Skip to Content

أضواء على وهب الأعضاء - الأرشمندريت توما بيطار

 

 أضواء على وهب الأعضاء

Click to view full size image

        ليس هناك، بين المؤمنين، موقف واحد من موضوع وهب الأعضاء. هناك آراء وجدل. كلٌ يسعى إلى تسخير النصوص المقدّسة لدعم موقفه. ثمّة مَن يتحمّس وثمّة مَن يحبِّذ وثمّة مَن يتحفّظ وثمّة مَن يرفض.

التباين في الآراء، في الوقت الحاضر، قد يُغني النظرة إلى الموضوع. لكنْ ليس ما يشير إلى إمكان وضع حدّ للجدل القائم في المدى المنظور. السبب هو أنّ المسألة ملتبسة. ففيما تطغى حجّة الطابع الإنساني على الطروحات المحبِّذة للوهب والزرع، تسود فيها النظرة الماديّة إلى الأعضاء، ويُغَضّ الطرْف، بالكامل، عن الحقيقة الروحيّة للجسد. عندنا أنّ الإنسان روح في جسد. هذان يتّحدان في كل خليّة من خلايا الإنسان.

حتى بعد الموت ليس ثمّة عضو خِلواً من ذاكرة تتمثّل فيها هوّية الإنسان وترسو ترسّبات الروح. موضوع هذه الذاكرة، كما نقل إلينا أحد أبنائنا المطّلعين على المستجدّات العلميّة، بات أمراً يَنظر إليه العلماء بالكثير من الجدّية.

من هنا أنّ وجه الالتباس في المسألة المطروحة أنّ وهب الأعضاء وزرعَها لا ينتمي إلى النظرة المسيحيّة للوجود وكيفية تعاطيه بل إلى نظرة أخرى هي، بالأحرى، دهرية. طبعاً في الأمر وجهة إنسانية تنتمي إلى النظرتَين معاً.

ولكنْ فيما الإنسانوية الدهرية قائمة في ذاتها، نلقى الإنسانوية المسيحيّة قائمةً في الله. الغرض من الأولى هو الإنسان. الغرض من الثانية هو الله. في سعينا إلى الله، الموضوع موضوع قداسة أولاً، موضوع تألّه، موضوع اقتناء لروح الله. الإنسان، بكلّيته، عندنا، هو موضع سكنى روح الله فيه: جسدُه، كلُّ عضو من أعضائه، كلُّ خليّة من خلاياه. قد تموتُ من أجل الناس محبّةً كما فعل معلِّمك، قد تبذل كل ما لديك، لكنّك لا تستطيع أن تُشرك أحداً في جسدك لأنّه مكرّس لله وقد جعله الله له هيكلاً. إلى هذا الفكر بالذات تنتمي إنسانويتُنا المسيحيّة.

وهب الأعضاء وزرعها، في الواقع البشري العلمي المعيش اليوم، حيادي من جهة هذا الطرح. هذا الطرح لا يعنيه في شيء. همّه الأوحد أن يستعمل ما تيسّر له من أعضاء بمثابة قطع غيار ولو لجأ إلى المشاعر الإنسانية ابتزازاً. من هنا صعوبة، لا بل استحالة إمكان التوصّل إلى تفاهم، في العمق، بشأن الموضوع المطروح، بين كافة المهتمّين به.      

على أنّ إلحاح الموضوع، من الناحية الإنسانية، يفرض وضعاً حرجاً ولو لم يكن بالإمكان صياغة موقف مبدئي منه. لا يمكنك كإنسان مؤمن أن تكون بلا موقف يمدّك، في آن، صوب المتألّمين، وأنت واحد منهم، ويشدّك إلى ربّك، في إطار تدبيره الخلاصي لك.

هذا لا يمكن، في نظرنا، أن يأتيك من موقف عام مبرَّر عقائدياً محبِّذ لوهب الأعضاء يمكن أن يصدر عن كنيستك، ولو نادى به أسقف، أو حتى مجمع مقدّس. هذا يأتيك، في الحقيقة، من عمق علاقتك بالله متى واجهك الموضوعُ شخصياً، في كل حرجه وإلحاحه، في نفسِك أو في أحد أحبّتك وأصدقائك.

لا تعود مقاربتك للموضوع، إذ ذاك، نظرية بل كيانية. تلجأ إلى ربّك لتلتمس لديه جواباً في موقف حرج يخصّك لا تجده في الكتب. والمسائل الحرجة في حياة المؤمن ما أكثرها! هذه له، في شأنها، روحُ الله كتاباً حيّاً في كل حين!

       دونك، على ذلك، بعض الأمثلة.

   ثمّة مواقف اتّخذها العديد من القدّيسين في مناسبات حرجة لا يمكن قبولها في الأحوال العادية ولا تعميمُها، ومع ذلك كانت بإلهام من الله.     

الانتحار، مثلاً، أمر مرفوض كنسياً. رغم ذلك، في أوضاع خاصة، اعتبر الآباء القدّيسون الانتحار عملاً إلهياً. فالقدّيسة بيلاجيا البتول المعيَّد لها في 8 تشرين الأول انتحرت لتحفظ عفّتها من الجنود الذين أُرسلوا للقبض عليها كونها مسيحيّة.

قال عنها الذهبي الفم: "إنّ موتها قد تمّ لا نتيجة حادث طبيعي بل بأمر من الله".

والقدّيس سرجيوس رادونيج الروسي، المعيَّد له في 25 أيلول، بارك الدوق ديمتري إيانوفيتش لمّا أراد الخروج لمحاربة قبائل التتار. قال له: "سوف تنتصر بعون الله وسترجع معافى كريماً". إذاً بعون الله! هل كان هذا إشعاراً إلهياً يجيز الحروب ضدّ الشعوب غير المسيحيّة بعامة؟ لا أظن! تلك كانت وضعية خاصة لا يمكن القياس عليها.

والقدّيس الشهيد نسطر، المعيَّد له في 27 تشرين الأول، أخذ بركة القدّيس ديمتريوس، ثمّ تصدّى للهّاوش المصارِع وقتله. هل بات القتل مقبولاً أو مبارَكاً في الكنيسة في كل حال؟ طبعاً لا!      

موضوع وهب الأعضاء وزرعها هو من هذه الموضوعات الشخصية الحرجة، غير المقبولة في ذاتها، ولكنْ تفرضها الظروف ويُقبل عليها المؤمن بعد تحكيم ضميره في المسيح وإعمال الصوم والصلاة حتى يكون الكيان مرتاحاً للتدبير المتَّخَذ بيقين يُعطى من فوق.

نقول هذا وندرك أننا إن لم نكن على حرص كاف فإنّنا سنوجد، من حيث لا ندري، مساهمين، في المدى الأخير، في إرساء نظرة إلى الوجود قوامها عبادة الإنسان لنفسه.

لذلك لنكن واقعيّين ولنُقرّ بأنّ وهب الأعضاء وزرعها أعقد بكثير، في عالمنا، من أن يقتصر على الوجه الإنساني الذي له. ثمّة تجارة عالمية ومفاسد لا حصر لها ومافيات وفلسفات مريضة واستغلال للشعوب الفقيرة يرتبط بوهب الأعضاء ويسعى إلى تسخير ما له من وجه إنساني لأغراض خسيسة.      

من هنا أنّه إذا سألني أحدهم ما إذا كان مناسباً له، كنسياً، أن يشترك في حملة التبرّع بالأعضاء لتحفّظت! لكنْ إذا ما جاءني مَن هو بحاجة إلى كِلية، أو مَن أخوه بحاجة إلى كِلية وسألني: "ماذا أفعل؟" لقلت له: "تعالَ نصوم ونصلّي ونترك لله أن يلهمنا حسن التدبير".

هذا متى استبان لنا نُقبل عليه براحة قلب لأنّه وحده الله المجيب في الأزمات التي تواجه البشرية أفراداً وجماعات!      

وهب الأعضاء وزرعها، في نظرنا، هو موضوع ضمير شخصي بالدرجة الأولى.

هذا نترك للمؤمنين أن يحدّدوا موقفهم منه بالصوم والصلاة ومؤازرة الآباء الروحيّين

 



عدد الزوار

free counters



+ † + AVE O MARIA+†+ لم يكن هذا الموقع صدفةً عابرة، بل دبّرته العناية الإلهية ليكون للجميع من دون اسثناء، مثالاً للانفتاح المحب والعطاء المجاني وللخروج من حب التملك والانغلاق على الانانية. مُظهراً أن الله هو أبَ جميع الشعوب وإننا له أبناء. فمن رفض أخاه الانسان مهما كان انتماءه، رفض أن يكون الله أباه. + † + AVE O MARIA +