Skip to Content

و ستعرفون الحق والحق يحرركم الفصل (30) الاخير عدم الهوى - اسبيرو جبور

 

وستعرفون الحق والحق يحرركم

 

الفصل (30) الاخير

untitled.jpg

عدم الهوى

 

 

جاء يسوع ينقلنا الى حالات روحية ناجية من سيطرة الأهواء والشهوات. علّمنا أن نسيطر على النفس أن نذهب في كلّ ما هو أرضي وزمني وباطل لنعيش عالم الفضائل، والفضائل المسيحية متعدّدة.

 

المسيحية تعلّم الطهارة بينما كانت النجاسات هي التي تسيطر كانت الإباحيات مسيطرة، جاء يسوع يعلّمنا الطهارة أيّ أن نتطهّر من كلّ ما هو جسدي لنرتفع الى العُلويات، علّمنا أن نتخلّص من أهوائنا وشهواتنا الأرضية الفاسدة لنقتني الفضائل السماوية الإلهية الملائكية،

علّمنا أن ننتقل من العيش الحيواني البهيمي الأرضي الى العيش السماوي في الفضائل، علّمنا أن نحيي الجسد بالفضائل، أن ننقل جسدنا الترابي من ترابيّته الى اللّمعان في الفضائل، علّمنا أن النور الإلهي الساكن فينا يمتدّ من روحنا الى جسدنا إن سلكنا سلوكاً فاضلاً ملائكياً، علّمنا أن نتجلّى بالإيمان والمحبة والرجاء وأن نتغيّر كلياً، يتغير عقلنا الباطل وينتقل من أباطيل هذه الدنيا وسخافتها الى المعرفة الإلهية، تنتقل عواطفنا من الأرض الى السماء، تنتقل أفكارنا الى السماء،

تنتقل ميولنا الى السماء، تنتقل رغباتنا الى السماء، بدلاً من الطمع في الارض نطمع في الآخرة، بدلاً من أن نضع رجائنا كلّه في الأرض نضع رجائنا كلّه في السماء، ونعيش على الأرض كغرباء كمسافرين لا قرار لنا لأنّ القرار الحقيقي هو في الملكوت السماوي الأبدي.

 

فكلّ شيءٍ على الأرض باطل، علّمنا أن الارض وكلّ ما عليها للفناء، وأنّ البقاء هو وحده في الملكوت السماوي لديه. إذاً حرّرنا تحريراً كاملاً، خلّصنا من الناموس اليهودي الذي يربطنا بأشياء أرضيّة عادية،

ختام ومآكل ومشارب وملابس هذا دنس وهذا طاهر ومن كلّ الأوهام اليهودية وسخافاتها، حرّرنا من الفرّيسيين وتعاليمهم، حرّرنا من أحلامهم، حررنا من أحلام اليهودية في ملكوت أرضي.

 

في أيام ربنا يسوع المسيح كلّ أحلام اليهود محصورة في مجيء مسيح يملّكهم العالم ويجعلهم مُلوكاً على الأرض كلّها ويخضع الأرض كلّها لسطانه، هذا دين؟ هذا هو المسيح الحقيقي؟ المسيح الحقيقي هو الذي قال أمام بيلاطس: "مملكتي هي ليست في هذا العالم".

 

كانوا هم يحلمون في مملكة عالمية باطلة لم يملّكهم إيّاها الرب وها قد مضى على مجيء المسيح أكثر من ألفيّ عام ولم يظهر مسيحهم ولن يظهر الى الأبد أيّ مسيح لهم. المسيح الذي جاء هو مسيحنا فقط ولن يظهر سواه إلا المسيح الدجّال.

 

فإذاً ينتظرون المسيح الدجّال وهم لا يعلمون، يعيشون في أوهام باطلة منذ ألفي سنة حتى الآن ولا يهتدون الى الحقيقة ليعلموا أنّ المسيح الحقيقي قد جاء وأسس مملكته السماوية على الأرض. فيسوع المسيح له المجد هو المسيح الحقيقي. ينتظرون من المسيح أن يملّكهم الأرض برمتها، ما هذه العرقية الفاسدة؟ ما هذا الحب الفاسد للسيطرة على شعوب الأرض عرقياً؟.

 

المسيح أنقذنا من التعصّب العرقي تماماً فجعل شعوب الأرض كلّها له، كما قال بولس في الرسالة الى رومية: "الله إله الناس جميعاً ليس إلهاً محصوراً بإسرائيل"، وقال في غلاطية وكلوسي: "ليس من عبدٍ ولا حرّ ولا من وثني ولا من يهودي ولا رجل ولا إمراة ولا ذكر ولا أنثى ولا ولا، الكلّ واحدٌ في المسيح".

 العهد القديم بشّر بإهتداء الأمم ولكن ليس الى مسيحاً أرضيّ، الى مسيحنا السماوي، فتوهّموا هم أن الأرض كلّها ستصبح لهم. شعبٌ مادي يعبد المال، هذا معروف في الدنيا كلّها، اليهودي يعبد المال، فتوهموا أن الأرض ستصبح لهم، وهذا توهّم غريب ليس من شأن الله أن يملّكهم الأرض كلّها بجشعهم الكبير وبطمعهم الكبير.

 

الله يملّكنا ملكوت السماوات لا يملّكنا ملكوت الأرض، الأرض وملؤها للربّ لا لليهود ولا لفلان، هي لعبيده أجمعين أعطانا إياها لنقضي العمر فيها ثم ننتقل الى ملكوت السماوات. لذلك الإيمان بالآخرة هو الأساس في المسيحية، والسبح لله دائماً أبدياً.

 

 

ملحق: مسيرتنا الوئيدة

 

 

في 1 نيسان 1945 حضر البطريرك أليكسندروس الطحان والمطران أبيفانيوس إجتماعاً جماهرياً في طرابلس حضره جمهورٌ غفيرٌ من الطرابلسيين والبيروتيين واللاذقيين والحمصيين والدمشقيين، وأُلقيت فيه الخطب الرنّانة فألقى ألبير لحام خطاباً مدوّياً وألقى جورج خضر خطاباً رائعاً ذكر فيه أنه من صفوفنا، سيقوم اللاهوتيون والموسيقيون والشعراء والى آخره. وفي 22 نيسان ألقى جورج و ألبير الخطابين نفسيهما في دمشق في إحتفال حافل حضره أيضاً البطريرك أليكسندروس الطحان.

 

كان صديقي المرحوم دانيال خوري قد طلب مني مراراً ان أُكلّف الأرشمندريت الياس معوض أن يلقي محاضرة في اللاذقية فكان أمرٌ. فسافر من دمشق الى اللاذقية، واللاذقيون نارٌ من الحماس الديني ولكن في ذلك الحين من الحماس الفارغ نسبياً بنسبة كبيرة فألقى محاضرته فعاد الى دمشق مستغرباً الضعف اللاهوتي في اللاذقية وعدم إستيعاب الحاضرين لخطبته او لمحاضرته.

 

مع أننا كنّا في الأعوام 42 و43 و44 قد بذلنا جهوداً كبيرة لتلقين الصبايا والشباب بعض المبادىء الدينية، وإن كنّا نحن في ذلك الحين من الجهلة لاهوتياً. وفّقنا الله الى إنضمام عدد كبير من الشباب والصبايا إلينا في ذلك الحين وسيطرنا على شباب اللاذقية وصباياها بنسبةٍ لا بأس بها آنذاك. ولكن كانت الكنيسة فارغة في الكرسي الأنطاكي وكان الكرسي الأنطاكي في حالةٍ يُرثى لها وبخاصة في الساحل. اللاذقية ممزقةٌ تمزيقاً كاملاً فيها حرارة ولكن ليس بحسب المعرفة كما قال بولس الرسول. وجنوباً كانت مدرسة اللاييك الفرنسية في طرطوس قد ساعدت على إنتشار الإلحاد وعدم الإهتمام بالدين، ففرغت الكنائس في طرطوس وصافيتا ووادي النصارى من المصلّين، وهناك السياسة وما إليها. فالأصابع الخارجية خططت تخريب الكرسي الأنطاكي والبطريرك غريغوريوس حدّاد صار في التيّار الوطني مسكاناً مطراناً لطرابلس فدفعنا الثمن غالياً.

 

هذه الأمور تحتاج الى مؤرّخين عالميين، هذه تحتاج في النتيجة الى معاهد البيزنطينولوجيا في روسيا، وقد لا يصلون الى الحقيقة الكاملة وأنا لا أستطيع أن أتفرّغ للتاريخ، أنا منهمك في اللاهوت وصرت في نهاية السادسة والثمانين من العمر. فإذاً في العام 1945 رأي الارشمندريت معوّض هو أن اللاذقية لا تفقه اللاهوت. وصرنا بعد عشر سنوات، سافر مرسيل مرقص أيّ الأب الياس الآن الى اليونان ليلقي محاضرة لاهوتية في جامعة أثينا في كلّية اللاهوت فألقاها، فقال له الأساتذة هذا هو اللاهوت الأرثوذكسي لا اللاهوت الذي ندرّسه هنا في كلّية اللاهوت. فكان هذا نصراً مبيناً أيّ عدنا الى آباء الكنيسة وأهملنا اللاهوت الذي يُسمى اللاهوت المدرسي المتأثّر بالغرب. فإذاً خرجنا الى الحياة آبائية أرثوذوكس أقحاح. فكرّت الأيام ونحن نسعى جاهدين. سرنا من اللاذقية الى قرى أبرشية اللاذقية اي الى قرى عكّار وطرطوس والمشتى وصافيتا، ولكن دون نجاح كبير إلاّ نسبياً في طرطوس حيث وفقنا الله بذكيّة حدّاد الجبل الصامد منذ 1946 حتى اليوم. ولكن وفقنا في السوده بدلال حدّاد التي تزوجت من الدكتور جوزف صايغ فأصبحت من أركان البطريركين ثيئوذوسيوس والياس معوّض. وتابعنا المسيرة وإذا باللاذقية تنضج شيئاً فشيئاً لاهوتياً، إنتهى الأمر أن رأى البطريرك ثيئوذوسيوس والمطران معوض نفسيهما صديقين حميمين لمعلمنا وقائدنا ألبير لحّام وللاذقية.

 

وفي العام 1965 أصبح معوّض مطران اللاذقية فعلاً وحبيب اللاذقية. في العام 1966 تلفن البطريرك ثيئوذوسيوس للمعتمد البطريركي يوحنا منصور فقال له أنا لم أعد أعتبر نفسي بطريرك أنطاكيا بل بطريرك اللاذقية. ثم نساء اللاذقية في 5 حزيران 1966 أخذوا صدارة العالم الأرثوذكسي كلّه، الأمر الذي أدهش الدنيا، فقال الآب الياس خوري كاهن لدى مطرانية نيويورك: منْ يحجّ الى القدس بعد اليوم يجب أن يحجّ الى اللاذقية أولاً.

 

وتعاظم الأمر لاهوتياً ودينياً، فأخذ النشاط اللاهوتي والديني يمتدّ في أنحاء الكرسي الأنطاكي ولكن ببطء نسبيٍّ. في اللاذقية الظروف في الستينات كانت قاسية جداً جداً، لا مجال هنا لذكرها وإنّما الحوت البحري حاول أن يبتلع أرثوذكس اللاذقية في السنوات الأولى من الستينات، فنصرنا الله عليه في العام 1966 وإنتصر بنا البطريرك ثيئوذوسوس والمطران الياس معوض. فأدى هذا التطور الى إلتهاب اللاذقية روحياً بقيادة المعتمد البطريركي يوحنا منصور ونضال الأخت الغالية فكتوريا جبّور. وهكذا نشأ جوّ روحيّ متين جداً، خَرّجَ جيلاً جديداً من الرهبان والراهبات والإكليريين بعد أن كان الجيل الأول قد إستقر في لبنان فإستقرت الأم سلام وصحبها بدايةً في دير مار جريس الحرف ثمّ نقلهما الأب جورج شلهوب في 9-3-1956 الى دير مار يعقوب دده حيث تقيم هي وصحبها الآن، وصار دير مار يعقوب في عهدها قلعةً شامخة مشهورة، وإعتنى المطران ثيئوذوسيوس أبو رجيلي مطران طرابلس آنذاك بالدير المذكور، وفي العام 1958 أقام فيه مدةً فأُعجبَ بالراهبات وبقي واداً لهنّ وهو بطريرك في دمشق، إحتفظ للأم سلام بمودة كبيرة جداً جداً، فإعتبرها ركناً كبيراً في الكرسي الأنطاكي.

 

أمّا الاب الياس مرقص أي مرسال مرقص قبلاً فقد إستقر في العام 1958 وصحبه في دير مار جرجس الحرف حيث أسسوا رهبنة. وهكذا أخذ يمتدّ التيار الرهباني شيئاً فشيئاً حتى صارت الأديرة اليوم هي مركز الثقل في الكرسي الأنطاكي، يأمّها الناس للصلاة وللسهرانيات وللإعتراف ولنيل الوعظ والإرشاد والتربية الدينية، ووفقنا الله في جبل لبنان وإمتلأت أديرته، فهناك دير الحرف برئاسة الأب الياس مرقص، وهناك دير مار ميخائيل بقعاتا برئاسة الأب سيدنا الآن أفرام كرياكوس، ودير دوما برئاسة الأم مريم، ودير سلوان برئاسة الأب توما بيطار، ودير النوريّة برئاسة الأب جورج صافيتي، ودير كوفتون برئاسة المرحومة الأم أنطونينا الياس سابقاً وبرئاسة الأم دوفيكا الآن، ودير حماطورة التاريخي برئاسة الأب بندلايمون فرح. هذه الأديرة فيها مجد الله. طبعاً هناك أديرة أخرى، هناك دير الشفيعة الحارة برئاسة الأب كاسيانوس، هناك دير سيدة بلمانة برئاسة الأخت ماكرينا سكاف، وهناك الدير الذي سيضم رهبان سيدنا يوحنا يازجي.

 

فضلاً عن ذلك لا ننسى أن اللاذقية التي ربّاها في الأساس الأب الياس مرقص قدّمت الآن للكرسي الأنطاكي جيشاً. الأب الياس مرقص ترك أثراً تارخياً في اللاذقية، هو الذي ربّانا. وهناك الآن المطران سابا إسبر في بصرة حوران الذي لما كان كاهناً في اللاذقية نشر كمية كبيرة من الكتب والكرّاسات الدينية. وهناك سيدنا بولس يازجي مطران حلب صاحب المؤلفات الجيدة وتلاميذه من كهنة وراهبات. وهناك سيدنا يوحنا يازجي الذي نشر بعض الكتب وإشتهر بالتسجيلات والتراتيل أيّ التراتيل الجيدة، وكان لديه ستة عشر راهب، وهو الآن يسعى لبناء دير في أبرشية اللاذقية لهؤلاء الرهبان. وهناك سيدنا باسيليوس منصور الذي ترجم حياة القديس العظيم سيرافيم ساروفيسكي.

 

اللاذقية بقيادة الاب الياس مرقص وصلت اليوم الى أحدث ذُرة في الكرسي الأنطاكي. وأدّى هذا النشاط الباهر الى تحرّك الأقلام فصار لدينا اليوم ثروة من الكتب الجليلة. ولكنّ الأنظار في الكرسي الأنطاكي متجهة الآن الى حياة القديسين والى الكتب الروحانية، هذا من تأثيرنا لأنّ نهضتنا التي كانت بالأربعينات كانت ذات إتجاه روحاني كتابي أيّ كتاب مقدس لاهوتي.

 

نجحنا في الكتب الروحانية وصار لدينا منها كميّة ممتازة، حياة قديسين كذلك. الترتيل الكنسي لأوقات أخذت تملأ الكرسي الأنطاكي. المرحوم مطران طرابلس الياس قربان أجاد في أبرشية طرابلس فترك لنا هو والاب نقولا مالك ثروة من التراتيل والأشرطة. وفي جبل لبنان وفي بيروت وفي كل مكان الجوقات تملأ الكرسي الأنطاكي، وصار الأرثوذكس في سوريا ولبنان شديدي التحسّس للترتيل الكنسي، فالسهرانيات تجذب الناس، السهرانيات المرتّلة تجذب الناس بكميّة كبيرة، تمتلىء القاعات، هذا دليل على أنّ آذان الأرثوذكس أخذت تعشق الترتيل البيزنطي الأصيل. وهذا يدلّ على ذوق رفيع جداً، أسال الله ان ينمّيه! أمّا النشاط اللاهوتي فما زال محدوداً لأنّ التضلّع من آباء الكنيسة واللاهوت الأرثوذكسي إجمالاً يتطلب كفاءات فكريّة، لماذا؟ لستُ متعصّباً ولكنّي متضلّع.

 

اللاهوت الأرثوذكسي عميق الى درجة كبيرة جداً جداً، فليس من السهل أن يستوعبه إنسان عادي بدون نعمة الروح القدس، نحتاج الى شيء من الزمن لنستطيع الاطلاع عليه كما يجب، إنما هو ضروري جداً. أنا مع حياة القديسين ومع الكتب الروحية ولكن لا بدّ لهذا كلّه من ثقافة لاهوتية كبيرة جداً، حينذاك نضع الدعائم كلّها لنهضتنا المظفَّرة.

 

خلال الأعوام إذاً 45-1970 قفزنا قفزات كبيرة مهمّة جداً، تاريخها يستغرق المجلّدات الكبيرة. مَنْ أيقظنا؟ لا أشك أنا في انّ الروح القدس له المجد هو الذي أيقظنا، وفي أواخر هذا العمر لا أشك في أن الله يحبّ الكرسي الأنطاكي. أحبّ الكرسي الأنطاكي فكانت هذه اليقظة الأرثوذكسية الكبيرة جداً جداً والظافرة جداً جداً. وإنّ ما أرجوه بالنسبة الى المستقبل أنّ يتضلّع شبابنا الناهض من اللغة اليونانية واللغة الروسية وأن يستوعبوا آباء الكنيسة وتراثهم بقوة متينة جداً، هذا تراثٌ عالميٌ لا مثيل له.

 

لست أُغالي إن جَزَمْتُ بأن هذا التراث الأنطاكي هو القادر أن ينقذ التاريخ مما هو فيه الآن من ضيق. هذا لاهوت إنساني عميق جداً، يحتلّ الإنسان فيه مكانة هائلة جداً، يقتل الروح المادية التي تسيطر على العالم، يقتل الروح الإقتصادية التي تتحكمّ في العالم ضد الله في النتيجة وتُلهي الناس عن الله لتلهيهم بشؤون هذه الدنيا. هذا اللاهوت إنساني إلهي عميق الى أبعد الحدود في العمق لا يعرف قيمته إلاّ من تضلّع منه وآمن بما فيه من ذخائر كبيرة جداً من قوى إلهية من أوضاع إلهية. آباء الكنيسة، كواكب المسكونة وجواهر الدنيا أقوالهم حياة للإنسان.

 

هذه الحضارة الظاهرية لن يستقيم لها حال بدون اللاهوت الأرثوذكسي العميق. الطوفان الذي تكلّم عنه يسوع الذي سيأخذ هذه الدنيا بسبب فقدان الإيمان، من ينقذها من الطوفان؟ سينقذها اللاهوت الأرثوذكسي. في اللاهوت الأرثوذكسي عمق خاص، نواحي خاصة، الإنسان يَجد ملأه في اللاهوت الأرثوذكسي في الروحانية الارثوذكسية.

 

غريغوريوس بالاماس عالم قائم بذاته، كل هذا العالم يختفي أمّا عظمة غريغوريوس بالاماس، وغريوريوس بالاماس ما هو إلا خلاصة ثلاثة عشر قرناً من تطوّر العالم الأرثوذكسي، وليس بالاماس وحده هو مفخرة الأرثوذكسية، فمافخرها عديدة جداً، يوحنا الدمشقي ورومانوس الحمصي ومكسيموس المعترف ويوحنا فم الذهب وسواهم من الرجال العظام، الذين نشرب أقوالهم كحليب صاف يغذّي الروح وينعشها. هل ننسى رجلاً عظيماً مثل صفروتيوس الدمشقي بطريرك أورشليم الذي واجه الملك هرقل بقوة هائلة، وفي النتيجة هو وتلميذه مكسيموس المعترف أجبرو بعد وفاتهم العائلة المالكة في القسطنطينية على الرجوع الى الأرثوذكسية والدعوة الى المجمع السادس المسكوني العظيم في العام 681. أن ننسى بطريركاً عظيماً مثل بطريركنا الأنطاكي أثناسيوس الثاني الذي واجه بمجمعه الكامل ايّ 154 شخصاً. الامبراطور الكبير جستنيانس الكبير المشهور فوقفت الدنيا المسيحية كلها وراءه لترى النتيجة، لترى إنتصاره على الامبراطور، فأخذ الله الامبراطور وإنتصر الإيمان الارثوذكسي في بطريركنا انسطاسيوس.

 

أمجاد أنطاكيا لا تُعدّ ولا تحصى، هذه أرض الشهداء الذين لا يُحصيهم إلّا الله. وإذ جبل آثوس السابق الأب باييسيوس عبر جواً بلادنا، فإهتزّ روحياً فقال في ذاته هذه أرض الشهداء، كم من شهيد سقط في هذه البلاد؟ هذا الكرسي الأنطاكي الصامد منذ عهد الرسل حتى اليوم سيبقى صامداً الى الأبد وسيبقى دُرّة من دُرر العالم الأرثوكسي بل المسيحي عامةً. أُكرر الله يحب الكرسي الأنطاكي، فلم يدعه يسقط وبقي واقفاً صامداً برجولةٍ متينة وبجبروت ممتاز .كان البطريرك المسكوني اثيناغوراس يقول لوكيله الاسقف كوزماس: الأمل هو في الشبيبة الأنطاكية، نعم، الشباب الأنطاكي الناهض في الأربعينات يقود الكرسي الأنطاكي اليوم وغداً الى نصرٍ مبين على الشيطان وأتباعه.

 

المسيرة مستمرة، دَنوتُ من القبر ولكن الأحبّة في سوريا ولبنان ماضون سينهضون بالكنيسة، سينهشون الكتب اللاهوتية نهشاً، سينهشون آباء الكنيسة، الأمل كبير في شبابنا وصبايانا، حيوية خاصة ستصنع المعجزات الروحية في هذا المشرق. لا خوف على أنطاكية ما دام فيها رجال أشداء ونساء أشداء وصبايا أشداء، المستقبل للشباب الناهض لإخواننا الأحبّاء في كلّ مكان، الذين وضعوا نُصب أعينهم أن يكونوا جنوداً لربّنا يسوع المسيح. هناك عناصر جديدة تتهيّأ، هناك عناصر جديدة تستيقظ، المطلوب إذاً هو تطوّر هؤلاء الشباب والصبايا الى أبطال صناديد في التقوى والإيمان، والتخلّص من الميوعة. الميوعة هي عدوّنا الكبير، الميوعة هي عدوّ البطولة، ولذلك علينا ان نتحول الى أبطال روحيين طبعاً.

عندما أستعمل كلمة أبطال صناديد وأسود لا أقصد انا أبداً الجسد، بطولتي المقصودة هي البطولة الروحية، البطولة الروحية ممكنة لأن في الكرسي الانطاكي إستعدادات هامة جداً. الإلحاد في الكرسي الانطاكي صُوَري، ليس من إلحاد حقيقي. في الكرسي الأنطاكي الكلّ ذو شيءٍ من الفكر الديني، يبقى أن نعمّق هذا الفكر، ولكن هذا يحتاج الى الصبر. جيلنا صبر، نتحرّك منذ حوالي سبعين سنةً، أشكر الله لأن الملل لم يستطع أن يغلبنا، وأسال الله ان لا يغلب الملل الأجيال الصاعدة. فالأجيال الصاعدة عليها أن تتحوّل الى فرسان روحيين، الى جبال من الصبر وطول الأناة والتواضع والوداعة والعمل الدؤوب بدون كلال وملال وسأم وضجر وميوعة. المستقبل هو للناشطين. هذه الكنيسة لن تذوب، هذه الكنيسة لن ترحل، هذه الكنيسة لن تسقط. ما جرى بين الأعوام ستين وسبعين كان كفيلاً بتذويب الكرسي الأنطاكي، بدلاً من الذوبان نهض وإنتفض وتوحّد عن رجال أشداء وعن حركة لاهوتية دينية واسعة الآفاق وستتّسع فيما بعد أكثر. وما هذه الجوقات التي تعمّ الكرسي الأنطاكي إلا دليل كبير على حيوية الكرسي الأنطاكي.

 

 

سننتقل من الترتيل الى العمق اللاهوتي، الى التمعّن في التراتيل التي يُرتلها المرتلون، لا يجوز أن يكون أعضاء الجوقات ببغاءات يكرّرون الكلام، فلينتبهوا الى ما يُرتّلون ليصيروا لاهوتيين عميقين لأن في تراتيلنا عمق لاهوتي كبير هو في النتيجة وفي الأساس عمق يوحنا الدمشقي مواطننا الكريم. كان الله في عوننا الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.

 

ورحم الله المثلث الطوبى والقداسة البطريرك العظيم الخالد ثيوذوسيوس أبو رجيلي حليفنا الكبير الذي سار بالكرسي الأنطاكي الى مجد تاريخ لا مثيل له، فنصرنا الله به فبلغنا ما نحن الآن عليه من تقرّب نحو الأعالي. نشكر الله.

 

وكان الفراغ من مراجعة الكتاب في 30 نيسان العام 2010 في عيد الرسول العظيم الشهيد يعقوب ابن زبدا، أخ يوحنا الأنجيلي.

 

حاشية

 

 

يوحنا الدمشقي هو عمدة اللاهوت الآبائي في القرون الثمانية الأولى، فهو مرجع رقم واحد للاحقين. كان بحسب الدراسات الأخيرة أمين سرّ الخليفة العادل عمر إبن عبده عزيز ووزير ماليته وحربيته وبحريته، كان صديقه الحميم وكان له عليه تأثير كبير في زمن كانت المملكة شاسعة جداً وممتدة في أطراف الدنيا العديدة. يوحنا الدمشقي شخصية تاريخية كبيرة جداً جداً وإن كانت معلوماتنا عن سيرته نادرة ومشوّهة. في كراستي الخليفة العادل عمر إبن عبده العزيز أَثبتُ أنّه ترك القصر في عهد يزيد إبن عبد الملك لا في عهد عمر إبن عبده عزيز صديق المسيحيين وذلك خلافاً لأقوال بعض المستشرفين وفيليب حتي والأب جوزيف نصرالله والدكتور أسد رستم والدكتور أكرم يازجي.

 

4 كانون الأول 2009 عيد القديس يوحنّا الدمشقي

 

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +