Skip to Content

الابن الشاطر - المطران جورج خضر

الابن الشاطر

المطران جورج خضر

 

    لست أعرف قارئاً للإنجيل الا مشدوداً الى هذه الحكاية ربما لأنها حكايتنا جميعا.

 الذي ورد المثل عنده لوقا لا يسمي الذي ضلّ في سلوكه الابن الشاطر اي الذي طلب نصف مال أبيه ولا يسميه ضالا. والده ما نعته بهذا النعت عند عودته.

هذا أخذ قسطه من الميراث سيولة وسافر الى بلاد بعيدة، وهناك بدد ماله في العيش بلا حساب او بعيش مسرف (في ترجمة أخرى) او في غيرها عند العرب والأجانب في الخلاعة. والمعنى السائد هنا وثمة في المجون.

     تحت هذه المعاني المتقاربة ما أراده الكاتب تبديد المال الموروث الذي ما كان الا نتيجة الانفصال عن البيت الأبوي . ويؤكّد هنا أهمية الوالد عند رجوع الفتى وحنانه.

 ما يتضّح عند لوقا ان الخطيئة في طبيعتها هي من قبلنا رفض البنوة لله بمعنى انها ليست مجرّد ذنب قانوني منصوص عنه في الوصايا لكنها رفض لأبوّة الله ومعايشته التي يعرف هو قوّتها ومداها وانت تدخلها وتذوقها.

     الضال يريد نفسه وحده ، يقرّر ما يشاء هو اذ يعتقد ان الوجود هو في هذه الحريّة التي لا يقيّدها الفتى بقيد.

 "فلمّا أنفق كل شيء، أصابت كل البلاد مجاعة قاسية، فوقع في ضيق".

ليس حراً الآن ان يخطئ. لم تبقَ عنده وسائل للخطيئة. الخطيئة تكلّف مالاً احياناً كثيرة. الخطيئة أمست بيت الشاب في الفترة الأخيرة من غربته حتى لم يبقَ له مأوى.

الى أين المفر؟حاول العمل. وجد وظيفة في رعاية الخنازير. هرب من خطيئة الى خطيئة أخرى اذ أكل الخنزير تحرّمه الشريعة. لوقا البديع الوصف هل أراد ان يبيّن انك كثيراً ما تهرب من معصية الى معصية أخرى لأن المعاصي عالم متكامل؟

     لم يعطه أحد طعام الخنازير "فرجع الى نفسه" ليجد فيها الفراغ. الخطيئة ليس لها كيان. انها العدم.

انها المرارة لأنها المؤقت. لأنها الحزن. تلك هي حيلة إبليس اذ يصوّر لك بكذبه انها وجود اذا حلمت به يتحقق، وسرعان ما تحس انك قابض على الريح.

واذا اغتربت عن الله كما فعل الابن الشاطر تقلّب لذّة على لذّة لشعورك بأن الثانية أطيب فتحس انك انتقلت من اللاشيء الى اللاشيء وانك لا تزال في الخواء.

     كل الخطأة عرفوا الفراغ وندموا. ان يزيّن لك ان في يديك شيئًا ولا تراه كأنك عميت تصبح شاكًا في الوجود كله. لذلك كثيراً ما قادت كثافة الخطيئة الى الجحود.

كنت تنتظر من المعصية سلوة ما، طرباً، سكرة ما، فإذا لمست عدم كل هذا تظن ان الوجود كله عدم. المشكلة اقوى بكثير من ان نطيع الوصية او لا نطيع.

المشكلة هي ان نكون في ظل الله او لا نكون، في حنانه او في غضبه. رأى الفتى كل هذا في نفسه لما عاد اليها. أحس انه لا بد ان يختار.

    لم يُظهر الكتاب انه كان في حيرة لأن الخيار كان بين ان يموت جوعاً او الا يموت. هو قرار الحياة اولاً ثم قرار الاستمتاع بما هو منتشر عند أبيه. جاء القرار قاطعًا:

 "سأقوم وأرجع الى أبي". لم يبقَ شيء من كل ما اشتهيته في الغربة لما اغتربت. عند أبي اشياء،

وانا بعت ابي، ظننت أنه يمكنني أن أمحوه ولو لفترة او ان اعوّضه بمتع، فأدركت ان الأب لا يقابله الا الجوع ومعاشرة الخنازير والتبدي الذي لا ينتهي.

     "سأرجع الى ابي واقول له يا أبي". الكلمة ليست مجرّد تسمية. أقرّ بالأبوّة، أقرّ بالصلة تلك التي قطعها باغترابٍ ما كان له من ضرورة اذ كان العيش مؤمّنا.

 كان اغترابي قطيعة. ثم يقول في نفسه:

"أخطأت الى السماء واليك، ولا أستحقّ بعد أن أدعى لك ابنًا فعاملني كأجير عندك".

 الخطيئة دائما خطيئة الى الله. ظنّ هذا الغلام انّ والده سيكون قاسيا، أقلّه انه سيعاتبه عتابا شديداً وانه سيبقى أقرب الى الأخ الأكبر الذي ما عصى لوالده أمرًا ولعلّه ظنّ أنه ولو استرجعه ابناً لن تكون له دالة عليه او لا تكون بينهما حميميّة.

     "فرآه أبوه آتيًا من بعيد". هذا يعني ان الأب كان في كثير من أوقاته واقفًا على سطح او شرفة يترقّب كل الأشباح لعلّ واحدًا منها يكون ابنه وانه لم ييأس من عودته. كان يخشى عليه الفقر والمرض.

     "رآه أبوه من بعيد، فأشفق عليه وأسرع اليه يعانقه ويقبّله". في لوحة رمبرانت عن هذا المثل ترى الولد ضائعا في حضن أبيه وترى الوالد منكبًا عليه كأنّ اللقاء لصوق.

هذا معنى "يعانقه". ظهر شوق الوالد بالقبلات. لا يقول الإنجيل ان الشيخ عاتب الفتى او لامه قليلا أو ان هناك عودة الى ذكر الاغتراب.

 لا سؤال عن سوء السلوك المحتمل لشاب طائش. مُحيت كل سيئة بعدم التذكير بها.

 بعد الرجوع كانت المسرات بالشاب الذي أبدى حبّه للبيت الوالدي اذ "قال الأب لخدمه، أسرعوا هاتوا أفخر ثوب وألبسوه، وضعوا خاتمًا في إصبعه وحذاء في رجليه.

وقدّموا العجل المسمّن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتا فعاش، وكان ضالا فوُجد، فأخذوا يفرحون".

    التوبة الى الأب يقابلها الغفران والزينة الكاملة لذاك الذي جرّده تعاطي البغايا بهاء حشمته فعاد وتجمّل بالرضاء الأبوي. المثل يطول بذكر الغيرة عند الولد البكر الذي لم يحتمل ما اعتبره مكافأة عند أبيه لتعاطي أخيه الضلالة.

 لكن الأب لم يأبه لذلك واعتبر توبة الصغير أسمى ما يمكن ان يرفعه ويعادل في ذا أخاه البكر الذي لم يرتكب خطيئة.

     يقول بعض المفسرين ان الابن الضال يمثّل الأمم التي ضلّت والآن ترجع بالمسيح، وان الابن البكر يمثّل اليهود الذين لم يضلّوا في مجال العقيدة ولكن ليس عندهم امتياز،

فالعائد بإيمانه كالباقي، ذلك اننا لا نتبرر بأعمال الناموس الموسوي ولكن بالإيمان الذي كان ابراهيم متسلّحًا به قبل ان تنزل الشريعة على موسى حسب قول الكتاب:

"آمَنَ ابراهيم بالله فحُسب له ايمانه برًا".

    مهما يكن من أمرِ توبةِ الأمم الى الله في هذه الحكاية، نقرأ قبل مثل الابن الشاطر مثل الدرهم المفقود الذي يختتم بقوله: "هكذا يفرح ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب". القديسون كانوا يعتقدون ان الرجوع الكامل الى الله صعب جداً في هذه الحياة.

 

في هذا حوار رهباني قديم يتكلّم على ما جرى مع القديس سيسوي (ساسين بالسريانيّة). هذا كان رئيس دير يحتضر وتحلّق حوله رهبانه وسألوه: "يا سيّدي، قل لنا كلمة حياة".

فأجاب: "أنّى لي ان اقول لكم كلمة حياة ولم أتب بعد".

 

    يبدو ان المواجهة اليوميّة مع الله عند الراسخين في الحياة الروحيّة تعطيهم شعورا انهم لا يزالون خطأة.

ان تصير من جنس الله لأمر نطلبه بحرارة ولا ندركه حقًاً الى ان نَمْثل في حضرة الله.

ان الرب برأفته الواسعة يريد ان يجعل كلاً منّا ابنًا له شبيهًا بمسيحه

 واضعًا في اصبعه خاتم عهد الحب،

 والحب يردم كلّ هوّة بيننا وبين الإله الحق.

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +