Skip to Content

أضواء على الدينونة الأرشمندريت توما بيطار

أضواء على الدينونة

Click to view full size image

الأرشمندريت توما (بيطار)

رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي - دوما

 الحكيم هو مَن يجعل يوم مماته نصب عينيه قبل يوم حياته. قبل أن تخطِّط لغدك أُذكر ساعة موتك! فيوم الممات آت لا محالة وفي أيّ لحظة، فيما يوم الحياة، هنا، قد لا يأتي أبداً. ثمّ إذا جعلتَ يوم مماتك نُصب عينيك، في كلّ حين وحال، فإنّك لا تعود تهتمّ ليوم حياتك على الأرض واهماً بأنّك كائن فيها إلى الأبد، بل باعتبار أنّك مائت حتماً اليوم أو غداً.

هذا يجعلك، أوّلاً، واقعياً، في تعاطيك شؤون هذا الدهر. وثانياً، وعيُك لواقعك يعطيك الشعور العميق أنّ ما تتعاطاه، هنا، مهما كان، عابر. أنت في قطار يستاقك إلى هناك، وما تعاينه، هنا وثمّة، مشاهد تتتالى، تطالعك اليوم ولا تلبث أن تمسي إلى الوراء غداً وكأنّها لم تكن.

ثمّ ثالثاً ما يواجهك في يومك، والحال هذه، تكون مهيّئاً لأن تقبله بسهولة أكبر، مرّاً أو حلواً، لأنّ عينك هي إلى هناك. أخيراً رابعاً إذا صحوت إلى ساعة موتك، أيّ، عمليّاً، إلى ساعة الدينونة، فإنّك تجد نفسك، بصورة تلقائيّة، مدفوعاً إلى السلوك باستقامة في ما تعمل، وبرحمة من جهة تعاملك مع الناس، لأنّ الساعة آتية حين ستجد نفسك في وضعِ مَن عليه أن يجيب عن كلّ تفصيل من تفاصيل ما جرى له. ع

لى هذا يكون ذكر الموت وساعةِ الدينونة منظِّماً واقعيّاً ممتازاً لشؤون الحياة على الأرض ومساعداً على تحرّرك من الأوهام والتصوّرات المغلوطة ومعيناً على جعل حياتك، حتّى في أبسط تفاصيلها وأدقّها، هادفة وعلى نحو سلامي مفرح!

     لا، لا تظنّ، واهماً، أنّك إن جعلتَ ساعة موتك نصب عينيك، فإنّك ستغرق في الحزن واليأس ولن ترغب في متابعة أيّ عمل هنا على الأرض من كلّ قلبك.

هذا غير صحيح. ساعة الموت حزينة يائسة، فقط للذين لا يؤمنون بالله وبيسوع المسيح له المجد. أمّا للذين يؤمنون فساعة الموت هي ساعة اللقيا بمَن أحبّنا، ساعة اكتمال تهيئة الإنسان للحياة الأبديّة. لذا هذه الساعة هي ساعة الفرح بامتياز.

 كلا، لسنا، بالموت، مقبلين على العدم بل على الملء. ليس الموت خسارة بل ربح (في 1: 21). ما ينتظرنا يفوق التصوّر!

 "ما لم تَرَ عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعدّه الله للذين يحبّونه" (1 كو 2: 9)!

     ثمّ لا خوف عليك أنّك خطئت. كلّ لحم ودم خاطئ! لا نأتي إلى ساعة الموت بلا خطيئة طالما الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله (رو 3: 23) وما صالح إلاّ الله (مت 19: 17).

المهمّ ألاّ تصبح الخطيئةُ في حياتنا شأناً طبيعيّاً، ألاّ تصبح إيّانا، ألاّ نتبنّاها كأنّها المَشوق إليه، ألاّ نحببها بلا أدنى رفض لها في مستوى النفس أو الشعور بنخس القلب عليها.

Click to view full size image

ألم يقل السيّد: "هذه هي الدينونة إنّ النور قد جاء إلى العالم وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النور لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة" (يو 3: 19)؟ لا تُلقَى في الجحيم ولا تُحرَم من وجه ربّك ما لم تصر الخطيئة طبيعةً غيرَ طبيعيّة إليك تقتنيها من عمق عِشرة قلبك لها، وما لم تصر الخطيئة جسداً غريباً مكتسَباً لديك، أي كياناً مختلقاً اتّحد بها، فصارت هي إيّاك.

الكلمة الإلهيّة تحذّرك إلى المنتهى وتدعوك لأن تكون عنيفاً حيال ذاتك:

"إن أعثرتك يدُك أو رجلُك فاقطعها وألقِها عنك. خير لك أن تدخل الحياة أعرج أو أقطع من أن تُلقَى في النار الأبديّة ولك يدان أو رجلان" (مت 18: 8).

 مهما كثرت خطاياك فلا خوف عليك. الخطايا لا تلقيك في جهنّم بل موقفك، في الكيان، منها. الربّ الإله أوقيانوس رحمة! كلّ خطايا البشريّة كحفنة رمل لديه! كَلا شيء هي عنده وهو يشاء أنّ الجميع يخلصون وإلى معرفة الحقّ يقبلون (1 تيم 2: 4).

 تكفيك "الآخ"! تكفيك الدمعة! يكفيك الندم من الأعماق! يكفيك وجع القلب! أن تقول ولو كلمةً بحسرة: "اذكرني يا ربّ متى أتيت في ملكوتك!" "اجعلني كأحد أجرائك"!

وبمَ يجيبك؟ "اليوم تكون معي في الفردوس". "أَخْرِجُوا الحلّة الأولى... وقدّموا العجل المسمَّن فنأكل ونفرح لأنّ أخاك هذا كان ميتاً فعاش وكان ضالاً فوُجد". لا يطلب الربّ الإله الكثير. يطلب ولو حركة قلب بسيطة متوجّعة متواضعة.

 كيف لا و"القلب الخاشع المتواضع لا يرذله الله"؟ يبحث الربّ الإله عن أقلّ الأسباب ليخلِّص الإنسان. إلهنا كلّه حبّ! مهما كان الفتيل مدخّناً لا يطفئه، ومهما كانت القصبة مرضوضة لا يقصفها.

"إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف" (إش 1: 18).

السماء في حداد حتّى يتوب الخاطئ لأنّه "هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى التوبة" (لو 15: 7)!

     هل يعني هذا أنّ بإمكاننا أن نخطئ عن وعي وبلا حساب ثمّ نتوب في اللحظة الأخيرة؟ كلاّ وحاشا! بعض القدّيسين خطئ وأكثر ثمّ تاب في اللحظة الأخيرة. هذا صحيح! لكنّه خطئ عن جهل وضعف. أيستسلم الإنسان، عن إرادة، لعدوّه ثمّ يتوقّع أن ينجو وكأنّه في نزهة؟!

مَن قال إنّه سيتسنّى له الخلاص متى أراد؟ همّ عدوّك الشيطان أن يسحقك بالخطيئة سحقاً إلى المنتهى، أتستسلم إليه؟! إلى ذلك، خطر الخطيئة أنّه متى استسلم الإنسان لها عن وعي قسا قلبه من تعاطيها وبات عرضة لموت الحسّ فيه.

ثمّ إن ظنّ المرء أنّ بإمكانه أن يخطئ، اليوم، وهو العارف بالحقّ، ثمّ يتوب غداً فإنّه يسقط سقوطاً رهيباً، ويضيف إلى خطاياه أعظم الإثم، لأنّه استسلم للخطيئة عن عَمْد وعناد وعشق للذات. هذا هو الكفر بعينه!!! فكيف يتوب وقد كفر بالروح القدس؟!

فإنّه كان عارفاً بالحقّ، ومع ذلك اختار الباطل وسلك كأنّ الحقّ باطل، وكان قادراً على الجهاد، ومع ذلك اختار الانغماس في الإثم كأنّ الإثم أجدى!

هذا بعينه هو التجديف على الروح القدس! كان اليهود يعرفون أنّ الروح الفاعل في الربّ يسوع هو الروح القدس، ومع ذلك قالوا عنه، حسداً وكبرياء وعناداً، إنّه رئيس الشياطين. كانوا قادرين على أن يتّضعوا ويسلّموا بالحقّ، كانوا يعرفون، لكنّهم أهانوا الروح القدس واستهانوا بالحقّ واختاروا الإثم! هذا ما قال الربّ الإله بشأنه:

"جميع الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدِّفونها، ولكنْ مَن جدّف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد بل هو مستوجب دينونة أبديّة" (مر 3: 28 ? 29)!

    لذا أُقاوم الخطيئة اليوم وغداً وإلى المنتهى. أمّا الجهلاء فلهم علينا حقّ تعليمهم. "تلمذوا كلّ الأمم". وأمّا الضعفاء فنعينهم بالصلاة والربّ يعينهم، لأجل صلاحه، بنا ومن دوننا!

     بعد ذلك نسأل: أقليل هم الذين يخلصون؟ لا نعلم وإن كنّا نشعر، في قرارة نفوسنا، بأنّ القادر على كلّ شيء ومَن يشاء الكلّ أن يخلصوا قادرٌ على أن يخلِّص الأكثرين إلاّ الذين لا يريدون الخلاص عن عناد كإبليس ولا يحبّون الحقّ ولا يغارون له. مهما يكن من أمر فإنّ ابتداء القضاء سوف يكون "من بيت الله" (1 بط 4: 17).

  الربّ يديننا أوّلاً، نحن المسيحيّين، لأنّنا عرفناه، قليلاً أو كثيراً، وبعدما عرفناه تجاهلناه واستهنّا به وبتنا، ونحن على اسمه، سبب تجديف لسوانا! ولو حفظنا الأمانة وشهدنا بالروح والحقّ لساهمنا في خلاص الكثيرين.

أكثر آلام البشريّة اليوم مردّها انصراف المسيحيّين عن حقّ مسيحهم! لذا بنا سوف يكون بدء القضاء لأن مَن أُعطي كثيراً يُطالَب بأكثر. لا لليهود وحدهم كان هذا القول بل لنا بالأحرى، نحن المسيحيّين، إن لم نرعوِ:

"الزواني والعشّارون سوف يسبقونكم إلى ملكوت الله..." (مت 21: 31).





عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +