَ هذا الإصرار على أن يعطي الإنسان المجد لله؟ هل الله بحاجة إلى تمجيد؟ هو كامل في ذاته ومجده منه.

إذًا ليس هو بحاجة إلى تمجيد، ومع ذلك لا تكفّ الكنيسة عن تمجيده، لماذا؟

لأنّ الإنسان هو المحتاج لأن يمجِّد الله بالفكر والقول والعمل، لا الله إلى تمجيد! 

أوّلاً : ما هو المجد؟ ماذا يعني المجد؟ المجد من صفات الله لأنّه الخالق السيّد البهيّ السّامي الجليل الشّريف... كلّ ما يبدر منه يحدِّث عن مجده. لذا له وحده المجد وبه وحده يليق! 

ثانيًا : لماذا الإنسان مدعوٌ إلى تمجيد الله؟ لأنّه إلهُه ولأنّه هو، الإنسان، خليقتُه. هذا إقرارُ واقعٍ وتذكيرٌ دائم للإنسان بأنّه من الله وهو تراب ورماد وليس له ما يتمجّد به في ذاته بل هو مجدُ الله والله ممجَّد فيه باعتباره خِلقته.

هذا، الإنسان بحاجة إليه لأنّه يظنّ نفسه واهمًا أنّه إله، وتاليًا مستأهلاً المجد. هذا من خلل الإنسان، في نظرته إلى نفسه، وأعظم تجارب الإنسان وأكثر ما يملك على نفسه هواجسَه وأقوى دافع كامن وراء ما يأتيه. كلّ أفكاره مضمَّخ، صراحة أو تلفيقًا أو تواريًا، بحبّ المجد، بالشّعور بالعظمة، بمركزيّة أناه، وكذا كلّ أعماله وأقواله.

في حسبانه أنّه إذا نجح فلأنّه عظيم، وإذا فشل فلأنّ الآخرين يظلمونه ولا يقدّرونه حقّ قدره ولا يعون المواهب والقدرات الكامنة لديه، وإذا طلب العظمة فلأنّه يَعتبر نفسه مستحقًّا لها، وإذا تمسكن فلأنّه يعتبر نفسه ذكيًّا وقادرًا على أن يأخذ الآخرين بالحيلة، إذا لزم الأمر، ليبلغ مراميه، وبذا ينظر إلى ذاته بتقدير كبير.

وإذا ما تنكّر لله فلأنّه يعتبر أنّ له، هو الإنسان، وجودًا في ذاته ورأيًا سديدًا، وإذا ما أتمّ عمل الله، على طريقته، كانت كبرى تجاربه أنّه خير من سواه وأنّ الله قنية بين يديه. كيفما قلّبت الإنسان تلقاه يتعظّم ويطلب المجد لنفسه، إن لم يكن بالعمل فبالقول، وإن لم يكن بالقول فبالفكر.

هذه نزعتُه! هذه سجيّته! كم مرّة يقول الإنسان: "أنا"؟ إذًا يدور حول نفسه؟ كم مرّة، في اليوم، يقول بلغة الـ "أنا": "أكلتُ، شربتُ، ذهبتُ، أتيتُ، فعلتُ هذا الأمر، صنعتُ ذلك، قال لي فلان كذا فأجبتُه بكذا، سبّني فسببته، ضربني فضربته..."؟

لا أنام على الضّيم ولا أسكت! وكم مرّة يدور في خِلده أنّه يصارع الآخرين ويصرعهم، يقدّمهم ويلغيهم، يقبلهم ويرفضهم وكأنّهم دمى بين يديه وطوع بنانه؟ لسان حاله أنا أتحكّم بالنّاس وأحكم عليهم كما أشاء. لي، في كلّ حال، عالم داخليّ أنا فيه مَلك أُعدِم، في فكري، مَن أشاء وأستبقي مَن أشاء.

أنا السيّد! أنا الآمر النّاهي! مَن يعجبني أقرّبه من عرش قلبي ومَن لا يعجبني أُلغيه. أُمطِر مَن أشاء مدائح وأرمي مَن أشاء بالشّتائم! ربّما ظروف الآخرين الآن موافقة لهم لذا يقمعونني ويستغلّونني، ولكن لا أحد يدخل إلى قلبي عنوة!

 لذا أحتقره متى أشاء وليس مَن يثنيني لأنّ السّيّد في نفسي، أنا هو، وليس سيِّدًا آخر سواي. مَن لا يدخل اللهُ إلى حياته يبقى سالكًا كسيّد ولو على كومة قمامة! النّفس البشريّة لا مَن يقتحمها، إمّا أن تفتح بابها لله وإمّا أن تبقى مغلَقة على نفسها. في هذه الحالة الأخيرة تقع في قبضة الشّرّير لأنّ النّفس المغلَقة من روح الشّرّير وإليه مآلها.

تظنّ نفسها حرّة وهي مستعبَدة لأهوائها. واهمة وتظنّ نفسها في الحقّ، منحرفة وتحسب بوصلتها قويمة، جاهلة وتخال ذاتها بلغت ذروة الفهم، باردة، منكفئة على ذاتها، معتمة، قاحلة... كان خيرًا للنفس العازلة ذاتها لو لم تولد لأنّ العدم خير من الظلمة الدّهريّة!!! 

أمّا بعد، فالتّعبير الوجوديّ لسؤل المجد بامتياز بين النّاس هو حبّ السّلطة. السّلطة، في الكيان، هي علامة الحياة ومصدر الحياة في هذا الدّهر. كلّ إنسان، واقعًا، يطلب السّلطة ويتعاطاها في شكل أو آخر.

مَن قال لك غير ذلك لم يكن صادقًا ولا عارفًا بما في قرارة نفسه! لا تصدّق مَن يقول لكَ إنّه بالسّلطة يريد أن يخدم النّاس بل نفسَه أوّلاً كسيّد، بشكل من الأشكال، على النّاس! السّلطة هي أن تكون في موقع مَن يسيِّر حياة الآخرين أو جوانب منها، بشرًا أو حيوانات أو نباتًا، أن تكون في موقع القادر على التّصرّف بالحياة أو الجماد.

 والسّلطة تُمارَس عن وعي وعن غير وعي، بالفكر أو بالقول أو بالفعل أو بالحسد أو بكلّ شهوة، في الواقع أو في النّيّة، بحسب الطّبيعة أو بخلاف الطّبيعة.

تأخذ السُلطةُ شكلَ السّيادة البيِّنة أو الخدمة. ظاهرةً تكون ومبطَّنة. وقحة وقاحة العنف وناعمة نعومة اللطف. الإنسان كتلة شهوة سلطة! حبّ السّلطة في النّفس، على كلّ صعيد، هو من السّقوط وهو حتميّ. في السّلطة تكمن بذرة حبّ المجد الّذي يعطي الإنسان شعورًا كيانيًّا بالألوهة.

الميل إلى السّلطة والبحث عنها طبيعة مختلقة تولّدت في الإنسان خارج الفردوس كبديل عن الطّاعة لله. كلّ الخليقة أضحت، بالسّقوط، في صراع. كلٌّ قائم على كلّ أحد وشيء.

كلٌّ، في العمق، تهديد للآخر. وبالسّلطة، أيضًا، يسعى الإنسان إلى الحماية والأمان، ومن دونها، في هذا العالم، كأنّه يموت. إذًا بالسّلطة يحفظ الإنسان نفسه ويحقّق نفحة الألوهة فيه في آن. السّمك الكبير، في هذا الدّهر، يأكل الصّغير.

هذا ناموس السّقوط! كلٌّ مسلَّط على غيره، الحشرة على الحشرة والحيوان على الحيوان والطّير على الطّير والإنسان على الإنسان والكلّ على الكلّ. الخليقة في تضاد ضمنيّ، في تنافر تلقائيّ.

هذا واقع! رغم ذلك ثمّة توازن فرضه الضّابط الكلّ، هو ما أمّن ويؤمِّن استمرار الخليقة إلى المسيح الّذي يجعل العالم جديدًا، الكنيسةَ، ويخلق واقعًا علائقيًّا جديدًا: "وأنتم جميعًا إخوة"، ويجعل الحيوان والنّبات والجماد في خدمة القدّيسين، والكلَّ في خدمة الله وأحدهم الآخر. الحقّ أنّه لو لم يمسك الضّابط الكلّ العالم ويحفظْه لانفرط عقده لأنّ كلّ عناصر التّفكك والانحلال فيه! 

في يسوع والزّمن الجديد انتفت السّلطة بين البشر. "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلّطون عليهم فلا يكون هكذا فيكم بل مَن أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا. ومَن أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليكن لكم عبدًا. كما أنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدم بل ليَخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت 20: 25 ? 28).  

هذا انقلاب واضح في المفاهيم والعلاقات! الأوّل هو مَن يخدم ويبذل نفسه عن الكثيرين. الأوّل لم يعد أوّلاً في المركز والتّسيّد بل أوّلاً في الخدمة. وحتّى لا تكون أوّليّته في الخدمة إسميّة وشكليّة يُتوقَّع منه أن يبذل نفسه، في كلّ حين وفي كلّ حال، عن كثيرين، أن يسهر لينام القطيع مطمئنًا، أن يجوع، بمعنى أن يصوم، ليكون للجائع خبز، أن يبحث عن الخروف الضّال، أن يبذل نفسه في المحبّة ليُعرَف أنّه للمسيح، أن يبكي لأجل الحزانى ليبثّ الرّجاء في القلوب.

 كلّ قضية يطرحها الخادم في الصّلاة أوّلاً، وفي الصّوم، إذا لزم الأمر، ثمّ بما يلزمها من قول أو موقف أو عمل. لم يعد الأوّل مَن يتعاطى السّلطة البشريّة باسمه أو باسم النّاس أو باسم الله. الأكثرون يقولون غير ما يفعلون ويفعلون غير ما ينادون به.

الكلام في ميل والممارسة في ميل آخر. غير صحيح أنّ الكنيسة مؤسّسة تُدار بشريًّا من الّذين يُقامون عليها من حيث هي مؤسّسة. مؤسّسةٌ بشريّة إلهيّة هي لذلك لا أصحاب سلطة فيها بل خادم هو يسوع المحبّة، والعاملون فيها خدّام على مثاله؛ كلّ يخدم في رتبته ومقامه. الكاريكاتور الكبير، في ما يُعتبر الكنيسة المؤسّسة، أن يمارِس الأوّلون السّلطة بروح العالم وبحسب النّاس ثمّ يُسمُّون أنفسهم خدّامًا.

الخدمة لا تُتعاطى بروح السّلطة والهيمنة بل بروح المحبّة والبذل، بروح الله وكلمته. الإدارة لا تقوم على إدارة النّاس وفق قناعات الرّؤساء بل بروح الرّبّ.

وحتّى تكون الإدارة بروح الرّبّ نحتاج إلى أن يكون الخدّامُ بيننا متمرّسين في القداسة، فقرًا وصومًا وصلاة وتواضعًا وصبرًا ومحبّة. يبكون مع الباكين ويفرحون مع الفرحين. يعلِّمون طريق الرّبّ الّتي عرفوها واختبروها، كُتبيّين بمقدار ما يكون تعليمُهم منسجمًا وسيرةِ حياتهم في الرّبّ، عارفين، بعمق، حركة النّفس البشريّة، وهادفًا إلى تنوير المؤمنين، للغاية عينها، في تدابير الكنيسة وتعليم الآباء القدّيسين وسِيرهم، وكلمة الله هاديةً أولى لكلّ مسعى إلى وجه الله فيما بينهم! 

المهمّ في كلّ أمر أن يتمجّد الله بين النّاس لا الخدّام. الخدّام عبيدُه، إذا ما استَعبدوا أنفسهم للخدمة بالمحبّة، بلياقة وأمانة وترتيب، اللهُ يمجِّدهم. لا كرامة لهم يطلبونها في الجماعة. يتكلّمون لا كمَن يُرضي النّاس بل الله الّذي يختبر القلوب.

 لا هم في كلام تملّق ولا في علّة طمع. لا يطلبون مجدًا من أحد مع أنّهم قادرون أن يكونوا في وقار. مترفّقين في وسط الجماعة كما تربّي المرضعة أولادها، حانّين إلى الخراف. لسان حالهم أنّنا نرضى أن نعطيكم لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضًا.

نعمل ليلاً ونهارًا حتّى لا نثقّل على أحد منكم. نسلك بينكم بطهارة وبرّ وبلا لوم ونعظ كلّ واحد منكم كالأب لأولاده ونشجِّعكم ونُشهدُكُم لكي تسلكوا كما يحقّ لله الّذي دعاكم إلى ملكوته ومجده (1 تسا 2).

إلى هذه السّاعة نجوع ونعطش ونعرى ونُلكم وليس لنا إقامة ونتعب عاملين بأيدينا. نُشتَم فنبارك. نُضطَهد فنحتمل. يُفترى علينا فنعظ (1 كور 4)...

 كلّ ما كان لنا ربحًا نحسبه خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربّنا الّذي من أجله خسرنا كلّ شيء ونحن نحسبه نفاية لكي نربح المسيح... (في 3). 

هذه هي المؤسّسة الجديدة الإلهيّة البشريّة وليست كالّتي للنّاس. هذه روحيّة والعتيقة بشريّة. هذه تُعرف من ثمارها لا من ظاهرها. الكلّ فيها من الله ولله. الهمُّ فيها واحد أن يتمجّد الله في أجساد الخدّام والجميع وأرواحهم الّتي هي لله.

هذه ليس لها مقاييس دهريّة. هذه تقوم بروح الله وتُعرف بروح الله وتثبت بروح الله وتُفضي إلى التألّه. المؤسّسة العتيقة قد التغت عند الله. هوذا الكلّ قد صار جديدًا.

 إمّا أن نرسم، بما نكون إيّاه ونأتيه، ملكوتَ الله على الأرض لمجد الله وفرح البشريّة، أو نرسم عنه صورة كاريكاتوريّة خياليّة بائدة ثرثارة ميتة، لا روح لها ولا حضرة لله فيها، بل مِسخٌ ومأساة وظلمة ولو تكلّمت على النّور!

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +